21 سبتمبر، 2024 2:27 م
Search
Close this search box.

الرواية والمعاناة (18).. ما نعيشه من كوارث يتجاوز حدود الخيال

الرواية والمعاناة (18).. ما نعيشه من كوارث يتجاوز حدود الخيال

خاص: إعداد- سماح عادل

تجسيد المعاناة في الرواية ربما تكون بهدف تحرير الناس بالكتابة، وربما يستهدف بيها الكاتب إصلاح ذاته، وربما يتهرب بعض الكتاب من تجسيد المعاناة خوفا من الانغماس في مشاكل الواقع. لكن المعاناة تفرض وجودها علي الرواية في مجتماعتنا.

هذا الملف تجيب عنه مجموعة من الكاتبات والكتاب من مختلف البلدان العربية، وقد طرحنا عليهم الأسئلة التالية:

1. هل الرواية العربية في الوقت الحالي تصدر من المعاناة، سواء من الحروب والصراعات، أو من ظروف المجتمعات التي أصبحت مأزومة، أو من معاناة الكاتب التي يصورها علي الورق كمعاناة فردية؟

2. هل الشخصيات والأبطال في الروايات العربية أبطال اشكاليون يعانون من الاغتراب عن المجتمع، او الاستلاب، أو من عدم التحقق وغيرها من مشكلات تجعلهم يعانون؟

3. كيف يتم تصوير تلك المعاناة التي يحب الكاتب تجسيدها في مسار الأحداث ورسم الشخصيات، وهل هناك بعض المبالغة في تصوير تلك المعاناة؟

4. هل تكتفي بعض الروايات برصد المعاناة سواء فردية أو جماعية دون تقديم حلول إيجابية للتخلص منها أو مخارج؟

الكاتب يصلح نفسه..

يقول الروائي والشاعر الكردي “هوشنك أوسي”: “الكتابة، على اختلاف أجناسها، مُحاولاتٌ لإيصال حمولة من الأفكار، المشاعر، التّخيّلات، التأمُّلات، الصّدمات، الخيبات، التّفسيرات، التّأويلات، الأحكام، والآلام…، حيالَ العالم، الوجود، الحياة، الموت، من كاتبٍ إلى قارئ ــ متلقّي. وعليه، هي أشبه بشبكة معقّدة من المواصلات، تعبُرُ بها وفيها حيواتُ بشر، إمّا حقيقيّة أو متخيّلة، أو خليط من هذا وذاك، وتنقُلها إلى بشر آخرين.

وإذا لم تصدّر الكتابة الرّوائيّة المعاناة نتيجة ويلات الحروب، والأزمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والنفسيّة، سواء على الصّعيد الجمعي أو الفردي، تفقد هذه الكتابة جدوى وجودها. حاصلهُ؛ الرّواية في العالم العربي، كانت ولمّا تزل تحاول التصدّي لهذه المهمّة، وأن تكون وسيلة نقل ناجحة لتلك الحُمولة والطّاقة المعنويّة النّفسيّة والمعرفيّة”.

ويضيف: “من طبائع الأمور أن تعاني الشّخصيّات المركزيّة ـ الرّئيسيّة أو الهامشيّة، في أيّ عمل روائي (المجتمعات الرّوائيّة الموازية)، ممَّا تعانيه أقرانها في مجتمعاتها الحقيقيّة. أحيانًا، عدم الانتماء للحشود أو ثقافة القطيع، يُصارُ إلى تفسيرهِ أو اعتبارهِ على أنّه “اغترابٌ” أو عدم انتماء للجماعة، أو شذوذٌ وخروجٌ عن الملّة والإجماع…الخ.

شخصيّات من هذه الطّينة، قليلة في المجتمعات الحقيقيّة، وطبيعي أن تكون قلقة وقليلة في الأعمال الرّوائيّة أيضًا. الشّخصيّة الرّوائيّة المختلفة، غالبًا ما تكون خلافيّة، المناهضون لها، أكثر بكثير من المتّفقين معها أو عليها، والدّاعمين لها. والسّؤال، في ظنّي، يفترض أن يتمحور حول: هل نجح الرّوائيون أو الرّوائيّات، في بناء وبلورة هكذا شخصيّات مُركّبة، بتعقيداتها وأزماتها، في أعمالهم الرّوائيّة؟.

ولأنّ النّجاح والإبداع قليل، ونقيضيهما كثيرٌ وسائدٌ، وربّما مُتسيّد، لذا، لا يمكن التّعميم في إسباغ النجاح أو الفشل، في هذه الحيثيّة، على مجمل المنجز الرّوائي، في العالم العربي”.

ويواصل: “أمّا عن كيفيّة تجسيد وتصوير وتصدير المعاناة الإنسانيّة، الفرديّة أو الجماعيّة، سواء على صعيد الأفكار، أم بناء الأحداث، وتطوّر الشّخصيّات في خضم الأحداث، فهذا أمرٌ، يختلف من كاتب لآخر. لكلّ كاتب طريقتهُ واستراتيجيّاتهُ في الكتابة الرّوائيّة، ولديه فقه أولويّات واعتبارات خاصّ به، يتحكّم بالنّصّ الرّوائي، بشكل مباشر أو بغيره.

وفي تقديري، مهما كان الرّوائي يمتلك من الخيال الخصيب وفنون الرّصد والمتابعة والحسِّ الاستقصائي، والمهارات اللّغويّة، وطاقة التّحليل، والقدرة على تقديم صورة غير حقيقيّة مجافية أو منافية للواقع داخل سرودهِ، فإنّ ما نعيشه من كوارث وبؤس وخراب وحروب وتلف اجتماعي وثقافي ونفسي وقيمي…، بات يتجاوز حدود الخيال. وإذا كانت هناك أيّة شطحات جامحة من المبالغة، أو التي نظنُّ أنّها “مُبالغة” داخل رواية ما، وخدمت النّصّ فنيًّا وإبداعيًّا، فتلك مبالغةٌ ممدوحة ومحمودة العواقب.

وليس كلّ خروجٍ همجي وعبثي واعتباطي، كيفما اتفق، عن السّياق الأدبي الإبداعي، يمكن اعتباره مُبالغة مُحِقّة وفي مقامها ومكانها وزمانها المناسب. يعني؛ مرونة وانفتاح النصّ الأدبي على التنوّع وضرورات التّجريب، لا تمنحُ رخصةً أو تفويضًا مفتوحًا لكلّ من هبَّ ودبَّ أن يخوض التّجربةَ بجهل وعمى، تحت يافطة “الإبداع لا حدود له”! التجريبُ الأدبي استحقاق، له مقتضياته التي تدعمه وتغذّيه، وليس فعلَ اعتباط وقفزًا في هواء الجهل”.

يؤكد: “مقصدي؛ وعي + مراس + خيال خصيب متوثِّب + شغف التّجريب والتَّمرُّد + مهارات لغويّة مرنة مطواعة = إبداع.

ثمّة خرافة متداولة أو شائعة مفادها: الأدب الحقيقي، النّاجح، المُجدي… هو الذي يقدّم حلولاً للمشاكل والأزمات. الأديب ليس طبيبًا أو مصلحًا اجتماعيًا، أو زعيمًا ثوريًّا يخطِّط لانقلابات إنقاذيّة، أو رئيسًا أو ملكًا أو حاكمًا رشيدًا…، في مقدورهِ تقديم وصفات حلول للخروج من المشاكل والمآزق والمِحَن.

في ظنّي؛ الأدبُ الجميل هو الذي يرصد المشاكل أو يستشرفها، ويمتلك طاقة تنبّؤيّة، وليس مجبرًا أو ملزمًا أن يكون أدبًا وعظيًّا إرشاديًّا، تبشيريًّا. الأديب ليس كاهنًا، ولا نبيًّا أو مرشدًا روحيًّا، بل هو أحد مرضى المجتمع، والكتابةُ لديهِ، شكلٌ من أشكال المعالجة والتّداوي، وليست وسيلة لحلّ مشاكل العالم.

وفي أفضل الأحوال، يمتلكُ الأديب حساسيّةً وآراءَ مختلفة، والقليلَ من الحكمة والتّبصّر، لا يُنصّبُ نفسهُ وصيًّا، ولا يفرضُ أدبه وصفةً سحريّةً أو بوصلةً لحلّ معضلات وقضايا العالم الشّائكة. يحاولُ بذلَ قصارى جهدهِ، عبر الكتابة، للحفاظ على المتبقّي من إنسانيّتهِ، وتجنيبَ نفسهِ الانزلاق وراء غرائز الحشود. المُبدع، عبر الكتابة، يسعى إلى إصلاح نفسهِ أوّلاً وأخيرًا، وليس إصلاح العالم أو تغييره. لأنّه إذا توجّه إلى المَهمَّة الثّانية، سيفشل فيها، لا محاله، ولن يتمكّن من تحقيق المَهمَّة الأولى أيضًا.

العالم مليء بوصفات الحلول الآيديولوجيّة؛ الدّينيّة والدنيويّة. لكن، الأدب؛ يعرضُ المشكلة ويُشخصّها، ويترك للبشر حريةَ اكتشاف الحلول. في ظنّي أنَّ دورَ الأديب المبدع، هو أقرب إلى ذلك المشعوذ النّبيل الجميل الذي لا يؤذي العالم والنّاس بما يقدّمهُ من محتوى، بل يحاول أن يخفف عن العالم والنّاس تبعاتِ وكوارثَ رجالِ الدّين وكهنة وفراعنة الاقتصاد والسّياسة والإعلام، وحروبهم الدّينيّة والقوميّة والسّياسيّة.

متى يكون الأدب هو الحلّ، حين ينشغل بمشاكلهِ، ويحاول تطوير أشكالهِ وأدواته. لا شكَّ في أنَّ الحكمةَ والفلسفةَ، مِلحا الأدب والإبداع، مع الحذر الشّديد من خطورة السّقوط في شِرك الوعظ والإرشاد والإصلاح الآيديولوجي. الأدب يساعد ويساهم في البحث عن الحلول.

إذا حاول الأديب تقديم الحلول في نصوصه الرّوائيّة أو الشّعريّة أو القصصيّة، أولى به تقديم استقالتهِ من عالم الأدب، وارتداء معطف الكاهن أو الزّعيم الأيديولوجي، وتقديم طلب انتسابه لأحزاب العقائد والبروباغندا الخلاصيّة التي تملأ الحياة وتفسدها”.

الخوف من الانغماس..

ويقول الكاتب العراقي “ياسر محسن”: “تمر الرواية العربية اليوم بعدة إشكالات بعضها يذهب باتجاه عالمية القصة والآخر يذهب باتجاه الواقع لكن بحذر، وكلاهما يدور في فلك التكرار خوفاً من الانغماس في المشاكل وعمقها في مجتمعاتنا العربية، والقيود التي تفرضها الأنظمة السياسية والعرفية والمعتقدات الدينية التي تتربص بها. يقابلها عزوف كبير لدى القراء وشعورهم السائد أنها تطرح قضايا بدون معالجات ويرى البعض الآخر أنها بعيدة عن الواقع وأبطالها ورقيون”.

التحرر بالكتابة..

ويقول الكاتب الكردي السوري “حميد مرعي”: “في اعتقادي الكتابة بشكل عام هي حالة سباحة في مياه عكرة أو في أفضل الأحوال سباحة عكس التيار.لا شك أن الحروب والصراعات تفرض نفسها على الكاتب بشكل صريح وتظهر في نتاجه الأدبي. لكن تتنوع ظروف ومحفزات الكتابة سواء كانت فردية أو مجتمعية”.

ويضيف: “بشكل شخصي أستطيع أن أقول إني لم أنجح حتى الآن في رسم شخصية غير إشكالية أو شخصية متزنة اجتماعيا أو نفسياً. الشخصية الروائية بالنسبة لي هي تلك الشخصية التي تظل في ظرف المحاولة والمعاناة. شخصية غير قابلة للحياة لأن الحياة نفسها مفرغة من معانيها الحقيقة سياسياً واجتماعيا ونفسياً.

لذلك كل الشخصيات بالنسبة لي تصل إلى خط النهاية وهي متعبة ومنهكة”.

ويواصل: “المبالغة في الكتابة اعتبرها جرعة زائدة من التنبيه لخلق رد فعل يفضي إلى أسئلة ومن ثم محاولة البحث عن أجوبة، وهنا تكون المسيرة بين السؤال والجواب هي فرصة حقيقية للقارئ لاكتشاف الذات ومعرفة مكامن الخلل والعلل”.

ويؤكد: “التشخيص مهنة الكاتب والحلول هي أحلامه. ربما هذا سؤال ضخم يحتاج إلى بحث خاصة. لذاك سأكتفي بالقول:  يمكن للشعوب أن تتحرر وتتقدم بالكتابة. عن الرّواية والأدب أتحدّث”.

 

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة