21 سبتمبر، 2024 2:43 م
Search
Close this search box.

الرواية والمعاناة (14).. تدخلنا الرواية عالم محايد متخيّل لنصغي لآلام الآخرين

الرواية والمعاناة (14).. تدخلنا الرواية عالم محايد متخيّل لنصغي لآلام الآخرين

خاص: إعداد- سماح عادل

مجتمعاتنا تمر بفترة قاسية، منذ عقود، لكنها تفاقمت في العقدين الأخيرين، هذه الظروف والصراعات والحروب والأزمات لابد وأن تظهر داخل الرواية، وإلا يصبح الكاتب الروائي متجاهلا لهمومه وهموم مجتمعه، ولن يستطيع فعل ذلك مهما أراد، ستطل المعاناة برأسها رغما عنه داخل الرواية شاء ذلك أم أبي.
هذا الملف تجيب عنه مجموعة من الكاتبات والكتاب من مختلف البلدان العربية، وقد طرحنا عليهم الأسئلة التالية:
. 1 هل الرواية العربية في الوقت الحالي تصدر من المعاناة، سواء من الحروب والصراعات، أو من ظروف المجتمعات التي أصبحت مأزومة، أو من معاناة الكاتب التي يصورها علي الورق كمعاناة فردية؟
. 2 هل الشخصيات والأبطال في الروايات العربية أبطال اشكاليون يعانون من الاغتراب عن المجتمع، او الاستلاب، أو من عدم التحقق وغيرها من مشكلات تجعلهم يعانون؟
. 3 كيف يتم تصوير تلك المعاناة التي يحب الكاتب تجسيدها في مسار الأحداث ورسم الشخصيات، وهل هناك بعض المبالغة في تصوير تلك المعاناة؟
4 . هل تكتفي بعض الروايات برصد المعاناة سواء فردية أو جماعية دون تقديم حلول إيجابية للتخلص منها أو مخارج؟
الرواية استلاب للحياة..
يقول الكاتب الفلسطينية “سليم النجار “: “لا يمكن الحديث عن الرواية إلّا بالقول عن ماهيّة الكتابة، الرواية المكتوبة أو الرواية الشفاهية، وفي كلتا الحالتين يبقى الاسم واضح “رواية.”
ربما هذه فرضية وجب التقديم بها وأنا أتوقف مليَّا أمام البداهة التي تقول أن النص المكتوب له طبقات بعضها فوق بعض، والقراءة الأولى لأي نص روائي قد لا تحيط بكل الطبقات التي يراكمها الروائي من وعيه ولا وعيه برؤية عميقة للعالم، وأن الحفر عميقًا في طبقات المعنى هو الذي يميِّز قارئًا عن آخر..
ليس ثمّة معايير وجماليات ثابتة مسبقة على الروائي أن يمتثل لها في إبداع نصه، لكن الثابت أنّ الكاتب هو الذي يُطلق على نصه وصف “رواية”، وعلى النقّاد فيما بعد مناقشة هذا التوصيف.
يكتب الروائي ما يأتيه من أحوال نابعة من التجربة التي عاشها، ويتحدث عن النفس البشرية، ويقوم بسرد أحوال الذات الإنسانية بحيرة ودهشة، فنرى الروائي يعايش خلسة تلك الذات في الأحلام والرؤى، ويقرأ مفردات وعيها وتفاصيل العالم المعيشي من خلالها، والكتابة هنا قراءة للوجود الخاص بكل شخصية يرسمها في نصّه، وتعليق كياني على ما يمر به من خبرات حية وعلى ما يحذفه، فلا نرى كقرّاء في بعض النصوص ضرورة سرد ما حدث أو يحدث في النص الروائي، لأن الهدف لكلا الطرفين الكاتب والقارئ هو ما خلّفه “الحدث” في الروح الكيانية الإنسانية، فيجعلها ترى النور على نحو آخر عن طريق تحوّلات عميقة وجذريّة في رؤيتنا للعالم من حولنا.
وهنا تبدأ المكابدة من قِبل القارئ عند قراءة النص الروائي، عندما يشعر أن الروائي يسعى لتدريبه على القراءة من منظور النص الذي كُتب بذاتية خاصة بالروائي، وفي زمن تتسارع فيه معالم التغيير وتتقاطع فيه مسارات الثقافات، تظل الرواية مرآة تعكس واقع الأمم وتطلّعاتها، وبين ثنايا الرواية العربية تبرز أصوات ناشئة تبحث عن مكانٍ لها وتحاول فهم زمانها في ظل هيمنة كتّاب رواية سبقوهم زمنيًا، وليس بالضرورة أنّ الزمن هو المعيار على الإبداع، لكن يبقى هذا الزمن له سطوة ما، وهذه مكابدة يعاني منها الكتّاب الجدد، وفي الوقت ذاته من المفترض أنّ القرّاء يقرأون الرواية، فالحياة تنطلق منها وتعود إليها، إذًا نحن ننطلق من مفهومين، مفهوم زماني ومفهوم اجتماعي، وفي الحالتين نتحدث عن إنسان يبحث عن تعبير ما أو رؤية ما، لعلّه يجده في النص الروائي، وهذه مكابدة أخرى يعاني منها الطرفين: الروائي والقارئ”.
ويضيف: “إنّ الكتابة تنقسم إلى تجربة فردية يصنعها الكاتب لنفسه، وتجربة جماعية يصنعها لغيره، والتجربة الحقيقية عند الكاتب هي التي تنطلق من الذات أو الجماعة لترصد مشاغل الإنسان، وتفرّغ هموم الأمة أو الشعب، لكن هذا التفريغ لا يخلو من رأي، الأمر الذي يخلق إشكالية بين ثلاثة أطراف، الروائي الذي يحتفظ لنفسه بالأمور التي يؤمن بها ويعبّر عنها بلسان شخصياته، والقارئ الذي يقرأ النص من خلال منظومته الثقافية والسياسية إن وجدت، والطرف الثالث الذي يتعامل مع النص من منظوره. هذه الإشكالية تفتح الباب واسعًا على ما يمكن أن نسميه “دمقرطة الإشكالية”، التي هي في حقيقة الأمر مرغل يغلي على نار تنوّع الرؤى.
لنقل أنّ الرواية تسير في الاتجاه وتطرح الهم الإنساني، وبعيدًا عن الإنسانيات لا معنى للكتابة، والموضوعات الكبرى هي ذاتها التي تصنع الرواية، كالحب والتمرّد على الواقع الاجتماعي والهجرة والعلاقة مع الآخر سلبًا أو إيجابًا، والثورة ضد طغيان السلطة السياسية والدينية في العالم العربي الذي يظهر في كثير من النصوص وكأنّه لم يتغيّر كثيرًا، وأنّ المجتمع ظلّ على مدى عقود في سكينة وجمود وما زال، وهذا الجمود كآبة مضافة إلى حالة الاكتئاب التي يعاني منها الكل العربي، وما الرواية إلّا صياغة من صياغات ما نعاني منه، فنقف شبه عجزة أمام هذه الصورة غير الإنسانية.
تعتمد أساليب الرواية التي تستل من الصياغات بناء لغوي على جماليات تداولية، الأمر الذي يُعزى إلى الاستجابة لتوقّعات الكاتب، وأُفق رأي القرّاء”.
ويؤكد: “إنّنا اليوم غير قادرين على قراءة الدهشة في الرواية العربية، ليس عجزًا من الكتّاب بقدر ما هو أنّ الواقع العربي تجاوز كل ما هو مألوف، لعبة زمن ساكن على رحم الخمول، الأمر الذي لا يؤدي لحركة زمانية متطورة بقدر ما يحرّك الزمن من السكون، فهو على صعيد الشكل متحرّك، أمّا المضمون فهو خامل ولا يقبل التحرّك إلّا ضمن منظومة اجتماعية راكدة تعيش على أطلال الماضي واسترجاعات واستباقات تاريخية مختلف عليها لدى العقل العربي السياسي والثقافي، فهو التداول بين الساكن الماضوي والخامل الاجتماعي، لا يستطيعان التفاعل لخلق الدهشة، كأنّنا أمام حكايات مركّبة في حكاية واحدة الزمن.
هذا التناص بين الخمول والساكن صنع صورة تدواليّة من الكآبة لدى الروائي والقارئ، الأمر الذي أدى إلى انشغال الرواية في تركيبة تعدّدية بتعدّد المواضيع خلافًا لوحدة الموضوع في أنواع مغايرة من الكتابة، كالقصة القصيرة على سبيل المثال لا الحصر، وحيازة الرواية على هذه الإمكانية تجعلها قادرة على تكييف مجموعة من الأخبار في قالب نصّي واحد، وبالتالي، ملامسة جوانب معتمة وأخرى مضيئة، لا سيما أنّ الرواية تخوض في مواضيع تسمح تقنياتها ومساحاتها الخوض فيها، وهذا الأمر يخلق فرص كبيرة في قراءة الحياة على اتساعها.
إنّ كل محاولة لكتابة رواية تهدف لتكون مهيكلة بفكرة القَصد والهدف، والوصول إلى الأهداف غاية تقتضي وجود إكراهات وتحدّيات، وما دامت الكتابة تحتاج إلى وسائط التفاعل مع الآخر فهي مسار تحدي، لأنّ الكتابة في حد ذاتها غير مجدية بمنطق اللاجدوى، وبالتالي يتطلّب الأمر وجود طرف آخر يؤمن أن الرواية مرآة الفكرة التي تناولتها، وبهذا المعنى، الرواية حقيقة إكراهية مقترنة بالقضية التي تناولتها، وعلى سبيل المثال، ما يحدث في غزة الآن من حرب إبادة يتعرّض لها الشعب الفلسطيني من قِبل الاحتلال الإسرائيلي، هل تستطيع الرواية كتابة ما حدث؟ وقبل الإجابة على السؤال، لا بد من القول عن أي رواية نتحدّث، هل رواية شفاهية أو رواية مكتوبة، إلى الآن ما هو متداول الرواية الشفاهية، فهي التي تُذكر على الفضائيات سواء العالمية منها أو العربية، هذه الرواية الشفاهية تضعنا أمام سؤال، هل من الحكمة الثقافية أن نشيح بوجوهنا عن ما يحدث مبرّرين ذلك لننتظر حتى تكتمل الصورة على اعتبار أنّ الرواية تحتاج التأنّي؟ قد لا نجد إجابة متفق عليها، لكن في جميع الأحوال نتفق على أن الرواية الشفاهية هي المعتمدة إلى الآن.
وعلى الرغم من أنّ غزة فجّرت ينابيع النّفس البشرية كُلها، خيرها وشرّها، فضائلها ورذالتها، فإنّها وزّعت العالم إلى قسمين متقابلين بمنظومات القيم والمبادئ والسياسات، عالم موغلًا في دعم وحماية البغي والجريمة والتسويغ لهما باسم حق المعتدي الغاصب في “الدفاع عن النفس” من غير أن يرف لذلك العالم جفن ، وهو يرى في أم عينه أفعال الإبادة الجماعية الشنعاء تصل الليل بالنهار لمحو وجود الشعب الفلسطيني في غزة، وهذه الأفعال التي خلقت جوًا من الكآبة والحزن لدى كل من يرفض هذه الجرائم التي لا يمكن إلّا وصفها بالرواية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، وإنّ سرديتها قائمة على إنكار حق الإنسان الذي يعتبرونه ” عدوهم” في الحياة، واستحالة اجتراح زمن وحشي لرواية قادمة من مجاهل التاريخ تناقلت عبر الحقب الزمنية على ألسنتهم، هنا الأصل أنّ الرواية عندهم شفاهية، فهذه الثقافة السوداء قائمة على منطق التدافع غير الإنساني”.
ويتابع: “ويرتبط هذا التدافع اللئيم ببناء أيديولوجيا روائية شفاهية قائمة على رؤى متعددة، منها دينية، وأخلاقية، وسياسية، تحاول بناء مفاهيم تأخذ طابع الشكل الحضاري، وهذا أمر مستغرب بالفعل، وصف القتل والابادة بالفعل الحضاري! لكن هؤلاء الذين أقاموا أيديولوجياتهم الشفاهية يجهلون أن الوجود المادي هو الذي يقرّر العملية الأيديولوجية في الذهن الإنساني، بمعنى أن الشعب الفلسطيني موجود على أرضه منذ الأزل، ويمتلك أيديولوجيته من خلال تواجده على أرضه منذ الأزل، والتاريخ خير شاهد على الحضارات التي عاشت على هذه الأرض الفلسطينية، ولو أدركوا الإسرائيليين هذه الحقيقة لكان هذا الإدراك هو النهاية لأيديولجيتهم العنصرية، وهذا يعني الإدراك لحقيقة أنّ الرواية الفلسطينية قائمة على نص مكتوب وشفاهي، مقابل رواية إسرائيلية شفاهية يخالطها زيف مسيطر عليهم.
