خاص: قراءة- هاني كنهر العتّابيّ
(ماذا تركَ الشاعرُ للكاتب؟) عبارة يتواترُ ذكرُها بينَ النقّاد والدارسين خلسةً, في وقتٍ يشهد به الشعر خروجاً على المألوف, وتطوراً عجيباً في الفنون والأساليب والأجناس, وفي اللغة أيضاً؛ إذ ترى النقّاد والدارسين يخوضون في غمارِ الشعر, باحثين عن ملامح الجدّة والحداثة, ثمّ يؤسسون لجديدٍ مستقرأ من شعرِ شاعرٍ أو جيلٍ من الشعراء, ومن ذلك التفاتهم إلى انفتاح الشعر على الآفاق الفنية التي تمنح النصّ الشعري إمكانية تحطيم الحدود بين الشعر والسرد, بعد أنْ كان مصطلح السرد مرتبطاً بالرواية والقصة, ثمّ قصيدة النثر حتّى صارَ الأدب تشكيلاً ذا تحفيزات تأليفية وواقعية وجمالية، تحمل رؤيةً فلسفيةً أو تحليلاً اجتماعياً أو وصفاً نفسياً في شكلٍ يمزج بين الشعرية والسردية, وأصبحَ السرد بنيةً أصيلةً في الخطاب الأدبيّ سواءً كان سرداً روائياً وقصصياً أم شعرياً؛ وذلك أنَّ للأديب رغبةً انسانيةً تعرضُ رؤيته للأشياء, وتحددُ علاقته بالعالم. وبذلك كلّه ثبت حضور السرد في الشعر, حتّى قيل (ماذا ترك الشاعرُ للكاتب؟), وهو يشاركه في أدواته وأساليبه وفنونه, ليفرغها في قالبه الشعريّ, وهل ثمّة شيءٌ بقي للكاتب؟
وأنتَ تقرأ قصصَ “عمّار الناجي” في مجموعته الجديدة (القلوب الشهيّة) تجد نفسك في معرض الإجابة عن استفهاماتهم الإنكارية ومواجهتها, ويبدو لك أنَّ التطوّر لم يصبْ الشعر فحسب, بل راحَ يجولُ في أزقةِ الفنون الأدبيّة الأخرى حتّى ملأَ كلَّ فراغ؛ إذ لا ينضجُ الشعرُ إلّا وسارت الفنون الأدبيّة الأخرى معه, وربّما سبقته تلك الفنون في ما انتهى إليه.
ويتراءى لك من عنوان المجموعة أنّك أمام قصص ذات طابع غزلي محض, لكون القلب كنسقٍ ثقافيّ يشيرُ إلى تلك العلاقة الجدلية المتأرجحة بينَ الرجل والمرأة, وما يصيبها من علل, غيرَ أنَّ قارئ هذه المجموعة سرعان ما يكتشف أنَّ القلب إنّما وضعَ في عتبةِ المجموعة إشارة إلى الأحلام التي أودى بها الزمن, وقتلها في أوّل الطريق, وبات يبدد كلّ ما يمكن أن يكون حافزاً في تحقيقها أو تحقيق ما تبقّى منها, ويفرّق حروفها وأنقاضها ويشتّتها!
وفي الوقت الذي تجد فيه أغلب كتاب القصة يركّزون في عرض قصصهم على الحدث؛ فتظهر عنايتهم بسرد المواقف, وبيان كلّ مجرياتها بالتفصيل من غيرِ أن يتركوا للقارئ شيئاً يلمسه بنفسه؛ فيكثر الحوارُ, وتتأزم الأحداثُ, وتتضافر المواقفُ, انتهاءً إلى أقصى درجات التوتّر, ثمّ الحلّ, تجد القاص عمّار الناجيّ يسيرُ في الجانب الآخر؛ إذ يسعى إلى تقليلِ الحوارِ في قصصِه إلى درجةِ الانعدام, وتعطيلِ سردِ الأحداث, وذلكَ باللجوء إلى اللوحاتِ الوصفيّة التي من شأنِها أن تجمّد الزمن, وتعلّق الأحداث, وتتجه إلى وصفِ المكان, والشخوص وبيان أحوالها؛ فإذا كانَ السردُ يلاحمُ أجزاءَ القصّة واحداً بآخر, فالوصف يعدمُ هذا التلاحم, ويتلاعبُ بمزاج القارئ بإبعاده عن الأزمة التي ما انفك يتابعها من أوّل كلمة في القصّة.
وهذا الطابع يعمّ قصص المجموعة كلّها, إذ ما من قصّة إلّا وتجد فيها غياباً ملموساً للزمن, وندرة جليّة بالحوار, وتجد قبالَ ذلك لوحاتٍ وصفيّةً عظيمةً تصوّرُ الأمكنة والشخوص والأشياء تصويراً لم يسبق له مثيل, ففي قصة القلوب الشهية التي فرضت عنوانها على قصص المجموعة, بعد أن يسرد القاص علاقة ابنة الأستاذ حسان بجواد وغيره من الشباب الغرّ, يعتكف إلى وصف الرسائل المطوية التي كانت ترمى قرب باب الفسحة الأنظف- كما ينعتها الكاتب- فسحة باب بيت الأستاذ حسان, إذ يقول في وصفها: (قلوب حمر مدببة تخرقها سهام تقطر دماً, ورود حمر, فراشات هائمة، أوراق ملونة, معطرة, أشعار غنائية جريحة, أياد مرتجفة, مسرعة) ثمّ يواصل سرد الأحداث بحسن تخلّص رهيب لينتهي منه إلى نهاية فاجعة, بوأد القلوب والأحلام والرسائل, حتى الفسحة الأنظف, وإقصاء الأستاذ حسان وابنته, فيتعطّل الزمن وتذبح الأحلام وتفقد قلوب جواد خصائصها العجيبة.
ويظهر ذلك جلياً في قصة (ثلاث نسوة, ثلاث سكاكين)؛ إذ جاء في وصف جلوس النسوة الثلاث, وما يتعلّق به من حركة, وانفلات بعض الشعيرات السود والبيض قوله: ( جلسن وسط ثيابهنَّ الفضفاضة. تتطاول بعض شعيرات منفلتة من أسر عصائب رؤوسهنَّ المرتخية, وتعبر الخطّ الفاصل بينَ العتمة والنور, لتسبح في بحر الضياء الخافت المنساب فوقها, وسط عوالق الفراغ الرقيقة الطافية, غير عابئات بقوى الجاذبية التي أثقلت رؤوس النسوة وحنت ظهورهنَّ. بينَ لحظة وأخرى يبرق ضياء خدر, كاشفاً بياض شعرة منفلتة هنا وهناك), وقوله: (اضطرب البحر الساكن وتحركّت عوالقه المتهادية بعنف, وتموجت الشعيرات المنفلتة أسودها وأبيضها), ثمّ تتوالى اللوحات الوصفية الواحدة تلو الأخرى, لتنتشل القارئ من الزمن, وتنتشل الزمن منه.
وممّا يحسن ذكره أنَّ قصة (ثلاث نسوة, ثلاث سكاكين) كان من المناسب أن يكون عنوانها عنواناً للمجموعة؛ لأنّها تمثّل منهج القاصّ وطريقته في تعطيلِ الزمن وتجميده, ووأدِ الأحلام, بصورة مختزلة جداً؛ إذ أوّل ما يلامس ذائقة القارئ ويصيبها, عنوان القصة, الذي فُصل بين جزأيه المتصدرين بالعدد (ثلاث) بعلامة ترقيم رابطة, من غير أن يستعينَ بحرف عطف, تاركاً ذلك للقارئ, وكأنّه يقول له: صغ لنفسك عنواناً وحلّل الأحداث كما تشاء فالنتيجة واحدة, تُسبى فيها الأحلام وتوأد حتّى تصير طبقةً من طبقاتِ الغبار, التي ليسَ فيها لحظة من حياة.
ومن الجانب النحويّ تكون كلمة (ثلاث سكاكين) خبراً لـ(ثلاث نسوة) ووصفاً لها؛ أيّ أنَّ النسوة الثلاث هنّ السكاكين نفسها, وما السكاكين في القصة إلّا أداة لذبح الزمن وتقطيعه وتشتيته, والنسوة الثلاث هنا إشارة إلى الظلم الذي ما زال يفتك بالمرأة, ويحرمها من تحقيق أبسط حقوقها, حتى أصبحت تلك الحقوق أحلاماً, وسارت النسوة كالسكاكين, يقطعْنَ الزمن, ويعطلْنَ أحداثه, وهنّ شريكاتٌ له بالتقطيع والتعطيل, والموت أيضاً, فهو يصف حال ثلاث نسوة يحاولْنَ جاهداتٍ, قتلَ الزمن, في مكان أشبه بالسجن, يدخلُ إليه النور من ثقوب سقف؛ لم يكنْ في جوفه سوى الظلام, والعمل المتواصل على وأدِ الأحلام؛ فكلمة (رؤوس) في القصة تختلف دلالتها من سياقٍ إلى آخر؛ تارةً تشيرُ إلى قطع رؤوس البامياء, وأخرى تعبّر عن حركة رؤوس النساء, حتى أصبحَ الذابح والمذبوح واحداً؛ إذ لا يمكن لك معرفة مرجعية الجملة الوصفيّة إلّا بعد تدقيق وتدقيق.
وبالرغم من لجوءِ القاصّ في قصّته هذه إلى تكثيف زمن السرد, واختصاره في لحظات قصيرة, أو لحظة زمنية واحدة, فإنّ قصته لم تخضع لوتيرة زمنية منتظمة, فزمن الأحداث يمكن اختصاره بسطرين أو ثلاثة, أمّا زمن القصة فظلَّ يدورُ حولَ نفسه, مرات عديدة, عن طريق الوقفة الوصفيّة, والقارئ في حالة انتظار دائم لفراغِ الوصف, واستمرار الحدث, فالقصة تشغل أربعة صفحات من عمر المجموعة ولا تتضمن سوى مقطع حواريّ واحد, وهو (علينا أن نهيئ لهما غرفة), الذي أحدث اضطراباً متواتراً, وتكسرّت كلماته كلمة كلمة, وتشظّت حروفه, وتوّزعت بين سطورِ المقاطع الوصفيّة؛ إذ لم يأتِ الوصف في موضعٍ واحدٍ, بل يجد القارئ نفسه أمام لوحاتٍ وصفيةٍ مطرّزة بأسطرٍ سرديةٍ فقيرةٍ, إذ لا يمكن الاستشهاد بمقطع وصفي واحد, لكون القصة عبارة عن لوحة وصفية واحدة, لا يمكن تقطيعها.
وهذه الوقفات الوصفية تلعب دوراً كبيراً في إظهار علاقة الزمن الحاضر مع أحلام الماضي الموءودة؛ أحلام العمتين, الكبرى مع الماضي البعيد المتمثّل بمرحلة الطفولة, والصغرى مع الماضي القريب المتمثّل بمرحلة الشباب, وعلاقته مع أحلام المستقبل التي قُتلت قبلَ ولادتها, ورُسمت على الدم المسفوح, وأدغمت بالماء والدموع, وسارتْ نحو مصبِّ الماء الآسن,فضلاً عن دورِها في تعطيل الزمن وتجميده.
الساعة الخالية من الأميال, وسنوات الغبار, وإشراقات الشمس غير المعدودة ومغاربها, ما هي إلّا رموزاً للزمن المعطّل, أمّا السكاكين وشفراتها فهي الأداة التي عُدّت لوأد الأحلام, هذا ما أراد الكاتب إيصاله إلى قارئيه, وهو يتنقل بكامرته الوصفية بين جدران ذلك البيت القديم المظلم, مستعيناً بضوء الصباح المتسلّل بخطٍ مائلٍ يسقطُ أسفلَ الجدار البعيد, لتصوير انحناء النسوة وحركتهنَّ المستمرة, وما يصادفُ عدسته من عوالق الضوء وطير السنونو, والطائر الغرّ. ثمّ يخرجُ كامرته من المكان والزمان معاً, وينظرُ إلى الفضاء القصصيّ من بعيد, ويخطُّ الأسطر الثلاثة الأخيرة كناية عن استمرار إعدام الزمن وقتل الأحلام, وهذا ما يسود قصصه كلّها.
وثمّة ظاهرة أخرى تسير عليها بعض قصص المجموعة, هذه المجموعة الغريبة, وهي أنْ يزرعَ القاصّ قصّةً في جوف قصّة, ولاسيّما في قصة (نغمة فروغ, و نهر من لبن)؛ إذ تتلاقح أحداثُ القصّة الواحدة, فتسوء أجواؤها, ويشتدّ الصراع فيها, ويتراءى للقارئ جذور قصّة ما زالت صغيرة, تنمو أحداثها ببطء, حتّى إذا ما تمخضّت القصّة الأم, تتأزم المواقف, ثمّ تظهر له قصّة جديدة, تنفّسَ أحداثها أحد شخوص القصّة الأمّ,وصارتْ تشغل حيّزاً فيها, وتمثلُ جانباً كبيراً من أحداثها, وتحرّك الصراع فيها.فيجد القارئُ نفسَه بينَ قصّتين متداخلتين, الواحدة في جوف الأخرى, يحاولُ أنْ يسيرَ نحو النهاية بنجاح, متمسّكاً ببعض الخيوط التي تحرّك الأحداث,باحثاً عن نتيجة مقنعة, أو شبه مقنعة, يتوّقع أحداثَها, ويتابع تطوّرَ الصراع فيها, وإذا به يُفاجَأ بنتيجة أخرى,تنقض محاولته, وتعكسُ اتجاه مسيره, وتبعده عمّا تمسّك به, وتحطّم توقعاته وتكسر أفقها, وتدعوه إلى قراءة القصة من جديد.