21 سبتمبر، 2024 2:37 م
Search
Close this search box.

الرواية والمعاناة (10).. أصبحت الأزمات هي الهاجس الرئيسيّ للكتابة

الرواية والمعاناة (10).. أصبحت الأزمات هي الهاجس الرئيسيّ للكتابة

خاص: إعداد- سماح عادل

تنجح الروايات التي ترصد المعاناة، سواء فردية أو جماعية، حين تحقق شرط الوصول لأكبر عدد ممكن من القراء، وحين تتمتع بالأصالة والتوازن، وتستطيع أن ترصد بعمق هذه المعاناة، وتبدع في رسم شخصيات حية وحقيقية، وتصدر عن الواقع.
هذا الملف تجيب عنه مجموعة من الكاتبات والكتاب من مختلف البلدان العربية، وقد طرحنا عليهم الأسئلة التالية:
. 1 هل الرواية العربية في الوقت الحالي تصدر من المعاناة، سواء من الحروب والصراعات، أو من ظروف المجتمعات التي أصبحت مأزومة، أو من معاناة الكاتب التي يصورها علي الورق كمعاناة فردية؟
. 2 هل الشخصيات والأبطال في الروايات العربية أبطال اشكاليون يعانون من الاغتراب عن المجتمع، او الاستلاب، أو من عدم التحقق وغيرها من مشكلات تجعلهم يعانون؟
. 3 كيف يتم تصوير تلك المعاناة التي يحب الكاتب تجسيدها في مسار الأحداث ورسم الشخصيات، وهل هناك بعض المبالغة في تصوير تلك المعاناة؟
. 4هل تكتفي بعض الروايات برصد المعاناة سواء فردية أو جماعية دون تقديم حلول إيجابية للتخلص منها أو مخارج؟
الوصول لشريحة أكبر من الناس..
تقول الكاتبة والروائية المصرية “شيرين فتحي “: “أعتقد أن سؤالك عام زيادة عن اللازم فالعالم العربي واسع وتمر بلدانه بظروف متباينة، فقد تجد روايات من العراق أو سوريا أو فلسطين تتحدث عن الحرب بينما لا تجد نفس الأمر هنا في مصر، فالمعاناة مختلفة وهكذا كل إناء ينضح بما فيه، إلى جانب أني لا أرى فروقا بين المعاناة الشخصية والعامة فقضية كل فرد أو معاناته الخاصة أيا كانت هي قضية الوطن بأكمله. المعاناة الفردية جزء لا يتجزأ من معاناة المجتمع. الفرد صورة مصغرة من المكان والموطن الذي نشأ فيه. بدون فهم معاناته الشخصية لن نفهم ما مر به المجتمع.
في هذا الوقت تحديدا المبالغة مطلوبة أحيانا في تقديم الكثير من الفنون ليس لأدب فقط نجد المغالاة في رسم الأشخاص، مثلا نجد مبالغة في رسم شخصية “إيرنديرا” إحدى بطلات “ماركيز” في قصته الاستثنائية جدا، حيث عانت ما يمكن معاناته مع جدتها التي كانت تبيعها كل يوم لعدد هائل من الرجال مقابل أن تسدد دينا لها، وحين اقتربت من تجميع مبلغ الدين احترق البيت وضاعت النقود واضطرت “ايرنديرا” للبدء من جديد.
القصة عقليا لا تصدق لكنها مصدقة أدبيا وفنيا لدرجة كبيرة، لأن هذا هو الفن الحقيقي أن تصدق ما تكتبه وتعيشه كأنه حقيقي، ومن ثم يتقبله القارئ ويصدقه تباعا. الكتابة طبخة عليك أن تضبط كل مقاديرها وأن تستمتع أنت بتذوقها قبل أن تقدمها لقارئك.
على مستوى الأدب العربي أعتقد من المفترض أن يعيش الأبطال أكثر من ذلك. الأبطال العرب قصيري العمر لا يعيشون طويلا، وهذا ما نحتاجه أن نغوص أكثر في تقديم الشخصية أن نمنحها اللحم والدم والروح كي تصبح حقيقية ومؤثرة وليست مجرد شخصية ورقية”.
وتضيف: “بالنسبة لسؤالك عن اغتراب الشخصيات فإذا تحدثت عن الروايات التي قرأتها ستكون إجابتي نعم، الأبطال في مجتمعنا يشبهوننا يعانون من الاغتراب وعدم التحقق، أما عن تصوير هذه المعاناة فالأمر مختلف من عمل لآخر ومن شخصية لأخرى فلكل شخصية ظروفها ومعاناتها.
لا ننكر تأثر بعض كتاب هذا الجيل بالفانتازيا والماورائيات دون أن يهتموا بتضفير الشخصيات مع المجتمع والبيئة التي نعيش فيها، لا أعتقد أن المغزى من الأدب أو الفنون هو تقديم الحلول. المغزى الحقيقي في العرض الصادق للحكاية والقدرة على توريط القارئ أو المتلقي في العمل وجعله شريكا للكاتب بشكل أو بآخر من هنا تزيد درجة الوعي والإدراك، من هنا تبدأ أولى خطوات الحل وحتى إن لم نصل لحلول قاطعة كما هو متوقع في أغلب المشاكل. سيكون كافيا جدا أن تصل بمعاناة الشخصية المكتوبة لشريحة أكبر من الناس”.
الواقع أشد قسوة..
وتقول الكاتبة والروائية المصرية “إنجي همام “: “بالطبع ذلك هو الواقع، الصراعات العالمية والإقليمية والاجتماعية والنفسية كلها تسيطر على موضوعات الكتابة الروائية الحالية، وبحسب حجم كل هذه الضغوطات والمعاناة التي يفرزها الواقع بشكل يومي، تصدر هي كذلك في مرآة الكتابة طيلة الوقت، فالرواية ابنة هذه الصراعات، تتغذى عليها بشكل حقيقي وكبير، تعبر عنها ما استطاعت، فالرواية تحديدا خلقت لهذا المصير”.
وتضيف: “نعم كذلك وتبعا لكل الصراعات الخارجية والداخلية التي يعيشها الأبطال في الواقع وفي الكتابة أيضا، فإنهم بالضرورة أبطال مغتربون. مأزومون. يعانون بصور مختلفة ودائمة كنتيجة طبيعية للواقع الذين يعيشون أزماته، فمن غير المنطقي أن يكون البطل ابنا لهذا العالم المأزوم المهزوم بشكل يومي، ويكون هو بطلا في رواية غنائية، البطل لم يعد يغني، لم يعد يعرف أكثر من الأوجاع، البطل في مواجهة يومية مع شذوذ الواقع، كل تلك الظروف طبيعيا أن تغير من تركيبته وتجعله على هذا الحال”.
وتواصل: “يتم تصوير معاناة الأبطال بطرق مختلفة، ترجع لطبيعة وأسلوب كل كاتب، هناك من يكتب بشكل واقعي، فينقل عالم الواقع إلى روايته بشكل كبير، وهناك من يعتمد الفانتازيا فيعبر من خلالها بشكل خيالي عن أبطاله وعوالم معاناتهم، أما عن المبالغة فهي أيضا فكرة غير ثابتة، بعض الكتاب يفعلونها والبعض الآخر فلا، غير أن بعض معاناة الواقع تكون في نظر من لم يعشها خيال أو مبالغة، الواقع أشد قسوة من خيالات الكتاب في كثير من الأحيان، ولابد للقارئ أحيانا أن يلمسه بنفسه حتى يتيقن من حقيقة ذلك.”.
وتؤكد: “دور الفن ليس تقديم الحلول أو المخارج، من يقدم فنا يحمل الحل في داخله فهو ليس فنان أو كاتب، هو هنا يتقمص دور المرشد أو المصلح الاجتماعي أو الواعظ، ومن الطبيعي أن تقدم الروايات المشكلات أو الأزمات دون أن تقدم لها الحلول، بالطبع هناك الكثير من الروايات تصدر كذلك، وهي الروايات الفنية بصدق، البعيدة عن الادعاء أو إدخال الأدوار فيما بينها”.
الأصالة والتوازن..
وتقول الكاتبة والروائية الفلسطينية “صباح بشير”: “تحتلّ الرّواية مكانة خاصّة لدى النّقاد والقرّاء، تعرّف القارئ على ثقافات الشعوب، عاداتهم وتاريخهم وإرثهم المعرفيّ واللّغوي. لقد عبّر الأدباء العرب من خلالها عن قضاياهم الاجتماعيّة، وأحاسيسهم ومشاكلهم، تناولوا تاريخ أوطانهم، ماضيهم وحضارتهم وثقافتهم، وفي هذا السياق نشأت الرّواية العربيّة وتطوّرت بأساليبها وخطاباتها ووسائلها، وتأثرت بالتّيارات الفكريّة الحديثة، وبسبب التحوّلات التي شهدتها المناطق العربيّة، بدأت الرّواية العربيّة بنقل الصّور الجزئيّة لهذه المجتمعات.
استعرضت الواقع ومعاناة الشّعوب، والصّراعات والحروب، والمظاهر السلبيّة والمشاكل الاجتماعيّة، الأمر الذي وفّر مادة خصبة للكتابة الرّوائيّة، وذلك لتنوّع الموضوعات وتعدّدها وثرائها، وقد اختبرت المنطقة العربيّة العديد من الأزمات التّاريخيّة الكبرى، فتأزّمت العلاقات الاجتماعيّة والمنظومات الثّقافيّة، وأفكار النّاس ومفاهيمهم، حتى غدت تلك الأزمات هي الهاجس الرئيسيّ للكتابة، وقد شهدنا ما فعلته النّكبة الفلسطينيّة (1948) والنّكسة والهزيمة (1967) في هذا السياق، وهو ما يجري اليوم على الرّواية السورية والرّواية العراقيةّ.
هذا النّقل للواقع عبر الكتابة، يفسّر التّميّز الذي حقّقه بعض الأدباء العرب، وثراء تجاربهم الرّوائيّة. يدل هذا التّميّز على الارتباط الوثيق بين الواقع والقدرة على تصويره عبر السّرد بشكل تقنيّ، وذلك مرتبط بالموضوع الرّوائي والتّجربة الذاتيّة للكاتب، وهو ما يوضّح إقبال الأدباء العرب على تصوير الواقع، واستقاء موضوعاتهم الرّوائيّة منه”.

وعن هل الشّخصيات والأبطال في الرّوايات العربيّة، هم أبطال اشكاليون يعانون من الاغتراب المجتمعيّ أو الاستلاب، أو من عدم قدرتهم على تحقيق ذواتهم، أو غيرها من المشاكل تقول: “الشّخوص الرّوائيّة هي ركيزة من ركائز الحبكة الرّوائيّة، من خلالها تجسّد الرّواية رؤيتها الخاصّة للعالم في المجالات التي تعكسها- الأدبيّة والتّاريخيّة والثّقافيّة والسّياسيّة وغيرها- فالشّخصيّة هي العمود الفقري الذي تقوم عليه الرّواية، والأساس الأول الذي ينطلق منه الرّوائي في بناء العمل، والمحرّك الرئيس في المتن الحكائي.
وأيّ حبكة روائيّة تحتاج إلى الشّخوص التي تتفاعل مع أحداثها، وسواء كانت هذه الشّخوص حقيقيّة أم خياليّة فهي تُظهر نشاطا اجتماعيّا، وتتّخذ موقفها من الحياة في زمانها ومكانها، يصوّرها الكاتب بأدواته الفنيّة لتبدو واقعيّة، دون أن يبعدها عن المعاناة التي انطلقت منها؛ لتعبّر عنها أو عن ظرف الكاتب ونفسيته وعمّا يدور في خاطره وخياله، فتتماهى مع أمنيّاته وآماله، أو تنطق بالحقيقة فتعرّي المأساة بواقعيّة أمينة على روح الحدث.
قد تعتنق بعض الآيديولوجيات التي تمرّ عبر السّرد، مشكّلة بذلك فضاءات فكريّة، أو اجتماعيّة متخيّلة أو حقيقيّة تزخر بالدّلالات النّصيّة، وقد تعاني الاغتراب والاستلاب فتصوّر واقعها الفجّ وما تعانيه من انعزال وخروج عن تقاليد المجتمع وتجاوزها، أو الخضوع التّام لها، ويزداد الصّراع كلّما ازداد وعي الشّخصية بذاتها، فكلّ ما يحيط بها هو ثقيل عليها، لتخرج بذلك عن تواصلها الاجتماعيّ، تتوحّد بنفسها وتنأى بعيدا بمعاناتها وشعورها بالاغتراب.
هذا الاغتراب بمعنى الانفصال بين الذّات والواقع، وشعور الفرد باختلافه عن الآخرین، فكرا وشعورا، أو سلوكا وممارسة، يؤدّي إلى عدم القدرة على التّكيّف مع الواقع، وبالتّالي إلى الإحباط وضياع القدرة على الإحساس بمغزى الحياة، وذلك ما تجسّده المدرسة العبثيّة في الأدب كمرآة تعكس هموم الإنسان، في محاولة للتّخلّص من المعاناة الحياتيّة، والانسحاب إلى حياة أخرى أكثر بؤسا وألما وتشظّيا! “.
وعن كيفية تصوير المعاناة التي يجسّدها الكاتب عبر شخصياته وفي مسار الأحداث وهل هناك بعض المبالغة في تصوير المعاناة تقول: “مع تزايد تيّار العنف الذي يترسّخ أكثر فأكثر، تتوالد الوقائع والحكايات الكثيرة، والرّواية مرآة تعكس الأحداث وتعيد تصوير الواقع، تكشف المستور دون إغفال الجوانب الإنسانيّة، قد يعمّق ذلك من الأزمة التي يستقيها النّص من بيئتها، لتسليط الضّوء عليها وعلى مشهدها المأساوي وإبرازه بشيء من المبالغة أحيانا، أو بحياديّة مطلقة أحيانا أخرى، وذلك لترك الأثر في نفس المتلقّي، فالرّواية لسان حال المجتمع، توقظ الوعي بجرأة، لإيجاد المخارج المناسبة الأكثر قيمة وقدسيّة للإنسانيّة.
لتصوير المعاناة، يتعامل الكاتب مع الفكرة والحدث، يعمل على صياغة اللّغة والصّورة، وبناء الشخصيّة وتطويرها، والعمل النّاجح، كلّ ما فيه ضروريّ مهما صغرت مساحة الحديث عنه، وله دور فاعل في صناعة الحدث وفي نسيج الرّواية وفكرتها وأحداثها.
إذن، من الواقع العربيّ والتّاريخ والتّراث والأحداث السّياسيّة والاجتماعيّة، تستمدّ الرّواية العربيّة مضامينها ورموزها وأحداثها، وهي تُصنّف اليوم تحت مظلّة الواقعيّة الجديدة، تتفاعل مع التحوّلات الحديثة، وتنفتح على كلّ أصناف الكتابة، تقدّم صور البسطاء والفقراء، وتكشف طبيعة الحياة في الحارات والمخيّمات والأزقّة، تتناول القضايا الحسّاسة، وتدعو إلى العدل وحريّة الإنسان وكرامته، والمساواة بين أبناء البشر”.
وعن رصد بعض الرّوايات المعاناة، الفرديّة أو الجماعيّة، دون تقديم حلول إيجابية أو مخارج للتّخلص منها تقول: “الكاتب ليس مصلحا اجتماعيا، ولا هو بحارس على القيَم، ولا يمارس دور الوصيّ على القارئ، والكتابة الأدبيّة التي تعتمد الوعظ والإرشاد هي كتابة ثقيلة على المتلقّي، والإبداع الحقيقي يكمن في قدرة الكاتب على إيصال الرّسائل بين السطور دون إقحام أو مبالغة، وذلك بأسلوب يعكس العمق والحسّ الفنّيّ، وهذا ما يتطلّب من الكاتب أن يكون حذرا في تقديم الفكرة بطريقة ملهمة وقويّة، دون تكلّف أو ثقل زائد، وأن يتقن انتقاء الكلمات، وأن يضبط هياكل الجمل، دون إفراط في التّعبير؛ لتكون العبارات مفعمة بالمعنى.
في هذا السياق، يظهر الإبداع في استخدام اللّغة ما يجعل النّصّ واضحا جذّابا، يتيح للقارئ فهم الرّسالة وأبعادِها بسهولة ويسر، ودون عبء زائد.
بهذا تكون الكتابة الرّوائيّة فعّالة، تتّسم بالأصالة والتّوازن، وتركّز على الجودة الفنّيّة والتّواصل مع القارئ، تنعش الفنّ الرّوائيّ وتؤكّد تجدّده وحضوره الرّاسخ، ومدى تأثيره وجاذبيّته في عالم الأدب”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة