19 ديسمبر، 2024 1:09 ص

الرصافي… نقده لقانون العشائر

الرصافي… نقده لقانون العشائر

في المجتمعات البشرية تظهر العديد من العادات والظواهر السلبية، التي تؤثر فيه ويؤثر فيها، ولكل ظاهرة سلبية أسباب معينة، تقوى بوجودها هذه الظاهرة، وتضعف في غيابها، ومن الظواهر السلبية التي ابتلي بها مجتمعنا العراقي هي «العشائرية»، وهي انتشار العادات الهمجية التي نبعت من العشائر وسلوكها، كالثأر والداخلة وغسل العار وغيرها، ولاحظ الدارسون للظاهرة العشائرية في العراق، إنها تقوى وتستفحل في الأوقات التي تضعف فيها الدولة، وتضعف وتتضاءل في الأوقات التي تكون فيها الدولة قوية.

تحتوي الظاهرة «العشائرية» على الكثير من الأنظمة والقوانين الهمجية والمتخلفة، و- خصوصا- تلك التي ترتبط بالتعامل مع المرأة، وقد شخص هذه العادات والظواهر العديد من الكتاب والمثقفين العراقيين، وأولوها الكثير من الاهتمام والنقد، محاولة منهم لمعالجتها وللحد منها ومن آثارها التي تطول النساء وتحط من كرامتهن، ومن بين من اهتموا في هذا الموضوع وكتبوا عنه، وشخصوا ظواهره وسلبياته، هو الشاعر العراقي الكبير، معروف الرصافي (١٨٧٥-١٩٤٥)، وكان هذا الرجل معروفا بمعاركه الأدبية والسياسية والاجتماعية، حيث كان يوجه مشرط نقده لكل خطأ ولك ظاهرة سلبية يراها، ولا تلومه في الحق لومة لائم، وعلى جميع الأصعدة السياسية والاجتماعية والأدبية، ويقول معروف في أحد كتبه:

« لا أستطيع في هذه الكلمة الموجزة أن أصف لك ما في العراق من الهمجية المؤيدة بهذا القانون، أني أقول لك- باختصار- إن المرأة عند هؤلاء لا ترث بل- هي نفسها- مال موروث فهي عندهم كالبقرة والشاة وغير ذلك من دوابهم تباع وتشترى وتجري فيها المساومة فتعطى في الديات، وتمنح متعة في الجنايات وبالجملة هي مال وتقوم حتى أن من كان منهم ذو بنات عد نفسه من الأغنياء، وإذا كانت المرأة ذات زوج فساوم وليها رجلا آخر بأكثر مما دفع زوجها أرغم زوجها على الطلاق وربما إذا كان زوجها غائبا زوجها والتيه آخر من دون طلاق طمعا في أخذ الصداق كما شهدت ذلك في لواء العمارة وفي لوائي ديالى والرمادي.

واعلم أن دعاوى العشائر لا يعود المتخاصمون فيها إلى المحاكم المدنية، بل يكون الفصل فيها عند رجال الإدارة كالمتصرف والقائمقام ومدير الناحية، وتؤلف لها محكمة من عدة محكمين ينتخب بعضهم المدعي وبعضهم المدعى عليه ويرأس هذه المحكمة المتصرف والقائمقام الذي أعطته الحكومة سلطة عشائرية الفصل دعاويهم، ويكون الحكم فيها بمقتضى أحكام قانون العشائر.

وإليك بعض الأحكام الصادرة عن قبل هذه المحاكم تذكرها لك- على سبيل المثال- لتعلم في إي جاهلية جهلاء بهيم هؤلاء الاهماج.

كنت في سنة ١٩٢٨ قد زرت صديقي السيد خيري الهنداوي وكان إذ ذاك قائم مقام في علي الغربي (بلدة على شاطئ دجلة دون العمارة) وبينما كنت جالسا عنده في مكتبه الرسمي إذ جيء إليه برجلين من عرب عشائر العمارة كان أحدهما قد صيّح أخت الآخر، والتصريح في عرفهم هو أن يتعرض الرجل لامرأة بشيء من المراودة يقولون في كلامهم صيّح فلان بنت فلأن إذا راودها عن نفسها، فأخذ السيد خيري يكلمها بما فهمت منه أن الحكم في قضيتها هو إعطاء المدعى عليه أي الجاني المراود أخته إلى المدعى عليه الذي أخته مصيحة أي مراودة يتزوجها بلا مهر ولا صداق ويأخذها كأنها أمة يسترانها أو يستخدمها كما يشاء.

فأخذني العجب من هذا الحكم الجاهلي الجائر وقلت للسيد خيري ما ذنب هذه المسكينة أخت الجاني تعطى على هذا الوجه من أجل جناية جناها أخوها، فأجابني السيد خيري بأن هذا هو حكم قانون العشائر الذي يقضي بينهم بما لهم من عرف وعادة، فقلت إن هذا حكم لم تقبله العرب وهم في الجاهلية فكيف وهما في الإسلام، قال وأزيدك علما بأن التي تعطى كهذه في الجنايات لا تكون لها أي حرمة عند أخذها بل تعيش محتقرة مهانة تمتهن في المهن كأمة من الإماء، اللهم إلا إذا ولدت ولدا فإن خطبها عندئذ يهون بعض الشيء.

وفي سنة ١٩٣٢ كنت في العمارة ولكان المتصرف فيها إذ ذاك السيد عارف قفطان العاني، وبينما كنت جالسا عنده- ذات يوم- في مكتبه الرسمي أيضا إذ جيء إليه بامرأة ورجلين من عرب لواء العمارة، فانهار المتصرف على أحد الرجلين لعنا وشتما ثم التفت إلي وقد رآني متعجبا منه وقال انظر إلى هذا الملعون وهو أخو المرأة وذلك الآخر زوجها. أتدري ما ذا فعل أخيها قلت لا، فقال إن زوجها هذا ذهب إلى البصرة قبل شهرين ليفتش له عن شغل هناك، وبينما هو في البصرة إذ جاء رجل إلى هذا الملعون أخوها فطلب منه أن يزوجه إياها فوافقه على ذلك طمع في المهر. ولما بلغ ذلك زوجها في البصرة جاء مشتكيا ثم التفت المتصرف إلى أخيها وقال يا ملعون كيف تزوجها وهي ذات زوج موجود في البصرة، فما كان من أخيها إلا أن سمعته يقول: وهذه كلماته بعينها «والله يا بيج ما يجزلها خرجيه» أي أن زوجها لم يرسل إليها نفقة، وفي النتيجة كان الحكم بإعادة المرأة إلى زوجها الأول واستعادة المهر من أخيها إلى الزوج الثاني الذي هو غير شرعي. فكان هذا الحكم بمثانة رحمة نزلت من السماء على الزوج الثاني لأنه استرد المال الذي أعطاه مهرا وقضى وطره في المرأة مجانا مدة من الزمن.» (معروف الرصافي، آراء في السياسة والدين والاجتماع).

الرصافي علاوة على نقده الشديد لهذه العادات الهمجية التي تميزت بها الظاهرة «العشائرية» ، قام بنقد الحكومات في العهد الملكي بسبب استعمالها أحكام «قانون العشائر» في حل النزاعات والمشاكل والدعاوى التي تحدث في البيئات العشائرية والأرياف، بيد أن استخدام هذا القانون عمل على تكريس تلك الظواهر والعادات الهمجية..

✍️ محمد ساجت السليطي 29/8/2024‬‬

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة