قصّة قصيرة
خاص : بقلم – عدة بن عطية الحاج (ابن الريف) :
كان الرّاقي “سي بودينار” إمام مسجد عتيق بإحدى القرى النّائيّة، كان لا يحفظ القرآن؛ ولكنّه كان يُجيد فنّ الحكي، كان حكواتيًّا بإمتياز تعلّم فنّ الحكي من صديقه المدّاح الذي كان يُرافقه دائمًا في الأسواق، وكان “سي بودينار” يُتقن العزف على آلة النّاي، وفي إحدى ليالي الشّتاء الممطرة جلس في هزيع اللّيل الأخير مطرقًا ومفكّرًا في مصيره المهني؛ وقال في نجواه: لماذا لا أصبح إمامًا لهذه القرية ؟.. أغلب سكّان هذه القرية لا يتقنون القراءة ولا الكتابة، إنّهم أمّيّون بل إنّهم بهائم، سأطلب منهم جمع التّبرعات لكي يبنوا لي مسجدًا متواضعًا أكون أنا إمامه، ومدير الشّؤون الدّينيّة؛ صديقي ولا أظنّه سيُعارض إمامتي للنّاس، بنى أهل القرية ذلك المسجد العتيق وسمّوه “مسجد النّور” وصار “سي بودينار” إمّامًا لهذا المسجد، جاء يوم الجمعة الموعود وقدّم “سي بودينار” درسًا حول التّقوى ومعناها في نظره هو أن تُصبح قويًّا ولا تُكثر من شرب القهوة، بل عليك أن تُمارس الرّياضة وتكفّ عن التّدخين لأنّه مُضرّ بالصحة ويُهلك البدن أمّا خطبة الجمعة فكان موضوعها حول الإيمان كان يقول للمصلّين إنّ العيمان هو أن تكون أعمى ولا تنظر إلى النّساء المتبرجات ولا ترى الباطل وتسكت عنه، هذا هو العيمان في نظر شيخ العصر “سي بودينار”، لقّب بـ”سي بودينار” لأنّه كان يُعبد الدّينار والدّرهم وبالمختصر المفيد كان يموت على الزيارة، في الجنائز لا يُعزّي إلاّ أصحاب الجاه والنّفوذ، أمّا الفقراء فلا يحضر جنائزهم كان يدّعي المرض تارة وتارة أخرى يدّعي بأنّه يبتهل إلى الله عزّ وجلّ فهو في حضرة ذكر وقرب من الله وتارة أخرى يدّعي بأنّه يحضّر درس الجمعة ويُعدّ خطبة الجمعة وهو أصلاً يعتمد على القصص التي يسمعها في حلقات المدّاح، بل كان عضوًا فاعلاً في حلقة المدّاح لأنّه كان يُتقن فنّ العزف على آلة النّاي، فبربّكم كيف أصبح هذا إمامًا يُشار إليه بالبنان ويُقدّم في الجنائز على أنّه علاّمة عصره وهو في الحقيقة أمّيّ لا يُتقن القراءة ولا الكتابة، بل هو مجرد مدّاح يسرد القصص الشّعبية في الأسواق الأسبوعيّة، كان “سي بودينار” يُعبد الشّخصيات ذات النّفوذ؛ والتي تمتلك الأموال الطّائلة، وكان الفلاّحون يُغدقون عليه بالأموال والهدايا، ويمنحونه ما لذّ وطاب من الخضر والفواكه والبيض والرائب وزيت الزّيتون الحرّ والعسل الحرّ، في بلاد القلولة تعيش كالسّلطان ما هو لا إمام لاوالو هو مجرد مدّاح وباستعماله للطرق الملتوية صار إمامًا وصار الغوغاء يصلّون وراءه بل وينادونه بالشّيخ “سي بودينار”، حتّى في صلاة التّراويح كان يغشّ كان لا يحفظ القرآن؛ بل كان يقرأ من مصحف صغير جدًّا كأنّه علبة كبريت، وعندما يذهب الكهرباء كان يتظاهر بأنّه أغمي عليه حتّى لا يكتشف أمره وأخيرًا اهتدي إلى حيلة جهنميّة؛ حيث أنّه عطّل العدّاد الكهربائي، وفي ليلة ختم القرآن في رمضان كان يجمع أموالاً طائلة من المصلّين كأنّهم في حافلة يدفعون ثمن الرّكوب أو كأنّهم في قاعة سينما يدفعون ثمن الفرجة، يا أيّها الغوغاء إنّ الإمام هو موظّف معتمد من طرف الدّولة وله راتبه الخاصّ وله العلاوات الخاصّة بصلاة التّراويح وبصلاة عيد الفطر وعيد الأضحى وبصلاة الإستسقاء وبصلاة الخسوف والكسوف، لماذا تغدقون عليه بالأموال ؟.. يُصلّي بيكم بلامزيتو، وتلك الأموال التي تمنحونها إيّاه سلّموها إلى الفقراء والمساكين والأرامل واليتامى.
بل صار هذا الإمام كلّ جمعة يجمع التّبرعات، أين تذهب تلك الأموال ؟.. أم يجب علينا أن ندفع ثمن جلوسنا في المسجد، من الآن سأقاطع صلاة الجمعة والأعياد والتّراويح، سأصلّي في منزلي حتّى يكون نوري كنور الكواكب كما ورد في الأثر، كان هذا الإمام يموت على الزرادي والوعادي والطعومات يا تصيبه في ضريح يا تصيبه في حويطة يدّعي بأنّه درويش وبأنّه صاحب كرامات مؤخرًا صار يمتهن الرّقية، يشتري قارورات الماء المعدنيّ بأسعار معقولة ويبيعها للمرضى على أساس أنّها مياه مرقيّة طاردة للجان وماحقة للعين ومفسدة للسحر يبيعها بأثمان باهضة، وصار يبيع زيت الزّيتون الممزوج مع زيت المائدة بأثمان باهضة للمرضى ويصف ذلك الزّيت بأنّه حارق للمردة وللشّياطين وأطلق إشاعة حول نفسه بأنّه يملك خاتم سليمان ويتحكّم في جميع أنواع الجان كما يتحكّم الرّبّان في سفينته، وصار النّسوة يترددن عليه في مقصورة المسجد هناك يفعل معهنّ الأفاعيل، وصار يمتهن مهنة السّحر لأنّه يملك النّسخة الأصليّة من كتاب شمس المعارف الكبرى للبوني اشترى هذه النّسخة بألف أورو من يهودي التقاه في مدينة “بوردو” الفرنسيّة وصار ماهرًا في فنّ السّحر، وخلال إقامته في مدينة “بوردو” الفرنسيّة تعلّم السّحر من اليهود وصار حاذقًا في هذا الفنّ، وصار النّسوة يترددن على مقصورته، هذه تريد أن تسحر زوجها حتّى يصير تحت قدميها تسيّره كما تشاء، وتلك تريد أن تسحر إبنها حتّى لا يذهب مع زوجته الجديدة إلى مسكنه الجديد، وهناك بعض أشباه الرّجال يأتون إليه، هذا يريد أن يسحر مديره حتّى يصبح كالخاتم في أصبعه، وهذا يريد أن يسحر فتاة أحبّها ولكنّها لم تبادله الحبّ لذلك اضطرّ لكي يسحرها حتّى يتسنى لها أن تحبّه وتخضع لنزواته الشّيطانيّة الحيوانيّة.
لقد قام هذا الراقي المحتال؛ “سي بودينار”، بتصوير كلّ من يأتي إليه من الرّجال ومن النّساء ويقوم بتهديدهم إذا لم يذعنوا لمطالبه، الرّجال يبتزّهم بالأموال، والنّساء يساومهنّ في شرفهنّ وكلهنّ خضعن لنزواته الحيوانيّة، مؤخرًا راود زوجة أحد الوجهاء عن نفسها فاستجابت له وقام بتصويرها وهي عارية وفي وضعيّة مخلّة معه، وهدّدها إذا لم تدفع مبالغ باهضة فسيكشفها أمام زوجها وأمام النّاس، صارت “نفيسة” تستجيب لكلّ مطالبه الماديّة والشّهوانيّة وصارت تذهب إليه كلّ أسبوع بعد صلاة الجمعة لكي يفجر معها في مقصورة المسجد، صارت تدفع له أموالاً طائلة وتدفع له من جسدها أيضًا، ولكنّ في الأخير قرّرت التّخلّص منه نهائيًّا، جاء يوم الجمعة الموعود وبعد صلاة الجمعة لبست جلبابها الفضفاض وذهبت إلى مقصورة المسجد؛ وكان ذلك الوغد في انتظارها ووضعت بين ثنايا جلبابها الفضفاض خنجرًا مسمومًا ودخلت عليه وعانقته وفي تلك اللّحظات العارمة استلّت ذلك الخنجر المسموم من جلبابها الفضفاض ووجّهت له طعنة قاتلة في رقبته وقامت بذبحه وفصلت رأسه عن جسده وكتبت بدمه المسفوح على حائط مقصورة المسجد هذه العبارات: “مت أيّها الكلب المتشرّد، هذا جزاء من يلعب ويعبث بشرف بنات النّاس، ستكون عبرة لمن يُعتبر”، وولّت هاربة إلى وجهة مجهولة، وفي اليوم الموالي عثر المؤذّن على جثّة الرّاقي “سي بودينار” ورأسه قد فصل عن جسده، وقرأ تلك العبارات المدوّنة على حائط مقصورة المسجد، فقام بإبلاغ الشّرطة وجاء المحقّقون مع الشّرطة العلميّة وأخذوا البصمات وكلّ القرائن التي تدلّهم على القاتل الحقيقيّ، ولكنّهم للأسف الشديد لم يعثر المحقّقون على القاتل الحقيقيّ ومع الزّمن قيّدت الجريمة ضدّ مجهول وتمّ إغلاق ملف القضيّة نهائيّا.
تمت