4 مارس، 2024 3:29 م
Search
Close this search box.

الرواية الروسية ازدهرت في القرن التاسع عشر وصورت الشعب

Facebook
Twitter
LinkedIn

خاص : عرض – سماح عادل :

“الرواية الروسية” تعد جزءً هاماً من تاريخ الرواية العالمية، ورغم أنها ظهرت في القرن الثامن عشر وتطورت في القرن التاسع عشر إلا أنها خالدة، لازال القراء من أنحاء العالم يهتمون بقراءتها، ولازالت الترجمات لها تطبع وتلاقى رواجاُ في سوق النشر داخل بلدان العالم، نظراً لأن “الرواية الروسية”، رغم قدم نشأتها، مازلت تعبر عن الإنسان في جوهره وعن قضاياه ومشاكله النفسية والفكرية.

نشأة الرواية الروسية..

ظهرت أول تجارب للرواية الروسية في الستينيات من القرن الثامن عشر، وأرتبط أول ظهور للرواية الروسية باسم المترجم والكاتب، “أمين”، الذي بدأ مترجماً للرواية الأوربية الغربية، ثم دخل بعد ذلك ميدان الكتابة. وإلى جانب الكاتب، “أمين”، أول من كتب الرواية الروسية، ظهرت أسماء الكتاب الروائيين “تشولكوف”، “بوبوف”، “خيرا سكوف”، “ايزمائيلوف” وظهر بعدهم “راديشف” و”كارمازين”.

وإذا نظرنا إلى إنتاج “أمين” فسنجد رواية المغامرات، التي ترتبط بتقاليد القصص الروسية، عن المغامرات التي انتشرت في نهاية القرن السابع عشر، وبالرواية العاطفية، التي ظهر فيها تأثير أعمال “روسو” والكاتب الإنكليزي “ريتشاردسون” أيضاً، إن تجربة الأدب الروائي للقرن الثامن عشر قد حققت إنجازات فنية لعبت دوراً في دعم الفن الروائي في القرن التاسع عشر وتنميته، فقد تحرر الأدب من المذهب الكلاسيكي وقطع شوطاً في الرومانسية، وبرز الفن الروائي في نهاية القرن الثامن عشر بين أنواع الأدب الأخرى، وتأكد فيه مبدأ الكشف النفسي للعالم الداخلي للإنسان، كما طرأ تغير باللغة الأدبية إذ إتجهت إلى اللغة الشعبية وأخذت عنها البناء الفني والبساطة، ولعل من أهم الإنجازات التي حققها أدباء ذلك القرن هو مقدرتهم على أن يوقظوا بأعمالهم الرغبة في القراءة، وقد أسهموا في مضاعفة عدد الناس الذين أصبحوا يهتمون بالأدب.

تطور الرواية..

مع بداية القرن التاسع عشر دخل الأدب الروسي عصراً جديداً هاماً في تطويره، وتكونت الظروف المواتية لبروز أول رواية واقعية اجتماعية في سنة ١٨٣٠، وسار الأدب الروسي على طريق الأصالة والتجديد.

وترتبط مراحل تطور الأدب في القرن التاسع عشر إرتباطاً وثيقاً بالسير العام للتطور التاريخي والقومي لروسيا، فقد كان للأحداث التاريخية القومية والأوروبية العالمية تأثيرها الكبير على تطور الأدب الروسي ومذاهبه، فروسيا التي بدأت منذ السنوات الأولى للقرن الثامن عشر تنخرط أكثر وأكثر في دائرة الحياة التاريخية الأوروبية العامة محاولة أن تصنع لنفسها مكانتها الخاصة بين الشعوب الأوروبية، لم تستطع أن تصبح في منأى عن تيار الأحداث العالمية.

أول رواية اجتماعية..

مع قدوم الثلاثينيات من القرن التاسع عشر ظهرت أول رواية اجتماعية في الأدب الروسي، وهي رواية (يفغيني اونيغن) لـ”بوشكين”، التي أنبأ ظهورها عن بداية العصر الذهبي للرواية الروسية، التي تقدمت لتصبح أرقى وأهم فنون الأدب الروسي على الإطلاق، وذلك بعد أن كانت تحتل في القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر مرتبة تالية بعد الشعر والقصة.

وقد أعتبرت الفترة التاريخية، الممتدة من الثلاثينيات في القرن الماضي وحتى الأربعينيات، مرحلة أولى في تشكيل أسس الرواية الاجتماعية الجديدة، وتصدر بهذه الفترة ثلاث روايات رائدة؛ هي: (يفغيني أونيغن) لـ”بوشكين”، و(بطل العصر) لـ”ليرمونتوف”، و(الأرواح الميتة) لـ”غوغول” ومنذ نهاية الأربعينيات وحتى نهاية القرن الماضي عاشت الرواية الروسية مرحلة هامة من مراحل تطورها، بلغت فيها قمة رقيها وإزدهارها وتميزت بالنضج والأصالة والتجديد، وذلك كما في أعمال صف كامل من الروائيين العظام الذين نالوا شهرة كبيرة ومجداً عظيماً.

بوشكين

مراحل تطور الرواية..

لفهم المراحل اﻟﻤﺨتلفة لتطور الرواية الروسية، في الفترة من الخمسينيات وحتى نهاية القرن الماضي، فإنه يجدر الرجوع إلى الواقع الاجتماعي المعاصر، وذلك لأن الرواية الروسية كانت دائماً الرفيق اﻟﻤﺨلص للواقع في تغيره وتطوره، فكانت تتغير شخصياتها ومضامينها وكذلك أساليبها الفنية مع تغير الفترات التاريخية اﻟﻤﺨتلفة.

المرحلة الأولى:

تعتبر الفترة الممتدة من نهاية الأربعينيات حتى نهاية الخمسينيات مرحلة أولى في تطور الرواية في هذه الحقبة. وهذه الفترة سادت في أعقاب إنتكاسة “الديسمبريين”، أولى مراحل النضال الشعبي في روسيا، تلك الإنتكاسة التي أدت إلى تفجير أزمة نظام الإقطاع النبيل الحاكم وإزدياد حدة التوتر والتناقضات الاجتماعية وإفساح اﻟﻤﺠال شيئاً فشيئاً أمام مرحلة جديدة من مراحل النضال الشعبي في روسيا، وهي مرحلة الثوار الديموقراطيين من أبناء الطبقة المتوسطة.

ورغم أن الرواية في هذه الفترة كانت قد تقدمت كفنون النثر الأخرى، إلا أن الحدود بين الرواية والقصة في هذه الفترة بالذات كانت غير ثابتة، فكانت الرواية ترتبط إرتباطاً شديداً بالقصة وأحياناً كانت تحمل بداخل تركيبها خصائص هذا الفن الذي كان له فضل الإعداد للكثير من شخصيات وأساليب ومضامين الرواية، إستمدت الرواية مضمونها من مادة الواقع الجديد، فخرجت الرواية في الخمسينيات تصور الشباب المثقف الواعي، الذي يحمل الهزيمة فنجده يغرق في شك ويأس، وهذا الشباب رغم الهزيمة كان يحمل آمالاً ومساعي وطنية للتغيير، وهو لهذا يدخل في تفكير مضنٍ باحثاً عن مخرج من أزمة الواقع.

من أبرز روائيي هذه الفترة، الذين إتجهوا إلى تصوير حياة ومصير الشباب المثقف، الروائي الكبير “تورغينيف” و”غيرتسين” في روايته (من المذنب) ١٨٤١، التي هاجم فيها نظام القنانة والعلاقات القائمة على أساسه، والتي تودي بحياة أبطاله، و(الزمن المنصرم والأفكار) ١٨٥٢ – ١٨٦٨، التي جاءت مدونة تاريخية للحياة الاجتماعية والنضال السياسي في روسيا وأوربا في الفترة من “انتفاضة الديسمبريين”، وحتى “كومونة باريس”. والروائي “غونتشاروف” في روايتيه “(قصة عادية) ١٨٤٧، و(أبلوموف) ١٨٥٩، اللتين يعطي بهما صورة تحليلية للشباب النبيل المثقف وينتقد أفكاره الرومانسية، التي تفتقر إلى الطاقة والعمل وتكسب وجوده خمولاً ودعة.

تورجينيف

أما الروائيون الذين إتجهوا إلى تصوير حياة الفلاح، فقد كان في مقدمتهم “غريغوريفتش”، الذي جعل من الحياة اليومية للفلاحين والصراعات القاسية في وجودهم اليومي والقرية المعاصرة مضمون رواياته (الطرق الزراعية) ١٨٥٢، و(الصيادون) ١٨٥٣، و(المهجرون) ١٨٥٥. أما الروائي العظيم “دستويفسكي” فقد كان على رأس الكتاب الذين إتجهوا إلى وصف حياة فقراء المدينة.

أعتمدت الرواية في الخمسينيات على تقاليد الرواية التي سبقتها، وفي الوقت نفسه جاءت متطورة ومتجددة عنها. جاءت ترتبط إرتباطاً وثيقاً بحركة التحرير الشعبية وبتسجيل ملامح —ممثلي هذه الحركة، والتي كان لـ”بلوشكين” فضل السبق في رسمها. كما أخذت الرواية في الخمسينيات أيضاً المسحة التراجيدية لرواية “غوغول”، والتي صارت طابعاً مميزاً لروايات “دستويفسكي” و”غيرتسين”، و”سالتيكوف شيدرين”، كما أخذت عن رواية “غوغول” أيضاً التصوير التحليلي المتسع لحياة الجمهرة، وإمكانية إعطاء صورة متسعة للأنماط اﻟﻤﺨتلفة في روسيا.

جوجول

المرحلة الثانية:

هي التي إمتدت في الستينيات والسبعينيات، في الفترة التي أعدت وأستصدرت بها الإصلاحات الزراعية التي صدرت ١٨٦١. وقد جرى الإعداد لهذه الإصلاحات في الفترة ١٨٥٩ – ١٨٦١ في جو من النهضة الثورية. لكن الإصلاحات التي جاءت من جانب النظام النبيل الحاكم، وكما هو معروف، ورغم أنها قد حررت الفلاح الروسي من التبعية الشخصية، إلا أنها أبقت على وضعه المستقل المضطهد، وكان لذلك أثره على نمو الأمزجة الثورية الجديدة المعادية للفكر الليبرالي، والتي كان في مقدمتها “الحركة الثورية الديموقراطية”، التي رفعت شعارات ثورة الفلاحين من أجل التحويل الاجتماعي لروسيا. وقد كان لكل هذه المعطيات أثرها على الرواية التي ظهرت بها أفكار جديدة وموضوعات جديدة ووسائل جديدة في تصوير الحياة الشعبية، فتظهر روايات كثيرة عن “الناس الجدد” —الذين يتزعمون الحياة الفكرية والسياسية الجديدة والذين لا ينتمون بالضرورة إلى الطبقة النبيلة التي كانت تحتكر الفكر التقدمي في الفترة السابقة. إن الأبطال الجدد من الطبقة المتوسطة يحملون الفكر الإشتراكي الثائر ويدينون بالمعتقدات المادية ويشتغلون بالنشاط الاجتماعي أو العلمي من أجل سعادة اﻟﻤﺠتمع، وهم يبحثون في كد عن أنصار لهم.

لكن أبحاث هؤلاء الناس كثيراً ما تصاحبها قصة درامية. والروائيون في وصفهم للأبطال الجدد ينقسمون إلى قسمين: قسم يتناول تصوير عملية النمو الاجتماعية والفكرية لشخصية البطل ويصف حياته والظروف المحيطة به، وقسم آخر يهتم في المرتبة الأولى بتناول القضية الاجتماعية التي يخدمها البطل الذي يظهر في الرواية كشخصية مكتملة. وفي بعض الأحيان كان الروائيون يمزجون بين كل هذه الموضوعات في الرواية الواحدة. ومن أبرز هؤلاء الروائيين “تورغينيف”، الذي أشرنا إليه آنفاً، والكاتب “تشرنيشفسكي” في روايتيه (ما العمل) 1858، و(فاتحة) 1866 – 1871، وهما الروايتان اللتان شيد بهما نمط الثائر الإشتراكي الجديد.

كذلك إتجهت الرواية في هذه الفترة بشكل خاص تجاه الشعب، الذي أرتبطت به أبحاث وأفكار الروائيين، كما أهتم الروائيون بتصوير عملية إنكسار الركائز القديمة للواقع وأتجهوا للبحث عن بدائل لها وعبروا في رواياتهم عن ضرورة التغيير الجذري للحياة والإنسان. ومن أبرز روائيي هذه الفترة “تولستوي” و”ديستويفسكي”، وبالإضافة إلى هذه الموضوعات فقد كان إنكسار الأشكال التقليدية للحياة في هذه الفترة وبداية بروز الجديد فيها السبب في ظهور نمط جديد للرواية متعلق بالحياة المعاصرة وتبادل الثقافات كما برزت الرواية التي تصور مرحلة العبور التاريخية لروسيا، ومحاولات إقتراب النبلاء من الشعب، والبطل الذي يخرج عن طوع بيئته الخاصة والبطل الشعبي المحتج والثائر. ونظراً لتعقيد ودرامية كل هذه العمليات التي كانت تحدث بالواقع نجد الرواية الروسية تتسم في هذه الفترة بالدرامية الشديدة.

المرحلة الثالثة:

التي إمتدت في الثمانينيات والتسعينيات، وهي الفترة التي سبقت ثورة ١٩٠٥، وقد تميزت هذه الفترة بالتطور الشديد للعلاقات الرأسمالية في روسيا، والتي أدت إلى تنشيط الحركة العمالية وإنتشار الفكر الإشتراكي بين طبقات المثقفين والعمال، كان ذلك السبب وراء حركة الإنتعاش العامة التي إنعكست في الأدب في هذه الفترة.

كان الجديد في رواية هذه الفترة بروز موضوع العلاقة بين الفرد واﻟﻤﺠتمع ليصبح الهدف الرئيس للروائيين، الذين أهتموا بإضاءة الصورة الروحية للإنسان الروسي لهذه الفترة الإنتقالية، وقد كان في مقدمة هؤلاء الروائيين الكاتب العظيم “تولستوي” في روايته (البعث)، وإتجه إلى هذا الموضوع أيضاً الروائيون “سالتيكوف شيدرين” و”غرين ميخائيلوفسكي”، و”مامين سيبرياك”.

وبالإضافة إلى ذلك فقد ظهر في هذه الفترة نمط جديد للشخصية التي تحتج بكل مضمون حياتها ومصيرها ضد النظام القائم، وكانت هذه الشخصية الجديدة في روايات “غوركي” (فاماغوردييف) ١٨٩٧ – ١٨٩٩ و(الأصدقاء الثلاثة) ١٩٠٠ – ١٩٠١.

صورة المرأة..

من الموضوعات التي أولتها الرواية الروسية؛ إهتمامها أيضاً موضوع وضع المرأة في اﻟﻤﺠتمع وصورتها، وهو الموضوع الذي برز مع التطور الاجتماعي للمرأة الروسية في القرن التاسع عشر، ولعلنا نذكر صورة “تاتيانا” في رواية (يفغيني أونيغن)، وصورة “ناتاليا” في رواية (رودين)، وكذلك صورة “ناتاشا رستوف” و”ماريا بولكونسكي” في رواية (الحرب والسلام)، وصورة “آنا كارينينا” في الرواية المسماة باسمها. لقد كانت كل هذه الصور للمرأة الروسية تمثل المرأة المثقفة الواعية ذات العالم الروحي الغني والوعي المستيقظ. وكذلك إذا ما إسترجعنا صورة “سونيا” في رواية (الجريمة والعقاب)، أو صورة “كاتيوشا” في رواية (البعث)، فسنجد أن هذه الصور تمثل المرأة من الطبقات الشعبية، والتي تتحلى بالوعي والضمير رغم ما تعانيه من فقر وظلم وسقوط. إن صورة المرأة في الرواية الروسية تحتل بلا شك مكانة هامة وخاصة.

دستويفسكي..

“دوستويفسكي” أحد آئمة الرواية الروسية الكلاسيكية، فإنتاجه الروائي يشغل مكانة هامة وخاصة، لا في تاريخ الرواية الروسية فقط، بل وفي الرواية العالمية أيضاً. وتشكل إتجاه “دستويفسكي” إلى الرواية كفن تحت تأثير التجربة الروائية لكل من “بوشكين” و”غوغول”، كما أشار الكثير من الباحثين أيضاً إلى أهمية رواية كل من “بلزاك” و”جورج صاند” و”فيكتور هوغو” و”ديكنز” بالنسبة لروايات “دستويفسكي”.

برز “دستويفسكي” في الساحة الأدبية في أربعينيات القرن الماضي، وأتسم إنتاجه الروائي منذ أول رواية له، وهي (المساكين)، بالمنهج الفني الجديد، فنجده يبتعد عن الخط الهجائي المميز لرواية معلمه “غوغول”، الذي كان يجذب إهتمامه وصف الحياة الموضوعية المعيشية بأنماطها المتعددة، وإتجه “دستويفسكي” إلى البحث العميق في نفس أبطاله، حيث يعطي الكاتب من خلاله صورة للواقع والحياة الجارية. وكتب “دستويفسكي” القصة والرواية، وكانت أشهر رواياته: (المساكين) ١٨٤٥، (المحقرون والمهانون) ١٨٦١، (الجريمة والعقاب) ١٨٦٦، (الأبله) ١٨٦٩، (الشياطين) ١٨٢٢، (المراهق) ١٨٧٥، (الأخوة كارمازوف) ١٨٨٠.

ويعتبر وصف حياة فقراء المدينة من أكثر الموضوعات المحببة عند “دستويفسكي” الروائي، وقد إتجه إلى هذا الموضوع في العديد من رواياته. و”دستويفسكي” في تصويره لحياة الفقراء ينحو نحواً جديداً، فهو لا يهتم بتصوير اللوحات المعيشية، التي تعكس الفقر والتناقضات الاجتماعية، التي تحكم وجود الفقراء قدر إهتمامه بتصوير العالم الروحي والأخلاقي للفقراء، والذي يبرز في إرتباط وثيق بوجودهم المادي، فالمشكلة الاجتماعية للفقر تبرز في روايات “دستويفسكي” من خلال المشكلة الأخلاقية والنفسية. والعالم الداخلي لفقراء “دستويفسكي” هو عالم صعب ومعقد، فرغم ما يظهر فيه من غيظ وحنق وأنانية ورغم ما قد يسيطر عليه من أفكار كاذبة أو وعي مريض، فهو مع ذلك عالم الخير والمشاعر الطاهرة ومبادئ الإنسانية والأخوة والضمير الحي والنفس القادرة على التضحية والمعاناة والتصحيح.

بصمة الواقع..

حملت روايات “دستويفسكي” بصمة الواقع المعاصر، فهي تصور الكثير من أحداثه الجارية ومشاكله الملحة كالجريمة، والركض وراء المال، ووقوع الإنسان ضحية الإغراءات والأفكار الشريرة، والانفصام بين الشخصية واﻟﻤﺠتمع وبين الطبقات الحاكمة والشعب، وتفكك وسقوط الركائز العائلية التقليدية وأزمة الحياة الاجتماعية المعاصرة ومشكلة وجود الإنسان بها وخلافه. كما اهتم “دستويفسكي” أيضا في ستينات وسبعينات القرن الماضي برسم نمط البطل المفكر ذي العقل المتأمل والاتجاه التحليلي تجاه الواقع، وهو الذي برز في أشهر رواياته “الجريمة والعقاب” و “الاخوة كارمازوف” .

لكن بطل “دستويفسكي” هذا، ورغم ما يملكه من إمكانات عقلية وفكرية كبيرة، يظهر فريسة للأفكار الكاذبة المضللة ويبدو بعيداً عن الشعب ولا يشارك في الحركة التحريرية لبلاده مع أن فكره يتيه في البحث عن مخرج من أزمة الحياة. وهذا البطل يسيطر عليه شك عميق تجاه المثل الثورية الاشتراكية والليبرالية، و يتأرجح بين الاتجاهات الفوضوية المدمرة وبين الأفكار الدينية التي تدعو إلى الخنوع.

الحركة الثورية..

ورغم أن “دستويفسكي” حاول أن يربط بين هذا النمط من الأبطال و ممثلي الحركة الاشتراكية الثورية وأن يسخر بذلك ويشوه بشكل أو بآخر— ممثلي هذه الحركة، إلا أن روايات “دستويفسكي” على الرغم من ذلك اعتبرت ذات أهمية بالنسبة لتطور الحركة الثورية في روسيا، فقد كان هؤلاء الأبطال بمثابة تجسيد للأقلية الصغيرة من شباب الحركة الثورية الذين وقعوا تحت تأثير أفكار ونظريات مضللة، وقد أوضحت الدراسة النقدية للأشكال اﻟﻤﺨتلفة لهذه الأفكار عدم صلاحيتها وقوتها المدمرة، ومن ثم اكتسبت رواية “دستويفسكي” قوة تطهيرية كبيرة، وعلاوة على ذلك فأهمية رواية “دستويفسكي” ترتبط بسماتها العامة والتي في مقدمتها الروح الديموقراطية والإنسانية، فدستويفسكي يرفض في رواياته ويهاجم الشر الاجتماعي ويرسم لوحة مريعة للتناقضات بين الأغنياء والفقراء، ويحدق في ألم وتعاطف في مصير الإنسان البسيط المضطهد من الشعب والذي كان يؤمن به إيمانا كبيرا، كما حملت روايات دستويفسكي حلما حارا بالتغيير وإيمانا بالبعث ومستقبل مشرق للوطن بغض النظر عن تصورات الكاتب تجاه سبل التغيير.

الرواية الاجتماعية النفسية..

ورواية “دستويفسكي” هي أيضا خير نموذج للرواية الاجتماعية النفسية الفلسفية، فإلى جانب الخط الاجتماعي البارز لرواياته نجدها أيضا ذات اتجاهات إيديولوجية  ونفسية في ذات الوقت، ف”دستويفسكي” المفكر كان يسعى في تصويره للحياة الواقعية إلى فهم القوانين التي تحركها، وكان يحاول النفاذ إلى مغزى المشاكل الجوهرية لتطور الإنسانية، ولذا فإن “دستويفسكي” يصور مصير شخصياته في ارتباط لا ينفصم بالموضوعات الفلسفية والأخلاقية والدينية التي يطرحها في رواياته، والتي يضعها في مركز اهتمامه وبحثه، ويتحدد تبعا لها بنيان الرواية وخصائصها.

ولذا نجد أن رواية “دستويفسكي” تتميز بالحوار الحار وعنصر الإثارة الشكلية الذي يخفف من حدة اصطدامات الشخصيات ومن الديناميكية المتوترة للأحداث، التي تنبع من صراع الشخصيات حول (نعم) أو (لا) حيال الأفكار الواردة في الرواية، وهي الأفكار التي ترتبط بكل الأحداث و بكل خطوط المضمون والتي تفسر تصرفات الأبطال أنفسهم. وقد أكسبت ديناميكية الحدث وتوتره رواية دستويفسكي طابعا دراميا، و يتدعم هذا الطابع من جهة أخرى مأساة وجود الشخصيات وبالمصير التراجيدي للإنسان في ظروف التناقضات القاسية. وأيضا مأساة وجود آلاف العائلات التي يصرعها التناقض الداخلي، ودراما الانفصام الداخلي للشخصية. إن دستويفسكي قد قدم حقيقة، كما أشار العديد من النقاد، رواية جديدة أطلق عليها لقب “الرواية المأساوية” أو الرواية “المفجعة”.

تولستوي..

“تولستوي” أعظم مشاهير الرواية الروسية الذين نالوا الحب والتقدير والاحترام في كل مكان. لقد قالوا عنه  “ضمير الإنسانية” وخلافه من الألقاب التي حاولوا من خلالها أن يبرزوا الأهمية الكبرى لتولستوي المفكر والفنان والإنسان. فحقيقة، كما يقول الكاتب الكبير مكسيم جوركي: “من لا يعرف تولستوي لا يمكن أن يعد نفسه إنسانا مثقفا”، فالقيمة الحضارية والثقافية لمؤلفات “تولستوي” لا حدود لها ولا غنى عنها، وحتى السيرة الذاتية لتولستوي في حد ذاتها جديرة بالمعرفة والإعجاب، ولذا فإنه ليس من قبيل الصدفة أن ما يصدر من ترجمات لمؤلفات “تولستوي” تعد من أوسع الترجمات انتشاراً بالنسبة لكتاب العالم، وذلك حسب إحصاءات اليونسكو.

كان “تولستوي” مثال الإنسان المرهف الحس والضمير، كما كان أيضا مثال الفنان الصادق المؤمن برسالة فنه ودوره، فقد كان “تولستوي” على يقين بأن الكاتب الذي تعوزه رؤية واضحة ومحددة وجديدة للعالم، وذلك الذي يعتقد أن هذه الرؤية ليست بضرورية لا يمكن أن يقدم إنتاجا فنيا، ومن خلال هذه الرؤية المحددة عكس “تولستوي” في إنتاجه بكل الشمول  والصدق قرنا كاملا من حياة روسيا، وتجسد مؤلفاته عالم كامل من الأفكار والمثل والموضوعات التي لا تمس الواقع الروسي القومي فحسب بل والإنسانية جمعاء.

مبدأ التجديد..

كتب تولستوي القصة والمسرحية والرواية، كما ترك العديد من المقالات التي تتطرق لشتى موضوعات الفكر والفلسفة والدين وشتى موضوعات الفن، كما كان “تولستوي” مثال الفنان الجاد الباحث الذي كان يضع نصب عينيه مبدأ “التجديد” في الفن، والذي كان يقصد من ورائه تجديدا في الشكل وفي المضمون، فهو يقول في هذا: “أعتقد أنه يتحتم على كل فنان كبير أن يشيد أشكاله. وإذا كان مضمون المؤلفات الأدبية يجب أن يكون متنوعا بلا نهاية، فإنه يجب أن يكون هكذا أيضا شكل هذه المؤلفات”. وقد أخذ تولستوي مبدأ “التجديد” هذا طوال حياته الفنية فنجد أن مؤلفات تولستوي في أربعينات القرن الماضي قد برزت بجانبها التجديدي، فهي تتسم بالغنى والعمق في التصوير الفني للشخصيات وكل عملية الحياة، كما تمكن تولستوي من النفاذ إلى سر العلاقات الاجتماعية، فجاءت واقعيته بحق خطوة إلى الأمام في تطور الواقعية لا في الأدب الروسي وحده بل في الأدب العالمي.

ثلاث عوالم..

في رواياته الثلاث: “الحرب والسلام”، “أنّا كارنينا”، “البعث” رؤية الكاتب تجاه ثلاثة عوالم (الماضي والحاضر والمستقبل) كما تكشف ثلاث درجات لاستيعاب الكاتب للواقع التاريخي الذي يبرز به دائما عالمان: عالم السادة وعالم المسودين، والذي ينبسط من خلاله مشكلة الفلاحين أكثر الموضوعات المحببة عند “تولستوي” الكاتب والإنسان، أيضا فقد ارتبطت حياة تولستوي الروحية وأبحاثه النفسية بموضوع الفلاح الذي كان يؤرقه أكثر من أي شيء آخر. والحديث عن الفلاح يرتبط عند “تولستوي” أيضا بتصوير أزمة اﻟﻤﺠتمع المعاصر بطبقاته اﻟﻤﺨتلفة وفي مقدمتها الطبقة الإقطاعية التي جذب اهتمام الكاتب فيها البطل الإقطاعي اليقظ الحس والذي يستشعر أزمة الواقع ودور طبقته في هذه الأزمة، وهو لهذا يقوم بتجربة معذبة ومثابرة يحاول فيها أن يقترب من الشعب وأن يجد معه لغة مشتركة، لكن مسيرة البطل الإقطاعي في حياة الفلاح ليست بالعملية السهلة، بل هي عملية نفسية وعقلية غاية في التعقيد، وتولستوي يوضح أبعاد كل هذه العملية النفسية.

وكانت أكبر إنجازات تولستوي الفنية هي كشفه وتوضيحه للعلاقة المعقدة بين النفسية الإنسانية والبيئة الخارجية والمعيشة اليومية. أثرى تولستوي الواقعية الروسية والعالمية بالبحث الفني لما أطلق عليه النقاد “بديالكتيك الروح”. فالعالم الداخلي عند أبطال “تولستوي” هو عالم متعدد الجوانب، والكاتب يصوره في حركته التي لا تتوقف وفي تأثيره وخضوعه لنفس قوانين الديالكتيك والتطور التي تحدث بالواقع التاريخي نفسه. كما أوضح تولستوي،المحلل النفسي، أن الصراعات الداخلية في نفس الإنسان هي صراع بين مختلف المشاعر المتناقضة، و”تولستوي” لا ينقل فقط أصغر التفاصيل في الحياة الروحية لأبطاله بل يبحث عملية اكتناز تلك الأمزجة الروحية أو خلافها، وبناء عليه يوضح الانقلاب والبعث الجديد في روح الإنسان تحت تأثير الظروف الخارجية.

المصدر:

كتاب ” الرواية الروسية في القرن التاسع عشر” تأليف د. مكارم الغمري، إصدار عالم المعرفة

 

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب