كتب : ردوان كريم
يجد الكاتب باللغة الأمازيغية مشكلات عويصة لا تعترض غيره من الكتاب باللغات الأخرى، كندرة المصادر والمراجع باللغة الأمازيغية التي يستعين بها في كتابة روايته لكي تتوافق مع الفترة الزمنية، الثقافة، الأوضاع الإجتماعية، الإقتصادية والسياسية للشخصيات والأحداث التي تدور حولها حبكة قصته، وهذا سواء تعلق الأمر بالمصادر الورقية أو الإلكترونية.
إن أهم ما يحتاجه الكاتب أثناء الكتابة لإيجاد الكلمات المناسبة والدقيقة هيالمعاجم والقواميس، لكنها قليلة باللغة الأمازيغية أيضا. والكاتب والباحثفي اللغة الأمازيغية عندما يقدم على الكتابة الأدبية، يجد نفسه أمام ورشة عمل كبيرة كثيرة النقائص، يحاول تنظيمها كخلق المعاجم.
وهذا عكس غيره من الكتاب الذين يكتبون باللغات الأخرى أين تجد الفترات الأدبية عبر العصور بينة، ورواد الشعر، الرواية، والدراما فيها معروفون، يمكن الإستعانة بهم كقدوة وأمثلة. فالروائي الذي يكتب بالأمازيغية عليه أن يشق الطريق لنفسه بنفسه لأنه يجد نفسه في المقدمة وفي كل مرة يجد نفسه الأول في كل شيء في مجاله. ويقال عنه أول من كتب رواية من النوع التاريخي، روايته هي أول رواية أمازيغية بيكاريسكية أو عاطفية أو قوطية. ولا يوجد قبله من كتب في تلك الأنواع الروائية ليقارن عمله بأعمالهم.
يبذل الكاتب بالأمازيغية جهدا وذلك بحثا عن مرادفات لكلمات فلسفية، حضارية، علمية، تكنولوجية، معلوماتية رائجة في الحياة اليومية العالمية لكنها تأخرت في الدخول إلى المعجم الأمازيغي، كون الشمال الأفريقي في طريق النمو لمواكبة ركب الحضارة ليستخدمها في مواضع داخل روايته. ثم يخرج إلينا برواية بعد عمل مرهق، استهلك الكثير من وقته و طاقته، مدركا أنها لن تباع بأعداد كبيرة.
بعد ذلك الجهد الذي بذله، قد لا ينتظر من القارئ سوى كلمة تحفيزية تشجيعية، ودعما معنويا، ثناء. أما النقد الأدبي بعد كل ذلك التعب الخارج عن المألوف، يرفضه جملة و تفصيلا، سواء كان إيجابيا أو سلبيا.
فإن كان الأديب مرحا، فرحا، سريع التواصل، متحدثا جيدا، مكونا لعلاقات صداقة ومحبة مع قرائه، تجد الكاتب بالأمازيغية مقهورا، أقرب إلى الحزن، قليل الكلام والتواصل.
كل هذا لنقص الدعم المادي والمعنوي له، ولغياب توفر بيئة العمل الفني المنتظر منه. شخصية الكاتب، الفنان، الأديب مرهفة، فهو رقيق الإحساس ولين القلب، سهل للكسر والجرح.
من السهل تحطيمه سواء بالنقد اللاذع أو بالإطراء المبالغ فيه. فليس بمجرد معرفة أن فلانا قام بكتابة رواية للشروع في الإشادة به دون قراءة نصه،قائلين أنه أثرى المكتبة الأمازيغية بكتاب جديد. فإن كان مضمون الرواية فارغ المعنى، قليل الجمال اللغوي، بدون هيكل وتقسيم وأجزائه متداخلة، لا نعرف بداية جزء من نهايته يصبح ذلك الإثراء إزدحاما وتضيقا لتلك المكتبة وحطا من قيمة الأدب الأمازيغي وليس إثراء له.
لهذا، فعلى الكاتب بالأمازيغية أن يكون مثل أقرانه الكتاب باللغات الأخرى : يتقبل النقد بصدر مفتوح ويتمعن في النقاط التي تشير الأصابع إليها، ويحاول أن يصححها مستقبلا بدلا من الإستسلام أو تقمص دور الضحية.
يشتكي الكاتب بالأمازيغية من الإهمال ومن كونه لم يلق حقه من الإهتمام من الجانب الصحفي والإعلامي عكس غيره من المؤلفين عند نشره لأولى كتاباته، وحتى اللاحقة منها.
لكن الواقع يقول أن على الكاتب أن يكون متمكنا من الإتصال ومن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي الحدثة. يعرف كيف يبيع نفسه للقارئ، من خلال منشورات تعبر عن أرائه فيما يخص أحداث الساعة، وأن يكون في قلب الحدث الثقافي، الإجتماعي، السياسي، والاقتصادي. وان يكون في مستوى تطلعات متابيعه فيما يخص الأحداث الأدبية. يكون سريعافي تفاعله، دقيق الملاحظة، ومنطقيا، محللا مختصرا لما يجب أن يقال، ويتخذ موضع الحق والصواب وأن يعرف كيف يعتذر في حال ما إذا أخطأ في إحدى تحليلاته. لا يدخل في صراعات وملاسنات مع قرائه. وفي حال ما إذا جاءته دعوة إلى بلاطوهات تلفزيونية، راديوفونية، أو لإجراء حوارات صحفية يركز على عمله، تقديم أفضل ما لديه، والإجابة على الأسئلة الموجهة إليه بمهنية، بطريقة تسر المستمع أو المتفرج أو القارئ، والتي تدخله إلى قلوب الناس وتحفز هؤلاء على قراءة أعماله.
فالناس لا تعرف من يكون، كما تقول المقولة الشعبية” تكلم حتى نراك”. وعلى الكاتب باللأمازيغية أن يكون إيجابيا بدلا من الرد على المشككين فيه، ناقديه، ومن أغلق الباب في وجهه من قبل. وإلا سيجد نفسه في حوار مليء بالحقد والضغينة ينفر الناس ومن منحه فرصة تعريف نفسه وعمله للقراء، والمثقفين، والصحافة، والعاملين في مجال الثقافة.
أما نجاح العمل الأول من فشله فليس بالأمر المهم طالما أنه في بداية حياته الأدبية. تقريبا كل الكتاب لم ينجحوا من الرواية الأولى. ألبرت كامو الحائز على جائزة نوبل للأدب، كتب “الموت السعيد” ولم يجرأ على نشرها ثم نشر “المنفى و الملكوت” ولم تلق أي ترحيب، ولم يسمع عنه إلا القليل من القراء. وبل في كتاباته الصحفية كتب مقالات نقد أدبية موضوعية لمشاهير الكتاب في وقته وعلى رأسهم جون بول سارتر الذي كان أحد أهم المفكرين الفرنسيين في تلك الفترة.
عندما نجحت رواية “الغريب” عادت الناس إلى الرواية الأولى بعد سنوات من نشرها وحظيت بنفس الإهتمام. كامو حين كتب رواية “الغريب” نشر معها كتابا نقديا “أسطورة (خرافة) سيزيف” يشرح فيه مفهومه للرواية والأدب. وكان سارتر له صوت مسموع في كل أرجاء العالم، قام بنقد رواية “الغريب” نقدا لاذعا وألمح أن كامو كتب رواية وكتابا يشرحها. لم يغضب كامو لأن ذلك النقد اللاذع أكسبه قراء جدد، فالناس يقتلها الفضول، وترغب في معرفة من هو هذا الكاتب الذي أثار إهتمام عملاق الفلسفة الوجودية. كون ألبرت كامو إنسانا يتقبل النقد و يصحح أخطائه، عاد بعد سنوات لكتابة كتاب نقدي ” الإنسان الثائر” يشرح فيه وجهة نظر مختلفة للأدب، تجاوز فيه مفهوم العبثية و الإنكارية. كما جائت كتاباته الأخيرة أكثر نضجا من سابقاتها. وأصبح أحد أعمدة الأدب العالمي الكلاسيكي.
حين نتحدث عن فترة أدبية ما فإننا لا نقصد بالضرورة كل الكتاب، إنما نعني الأسماء التي طفت على سطح بحر الكتابات التي أنتجت في هذه الفترة. والتي نراها من بعيد كضوء المنارة.
في الأدب الأمريكي، عندما نتحدث عن أفضل جيل كتاب أمريكيين ونركز على فترة العشرينات من القرن الماضي نتحدث عن جماعة “الجيل الضائع” والكل سمع بإيرنست هيمينغواي، سكوت فيتزجيرالد، جيرترود ستاين، جون ستانبك وغيرهم من مشاهير الكتاب. ولكن في نفس الفترة كان هناك الكثير من الكتاب الذين لن نسمع عنهم إلا إذا تعمقنا في البحث أو ألتقينا بأعمالهمبمحض الصدفة. لأن أمثال وليام فولكنر هم كالشجرة التي تغطي الغابة. وهناك من الكتاب الرائعيين الذين لم يشتهروا في تلك الفترة رغم كتاباتهم اللامعة، وبعد سنوات إكتشفهم القاريء العالمي، وعاد إلى ما كتبوه في تلك الآونة.
في عصر النهضة مثلا أصبحت إيطاليا القطب الأول لفكر الصحوة و التجديد، أين إشتهر عندهم ميكيافيلي بكتاب “الأمير”، ودانتي أليغري بكتاب “الكوميديا المقدسة”، وبرز بوكاتشيو وبيتراش كأعظم شاعريين في إيطاليا آنذاك، لكن هذا لا يعني أنه لا يوجد كتاب آخرين أو أن جميع كتاب تلك الفترة جيدون.
كتاب جون بول سارتر منذ سنوات كتاب عنوانه “ما هو الأدب ؟“ يعالج فيه أغلب المشكلات التي تعاني منها الرواية الأمازيغية اليوم. لأنه يجيب على أهم العناصر التي يجب أن يعيها الكاتب قبل وأثناء الكتابة.
أولا، يجيب على السؤال: ما معنى الكتابة ؟ وثانيا، لماذا نكتب؟ وثالثا، عن ماذا نكتب؟ ورابعا، لمن نكتب؟ ويؤكد أن الكتابة ليست رسما بالكلمات و لا تنظيم نوتات موسيقية بالكلمات. الرسام يضعنا أمام لوحة فنية ثم يدعنا نكتشفها، نقرئها ونترجمها كما نشاء. الموسيقار يصنع لنا سيمفونية ويجعلنا نستمتع بها، نرخي أعصابنا ونتوقف عن التفكير، نمنح لمشاعرنا فسحة للتمتع، ويدخلنا بذالك إلى عالمه. أما الكاتب فعكس هؤلاء، يضعنا في متاهة من المشكلات، يدخل الشك، الحيرة، يجبرنا على التفكير في أمور ربما لم نلحظها و لم تصادفنا أبدا، ثم يأخذنا في طريق ملتوية ليخرجنا منها بسلاسة، يجعلنا نفكر في حلول لبعض المعضلات ثم يفك عقدها بذكاء. يدخل إلى عقولنا أفكارا جديدة، يقترح حلولا لمشاكل الحياة بطريقة جد راقية، ويعالج بعض الآفات الاجتماعية دون الخوض فيها، مكتفيا بتصويرها، وصف أسبابها، وإلقاء الضوء على نتائجها.
الكاتب الحقيقي يعي موضوعه قبل أن يشرع فيه. يأخذنا في رحلة تفكيرية لا تتعطل في بعض المنعرجات. أحيانا تقرأ رواية أمازيغية من البداية إلى النهاية ولا تجد لها موضوعا رئيسيا. بعض الروايات تتناول مواضيع فرعية متعددة، لكنها لا تلتقي في أي مشرب (موضوع أساسي). بعض الروايات ليس لها ترابط منطقي، هي مجرد سرد بلا تلاحم. تقسيمها غير متساو و غير مترابط. لا نعرف متى تبدأ أجزئها و لا متى تنتهي. بعض الكتاب لا يتقنون تقنيات الحوار. الشخصيات تنطق بعشوائية، لا نعرف متى وصل وكيف دخل في الموضوع. حتى تقنيات الذاكرة، الحوار الداخلي، والإرتجاع غير مفصولة عن السرد. في رويات أخرى تجد مشكل هيكل النص أو بناء النص، الذي تجده غير قائم على لغة متزنة لأن الكاتب غير متمكن من لغته. البعض يحشوا نصه بمرادفات مملة، غير مفيدة، غرضها الحشو والتكرار فقط. البعض الأخر يركز على إضافة أكبر عدد ممكن من اللفظات أو التعابير الجديدة (نيولوجيزم)، وبالتالي يشعر القاريء أنه يقرأ لغة جديدة غير التي يعرفها. هناك من الكتاب من يذكر الكثير من الشخصيات الأدبية المعروفة، حيث يلجأ إلى مشاهير الكتاب مستخدما مقتطفاتهم من أجل إظهار أنه قارئ لابأس به أو أنه على درجة وعي مرتفعة، ونتيجة لذلك يقتل نصه الأدبي بإخراجه من طابعه الفني. فالقارئ حين يقرأ نصا أدبيا ما، هو ليس مجبرا أن يبحث مثلا عن شخصية “راسكولنيكوف” ليفهم ما يريد الكاتب قوله. أي أنه ليس مجبرا أن يذهب لقراءة كتاب “الجريمة و العقاب” لفيدور دوستويفسكي ليفهم الفكرة التى يود إيصالها الكاتب عبر استخدام شخصية “راسكولنيكوف”. القارئ ليس بالضرورة مختصا في دراسة نظريات الأدب. فالقارئ ربما هو نادل مقهى أو مطعم يحب القراءة في أوقات فراغه.
في نظر البعض، الأديب يجب أن يكون متمكنا من كل النظريات الأدبية، وهذه فكرة خاطئة. أغلب أشهر النقاد الأدبيين، وأكبر أساتذة النظريات الأدبية والمختصين في علوم اللسانيات حين حاولوا كتابة رواية فشلوا. لأنهم حين جلسوا للكتابة لم يتخلوا عن شخصية الأستاذ أو الناقد.
رولند بارثس لم يكتب رواية جميلة رغم أنه أشهر ناقد لأغلب الروايات العالمية. وجون بول سارتر رغم دقة وقوة فكره الفلسفي، فرواياته ومسرحياته ليست ذات جودة كتبه الفلسفية، لأن طبع الفيلسوف طغى على أفكار شخصياته. روعة المسرحية أو السيرة الذاتية لسارتر ليست في متناول عامة الناس، بل يشعر القارئ العادي أنها موجهة للطبقة المثقفة أو دارسي الأدب. بعض الأساتذة الجامعيين كتبوا روايات ومحاولات أدبية بمختلف أنواع الأدب فكانت أسوء من كتب الذين يجهلون شكل الرواية أو طرق تشكيل القصيدة الشعرية. لكن مع الأسف، فـ”التطبيل” يغلب دائما لصالح صاحب المكانة المرموقة في المجتمع.
لو سألتني ماهي الرواية الأمازيغية التي تعجبك؟ سأقول لك، لا أعرف! أحب كقارئ طريقة بناء النص والهيكل اللغوي عند جمال لاصب وكيفية تناوله للعنصر الميثولجي في روايته “نا غني”، وطريقة سرد روايات أعمر مزداد المتزنة و المنظمة بطريقة منطقية. يعجبني تماسك الأفكار ببعضها، ترابطها، وتسلسلها المنطقي عند “أسكوتي” لسعيد سعدي. ويعجبني تمرد حسين لوني في “سداو ن ترشاشت” على قواعد الأدب وبناء الرواية. في الشعر عدم الخروج عن موضوع القصيدة عند الشاعر يحيى سيال والرومانسية المفرطة التي تجعلك تعيش القصيدة عند بوعلام رابيا.
ولا أقدر أن أذكر كل الكتاب الجيدين، فنحن في فترة لم يبرز أحد على غيره. يجب انتظار المساء، لنرى النجوم التي تلمع أكثر من غيرها.
في الأدب الأمازيغي، أغلب الكتاب من جيل الشباب، لهذا الشاب الذي يتسرع لنشر نصه قبل أن يدققه لغويا، فكريا، معلوماتيا، شكلا ومضمونا، يتلقى القارئ كتابه بالإهمال والنفور. أهم شيء هو أن التاريخ سيتذكر أن هؤلاء الشباب أقدموا بكل ما لديهم من إمكانيات لتحويل الأدب الأمازيغي الشفوي إلى أدب مكتوب. وأنهم بذلوا ما بوسعهم لتطوير الأدب الأمازيغي. وأنهم ساهموا في دفع هذه اللغة إلى الأمام أشواطا كبير