كتب: مانويل دينق
جنوب السودان | جوبا
الإخوة كارامازوف ربما قد تعد من أمتع وأفضل الأعمال الأدبية والفنية على مر تاريخ الرواية، بدهشة إبداعها العميق، وعذوبتها الفكرية والمعرفية، ومعرفتها الحصيفة للروح الإنسانية، بموضوعاتها العظيمة، وأفكارها التي تبدو وكأنها أفكارٍ أختارها الكاتب بعناية لتُخلد للأبد، والأمر ليس بجديد عن أعمال هذا النابغة الروسية، فهو متمرس ودائم المفاجآت بالحياة الإنسانية العميقة، وهذه الرواية التي تتكون من أربع أجزاء استطاع هذا العبقري المجنون وصف النفسية الإنسانية ومزاجية البشر، بكل خفاياها وبواطن طبيعتها بصورة مبسطة واقعية.
تتناول الرواية حياة أسرة واحدة، بشكل دقيق وأقرب إلى أن تكون حقيقة تمت ترجمتها إلى كلمات وعبارات، من كونها خيالٍ عبٌر عنها الكاتب، وهذه الميزة المدهشة من سِيَم دوستويفسكي في جميع أعماله الروائية، والإشادة التي تلقاه من كِبار العظماء والأدباء والفلاسفة (البرتو اينشتاين، فرويد، هيدغر) باعتبارها من أعظم الأعمال الأدبية، ويبرهن مدى قوة هذا الإنسان في رسم النفس البشرية، ومعرفته بصغائر أمورها، تتضح هذه الصفة جلياً في أول سطر من رواياته، وقد احتار البعض والكثير من الناس تصنيف دوستويفسكي في أي صنف من صنوف الأدباء والفلاسفة فهو إنسان مكتمل بجميع الأمور، بارع في اللاهوت والطب النفسي والفلسفة والسياسة، ويتحول فوق ذلك إلى فلاحٍ أو طالب مهزوم انهشه المصائب المصيرية، إذ أن ليس من السهل عدم التكيف معه، فمثلاً بالنظر إلى روايته ” مذكرات من البيت الميت” أو حتى ” المذلون المهانون” ورواية “الشياطين” فإنه يظهر بوضوح الشمس معرفته البعيدة في العمق الإنساني، (سوف نتناول في قادم الأيام بالتصنيف الدقيق عن إحدى هذه الروايات الثلاثة).
إن قراءة أي عملٍ أدبي هي بمثابة الإبحار نحوِ اللجج العميقة، من المتاهات التي تركها الكاتب للقارئ، والذهاب إلى الأماكن الحساسة التي لم تظهر على العلن، أو قل البحث عن أسئلة غائبة وتضليلية. والرجوع إلى روايتنا هذه فإننا نتساءل عن طبيعة الكم من الأسئلة الفلسفية التي استحوذ تفكيري خلال المرات الثلاثة التي اطلعتُ على الرواية من خلالها، ولأن سؤال الفلسفة هي من أحب الأسئلة التي تقوم بشحن العقل بالطاقة وتستمد الروح الإنسانية البريئة بالأمل والقوة، فإننا ما أن نلقي الضوء على هذه النوعية من الأعمال فإننا نندهش في أول وهلة من القراءة، إذ إنها تحمل معها صيغ الأسئلة النشطة.
الرواية كما أسلفتُ سابقاً إنها تتناول حياة أسرة واحدة، الأب (فيدور بتروفيتش) والأبناء الثلاثة (ديميتري بتروفيتش، إيفان بتروفيتش، أليوشا بتروفيتش) وابن رابع غير شرعي (بافيل). اختار دوستويفسكي شخصيات روايته بعناية فائقة، مع إعطاء أدوار مناسبة لكل شخص من شخصياته، خاصة الأبناء الثلاثة الذين يمثلون العقل(إيفان) الدين (أليوشا) الدنيا (ديميتري)، ومن هنا تبدو الحياة طبيعية بالنسبة للقارئ، لكن مع مرور الوقت تظهر رويدا رويدا الأسئلة الشائعة التي تأخذ طابع فلسفي بل أقرب أن تكون تقليب الصورة الحياتية على حقيقته الخفية، وهذا ما جعلني أتساءل لماذا كل هذا الإخفاء العظيم للحياة في وجه نظر هذا الرجل؟.
حين تقرأ الرواية نفهم من البداية بأنها تدور بشكل صريح عن معرفة أغوار النفس البشرية، ثم تتحول بعدها البحث عن القائل العجيب الذي لم يفصح دوستويفسكي عنه، بل تركه مجهولاً للقارئ لكي ينشد به عقله. مَن الذي قتل الأب؟، هل إيفان الشاب الغامض ذي الأفكار الغريبة؟ أم ديميتري ذلك الجندي الذي أعماه الحب وحوٌله إلى عربيد مجنون؟ أو الابن الغير شرعي ذلك الفتى المريض بالصرع والذي لم يجد في طيلة حياته أي تعاطف أبوي ومجتمعي؟ ولماذا يقوم أحد من هؤلاء الثلاثة بقتل الأب بالرغم من أن الكاتب يكشف بوضوح أن القاتل هو إحدى أبناء المقتول؟ ولماذا لا أحد يهتم الابن الأصغر ذلك الروح البريئة التي عبٌر عنه الكاتب على خصوصية الملائكة؟
هذه الأسئلة التي أجاب عنها المحكمة بعد أن حكم على ديميتري بتهمة القتل، فإننا حين نقرا جيداً كما لو أننا جزء من حياة شخوص الرواية فإننا سنشعر بالكثير من الإثارة النفسية الصعبة، التي يصعب معها التعاطف مع القرار الذي صدر من المحكمة، وهذا ما كان جلياً بين الأقوال الكثيرة التي طرأت على مسرح الأحداث في الرواية بمجراها التحريري الغريب، فمَن الذي استطاع من القراء فهم ماهية القاتل بشكل صحيح؟ لا أحد؛ لأننا نتوه وسط دهشة التهم التي يوجهها الكاتب لكل متهم بشكل دقيق حتى تظن وكأنما الجميع متورطين في هذا القتل العجيب، ما القصد من هذا الغموض الذي صاغه الكاتب حول الحياة الإنسانية بهذه الشكلية الغامضة؟ هل كان يود القول بأن الحياة الإنسانية لا تظهر على حقيقته كما هي الآن؟ هل الإنسان هذا الكائن الغامض الغريب هو نفس الكائن البسيط الذي يخفيه الضباب عن مسرح الحياة بغموضٍ متصنع؟ فكل حياة إنسانية تخفيه قناع لا يظهر بوضوح ملامح هذا الكائن الغريب.
السؤال الفلسفي في هذه الرواية الذي أثار فيٌ تشوقاً عظيماً هو، ما الذي جعل دوستويفسكي يقوم بتغيير حياة شخوصه مائه وثمانين درجة عما بدأ بها الرواية؟ لماذا حوٌل حياة ديميتري من جندي ممتاز إلى عربيد مجنون بالحب؟ ولماذا أفقد إيفان عقله، إيفان النشيط بأفكاره وتميزه المفرط؟ ما المغزى من هذا التحوٌل المفاجئ في وتيرة الحياة القاسية أو اللاإنسانية التي برزتْ في العمل؟. وكيف كانت ستكون الرواية إذا انتهت كما بدأت؟ كيف كانت ستقرأ لو أنها لم تتغير كما هي الآن؟ وهل كان الأب الذي موته حتمي سيحمل معه حقيقة القتل البريء الذي أصبح غامض لدرجة التماهي معه؟ أو أننا كنا سنكون على نهاية مختلفة عمٌا هي عليها؟، إنها أسئلة كثيرة لم أجد بصورة جدية ما يروي عطشي إزاء هذه السيمفونية المدهشة من الأصوات الكثيرة والمهمات الصعبة الواقعة على عاتق كل من القارئ والكاتب والشخوص نفسهم، فإنني أتوه بشكل ودي مع الغرائب والطرائف الحياتية الحساسة على شاكلة هذه، وتذوب وسطها حياتي مع هذه الدراما الحياتية الأقرب إلى الحقيقة الواقعية.
ميزة الكاتب العظيم لا تأتي بالسهل الذي يعتقده البعض، فإن هذه العظمة تأتي من خلال الفتح الأمن لحيز العقل، وفتح معابر بعيدة وعميقة للبحث عن المعرفة والتعقل بسهولة، ليست كما هي عليها عند قرأتها، ولا أحد يستنكر أن هذه الرواية العظيمة تخفي داخلها الكثير من الأشياء والأمور المتعلقة بالحياة الإنسانية الغامضة، وهو ما جعل منها لغز إنساني يصعب حله على وجه التقريب، كما أننا حين نطالعها نقف أمام إنسان هو نفسه يُعد من العظماء الكبار الذين لهم حياة أقرب إلى أن تكون ملحمة روائية إذا تحولت إلى كلمات تقرأ.
هناك الكثير من الأسئلة الفلسفية في هذا العمل، تحتاج الوقوف حولها، وكما اعتدت القول دائما بأن؛ أي عمل أدبي إذا لم تدهش القارئ بالأسئلة فإنها بحاجة إلى المراجعة والمتابعة، لهذا أننا في هذا الوقت من التاريخ ما زلنا نعاني من الكم الهائل من الكتابات التي لا ترتقي لمستوى الذوق الرفيع، إذ إنها تنال أحقيتها من بعض السفهاء الذين لا علاقة لهم بالأدب والمعرفة بقدر ما يشغلهم الشهرة التي هي آخر الأشياء التي يفكر حولها الكاتب الأدبي. وبالعودة إلى روايتنا هذه فإننا ننوه الجميع بالاطلاع عليها بعقلية مفتوحة، لأن قرأتها تحتاج إلى الرقة والعذوبة العميقتين لكي تصل إلى أعلى درجة من الفهم والإدراك والاستمتاع بها.