خاص: إعداد- سماح عادل
حين نفكر في وظيفة الرواية في المجتمع نستطيع فهم تناولها للمعاناة، فبالعض يرى أن الرواية فن ينتصر للإنسان، يساعد الكاتب علي فهم ذاته وفهم الآخرين، وبالتالي نفهم أنها لابد وأن تصور معاناة الإنسان في العموم، وآخرون يرون أنها تكتب بهدفي الإدهاش والتنوير، لذا حين يسعي الكاتب إلي رصد معاناة ما فلابد أن يقوم بعمل تجربة مدهشة أعمق وأكبر من مجرد تسجيل وقائع.
هذا الملف تجيب عنه مجموعة من الكاتبات والكتاب من مختلف البلدان العربية، وقد طرحنا عليهم الأسئلة التالية:
. 1 هل الرواية العربية في الوقت الحالي تصدر من المعاناة، سواء من الحروب والصراعات، أو من ظروف المجتمعات التي أصبحت مأزومة، أو من معاناة الكاتب التي يصورها علي الورق كمعاناة فردية؟
. 2 هل الشخصيات والأبطال في الروايات العربية أبطال اشكاليون يعانون من الاغتراب عن المجتمع، او الاستلاب، أو من عدم التحقق وغيرها من مشكلات تجعلهم يعانون؟
. 3 كيف يتم تصوير تلك المعاناة التي يحب الكاتب تجسيدها في مسار الأحداث ورسم الشخصيات، وهل هناك بعض المبالغة في تصوير تلك المعاناة؟
. 4هل تكتفي بعض الروايات برصد المعاناة سواء فردية أو جماعية دون تقديم حلول إيجابية للتخلص منها أو مخارج؟
يعبر الكاتب عن اغترابه..
يقول الكاتب والمترجم السوري “ماهر رزوق”: “لا شك العديد من المثقفين المهاجرين بسبب الحروب لجأوا إلى الرواية للتعبير عن تجاربهم أثناء الحروب والثورات الماضية، لكن البعض بالتأكيد عمد إلى ذلك فقط ليلحق بالركب وهذا ما أنتج لنا نوعين من روايات ما بعد الحدث: الأول تجاري بحت والثاني أدبي متقن. أثر أحدهما على الآخر سلبا وإيجابا بكل تأكيد”.
وعن الشخصيات والأبطال في الروايات العربية أبطال إشكاليون يعانون من الاغتراب عن المجتمع، او الاستلاب، أو من عدم التحقق وغيرها من مشكلات تجعلهم يعانون يقول: “الاستلاب أمر محتوم في ظل الدكتاتوريات المعاصرة والثورات الفاشلة تؤثر بشكل سلبي على تأزمه. الكاتب عبر شخصيات رواياته لا يستطيع أن يتفادى التعبير عما بداخله من اغتراب وآلام ضمنتها تجربة الحرب أو انتكاسة الثورة”.
وعن كيفية تصوير تلك المعاناة التي يحب الكاتب تجسيدها في مسار الأحداث ورسم الشخصيات، وهل هناك بعض المبالغة في تصوير تلك المعاناة يقول: “تتضح المبالغة في الروايات التجارية بشكل أكبر، لكنها لا تغيب أيضاً عن الروايات الجيدة، فالمهاجر العربي اليوم لا يرحل إلى بلدان أسوأ من بلده أو دعينا نقول لا تكون ظروفه في الخارج أسوأ من ظروفه السابقة في بلده . بالعكس تماما، هو يجد هناك ظروف مادية جيدة، وخبراء نفسيين مهيئين للتعامل مع مشكلاته تحديداً. ولعله يتلقى في الغرب وأوربا ما لم يحلم به في بلده من معاملة!!”.
وعن اكتفاء الروايات برصد المعاناة سواء فردية أو جماعية دون تقديم حلول إيجابية للتخلص منها أو مخارج يقول: “لا يستطيع الكاتب الأدبي تقديم حلول لمشكلات تستلزم دراسات علمية، وكما ذكرت سابقاً هو يعبر من خلال شخصياته عن مشكلاته (غالباً) فكيف للمريض أن يصف الدواء!؟”.
فن ينتصر للإنسان..
ويقول الكاتب والروائي الجزائري “بومدين بلكبير”: “عرفت المنطقة مؤخرا هزات وتداعيات خطيرة جراء التحولات الاجتماعية والسياسية، والأزمات العميقة (الحرب الأهلية في سورية، كوفيد-19، تفجير ميناء بيروت، الحرب على غزة…). أضحى الإنسان العربي اليوم أكثر من أي وقت مضى مهددا، يفتقد في الغالب للأمان المادي، الاجتماعي، والنفسي. وعند الحديث عن الكتاب والمبدعين، فالكثير منهم توقفوا عن الإبداع بمختلف أشكاله، وتحولوا إلى قطاعات أخرى (بعيدة عن قطاع الثقافة والفنون) لتأمين بقائهم (الحاجات الأساسية/ الفيزيولوجية).
للأسف بات كل شيء ضد المبدع وضد الثقافة، هذه الظروف المعادية غير المبررة أتت على ما تبقى من حياة ثقافية طبيعية. هذا ساهم في تصاعد وتيرة هجرات المبدعين والفنانين، بسبب تفاقم الوضع والحروب والأزمات المتتالية.
ومع ذلك، لا يمكن إغفال تلك المعاناة الجماعية والفردية في السردية العربية. إذ صدرت نصوصا مختلفة رصدت تلك المعاناة ووثقتها، في شكل أعمال لاقت انتشارا واسعا في دول المنطقة العربية، وأيضا اهتماما عالميا من خلال الترجمة والجوائز والاحتفاء بها”.
وعن هل الشخصيات والأبطال في الروايات العربية أبطال اشكاليون يعانون من الاغتراب عن المجتمع، أو الاستلاب، أو من عدم التحقق وغيرها من مشكلات تجعلهم يعانون يقول: “صعب إطلاق حكم جاهز، خاصة وأن الروائي بشكل أو بآخر هو كائن على صلة وثيقة بما حوله في الواقع من مؤثرات (استعمارية، استبدادية، قهرية…). وبالتالي كل ذلك يترك أثره الواضح في وعيه ولا وعيه، ويظهر بوضوح أكبر عند اشتغاله على عمله الروائي وعلى شخوصه.
وهذا ما حصل أيضا على سبيل المثال مع جزء مهم من السرد الجزائري الذي انهمك في ثنائية المعاناة من الاستعمار (أدب الثورة)، والمعاناة من العشرية السوداء. ومع ذلك تحررت الرواية الجزائرية المعاصرة إلى حد بعيد من تلك الموضوعات، وانخرطت في مغامرات سردية إنسانية مفتوحة على التعدد والتجريب.
فنجد “ياسمينة خضرا” يتحدث عن الإنسان في هفانا، وفي فلسطين، وفي أفغانستان، وقبله “محمد ديب” في تناوله للبيئة الإسكندنافية. و”أنور بن مالك” الذي غامر باتجاه موضوعات حول السكان الأصليين لأستراليا في رواية “ابن الشعب العتيق”، و”سليم باشي” الذي كتب عن هجمات 11 سبتمبر في رواية “اقتولهم جميعا”، و”عمارة لخوص” الذي تناول موضوعات العنصرية في إيطاليا في مجموعة من رواياته. وغيرها من التجارب والأسماء الروائية الجزائرية على تنوعها وانفتاحها أيضا، من حيث الموضوعات ولغة الكتابة”.
وعن كيفية تصوير تلك المعاناة التي يحب الكاتب تجسيدها في مسار الأحداث ورسم الشخصيات، وهل هناك بعض المبالغة في تصوير تلك المعاناة يقول: “مرة أخرى، معرفة ذلك تتطلب دراسة مسحية لعينة من الإصدارات في المنطقة العربية خلال فترة زمنية متوسطة أو طويلة نسبيا. لأن تصوير تلك المعاناة يختلف حسب الموضوعات وحسب المؤلفين، وممكن هناك تفاوتات أخرى يمكن أن تغزى للاختلافات الدينية والإثنية والجغرافية”.
وعن اكتفاء بعض الروايات برصد المعاناة سواء فردية أو جماعية دون تقديم حلول إيجابية للتخلص منها أو مخارج يقول: “ليس من شأن الرواية البحث عن حلول أو مخارج لأزمات الإنسان المعاصر، بقدر ما هي فن ينتصر للإنسان أولا وقبل كل شيء، ويساهم في فهم الذات والآخرين.
فقد ارتبط موضوع المعاناة وثقل الذاكرة بمشاريع روائية رائدة في العالم، ويمكننا على سبيل المثال لا الحصر الحديث عن الروائي التنزاني البريطاني “عبد الرزاق جورنا”، الحاصل على جائزة نوبل في الأدب وكيف كانت تدور أحداث رواياته حول المعاناة من الاستعمار في شرق أفريقيا خلال الحرب العالمية الأولى، كرواية “بارادايس” (الفردوس)، ورواية “ديزيرشن ” (هجران). وهناك أسماء أخرى لا حصر لها اشتغلت على المعاناة من ثقل الماضي والهم الاجتماعي”.
الإدهاش والتنوير..
ويقول الكاتب والروائي الفلسطيني “إياد شماسنة”: “المعاناة حافز أساسي ومهم لكتابة الرواية، لكن الأمر لا يقف على هذا فقط، فهناك دوافع كثيرة لكتابة الرواية تختلف باختلاف الكتاب وتجاربهم وخبراتهم ثم انتماءاتهم ومجتمعاتهم السياسية والاجتماعية والدينية، لذلك نجد تنوعا وافرا في الروايات، المشكلة أن المعاناة تقدم نوعا من أدب السير الذاتية أو الغيرية باعتبارها قد تتفوق على الخيال أحيانا، والرواية حتى تكون مدهشة تحتاج إلى التصرف الأدبي الذي قد يعتبر خيانة للمعاناة، وهذا يشكل مأزقا للكاتب في بعض المجتمعات.
بعض الكتاب يوظفون أزماتهم الخاصة أو المجتمعية في رواية أدبية مدهشة كما فعل “حنا مينا ومحمد شكري والطيب صالح” وغيرهم، البعض تدفعه الجوائز لابتكار أزمات أو افتعالها لتكون محورا لرواية”.
وعن هل الشخصيات والأبطال في الروايات العربية أبطال اشكاليون يعانون من الاغتراب عن المجتمع، أو الاستلاب، أو من عدم التحقق وغيرها من مشكلات تجعلهم يعانون يقول: “نعم، هذا صحيح، بعض الشخصيات في الروايات العربية تعاني خللا خطيرا، وتبدو كأنها خارج النظام تماما منزوعة عن محيطها وتقاليدها وحتى حداثتها، تتصرف المرأة العربية في رواية وكأنها سائحة أجنبية، وتعاني من ذات المعاناة وكأننا نشاهد فيلما أجنبيا بلغة عربية، وكذلك الرجال، وقد انعكس ذلك حرفيا على السينما عندما وظفت مثل هذه الروايات.
الاغتراب ظاهرة قديمة ما زالت موجودة بين المثقفين والعلماء، لكن الاغتراب الذي نعرفه اجتماعيا يختلف عن التغريب الذي هو تقليد لشخصيات أجنبية ونسخها إلى الرواية العربية. بالطبع هناك عدد كبير من الشخصيات الناضجة في الروايات العربية والتي تقنع القارئ تماما وتجلت في عدد من الأعمال وبعضها أصبح مألوفا وشائعا”.
وعن كيفية تصوير تلك المعاناة التي يحب الكاتب تجسيدها في مسار الأحداث ورسم الشخصيات، وهل هناك بعض المبالغة في تصوير تلك المعاناة يقول: “تصبح المعاناة كنزا أو منجما للكاتب حين يكون قد تشافى منها، وينظر إليها من الخارج ليقدمها بمنظور الأدب بعيدا عن دوافع الانتقام أو الثأر، هناك من يرتكب جرائم أدبية حين يكتب كضحية، طبعا من حق الضحية أن تروي روايتها، لكن كلما تشافت أصبح العمل الأدبي أكثر نضجا.
وعلى سبيل المثال، لو كتب “فيكتور هوجو” البؤساء كضحية لما وصلت إلينا تلك التحفة الإبداعية، ولو كتبت “الحرب والسلام” بدافع الثأر لما كانت من عيون الأدب العالمي، وهذا يجيب على السؤال بأن البعض يبالغ في توظيف المعاناة أو حتى ينهكها من فرط احتكارها والتركيز عليها، بعض الأدباء بارع في توظيفها، كما فعل “وليد سيف” في التغريبة الفلسطينية، وما فعلته “أحلام مستغانمي” في ثلاثيتها الأولى، و”سعود السنعوسي” في “ساق البامبو”، وهو يوظف معاناة المهمشين في تحفة فريدة، وأكثرهم إبداعا الروائي “نجيب محفوظ” وهو يروي معاناة البسطاء والفقراء في أعماله”.
وعن اكتفاء بعض الروايات برصد المعاناة سواء فردية أو جماعية دون تقديم حلول إيجابية للتخلص منها أو مخارج يقول: “باعتقادي أن وظيفة الرواية هي الإدهاش والتنوير بالدرجة الأولى ويتولى علماء الاجتماع تقديم الحلول، وإقحام الروائي في الإصلاح الاجتماعي يعرضه لاختلالات إبداعية، مع ذلك يمكن أن تنبت الحلول في سياق إبداعي ضمن التطور الطبيعي لأحداث، كعلاج نفسي أو حل مبتكر مثلا، أو اختراع ما، هذا يعد دهشة إضافية.
كما أن الاكتفاء بالرصد وظيفة المصور وليس الكاتب، الروائي يستجمع هذه الأدوار معا بحيث يكون الناتج أكثر من مجموع الوقائع، معالجته المدهشة هي ما تجعل الرواية تختلف عن رواية أخرى تعالج نفس المعاناة أو ذات القضية”.