ما كان في هذه الموجة العالمية الاعتراضية على الثقافة العربية وعلى الجرائم التي تُمارس ضد الشعب العربي الفلسطيني إلّا رواية من روايات الغرب ضد العرب، فالتاريخ القريب والبعيد يدلّل على أنّ الغرب ما زال مُصر على كتابة روايته، ويدعمها بأساطير وخزعبلات “ثقافية” صنعتها أطماعهم الاستعمارية، فلا زالوا يفرضون شروطهم التي أصبحت سمة رواياتهم عبر علاقاتهم معنا، من خلال رسم مشهد القتل اليومي وتدمير حياتنا عبر أشكال متنوعة ومختلفة، لقد التأم هذا الحلف الثقافي بين رواياتهم وأطماعهم على شكل سمفونية تقبّلها البعض من عالمنا العربي، وتعاطى على أساس أنّ هذه السمفونية مدخلًا لتحضّرنا، وفي هذا المشهد الثقافي السياسي المرتبك، نمت الرواية العربية في ظل إشكالية الأنا والآخر الذي ما زال شبه مجهول، تارةً يكون الآخر “إسرائيلي” وتارةً أخرى “الغرب” وفي أكثر الأحيان “نحن”، وهذا يخلق قيم ثقافية وسياسية تؤدّي لطرق مُعبدة تستنسخ قيم كئبية، تتكلم لغة يفهمها العدو ويقيم لها اعتبار ليس من باب التقدير، بل من باب الهينمة والسيطرة، على أنّ قضية الهيمنة والسيطرة تنتج مفاهيم فحواها المصالح المادية أساس الصراع بين الغرب والعرب وإنْ تنوعت مفاهيم الصراع، فالأصل أنّه صراع اجتماعي سياسي يأخذ طابع الضرورة للتوسع، وفي هذا الحال تعد الرواية تعبيرًا أيديولوجيًا، ولا سيما أنّ هذا الفن يساهم في ثقافة أدب الهيمنة الغربية.
وهذا الواقع ينعكس على الوعي الثقافي العربي الذي يتعامل بكآبة مفرطة اتجاه الغرب، وهذا تعبير عن نسق إبداعي عاجز عن المواجهة التي يجب أن تتمتع بوعي وجودي بأنّ أصل الحياة هو الصراع، وديمومة الصراع هي الكآبة التي ليس بالضرورة أن تكون حالة من السلبية، قد تكون في حالة إيجابية إذا أدركنا أن الحياة قانونها الصراع، وما الرواية إلّا تعبيرًا عن كآبة أخذت في عصرنا مفاهيم الحزن”.
الكتابة آخر المعاقل..
وتقول الكاتبة التونسية “نبيهة العيسي”: عن هل تصدر الرّواية العربيّة في الوقت الحالي من المعاناة، سواء من الحروب أو الصّراعات أو من ظروف المجتمعات التي أصبحت مأزومة أو من معاناة الكاتب التي يصوّرها على الورق: “دعينا أوّلا نتفق حول الحقل المعجمي الذي تتنزّل ضمنه عبارة المعاناة. المعاناة مصدر مشتق من فعل عانى وهو دالّ على الحوادث إذا بلغت حدّها وعسر على النفس احتمالها لقسوتها وشدّتها.
وأن تصدر الرواية العربيّة أو غيرها ممّا يعجّ به المجتمع الإنساني من كوارث طبيعيّة أو إنسانيّة، فهذا أمر طبيعيّ بالنسبة إليّ. فالإنسان ابن زمانه ومكانه ونتاج تفاعله مع مختلف الأحداث التي تعرض له في ذلك الظرف الذي أنشأه. والكاتب خصوصا ذاكرة إسفنجية، تتشرّب الأحداث. فإن ضاقت بها نفسه أخرجها إلى سطح العبارة حتّى لا ينفجر بها.
الكتابة آخر المعاقل قبل معتقل الجنون. ومشاكلنا اليوم ما عادت وهميّة أو ذهنيّة، مشاكلنا اليوم أوبئة قاتلة وحروب مدمّرة، مشاكلنا اليوم وحش ينشب أظافره في جسد الإنسانية ويغتصب حقّها في الكيان. فهل نترك كلّ ذلك لنكتب حول مواضيع نستوردها من كواكب أخرى؟. أظنّ أنّه لا مفرّ من السير وسط هذه العتمة لكي نخترع طريقا تخلّصنا من موتنا الجماعي. لا حلّ لنا اليوم سوى مواجهة هذا الموت، لعلنا نولد بعد ذلك بوعي جديد يجعلنا نحترم إنسانيّتنا. أمّا تجاهل كلّ ذلك فهلاك مؤكّد”.
وعن هل الشخصيّات والأبطال في الرواية العربيّة أبطال إشكاليّون يعانون من الاغتراب عن المجتمع أو الاستلاب أو من عدم التّحقق وغيرها من المشكلات التي تجعلهم يعانون تقول: “الشّخصيّة القصصية أنا الكاتب الأخرى، صورة من صوره الممكنة في عالم مواز. وهي تسكن قلبه وفكره وخياله قبل أن تتشكّل خلقا سويّا على الورق. وأعماق الكاتب الإنسان إشكاليّة بالأساس، لأنّه الأقدر على الإصغاء إلى الأصوات المختلفة. فهو لا يميل إلى الاكتفاء بتصوّر أحادي للمواضيع التي تشغله. على خلاف المجتمع الذي لا همّ له إلاّ الحفاظ على توازناته، سواء بتكريس العنف الشّرعي، عنف القوانين أو العنف غير الشرعي، عنف العادات والتقاليد.
تعكس شخصيّات الرّواية هذا الصّراع الواعي حينا واللاّواعي أخرى بين الفرد والمجتمع. وفي الصّراع مشقّة وحياة. فالمعاناة التي يفترض أن يصوّرها الكاتب ليست نتيجة ميل فطري إلى اختلاق المشاكل أو بسبب نظرة سوداويّة للواقع. ولكنّها علامة على رؤية عميقة للحياة ترفض التماهي مع النموذج ولو كان سيدفع مقابل ذلك شعوره بالاستلاب. الرّواية لم تخلق لكي تكرّس لغة القطيع بل لكي تخترع الطريق إلى عالم جديد يحترم إنسانية الإنسان”.
وعن كيف يتمّ تصوير تلك المعاناة التي يحبّ الكاتب تجسيدها في مسار الأحداث ورسم الشخصيّات وهل هنالك بعض المبالغة في تصوير تلك المعاناة تقول: “نحن متّفقون أنّ الرّواية نصّ. لكن أيّ نصّ يفترض أن تكتبه الرّواية؟ أظنّ أنّ مهمّة الرّواية لا تتمثّل في كتابة الجملة النحويّة. مهمّتها أن تكتب الجملة الثقافيّة وهي جملة تصنع لغتها من طين الواقع.
ولا أظنّ قارئا سيصدّقك وأنت تصوغ واقعا كالذي نعيش سردا هادئا، أو وصفا مترهّلا ساكنا. مهمّة اللّغة السّرديّة اليوم أن ترتقي بمعجم الحياة إلى حيث إبره الحادّة إلى حيث عوالم الدّهشة. من يملك لغة كهذه فليكتب بها ومن تمتنع عليه فليحتفظ بمستنقعات الكلمات اللّزجة لنفسه فلا قارئ سيبحر معه في فضاء كهذا.
ثمّ إنّه على الكاتب أن يوجد لعوالمه المتخيلة أبنية تسايرها، أبنية تماثل أشكالها المنحرفة أو شبه المنحرفة ولا يسكنها بيوتا نمطيّة الهندسة متشابهة البناء تشوّهها. كما ينتظر من الكاتب أن يرسم شخصيات تقول لغة الغضب، تصرّف كلمات الغضب وتقول مواقف الرفض والتمرّد. والغضب موقف، الغضب حياة، والغضب بألف لون عدا لون السواد. نراه في درجات الأحمر وشحوب الأصفر. ونراه في ضبابية الرمادي. الغضب قادر أن يخرج بنا من سوداويّة الواقع إلى ألوان الفعل المختلفة.
ومادام العالم النصيّ على مقاس العالم المتخيّل، فلا يمكن الحديث عن مبالغة. المبالغة في نظري هي أن تلبس الشخصيّة كساء لا يناسبها. فيكون من الضّيق بحيث لا يسعها أو من الاتساع بحيث يغيّب تفاصيلها ويهمّشها. وأختم بالقول بأنّه لا توجد كتابة مريضة أو سوداويّة كما يقال وإنّما يوجد مجتمع مريض، على الكاتب أن يقترب منه بقدر يساعده على كشف علله” .
وعن هل تكتفي بعض الروايات برصد المعاناة سواء كانت فرديّة أو جماعيّة دون تقديم حلول ايجابية للتخلّص منها تقول: “مهمّة الرّواية أن تزرع الارتباك في قلب قارئها. وأن تطرح الأسئلة الكفيلة بتحقيق ذلك. مهمتها، أن ترفع الأقنعة التي نلبسها لمسايرة المجتمع ونماذجه.
دور الرواية أن تقف بين المرء وبين نفسه. وأن تمنعه من قتل هذه النفس وتقديمها قربانا للقوانين الاجتماعيّة. دورها أن تعلّمه القبول بنقصه فلا يخفيه في أعماقه حتى يتعفّن به. مهمتها، أن تستدرجه إلى عالم محايد هو عالمها المتخيّل ليصغي إلى آلام الآخرين حتى إذا عاد إلى نفسه أصبح أكثر تسامحا وأقدر على الإصغاء إليها. حينئذ سيجد الطريق ويخترع الحلّ.
أمّا الحلول التي تقدّم جاهزة في بعض النّصوص، فلا أظنّ أنّ القارئ سيقبل بها. ما هي في ظنّي إلاّ عنف آخر يسلّط عليه. عنف يمنعه من التفكير في نفسه بنفسه. شكل من أشكال الوعظ والإرشاد الذي سيشيح بوجهه عنه ما إن يترك فضاء الرّواية. ولا أعرف قارئا دخل هذا الفضاء إلاّ هربا من آلة العنف الجبارة التي تحاصره. فكيف نعالج العنف بالعنف؟”.
مساحة أكبر للعري..
ويقول الكاتب والشاعر المصري “محمد حسني عليوة”: “في ظل تردّي المشهد العام والتباسه، وتورط الكثيرين في سوق الحروب والصراعات المزدهرة، يكون من الضروري الالتزام بمعايير التواصل مع كل ذلك بالكتابة وطرح الرؤى والأفكار، بما تستوعبه قريحة المبدعين، وبما يستحق أن نعاني لأجله. ومن أنضج وسائل التعبير، ويمكن القول: أعماقها وأشملها، هي الرواية”.
وعن هل الشخصيات والأبطال في الروايات العربية أبطال إشكاليون يعانون من الاغتراب عن المجتمع، أو الاستلاب، أو من عدم التحقق وغيرها من مشكلات تجعلهم يعانون يقول: “الرواية، معضلة البحث عن حياة منطقية لشخصيات لا تقوى على التفكير في منطق للحياة. ومن خصوصية الرواية أنها تصنع التوتر القائم بين الشخصيات، كما تهتم بنضالها، بكفاحها، بعثراتها، بثوراتها، بتفانيها للبقاء، وتماهيها مع العدم، وبالطبع تكون تلك الشخصيات لأبطال إشكاليين في مأزق عالق بين حياة وموت، لذا حاولوا الانفكاك من معاناة اغترابهم، لكن بالقدر الذي يسمح بتخليقهم لحيوات مرنة داخل العمل الروائي”.
وعن كيف يتم تصوير تلك المعاناة التي يحب الكاتب تجسيدها في مسار الأحداث ورسم الشخصيات، وهل هناك بعض المبالغة في تصوير تلك المعاناة يقول: “الرواية تعطي مساحة أكبر للعري، عري النص من تفاصيله الحميمة، عري التجربة السردية، عري الفنّيات اللغوية، عري البيت من سقفه، عري الروح من جدرانها، عري الشخصيات من عوراتها الذهنية، عري الوعي من مخايلته الفوضوية، عري الزمن من رتابته المتمكنة، وعُري الكاتب نفسه من ذاته! لذا يجعل من معاناة أبطال رواياته تجسيدًا لمعاناته هو، وعلى قدر تمكنه من أدواته الإبداعية تجده يرسم الشخصيات في مسار أحداث وتجارب حياتية عاشها ومرّ بها هو.. وليس أحدًا غيره”.

وعن هل تكتفي بعض الروايات برصد المعاناة سواء فردية أو جماعية دون تقديم حلول إيجابية للتخلص منها أو مخارج يقول: “من وجهة نظري، ‏الرواية: حكاية عن الواقع، وليست حكاية الواقع. فمن المهم، بل والضروري فنيًّا، أن تقوم الرواية برصد قدر من المعاناة، فردية كانت أو جماعية. معاناة الكشف عن خلل مجتمعي ما، خلل قِيمي، خلل سيكولوجي، خلل معرفي؛ والكاتب إزاء رسالة سامية مُضطّلع بحملها، فهو يرصد ويظهر التفاصيل الصغيرة التي تخفى عن كثيرين، ومن ثم يطرح رؤيته الفنية، ولكل كاتب إيمانه الخاص بفكرة معالجته لذاك الطرح أو تلك الرؤية، إيمانه بتقديم حلول جذرية في تتمة الرواية، أو أنه من الضروري إشراك المجتمع، مثقفين منه وغيرهم، في معادلة الإشكالية”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة