دراسة : د. هاني إسماعيل محمد إسماعيل أبو رطيبة
أستاذ الأدب والنقد الحديث المساعد- قسم اللغة العربية – كلية الآداب- جامعة بني سويف
المستخلص
تعد هذه الدراسة الأثنوجرافيّة النسوية، محاولة لتحليل الخطاب النسوي، والكشف عن أغواره، ومحاولاته الثقافية في هدم النظم الثقافية القائمة، وتغييرها؛ لتعبر عن واقع المرأة الجديدة، وتتوافق مع النظريات النسوية الحديثة والمعاصرة. كما رصدت الدراسة الرؤية النسوية الخاصة بالرواية، المعتنقة للنسوية الليبرالية والاشتراكية، التي كشفت عن ممارسات المجتمع الأبوي تجاه قضايا المرأة، وتسليعها، وإنتاج أساليب مختلفة، تهدف لقمع المرأة، وضمان هيمنة المجتمع الذكوري عليها. وأبرزت الدراسة واقع المرأة الملونة وكيف وقع عليها القهر، وهضم الحقوق والاستعباد، وامتهان الجسد والكرامة. وقد اعتمدت الدراسة المنهج التحليلي. وتطمح الدراسة في الكشف عن الخطاب النسوي الروائي وأنماطه الروائية المختلفة، الموظفة للدفاع عن المرأة الملونة وحقوقها.
الكلمات المفتاحية
الأثنوجرافيا، المحاكاة، النسوية، الأبوية، الذكورية، تسليع، الملونة، العفة
المقدمة
تنطلق الدراسة من خلال الرؤية النسوية الساعية لتقويض الهيمنة الذكورية، وخلق مجتمع جديد، تسوده المساواة بين الذكر والأنثى، تلك المساواة التي تضمن الحقوق القانونية والاقتصادية والإنسانية للمرأة، وتكشف الدراسة عن خطاب رواية زرايب العبيد النسوي، الساعي إلى تحطيم التابوهات المجتمعية في البيئة العربية عامة والليبية خاصة، خاصة تلك التابوهات التي تتعلق بالملونات من النساء، اللاتي عدّهن المجتمع الليبي والعربي ملكًا لليمين، بلا حقوق حقيقية، ويقوم المجتمع الذكوري باستعمالهم كما يشاء دون أدنى كرامة إنسانية، بل تجاوز هذا المجتمع المفهوم الديني لملك اليمين، فصارت أية امرأة سوداء مملوكة له أو لغيره متاعًا مستباحًا، لا تملك أمام سيدها الحر حق الرفض أو الاعتراض، وتحولت إلى سلعة رخيصة في متناول الجميع..
لقد سعت الدراسة للكشف عن الرؤية النسوية العميقة التي انتهجتها الرواية، للتعبير عن الواقع النسوي في المجتمع الليبي، وكيف ربطت الرواية بين المفهوم النسوي الليبرالي والاشتراكي، وتبنته، وكيف عارضت بعض أفكار النسوية الراديكالية وشطحاتها، التي تخالف الفطرة الإنسانية السليمة، لقد أبرزت الدراسة مجموعة الرؤى الفلسفية والأثنوجرافيّة التي اعتمدها الخطاب الروائي في التعبير عن حياة الملونات المهمشات في تلك المنطقة العربية النائية، وكيف رصدت الرواية حياة هؤلاء ومعاناتهن، وكيف صمت المجتمع الإنساني، ولم يتحرك لنصرتهن إنسانيًا، بل إن هذا المجتمع هو الذي وظَّف معاناتهن؛ ليحقق لنفسه الاستقرار والحياة الكريمة، لقد رصدت الأثنوجرافيا الروائية العادات والتقاليد، والدين، والاقتصاد، والبيئة الثقافية البائسة التي لا تخلق إنسانًا سويًا.
لقد أدى الإحساس بالتضامن مع القضايا النسوية إلى اقتحام بعض الروائيات العربيات مجال الكتابة النسوية، معتمدات على أن الرواية خطاب ثقافي قادر على مناهضة الخطاب الذكوري المتغلغل في المجتمعات العربية، ومن هذا المنطلق برز الخطاب الروائي لرواية زرايب العبيد لنجوى بن شتوان التي اهتمت بقضايا المرأة الملونة مهضومة الحقوق، لتكشف عن عنصرية النسوية الليبرالية والاشتراكية والماركسية، حيث أكَّدت الرؤية الروائية أن النسوية البيضاء قد اهتمت بجنسها، فقط، دون الالتفات إلى النسوية الملونة فقط، ، وهذا ما عكس – من خلال النص الروائي –النسوية المفتقدة لشمولية النظرة الإنسانية، لذلك جاء الطرح الثقافي الاجتماعي للرواية قائمًا على فكرة التغيير الاجتماعي والمعرفة البديلة.
لقد كشفت الدراسة عن المعتقدات النسوية للرواية، وكيفية تناولها داخل النص الروائي، وكشفت عن سعي النص الروائي لتبني قضيتين نسويتين مهمتين: هما بناء المعرفة البديلة، وتبني التغير الاجتماعي الثقافي ” وتعتمد مسألة بناء المعرفة البديلة على مراجعة المعرفة السائدة التي تكشف النسويات عن مواضع غياب وإقصاء النساء، وإسكاتهن مع تغييب التجربة النسائية وتجاهلها([1]) ومن هذا المنطلق اهتمت رواية زرايب العبيد بمحاولة بناء المعرفة البديلة التي تخص مجتمع النسوة الملونات، أصحاب الحق الأصيل في الحياة، وأكثر فئات المجتمع تضررًا وقهرًا، سعت لبناء المعرفة البديلة القائمة على أنه لا فرق بين رجل وامرأة، ولا بين امرأة بيضاء وامرأة ملونة، فالجميع أناسي لهم الحق في الحياة الكريمة، والحق في رفض الظلم والقهر الواقع عليهن من المجتمع الأبيض.
واعتمدت مسألة التغيير الاجتماعي الثقافي على رفع صوت المرأة بالاعتراض ورفض الظلم والقهر، ومحاولة إثبات الذات بكسر التابوهات الذكورية المفروضة عليها، والخروج للتعليم والعمل، والاعتماد على استنساخ تجارب النجاح النسوية، في هدم الثقافة الاجتماعية وشبكة العلاقات الذكورية الاستعلائية السائدة، وإثبات مقدرة المرأة على مناهضة الرجل وهيمنته، ودحر ثقافته والتفوق عليه، ليقبل بفكرة التغير الثقافي والاجتماعي، وترسيخ مفاهيم جديدة تعتمد حقوق المرأة عامة والملونة خاصة في الحياة والحرية والعمل، والتخلص من أشكال التمييز المتمثلة في النوع والأصل والعرق والانتماء الطبقي والمكانة الاجتماعية، وبناء على هذا تنتشر ثقافة جديدة وصورة جديدة للمرأة الملونة بوصفها إنسانة مكتملة الإنسانية.
ولقد اعتمدت الدراسة المنهج التحليلي الهادف إلى تحليل النص الروائي وكشف أغواره المجتمعية والأثنوجرافيّة، لذلك قُسِّمت الدارسة إلى عدة مباحث:
المبحث الأول: الأثنوجرافيا الروائية.
المبحث الثاني: نسوية الملونات والاستغلال الجسدي للمرأة ” محو الهوية الإنسانية للمرأة ”
المبحث الثالث: المجتمع الأبوي
المبحث الرابع: العفة
المبحث الخامس: مأزق الجسد الأنثوي
المبحث السادس: تسليع الجسد
المبحث السابع: الأندروجينيَّة واضطراب الهوية
المبحث الثامن: المرأة الجديدة
والخاتمة التي استعرضت الدراسة فيها أهم نتائجها المتمثلة في أن الرواية تعد وثيقة ثقافية، ترصد الواقع المجتمعي للمرأة الملونة، وتسعى من خلاله للتغيير وإحداث ثورة نسوية؛ تهدم ما يتعارض مع الحقوق القانونية والإنسانية للمرأة.
الأثنوجرافيا الروائية
تعني الأثنوجرافيا علم دراسة المجموعات البشرية بطريقة تصف أسلوب حياتهم، عاداتهم، تقاليدهم، أنشطتهم العادية في حقولهم، أعمالهم المنزلية، طريقة تفكيرهم([2]) فهي ببساطة شديدة تعني كما تقول شيري أورتنر ” محاولة فهم دنيا أخرى بواسطة الذات – بأكبر قدر ممكن من الذات – بوصفها هي أداة للمعرفة([3]) وهذا التعريف يتسق مع رؤية نجوى بن شتوان في روايتها زرايب العبيد، فهي قصدت أن ترصد حياة بشرية لمجموعة من المهمشين الذين يعيشون على هامش الدنيا زمانًا، مكانًا، وطبقة اجتماعية بعيدة كل البعد عن الحياة الإنسانية التي نراها، مجموعة بشرية تبقى مخلوقة – من وجهة النظر الاستعلائية – لخدمة المجموعة البشرية الأعلى، أصحاب البشرة البيضاء. تعمَّقت الروائية في حياة هؤلاء ولم تتوقف عند السطح، بل سعت للإجابة عن مجموعة التساؤلات الإنسانية التي نوجهها لأنفسنا ونحن نرصد حيوات المهمشين.
لكنَّ الرواية وهي وترصد حياة هؤلاء المهمشين، ركزت على حياة النساء الملونات في هذه البيئة، التي تسعى الأثنوجرافيا الروائية إلى تحليلها والوقوف أمام جوهر الحياة فيها، تسعى الرواية لاكتشاف هذه الدنيا المجهولة عن عمد، المهمشة بقصد وضعها في درجة دنيا؛ حتى يتسنى خلق مفهوم السادة والعبيد؛ ليستطيع الإنسان أن يصنع لنفسه هالة كبرى من الجبروت، على حساب تلك الفئة المقهورة. إن الرواية تحاول أن تضع مجموعة من الأسئلة بهدف الإجابة عنها، وهي تستكشف تلك الحياة.
لقد سعت الرواية للإجابة عن سؤال كيف تحيا النساء في هذه البيئة المهمشة المقهورة، وهي المقهورة – أساسًا – في البيئات والمجتمعات الحرة، كيف تمارس المرأة حياتها؟ كيف تربي أبناءها؟ كيف تقاوم القهر الواقع عليها في تلك البيئة المقهورة بفعل الطبيعة البيولوجية؟ ولأن الرواية كانت دقيقة في عرضها ومناقشتها لهذه الحياة فإنها ابتدأت سردها بوصف فسيفسائي دقيق للبيئة في الزرايب، زرايب العبيد. ” شارع ترابي طويل وضيق، تراصت البيوت على طرفيه جنبًا إلى جنب، جمع بينها الطلاء الأبيض الذي بهت وتساقطت أجزاء كبيرة منه، وكذلك ارتفاعها غير المتساوي([4])
بدأت الرواية بالاستهلال السردي المعبِّر عن الوضع القائم في تلك البيئة، حيث الطريق الترابي، والبيوت المتراصة المتهدمة، ذات الطلاء الموحد، ذلك الطلاء الذي يشبه جدران السجون، حيث اللون الواحد، والملامح الواحدة، إن الاستهلال السردي يعبر عن الحالة المتدهورة لتلك المجموعة البشرية القاطنة في تلك المنطقة، تلك المنطقة التي لا يحتويها هواء الحرية، ويحلق فوقها سياج العبودية الكريه.
ينتقل النص الروائي من وصف البيئة بصفة عامة إلى وصف البيئة المكانية حيث الحياة البائسة، إن النص الروائي يسعى لكشف الواقع الحقيقي لتلك الفئة المهمشة، كيف تنشأ ؟ كيف تخلق ذاتها في ظل هذه اللاإنسانية ” ذهبنا إلى العشة التي تقيم بها البنت السودانية، …، لكنها لم تكن نظيفة مثلها، في أطرافها بقايا قشر بطيخ، يجتمع عليها ذباب أخضر كبير طنان، وتفوح منها رائحة البراز لقربها من التجويف الكبير، حيث تمضي بعض القنوات، الصغيرة المعمولة في الزرايب والعشاش للتصريف([5]) كشف الاستهلال السردي عن حياة المهمشين، وكيف تتكون ثقافتهم عن الحياة والعالم الآخر، وكيف يرون أنفسهم في دونية المشهد المرسوم في الرواية؟، الذي رسمته الحياة الواقعية قبل أن تكتشفه الرواية وتنشره كي يراه كل البشر الذين ينسون أو يتناسون حياة هؤلاء المهمشين.
ولمزيد من التركيز والتوضيح ترسم الرواية صورة الأطفال الصغار في مشهد يصف كيف تهدر الحياة الإنسانية منذ وجودها في هذه الدنيا ” جلست حول غربال الرمل من الصباح إلى المساء، أنا وأطفال من الزرايب. كنَّا نغربل رمل البحر لصالح البنائين، ونتحدث ونتشاجر؛ حتى ترتفع أصواتنا ويأتي العجوز الزنجي المخصص لمراقبتنا؛ فيشتمنا([6]) يرصد المشهد حياة فتاة فقيرة سوداء، تكافح من أجل البقاء، الحياة، هذا الكفاح يشكِّل الوعي المزدوج لتلك الفتاة، الوعي المقهور الفاقد للمعرفة؛ لأن المعرفة وقيم الحياة دوما تنتجها الطبقة العليا، فمثل هذا المشهد القاتل للطفولة يبدو عاديًا في مثل هذه المجتمعات المقهورة، التي تبحث عن الرزق عبر كل الوسائل المتاحة، حتى لو عبر قتل الطفولة، وخلق جيل مشوه نفسيًا؛ لكنَّ هذا التشوه يصب دومًا في مصلحة الطبقة الحاكمة التي تسعى لتسخير الجميع لخدمتها، معتبرين تلك المعاناة الطفولية ضرورة حتمية لمجموعات بشرية، مخلوقة لتلك المهن الدونية والمعاناة؛ كي يستطيع السيد الأبيض أن يمارس حياته بنجاح؛ لأنه خُلق للإبداع وخُلق هؤلاء للدونية.
إن أثنوجرافيا النص الروائي تعبر عن واقع إنساني مؤلم، لهذه المجموعة البشرية المهمشة، تلك المجموعة التي يجهل فيها الأطفال صورهم، أحاسيسهم، مشاعرهم، ويفتقدون أبسط أسباب الحياة. فعتيقة تلك الطفلة التي تعمل في كل شيء كي تساعد والدتها – عمتها – لا تعرف ملامحها وتسعى من خلال صديقتها درمة لاكتشاف هذا المجهول لها ” ذات مرة بعد الغربال صارحتُ صديقتي درمة بأنني أريد مرآةً، طلبت منها مساعدتي، في العثور على شقفة صغيرة. سألتني بالطبع لمَ أريدها؟، فأخبرتها بأني أريد رؤية وجهي([7]) تصف لنا الأثنوجرافيا الروائية حالة البؤس الشديد الذي تعاني منه تلك المجموعة البشرية، وفي القلب منها، المرأة والطفلة التي لا تستطيع أن تحيا طفولتها ببراءة وهدوء، بل تنغمس في الحياة القاسية مبكرًا بحثًا عن لقمة العيش. تفتقد فيها أبسط حقوقها: رؤية الذات والنظافة ” تركت الغربال وذهبت مع درمة التي نظفتني بعض الشيء من الغبار، نفخت وجهي ومسحتني حتى تظهر معالمي الأولى([8])
تفتقد تلك المجتمعات كل مقومات الحياة الإنسانية البسيطة، وتحاول أن تخلق لنفسها حياة تحيا فيها، رغم دونيتها، لكنهم يحاولون التكيُّف معها ” حين لا يكون هناك ما يعملون يضطر سكان الزرايب للبقاء فيها، وعدم مفارقتها، لا يفعلون شيئا يقضون وقتهم في التحدث وهش الذباب الذي يكثر في الحر([9]) إن أثنوجرافيا الرواية تحاول طرح فهمًا شاملًا لحياة المهمشين في الزرايب، طعامهم، شرابهم، ملبسهم، وسبل حياتهم السيئة ” ينتظرون من يطلبهم لعمل ما([10]) لأنهم بلا عمل، فلا يستطيعون تحديده، وأوضح النص الروائي ذلك بعبارة ” عمل ما “؛ ليعكس أنهم عاطلون في الأغلب، ولا يمتهنون حرفة معينة، تساعدهم على الحياة؛ لذلك فهم وقت بطالتهم ” يطاردون القطط والكلاب التي تفوق عددهم([11]) تصف الرواية البيئة التي يعيشون فيها بأنها بيئة لا إنسانية، فهي مأوى للكلاب والقطط، التي تحولت لوسيلة تسلية لأهل الزرايب، يقتلون فيها وقت الفراغ والبطالة، يلهو الرجال معهم عبر مطاردت تعكس التماهي النفسي بينهم وبين الحيوانات، فهم يعيشون بين تلال القمامة والمخلفات حيث مأوي الحيوانات الضالة ” تتراكم مرتفعات القمامة عند الطرق الرئيسية المؤدية للزرايب([12]).
ونتيجة للبطالة والفقر المستشري في الزرايب؛ تضيق سبل الحياة بالأطفال، ويتملكهم الجوع لا يجدون في أكواخهم الطعام ” يفتشون عن شيء يأكلونه بين القمامة([13])إن تلك الحياة البائسة هي التي تخلق الثقافة البدائية والنظرة الأحادية للحياة، وتصنع الجرائم والعدوان والعداء للآخر
في ظل هذه الثقافة البائسة يرتفع مفهوم الشرف والعفة، ويتم الاعتداء على الأنثى أو قتلها بسببه، وتنتشر العادات البدائية؛ لحفظ شرف الإناث، مثل ما يعرف بالتقفيل أو تحصين الفتيات في غرفة التقفيل([14]) أو الدخول بالعرائس ليلة الزفاف عبر سيدة تقوم بهذا الدور” هي من فتحت عروس مرعي السروي ليلة دخلته، وليس مرعي([15]) من الطبيعي انتشار الخرافات بين هذه المجموعات البشرية، التي تحيا خارج منظومة الحياة الإنسانية، حيث التهميش والانزواء، ومن الطبيعي كذلك انتشار العنف والسخرية من الآخر، أي آخر” كانت بقايا الهرج موجودة في الشارع، فهمت أن الأمر ارتبط بمرور جنازة رجل يهودي، رماه أطفال الشارع ببعر الماشية([16]) إن هذه المشاهد تعكس كيف تشكلت ثقافة العدوان والسخرية من الآخر في تلك البيئة المهمشة، التي تخلق العنف والقهر؛ لأنهم لا يرون سوى فريق واحد، ونوعيين فقط من البشر سادة وعبيد، لذلك يمارسون القهر ضد من هو أضعف منهم، عل هذا يخفف من أزماتهم الوجودية، ويثبت أنهم على قيد الحياة ” كان ذلك يحدث بقصد كلما مرت جنازة ليهودي ببعض الأشقياء ممن يسليهم الأمر([17])
لقد سعى الخطاب الأثنوجرافي الروائي لتوصيف حياة أهل الزرايب المهمشين، بهدف الوقوف على أساليب حياتهم، وتحليل الروابط، والتعرف على مجالات الحياة والعلاقات الإنسانية التي تربطهم( قرابة، دين، اقتصاد) ومخاوفهم من ( الفقر، الاستعباد، الفقر، الاغتصاب)، كانت تلك المجالات والمخاوف هي التي شكَّلت حياة هذه الفئة المنسية المهمشة، وجعلتهم أقرب للموت من الحياة.
نسوية الملونات والاستغلال الجسدي للمرأة ” محو الهوية الإنسانية للمرأة “
تبني الرواية رؤيتها الرئيسة على فكرة الدفاع عن حقوق المرأة بصفة عامة دون الاهتمام بالاختلافات العرقية، الاهتمام بالمرأة في ذاتها، لتوضح أن النسوية الغربية في بدايتها كانت نسوية عنصرية؛ لأنها تنادي بتحرير نفسها مما يقع عليها من غبن دون الالتفات إلى المرأة بصفة إنسانية سواء كانت بيضاء أم سوداء؛ لكنَّ الرواية انتقلت من العام إلى الخاص، لهذا فالرواية قامت على مبدأ النسوية الملونة، أي الاهتمام بالنسوية المقهورة بفعل البشرة والثقافة العنصرية، التي جعلت البشرة السوداء رمزًا للعبودية والاستغلال؛ لذلك فإن الرواية تعيش داخل موطنٍ للعبيد ” زرايب العبيد ” وتعبر عن واقع النساء المستعبدات، رغبة منها في صناعة ثقافة جديدة تقوم على مبدأ المساواة، المساواة بين الجميع امرأة بيضاء أو سوداء فلا فرق بينهما على الإطلاق، وإن كانت النسويات ينادين بضرورة دحض الاختلافات البيولوجية بين الرجل والمرأة، فالأولى أن تدحض فكرة التفرقة بين النساء بسبب اللون والعرق والدين.
إن حالة القهر السائدة في المجتمعات الإنسانية بصفة عامة والعربية بصفة خاصة ليست وليدة عنصر واحد، بل وليدة شبكة ثقافية مترابطة أدت إلى تفاقم الوضع الإنساني عامة والنسوي خاصة، وفي القلب الملونات من النساء، اللاتي عدتهم الثقافة القمعية البطريركية مستعبدات أو مواطنات درجة ثانية بسبب لونهن.
إن الرواية قصدت التعبير عن حقوق النساء الملونات في الحياة والاستقرار والحرية. قصدت أن تحيا تلك المجموعات الملونة كريمة حرة غير مهدورة الإنسانية. ” فالدنيا ليست عادلة لتعطي الزنجية بيتًا ومعيلًا وأولادًا ([18]) فالرواية تؤكد على القمع الواقع على المرأة بصفة عامة والملونة بصفة خاصة، فالدنيا ” المجتمعات” لا تنظر لتلك النسوة نظرة إنسانية كاملة بل نظرة منقوصة وكأنهن خلاف البشر البيض، لابد وأن يحيين بلا حقوق، لذلك فمن السهل امتهان جسدهن والتعامل معهن على أنهن سلعة قابلة للبيع والشراء، ولا غرابة في أن ينتهي “ببعضهم أن يطلبها للفراش([19]) ” وتشكل البطريركية … النموذج الأمثل لجميع أشكال الاضطهاد، كذلك الحال أيضًا بالنسبة للتفضيل الجنسي الذي سبق جميع أنواع التمييز بما في ذلك الطبقي والعرقي([20]).
فالثقافة والبنى الاجتماعية القائمة على التمييز الإثني والعرقي والطبقي، التي تمنح الرجال والنساء من الطبقات العليا قهر الملونين من الرجال والنساء، والمختلفين عرقيًا وإثنيًا ودينيًا ووضعهم في مرتبة دنيا مجتمعيًا، ومنعهم من ممارسة أبسط حقوقهم الإنسانية ” فلا أحد أعطى الخادمة اسمًا أو وصفًا في الحياة غير ما جعلها عليه الرق([21]) إن الحرمان الإنساني يتجاوز الحد حتى أنه لا يمنح تلك الفتاة السوداء أبسط حقوقها في الحياة: اسمها، إنهم يعاملونها بوصفها نكرة لا وجود لها وإن وجدت فلا حق لها.
فالمرأة السوداء تحيا بلا اسم بلا صفات بلا سمعة، فهي دونية الوضع لا يلتفت أحد لوجودها، لدورها في الحياة. ” لا تخش عليَّ من قالة الناس، فأنا لست من الحرار، لكي يأبه الناس بسمعتي أو مسيري، لا أحد يعرف من أنا وبالكاد يعرفونني باسمي عتيقة الممرضة([22]) يرصد الخطاب الروائي النظرة الثقافية الدونية للمرأة الملونة التي أصبحت بلا هوية، بلا وجود حقيقي في المجتمع، فهي من وجهة نظر الطبقات الاستعلائية مجرد وسيلة رخيصة لخدمة هؤلاء المتعالين إنسانيًا المعتمدين تصنيف الإنسان وفق جنسه ولونه.
إن هذ المأزق الإنساني للمرأة الملونة المستعبدة يدفعها إلى فقد هويتها الإنسانية، وشعورها بعنف التمييز الإنساني الذي يجعلها تتضاءل وتقرر حقيقة مجتمعية قميئة تبني ثقافتها على قهر اللون الأسود ” هؤلاء أحرار، لسن مثلنا أو نحن لسنا مثلهن، لم يع عقلي سوى أن الأحرار هم ذوو البشرة البيضاء، ليسوا مثلنا في كل شيء، لا يشبهوننا حتى وهم يشبهوننا … لست أدري لمَ هم السادة ونحن الخدم؟، لم هم الأرفع درجة ونحن الأدنى بدرجات؟([23])
المجتمع الأبوي
في المجتمعات البدائية كانت الحياة الأسرية حياة مقدسة” وتم على نطاق واسع احترام “حق الأم” من خلال توارث الملكية والمكانة الاجتماعية من جانب الإناث([24]) فكانت المرأة / الأم لها دورها الذي لا ينكر ، وكان دورها يساوي دور الرجل، ويتفوق عليه في أحايين كثيرة، بوصفها راعية المنزل( أب – أبناء – أحفاد) وبوصفها شريكًا مهمًا في العملية الاقتصادية؛ نظرًا لما تقوم به من أعمال اقتصادية منتجة داخل حدود الأسرة. لكنَّ هذا الدور بدأ في التراجع مع التطور الذي حدث في العالم مع بداية النهضة الصناعية، وحلول الرأسمالية بديلًا اقتصاديًا عن تلك الأنظمة البدائية القائمة على وضع الأسرة أهم نموذج اقتصادي تقوم فيه المرأة بدور الريادة ” فالرأسمالية لقيامها على حيازة الملكية الخاصة بواسطة الرجال فقط، أطاحت ب ” حق الأم ” وجلبت ما يطلق عليه ” إنجلز ” الهزيمة التاريخية العالمية لجنس الأنثى([25]) وبدأت مع هذا التطور الرأسمالي عمليات قمع ممنهج، حيث بدأت الأسرة التي كانت تقدِّس المرأة في عمليات قمع المرأة، خاصة مع الطموح الذكوري / الأبوي في نقل الملكية للابن الرجل دون المرأة، ونشوء فكرة التوريث للذكر، وحرمان الأنثى من ميراثها.
كان لابد أن يتم صناعة مفهوم الحقبة التاريخية الجديدة، بحيث يتواءم مع الفكر الرأسمالي، ويؤسس لتراجع دور المرأة وعلو دور الرجل؛ ليصبح المهيمن على كل جوانب الحياة، وكان على الأسرة كي تحقق عملية الهيمنة للرجل، أن تقتل الجوانب الإنسانية داخل الذكور، فبدأت منح العديد من المميزات التي تناسب الحقبة الجديدة، وقد تناسب الرجل وقد لا تناسبه، وفي المقابل يتم حجب تلك المميزات عن المرأة.
كذلك مارست الأسرة عملية قمع ضد الذكور؛ لتضمن عدم انحرافهم عن المرسوم لهم من نظم قمعية ومميزات أفرطت في السيطرة وحجب المرأة، وفرض أدوارٍ محددة عليها ومع هذه الأدوار تم اختراع أكذوبة الفروق البيولوجية بين الرجل والمرأة. هذه الفروق التي ضمنت للمجتمع الأبوي الترويج لفكرة القمع، وخلق ما يعرف بثقافة الأنوثة التي يجب على الرجل الحق أن يبتعد عنها، وعن الصفات المرتبطة بها؛ لذلك فرض المجتمع الأبوي تحريم البكاء للرجل وعدَّه نقيصة كبرى، فلا يوجد رجل يبكي أو تسيل دموعه؛ لأن هذا يتناقض مع الرجولة التي فرضها الاستبداد الأبوي.
” لم يتمالك الفتى نفسه من البكاء في أحضان خاله. تلفَّت المارة والباعة بشيء من الفضول إليهما، فالرجل لا يبكي، بل لا رجل يبكي في هذه المدينة المليئة بالفقر والمرض والرياء، الرجل يتحامل ويتجلَّد ثم يتبلَّد([26]). إن المجتمع الأبوي الاستبدادي يفرض نظامه على أبنائه الذكور حتى يصابوا بالتبلُّد، ويفقدوا كل مشاعرهم، فهذا المجتمع يريد رجالًا قساة القلوب، حتى يستطيعوا فرض هيمنتهم على الجميع، خاصة النساء ومن يخالف ذلك النظام فلابد من هدر شخصيته ” وإن لم يستطع؛ فلتتحمَّل ثرثرة الناس الثقيلة؛ لهذا بكاء الرجال نادر وغريب، وإن حدث فإنه يحدث مثل الخطيئة في الخفاء([27]) لذلك فكل الرجال يرفضون الخطيئة المجتمعية التي صنعتها البطريركية الذكورية، التي نجحت في قمع المجتمع ودفعه للسير وفق نظام صارم قاسٍ، جعل كل الصفات الإنسانية المعنوية من نصيب المرأة لا بوصفها الأسمى والأكثر إنسانية، إنما من أجل قمعها واستعمار وعيها، وترسيخ دونيتها في مخيلتها، فصارت الدموع خطيئة أنثوية تحيا فيها المرأة ويساعدها فيها المجتمع الأبوي، وتحرَّم على الرجل وتصير خطيئة؛ لذلك صار بكاء امحمد الصغير على ابنه المقتول بجبروت أبيه وقسوته خطيئة ومغامرة إنسانية، تعد تمردًا خطيرًا على ذلك المجتمع الأبوي وفي القلب أسرته، التي مارست ضد ابنها القمع والظلم من أجل حماية موقفها الاقتصادي، وعادات المجتمع وتقاليده الجائرة وممارساته القمعية التي لم تراع أية قيمة إنسانية، فالجد قتل حفيده الوحيد؛ لأنه فقد – من قبل – تحت سطوة المجتمع كل القيم الإنسانية، وتجرَّد من مشاعره مقابل شهوة الانتقام، وتثبيت أركان نظامه الأسري.
” ثم اقتعد عتبة حوش العبيد، ونشج بصوت مسموع، صوت لا أخجل أن يقول: من حقي أن أبكي وإن كنت رجلًا في عالم قليل الرأفة، أنَّث الدموع واحتكر شعور الفرحة للذكورة، من حقي أن أبكي متى كنت حزينًا وفقط([28]).فرضت الهيمنة الأبوية وجودها على الجميع، بل فرضت الظلم على الذكر والأنثى، ظلمت الذكر كي يتخلى عن مشاعره ويصير ترسًا يدور وفق الإرادة الأبوية، لا وفق إرادته الإنسانية.
دفعت الهيراركيَّة المجتمعية الذكر ليتبوأ مكانته المرسومة له، ويمارس دوره السلطوي على من دون طبقته، فالأخ الذكر لابد أن يقهر أخته حتى يُسمَّى رجلًا ولو لم يفعل وجب على المجتمع الأبوي اللاإنساني قهره. ” نهبت الصغيرة يدٌ مشعرة وطفقت في ضربها ببلغة رجالية ضربًا مبرحًا. علا صراخ الصغيرة المتألمة ولم يتدخل أحد لنجدتها من شقيقها رغم كثرة المارة. كان صياحه صاخبًا يا بنت الكلب([29]) استمرت حفلة التأديب الذكوري للطفلة الصغيرة وسط مباركة مجتمعية لممارسة الذكر سلطانه على أخته، وهذه المباركة هي التي دفعته للتمادي في قهرها وسحق كرامتها ” تلوَّت الصغيرة ألمًا وتوسَّلت التوقف معلنة التوبة … ومع ذلك ارتفعت فردة البلغة وهبطت على جسدها الصغير بنفس القوة والمثابرة دون أن يهتز للصالحين شعرة([30])
إن هذا الرجل الصغير بفعله الاستبدادي صار ” مثار إعجاب الناس برجولته وحرصه على عرضه. كل من كان في مكانه سيفعل فعله ببلغة أو ما دونها([31]) إننا أمام عملية امتهان وجودي لكرامة الطفلة الصغيرة / الأنثى ليس لفعل الضرب فحسب، بل للأداة التي ضربت بها ” البلغة ” التي يطأ بها الرجل / الذكر الأرض وبها كذلك يطأ كرامة الأنثى أمًا، اختًا، أو زوجة او ابنة فهو السيد لكل هؤلاء، ولمزيد من التجبر والإعلان عن الرجولة، كان الإيذاء البدني والنفسي على مسمع ومرأى من الجميع، إنها شهادة ميلاد ذكر صنعه المجتمع الأبوي المتسلط.
أرسى المجتمع الأبوي دعائم نظامه وفرضها على الجميع الذكر والأنثى حتى خضعوا واستسلموا لذلك النظام، فالرجل / الذكر الذي ميَّزه المجتمع الأبوي يخشى على نفسه من سطوة النظام، ويقرُّ أنه لا يقوى على مجابهته أو إعلان رفضه للظلم الواقع عليه ” أنا جبان طيلة حياتي أخافكم وأخشى غضبكم، أنا لست رجلًا معكم ولا سلطة لي على شيء([32]) إن الابن الأكبر في أسرة امحمد الكبير يقرُّ أنه لا يقوى على مخالفتهم، رغم أن الأسرة جميعها تعده؛ ليكون السيد لها، ويحل محل أبيه، لكنَّه أمام النظام السائد ” جبان – لا سلطة لي على شيء”، ويعترف بعجزه عن اختيار زوجته، فهو في كل الحالات مسايرٌ للنظام المجتمعي، فالنظام الأسري قد فرض عليه ” زوجته – أسماء بناته ” إنني حتى لم اختر زوجتي ولا أسماء بناتي([33])
نتيجة لتسلط الرأسمالية الأبوية ظُلم الابن امحمد الصغير وزوجته، لكنَّ الضرر الأكبر وقع على المرأة بوصفها العنصر الأضعف في تلك المنظومة المجتمعية الأبوية، فالأب الذي زوَّج ابنه دون رغبته من أجل تحقيق رغبته الرأسمالية في مصاهرة طبقة التجار حتى يُفيد منهم، لم يفكر في عاقبة اختياره ولا النتائج السلبية على ابنه وزوجته، فانتهى الأمر أن هجر الابن ” الذكر ” زوجه ويتعلَّق بجاريته، وتبقى الزوجة ” الأنثى ” مقهورة مهجورة، ملتزمة الصمت؛ فإعلان التذمر عيب وخطيئة تعيَّر بها وأسرتها، فكيف لامرأة أن تُصرِّح بهذا الأمر ” رقية مسكينة، صابرة كزوجة صالحة، هي تخجل مني ولا تصارحني بشيء عن مخدعها([34]).
يعلم الجميع معاناة الزوجة مع زوجها، وتقف الأسرة متجاهلة لهذا الأمر، فلا أحد يبادر بالسعي في حل هذه المشكلة، فالجميع لا يقرُّ بحقوق الزوجة، فالواجب عليها – كما يقول النظام الأبوي – أن تصبر وتصمت، ولا تعترض، ” صابرة كزوجة صالحة” وما يشغلهم هو علاقة ابنهم بالجارية التي لا يعترضون عليها، إنما يخافون فقط أن تنجب ذكرًا، وبهذا الإنجاب يتلوَّث الدم النقي بابن جارية، وهذا أمر غير مقبول. إن هذا يعبر عن النفس الذكورية أو المجتمع الأبوي غير السوي الذي يقرُّ قهر المرأة / الزوجة ويرضى بظلمها، ويخشى فقط على صورته أو نظامه الجائر فسعى لمنع ابنه من الإنجاب من الجارية ” مستحيل أن يحمل اسم العائلة ابن جارية سوداء. هذا ما لن نسمح به. ليطارحها الغرام، تلك سنة الله في خلقه، أما أن يخلِّف منها عقبًا، كلا، ولن يحدث ما دمت حية([35]).
يرفض المجتمع الأبوي ” ذكره وأنثاه ” المساس بنظمه وعاداته وتقاليده الراسخة، وتتبنى هذه الرؤية الأم / المرأة الأبوية مقررة منع ابنها من هدم النظام الأسري الأبوي وتعلن مقاومتها بقوة مادامت حية. ظلت الزوجة المقهورة تعاني هجر زوجها، وتعامل معاملة قاسية دون تدخل الأسرة التي ترى كل شيء وتتجاهل ذلك اعتمادًا على الفكر البطريركي المتزرع في المجتمع، وفي اللحظة التي فكَّر الأب التدخل لرد ابنه إلى جادة الصواب، والعودة للزوجة المغلوبة على أمرها لم يكن هذا التدخل انتصارًا للعدل أو للمرأة من أجل نيل حقها ، إنما حماية للرأسمالية الأبوية التي سعى الأب من قبل إلى تحقيقها عبر هذه الزيجة. ” لا يا شيخ ولدي امحمد وأعرفه. مللت تصرفاته وعناده وشكوى والدته منه. زوجته ابنة شقيقها وأهلها تجار كبار في مصراتة سيضيِّقون علينا أمرنا إن بلغهم ما يفعله بابنتهم. ماذا سنجني من عشقه للجارية سوى المشاكل؟ …اها، هكذا الموضوع، موضوع تجارة ونسب([36]).
إن قمع الأنثى دائمًا ما يبدأ من أصغر وحدة مجتمعية أبوية، فالأسرة تمارس قمعها لكل مؤنث لديها ” ابنة – زوجة – زوجة ابن – أخت ” فالأسرة كما يرى إنجلز ” أبوية وقمعية([37]) ودائمًا ما تلجأ إلى زرع ما يُعرف بثقافة الأنوثة بوصفها تعويضًا لها عن هذا القمع المادي، تلك الثقافة “التي تُمجِّد فضائل الحب الرومانسية – الصبر لكنَّها في واقع الأمر ثقافة منظمة تهدف إلى حماية امتيازات وملكية الذكور([38])
العفة
تركِّز الكاتبات الواقعيَّات على انحياز الرجال ضد النساء بوصفه جزءًا من الواقع الاجتماعي المجحف والواجب تغييره، فتحول بذلك ساحة الأدب إلى ساحة ثقافية تتم فيها إعادة صياغة العلاقات الاجتماعية([39]) إعادة الذات المفقودة للمرأة، والسعي لصياغة رأي عام نسوي يحاول مقاومة الظلم الواقع عليها، ومن هذا المنطلق سعت الكاتبة نجوى بن شتوان إلى مناقشة قضايا الظلم الممارس ضد المرأة في المجتمعات العربية، ” على أساس أن الهدف الأهم لتحقيق التحرر النسائي هو تحقيق المساواة الجنسية، ويطلق عليها في بعض الأحيان العدالة الجنسية” من حيث الذكورة والأنوثة” ما ترغب بفعله النسويات الليبراليات هو تحرير النساء من الأدوار الجنسية الجائرة، ويقصد بذلك مجموعة الأدوار التي تستخدم مسوغًا لإعطاء المرأة دورًا ومكانة أقل([40])
رغم أن الخطاب الروائي ينتمي بصورة واضحة إلى النسوية الليبرالية لكنَّه لا يؤمن بكل ما تقول به الليبرالية النسوية أو غيرها من النسويات، إنما تسعى لتحقيق العدالة القائمة على المساواة في كل شيء، وأولها: المساواة الجنسية والتخلص من القمع الجنسي الواضح لصالح الرجل، فالرجل يحق له ما لا يحق للمرأة وإذا ما فعلت المرأة فعل الرجال أو عاتبت الرجل برز القمع واللامساواة الحادة، فالرجل لا عفة له في المجتمعات العربية، ويحق له أن يفعل ما يريد دون عقاب ، بل إن الجنس وممارساته يعده المجتمع الذكوري ضربًا من ضروب المباهاة بالفحولة، ويبالغ البعض عندما يعلن عن ممارساته الجنسية مع النساء؛ ليلحق العار بأسر تلك النسوة؛ فيقع العقاب والخزي على الأنثى ويتعالى الرجل بفعله.
قصد الخطاب النسوي مناقشة تلك العادات الظالمة التي تنال من حقوق الأنثى الإنسانية التي قالت بها كل الأديان السماوية ، لكنَّ المجتمع الأبوي يسقطها من حساباته ولا يبررها مطلقًا عندما يتعلق الأمر بالأنثى ، فتقول الرواية ” الجنس ممنوع على الإناث دون زواج ويحق للرجال ممارسته بزواج وبدونه، هذه القاعدة تتيح لهم وتمنع عنهن([41]) إن الخطاب الروائي يناقش تلك القضية الشائكة في المجتمعات العربية محاولًا أن يصبح الرجل مثل المرأة في قضية العفة، فيصير له عفة إذا غامر بها فقد احترام المجتمع ونال العقاب . فالخطاب هنا يسعى للمساواة بين الرجل والمرأة في القضية الجنسية سعيًا لتحقيق العدالة الجنسية؛ لتستطيع المرأة أن تنال حقها في معاتبة الرجل ومعاقبته إن خانها أو تعدى على كرامة النساء.
كان من أبرز نتائج عدم المساواة الجنسية بينهما خلْق المجتمع مصطلح العفة المنفرد، الذي تقع على المرأة فقط” ولكي تحتفظ المرأة بعفتها في نظر المجتمعات الأبوية يجب السيطرة عليه عن طريق الزواج أو البديل عنه([42]) والبديل عنه في مجتمع الرواية هو التقفيل أو الحفاظ على عفة الفتاة عبر مجموعة من الممارسات الطقسية القديمة التي تعود إلى عصور بدائية تجاوزها الإنسان حضاريًا وثقافيًا بمئات السنين ” تعمل في تقفيل أرحام الفتيات الصغيرات وفتح أرحام العرائس منهن لبعولتهن الأحق بهن كانت ” للاهم ” قائمة على ذلك بموافقة الأعراف، في منح الحصانة للأرحام التي تنمو، ضد خطر يحمله الذكور مفاخرين، وتحمله النساء معيَّرات به مدى حياتهن؛ متى وسوس الشيطان به خارج نطاق المشروع([43]) لابد من الحفاظ على عفة الفتاة وشرفها؛ لأن المجتمعات الأبوية ربطت بين عفة الفتاة وشرف الرجل والعائلة والقبيلة ، وإن وسوس الشيطان للفتاة فلابد من عقابها، ، يقتلها أبوها، أخوها، ابن عمها، زوجها، إن كسرت مفهوم العفة الأبوية المفروضة مجتمعيًا.
إن النص الروائي يروي لنا قصة فتاة كادت أن تقتل بسبب سوء تدبير الزوج وعدم مقدرته على فض بكارة زوجته؛ فبادر إلى حمل بندقيته لقتلها، لولا القدر الذي يسَّر لها من استطاعت أن تؤكد عذريتها ، وعدم خرقها لقوانين المجتمع ” لم يكترث أحدٌ من أولياء البنت لسؤالها إلى أن زُوِّجت وهي تلعب في الشارع([44])يمارس المجتمع الأبوي سلطانه فيتجبَّر ضد الأنثى ويجبرها على قبول ما يشاء، بوصفها كائنًا لا حق له حتى في إبداء رأيه في أهم قرار اجتماعي، فالفتاة تتزوج دون استشارتها، فلقد حملت حملًا لتُعد للزواج، أخذوها من حضن اللعب مع رفيقاتها؛ لتصبح زوجًا وأٌمًا دون وعي منها بهذا، وعندما جاء اليوم الموعود ودخل عليها زوجها وعجز عن فض بكارتها، ظهر الوجه الآخر للجميع ” لطمت العروس وجهها طالبة الرأفة، من النساء الكبيرات المُتحلِّقات حولها، في دائرة ضيقة ناهشات سمعتها([45]) تحوَّل النساء في تلك اللحظات الدقيقة إلى نساء ذكوريَّات يلزمن بطريركية المجتمع دون وعي منهن بأنهن يقتلن أنفسهن وبناتهن مستقبلًا، فلم يسمعن للفتاة، عندما دافعت عن نفسها وبأنها محصَّنة ولم يلمسها أحد، ” أنا مصفَّحة، صفَّحتني أمي رحمها الله في زليتن:- لكنَّ العجائز الفضوليِّات الشرسات لم يرحمن أمها مثلها، ومضين في اعتقادهنَّ أن العروس تكذب لخداعهن([46]) ولأن الشك في المرأة وفي عفتها أمر يسير عند المجتمع البطريريكي، فالحكم عليها جاهز ينتظر التنفيذ؛ لذلك فالفتاة المتهمة في عرضها، م يُسمح لها بالدفاع عن نفسها، فالعريس سارع إلى إحضار بندقيته؛ ليمحو العار الذي لحق به، عار الخديعة الزائفة ، عار رجولته التي يريد أن يحفظ كرامتها وكبريائها حقًا وباطلًا ” من حكم رحيم توقعه بها بندقيته ستكون أقرب إليها من الباب متى فتح([47]) قرر العريس قتل العروسة ، لحظات و سينفذ الحكم الجائر عليها، لولا تدخل القدر الذي أراد أن يحمي العروسة من القتل، لكنَّها نجت من القتل المادي، لتقع فريسة للقتل المعنوي وامتهان جسدها أمام النساء ” وقفت البنت في خوف وإحدى يديها تستر صدرها والأخرى تستر عورتها .. قالت لها انظريه جيدًا، انظري إليه جيدًا في المرآة، وارفعي يدك عنه، فنظرت البنت الباكية بتردد. سألتها: ” هل نظرت جيدًا” قالت أجل أجل وهي تلملم أحزانها([48]).
منح مفهوم العفة الأنثوية الرجل هيمنة ذكورية كبيرة، وساعد في امتهان المرأة ماديًا ومعنويًا. فالمرأة صارت بسببه متهمة حتى تُثبت براءتها، فالمجتمع فرض على المرأة الدفاع الدائم عن نفسها ووضعها في موضع اتهام دائم ودونية مستمرة، وفي المقابل ينظر للرجل نظرة إكبار ، ويدافع عنه في كل نزواته وأفعاله، فالرجل كما يقولون لا يعيبه شيء من هذا المنطق الذكوري خلق المجتمع الأبوي طريقة جديدة لحماية كبرياء الرجل، وفحولته الجنسية، خلق له طريقة جديدة لإثبات عفة العروسة ” الأنثى “، فبدلًا من أن يدخل الرجل بعروسته بعضوه الذكوري مباشرة؛ ليثبت رجولته / فحولته وتثبت الفتاة عفتها، تنكَّر المجتمع للطبيعة السوية وأراد أن يحفظ الكرامة الذكورية للرجل رغبة منه في عدم فضحهم، وكشف عجزهم الجنسي، فبادر إلى ابتكار الدخول بالزوجة بالسبابة ” أصابع اليد ” كان هذا الابتكار حلًا سحريًا للحفاظ على كرامة الرجال وذكوريتهم حتى لا يلحق العار بهم إن اكتشفت العروسة وأهلها عجزه ، ولأن الرجل يسعى للحفاظ على نفسه وأن تبقى المرأة طوع أمره، فلقد ابتكر تلك الوسيلة السهلة التي تحميه وكرامته وتضمن كشف عفة العروس وبقائه في منزلة لا تُمس. ” رسَّخ العرف للرجل استعمال يده مع زوجته دون أن يرى أحدُ ذلك مجرد سدّ فراغ لعجز لابد أن تسده اليد([49]) حافظ المجتمع البطريريكي على كرامة الرجل وكبريائه، وحفظ حقه في الخداع ليتفوق على المرأة ويمعن في إخضاعها؛ فسعى إلى ترسيخ فكرة الدخول باليد؛ ليصبح هذا الأمر واقعًا مقدسًا؛ لتقتنع به النساء ويعتقدن أنه الأصل في هذا الموضع ” وهكذا اعتقدت سائر النساء في هذا البلد أن ذلك طبيعي وليس دليل عجز يجيز لهن الحق في البحث عن بديل مناسب([50])
حفظ هذا العرف الأبوي الجائر أن للمجتمع الذكوري هيمنته وإخضاعه للأنثى، ولم يفكر في حق المرأة في أن تنال حقها الجسدي، بل حكم عليها بالحرمان من حق أصيل لها وهبه الله لها، لكنَّ المجتمع البطريريكي الذي يدعي أنه يحمي تعاليم الدين، هو نفسه الذي تغافل عن هذه التعاليم واستبدلها، مما ساعد على انتشار الظلم بين النساء، بل هذا الفعل ساعد على إفساد الأنثى في أحيان كثيرة؛ ورسَّخ المجتمع كذلك أن الزوجة الأصيلة هي التي ترضى بالظلم ولا تفضح زوجها وتتنازل عن حقها الشرعي.
” كنت أسمعهن يبكين وأسمعهم يشتمونهن ويضربوهن ويهددونهن بالطلاق، أو الادعاء بأنهم لم يجدوهن أبكارًا([51]) يمارس الرجال تسلطهم وتجبرهم، فهم يثبتون رجولتهم الذكورية بأيديهم ويوظفونه سلاحًا قويًا لهضم حق الإناث، والهيمنة عليهن ، أقر المجتمع الذكوري هذه الوسيلة، وأقر بتفوق الرجل وتراجع المرأة ودونيتها، لذلك لا تستطيع المرأة أن تطالب بحقها؛ لأنه سيبادر بتهديدها بالطلاق، أو إلحاق العار بها وادعاء عدم عذريتها، وسيصدقه المجتمع الذكوري رغم سبابته المكسوة بدماء عفة المرأة، لأنه حتمًا سيدعي أنه فعل هذا حفاظًا عليها، وعلى سمعتها ومنحها فرصة الاستقامة، لكنَّها لم تفعل؛ فقرر فضحها والخلاص منها. ” وفي نهاية الأمر كن يصمتن مستسلمات لأقدارهن([52])
لا تنادي المجتمعات الذكورية بعفة الرجل أو ضبط ممارساته وتصرفاته؛ تمنحه الحرية التامة في ممارساته دون محاسبة وهذا يتعارض مع الفطرة والدين، وفي المقابل يسيطر على المرأة سيطرة صارمة ويعاقبها بالموت إن هي أخطأت، ومارست بعض ممارسات الرجل. يبرز الخطاب الروائي الواقع المجتمعي الجائر، الذي يقهر المرأة في كل شيء حتى في حقوقها الشرعية الإنسانية، ويمنح الرجل مبررات قهرها ومنعها حقها، بل وإفسادها دون عقاب رادع يحفظ لها كرامتها.
يؤسس الخطاب الروائي للمطالبة بحق المرأة في المساواة مع الرجل من حيث نيل حقوقها الشرعية والقانونية، ورفع الظلم والقهر عنها، وإلزام الرجل بالعفة كما تُلزم المرأة.
مأزق الجسد الأنثوي
تبوأ الجسد مكانة رئيسة في الفكر النسوي، وهو الموضوع الأكثر حضورًا في المدونة السردية النسوية، وتواتر حضوره فيها يحيل على درجة كبيرة من الملازمة بين الجسد الأنثوي والسرد([53]) فالسرد يحاول أن يجيب عن التساؤلات المهمة التي تفرض نفسها على المحيط الأنثوي، الذي يعاني من القهر الجسدي والاستغلال والتسليع؛ حتى أصبح جسد المرأة مأزقًا نفسيًا كبيرًا، تعاني منه، فهذا الجسد أصبح معضلة كبرى تعرض حياتها للخطر والأذى والاستغلال المطرد.
فمأزق الجسد الأنثوي يقع بين ثنائية متضادة: الأولى: تعود إلى استغلال الجسد وانتهاك حرماته، حيث يطمع الرجل في جسد المرأة ويحاول توظيفه لإمتاع نفسه عبر التحرش أو الاغتصاب أو إخضاعه للرأسمالية التي تسعى لاستغلال الجسد الأنثوي في المنظومة الرأسمالية التي تسعى للتربح من خلال هذا الجسد، عبر شبكات الدعارة وتجارة الرقيق الأبيض. والثاني: هي محاولة الحفاظ على هذا الجسد من الانتهاك، وقهره حتى يحمي المجتمع الذكوري: عرضه أو شرفه منذ ربطه عن قصد ثقافي بين المرأة وشرف الرجل ، فتعرضت المرأة عبر هذه الثنائية إلى الاعتداء اللاإنساني الذي دفعها إلى كراهية هذا الجسد الذي ميزها الله به، وهذا الانتهاك بالسلب أو الإيجاب هو الذي دعا النسوية الراديكالية إلى المغالاة في دعوات التحرر والاحتفاء بالذات؛ حتى بلغ ذروته عندما دعت تلك النسوية إلى الاستغناء التام عن الرجل، والاكتفاء النسوي؛ فتصير المرأة ثنائية خاصة مرتبطة بذاتها، تحقق له كل ما يريد وكل ما يحميه من اعتداء وانتهاك واستغلال؛ لذلك سعى الخطاب النسوي في زرايب العبيد إلى تعرية المجتمع الذكوري وفضح ممارساته تجاه الأنثى، بهدف خلق رؤية نسوية جديدة، تناهض الانتهاك الذكوري لجسدها، وتفكيك البنية الأبوية المتغلغلة في المجتمع؛ لكنَّها لم تذهب مذهب النسوية الراديكالية، إنما تبنت الرؤية الليبرالية القائمة على استعادة الحقوق الإنسانية والاجتماعية والقانونية للمرأة رابطة بينها وبين نسوية الملونات، من خلال كشف ممارسات الذكور المنتهكة لحقوق المرأة الجسدية.
(1)
التحرش الجنسي
من شدة ما عانت المرأة من محاولات المجتمع الذكوري انتهاك جسدها؛ تملَّكها هاجس الخوف والقلق من الرجل، وتجسَّد الخوف في العضو الذكوري، فالرجل في كل محاولاته لانتهاك الجسد الأنثوي يكون مدفوعًا برغبته في إشباع ” قضيبه ” الذي يعلن عن نفسه أمام كل أنثى؛ لذلك فالطفلة ” عتيقة ” يطاردها شبح ” قضيب ” امجاور الرجل الكبير، الذي صدمها مرتين، مرة بألته الغريبة التي كشف عنها لهذه الطفلة، والمرة الثانية عندما كسر احترامها وطمأنينتها للرجل الكبير. ” لسبع مرات طاردني وجه ” امجاور ” وفي المرة الخامسة والسادسة والسابعة لاحقني بشدة حيوانه الأسود المنتفخ، كما أرانيه عند بئر الماء ذات قيلولة حارة في الزريريعية. قفزت من فوق الصندوق خوفًا من وجهه مثلما قفزت من انتفاخه المتدلي تلك القيلولة([54]) إن الطفلة في تلك اللحظات المهمة في حياتها وقت إقفالها حفظًا لعرضها، تستحضر صورة ” امجاور ” الرجل الذي تباهى ” بقضيبه ” معلنًا عن رغبته في انتهاك جسدها وطفولتها، إنها تستحضر صورته لتسعى جاهدة في الخلاص منه، ومن حيوانه المتدلي، الساعي لافتراسها، انتهاكها وانتهاك جسدها، إننا امام مأزق الأنثى المتمثل في جسدها، الذي يتهافت عليه الرجال، وصورة الآلة الذكورية التي لا تحترم قدسية هذا الجسد، وتسعى لانتهاكه، لذا وصفته الطفلة أو تصورته في صورة حيوان أسود، فقد كل قيمة إنسانية، وحكمة وقدسية، وسعى فقط خلف تحقيق ذاته عبر هدر جسد المرأة وكرامتها.
لا يكتفي ” امجاور ” الرجل في صدم المرأة / الطفلة عتيقة بآلته الحيوانية، إنما صدمها بالتحرش الصريح بها، وهو في سن أبيها ” فيما يتماوج ” امجاور ” أمامي كأمواج بحر الزرايب، وفي داخلي ينطبع سواده العارم الذي نسف طفولتي، وصدم اعتقادي بأن الرجال الكبار لا يرغبون في الطفلات ممن في عمر بناتهم، إلا أن امجاور رغب فيّ وأنا في عمر صغرى بناته ولمس مؤخرتي([55]). إن شخصية عتيقة بطلة الرواية تبدو أكثر شخصيات الرواية النسوية تعقيدًا أو تركيبًا نفسيًا، نظرًا لما تعرضت له في حياتها، لكنَّها رغم هذا التركيب والتعقيد بدت أكثر قوةً وإصرارًا على تحدي المجتمع الذكوري الساعي إلى هدر كرامتها مرتين مرة بوصفها جسدًا أنثويًا، ومرة بوصفها سوداء، تبدو عبر منظومة النسق الثقافي الذكوري جسدًا مستباحًا لا حامي له، لكنَّها في كل مرة تتعرض لمحاولات التحرش وامتهان الجسد تأبى السقوط، وتواصل الرفض والاحتماء بالذات، وتوظف الظروف المحيطة للهرب بجسدها دون امتهان.
” وتشبثتُ برداء عمتي عند نزولنا، كيلا يكون أمام ” امجاور” فرصة لقرصي في أي جزء يطاله مني. كنت حريصة على منعه والهروب سريعًا بجسدي. كانت عيناى تركزان على حركة يديه عندما دخلنا([56]) ذكر فرويد أن المرأة تعاني نفسيًا من فكرة الإخصاء، وعدم امتلاكها ” لقضيب ” شبيه بعضو الرجل، فيما يعرف “بحد القضيب ” وعقدة الإخصاء([57]) لكنَّ رأي فرويد ونظريَّته تلك تبدو غير دقيقة إذا ما خضعت للنقاش الفكري المبني على الملاحظة والتحليل الاجتماعي للممارسات الذكورية الجنسية المرتبطة ” بالقضيب ” ، فالملاحظ أن الذكر ومنذ طفولته يستفزَّه ” قضيبه ” ويأخذ في التطلع إليه ولمسه، ثم ينتقل إلى مرحلة التباهي بوجوده، تباهيًا مرضيًا، ، حتى يصير ” قضيبه ” عقدة له، أو فلنقل نكبته الكبرى في الحياة، فالرجل يسعى دومًا إلى إشباع هذه الآلة، والتباهي بها حتى عدَّ المجتمع الذكوري ” القضيب ” رمزًا للرجولة أو هو الرجولة الحقيقية، وأن أي رجل يصيبه العجز الجنسي أو يفقد تلك الآلة، لا يصير رجلًا، ومن ثم سعى المجتمع الرجولي الذكوري لحمايته، وإسدال الستار عليه، عبر ممارسات المجتمع الأبوي مع المرأة خاصة تلك المرتبطة بلية الزفاف.
إن السلوك الذكوري يؤكد أن المرأة لا تعاني من عقدة مركبة أو عقدة وجود تلك الآلة التي تحركه دومًا لإشباعها على حساب كل القيم الإنسانية أو عقد الإخصاء والعجز الجنسي الذي يفقد الرجل بها كل مقومات الرجولة، من وجهة نظر المجتمع، ” التصقت بعمتي فعضَّ ” امجاور ” شفتيه ودلني بيده الأخرى. أجل كان يفعل ذلك لى عندما تأكَّد أن ليس ثمة سوى المرأتين اللتين تذهب إحداهما بالأخرى ولا تريانه، ولم يكن هو الوحيد الذي يفعل ذلك إذ يبدو أنها سنة مؤكَّدة في الخفاء لدى الرجال هنا، الكل يفعلها في صورته الحقيقية ويشتم فاعلها في العلن([58])
إن الخطاب النسوي يبرز الفصام النفسي الذي يعاني منه المجتمع الذكوري المتحلِّي بالفضيلة في العلن، الساعي خلف الرذيلة وكسر القيم في الخفاء، مؤكَّدًا عقدة الرجل المزمنة، وخوفه الدائم من العجز والخصاء الذي دفعه إلى الإلحاح في تجسيد آلته وإظهارها لجميع الإناث.
(2)
الانتهاك الجسدي للأنثى الملونة
تتبنى نجوى بن شتوان الفكر النسوي الملون، تعرض وتناقش عبر السرد الروائي قضية انتهاك الجسد الأنثوي عامة والملون/ الأسود خاصة، هذا الجسد الذى يعده البعض بلا حقوق؛ لأنه لا ينتمى لعالم الأحرار أو للبشرة الفوقية البيضاء، فالرواية تتبنى ذلك الاتجاه الذى برز حديثا وتبنته (عدد من النسويات الملونات في الولايات المتحدة الأمريكية والنسويات من العالم الثالث المتطور مابعد البنيوي المقر بحق الاعتراف بالمختلف دون حاجة إلى إقصائه أو مواراته أو إبراز الجوانب الأكثر قبولا على غيرها عملا بمعايير ثقافية ومجتمعية إقصائية مجحفة ولكنها ركزت في تعاطيها مع هذه القضية على المختلف ثقافيا([59]) يسعى الخطاب الروائي إلى هدم التصورات الدينية الخاطئة، البنى الثقافية والاجتماعية المهيمنة التي تعمل لصالح الطبقات المجتمعية الاستعلائية، فالكاتبة تسعى إلى معالجة القضايا المجتمعية الشائكة ،وتربط ربطا ثقافيًا واجتماعيًا واضحًا بين جسد المرأة الملون والأبيض يكشف عن حجم الإقصاء والامتهان العظيم لجسد الإناث الملونات، فإذا كان المجتمع الذكوري ينتهك جسد المرأة البيضاء/الحرة فإنه لا يقر بأي حق لأى جسد ملون، فهن من وجهة النظر الذكورية الاستعلائية والتصورات الاجتماعية الخاطئة جسد مستباح لا حق له في الحماية، فهذا الجسد -كما تكشف الرواية- يصير ملكًا للجميع دون أدنى اعتبار لصاحبته، مشاعرها، حالتها، حقها في القبول أو الرفض، بل إن البعض يتمادى ويعلن أن الجسد الملون الآبق يجب أن يعاقب إن رفض نزوات الرجل الأبيض الذى يملك حق التصرف فيه.
تؤكد الرواية أن الاغتصاب يعود إلى “سلطة الرجل فقد رأت دايانا جونسون أنه لا يوجد تفسير كاف لأسباب الاغتصاب، فهو موجود بوجود المرأة منذ الأزمان الأولى وأنه كان متصلا بالسياسات العسكرية وبأفكار الملكية والاستحواذ”([60]) “أتمثل قوتها وصبرها رغم أنها مازالت تحمل آثار عبوديتها، من يدرى ربما تكون فقدت عذريتها كأي طفلة سوداء بشكل وحشى([61]) يشير الخطاب الروائي إلى حالة الإناث المستعبدات اللاتي تعرضن منذ طفولتهن إلى الاغتصاب الممنهج مجتمعيًا، فمن وجهة النظر الذكورية الاستعلائية أن هؤلاء النسوة حقٌ جسدي مباح لابد من التمتع به، وكأنهن ملك يمين، يفتقدن لأبسط الحقوق الإنسانية. وتتمادى النظرة الذكورية فلا تعير أي احترام لبراءة الطفولة، فيغتصبون وبشكل وحشى أية طفلة سوداء لمجرد أنها سوداء لا حامى لها ولا مدافع عنها “وبيعت في الكفرة أو وادى فزان واغتصبت كملك يمين من مختطفيها الأوائل مكافأة لهم([62]) هكذا كانت تحيا الطفلة السوداء في ظل مجتمع لا يوفر لها أية حماية إنسانية.
عندما يستهين المجتمع الذكوري بالنساء الملونات وأطفالهن، فيتجرأ الجميع على أجسادهن حتى رجال بنى جنسهن من أصحاب البشرة السوداء، فيقسو الرجل الأسود بفكره الذكوري على الأنثى السوداء ويتماهى مع سادته البيض ويمارس لا إنسانيته مع بنات جنسه “التاجر الأسود القبيح الذى وطئ الطفلة ذات الخمس سنوات في الصحراء”([63]) لم ترحم الذكورية جسد الطفلة ولا براءتها ولا مرضها واستمر في اغتصابها “كانت مريضة وقد أسهلت يوما كاملا دهن لها بطنها بزيت الزيتون وطرحها على التراب وعاد إلى وحشيته القديمة صرخت ودفعته عنها فلم يسمع لرطانتها وغلبها حتى أحست بذلك الشيء الثقيل الذى يخبئه أسفل عباءته”([64]) سعى الرجل الأسود إلى إشباع آلته الذكورية التي تثور فلا ترحم أية أنثى؛ حتى يشبع رغبته منها ولا يفرق في ثورته بين طفلة وامرأة مريضة أو سليمة، فهو لا يهدأ من ثورته؛ حتى يروى ظمأه ساحقا الكرامة الإنسانية وحقوق الانسان، يكشف الخطاب الروائي مدى تجبر المجتمع الأبوي وتماهيه مع الظالم حتى أنه يمارس ظلمه واستقواءه على بنات جنسه من المغلوبات على أمرهن مثله تماما ،لكن الذكور لا ينشغلون بهذه الأمور أمام رغباتهم المتوحشة.
إن المجتمع الذكوري “بمروياته الشعبية وحكايات الكتاب المقدس والثوابت القانونية والنظريات النفسية كلها تشكل ترسانة تحمى مؤسسة الاغتصاب كما أن الاعتقاد الذكوري بأن النساء يردن أن يغتصبن أو أنهن يستحقّن الاغتصاب نتيجة الخروج على العادات والتقاليد([65] ) والهيمنة البطريركية، لذلك فالمرأة السوداء التي تحاول النجاة بنفسها من واقعها المرير لابد أن تعاقب بالاغتصاب؛ لأنها تجرأت وطلبت أو سعت في تحسين حالها “هربت من مواخير فزان التي سمعت أن العبودية فيها أرحم من سواها، فمرت بمائة حالة اغتصاب في الطريق”([66] ) أصبح جسد المرأة الملونة متاحًا للجميع، وحقًا ذكوريًا، لابد أن يستغله الرجل وقتما شاء، وتبقى المرأة مستحقة هذا طالما حاولت التمرد على واقعها المرير أو سعت لنيل بعض حقوقها.
تسعى النسوية الروائية للدفاع عن المرأة، وإبراز حقها في الحياة، وكشف عورات المجتمع البطريركي وتجبره، وانتهاكه لجسد المرأة، حرة كانت أم أمة بيضاء أم سوداء، لكنَّ الرواية ركزت على الملونة التي هضم حقها تماما وصارت فاقدة الإنسانية محرومة الحقوق مستباحة الجسد.
تسليع الجسد
” يتضمن تحليل بورديو للجسد اختبارا للسبل المتعددة التيتم من خلالها تسليع الجسد في المجتمعات الحديثة. لا يشير هذا فحسب إلى إقحام الجسد في عملية بيع فوق قوة العمل وشرائها، بل يشير أيضا إلى الطرق التي أصبح بها الجسد شكلًا أكثر شمولية للرأسمالي المادي، مالكًا للقوة والمكانة والأشكال الرمزية المميزة المكملة لتراكم المصادر المختلفة، يقصد بإنتاج الرأسمالي المادي تطور الأجساد بسبل تعتبرها تحوز قيمة في المجالات الاجتماعية في حين يشير تحويل الرأسمال المادي إلى ترجمة المساهمة الجسدية في العمل([67]) في المجتمعات الحديثة ومن قبلها القديمة لعب الجسد دورًا مهمًا في عمليات الإنتاج والتربح، فصارت الأجساد سلعة مهمة، ومع هذا التربح تمت عملية تسليع الجسد، من هنا بدأت فكرة استعباد أصحاب البشرة السوداء؛ لأنهم أصحاب بني جسدية قوية قادرة على العمل والإنتاج والإسهام في البناء الحضاري المادي، وتم الترويج لهذه الفكرة الرأسمالية القديمة، وتم تطويرها لدمج الجسد الأنثوي في المعادلة الرأسمالية، وبما أنه لا يقوى على الممارسة المادية لعمليات البناء والإنتاج والتربح، يجري تسليعه بطريقة أخرى أصبحت مع مرور الوقت عملية رأسمالية غاية في النجاح وتحقيق الربح السريع ، حتى توارت فكرة تسليع الجسد الذكوري المستعبد أمام عملية التسليع الأنجع لجسد الأنثى، الذي لم يتطلب هذا الجهد الكبير إذا ما قورن بتسليع جسد العبد الأسود.
إن عملية تسليع الجسد الأنثوي يناقشها الخطاب الروائي النسوي في رواية زرايب العبيد حيث يبرز كيف صار جسد الأنثى عامة والملونة خاصة سلعة رائجة، وجرى الترويج له حتى يحقق أهدافه، عبر التميز الجسدي للأنثى السوداء، إذا ما قورنت بنظيرتها البيضاء ” كان يغتسل ويشم نفسه؛ ليتأكد من ذهابها، مسترجعًا ما أخبره به الصديق عن النساء السوداوات وحلاوة مضاجعتهن([68]) يرصد الخطاب النسوي عملية الترويج لجسد السوداء وقيمته الجنسية، التي تفوق غيرها من النساء الأخريات، إن هذه العملية الترويجية لا تهتم في حقيقة الأمر بقيمة الجسد الأنثوي الأسود، بقدر ما تهتم بعملية تسليعه وإعداده للبيع والشراء بوصفه تجارة كبقية التجارة، يحتاج للترويج والدعاية والربح الذي لا يقبل معه الخسارة.
” اووه يا ابن العم، ماذا أخبرك عن تلك الروح الحارة، عندما تكون في حضن امرأة سوداء، أي نشوة كالسكر تأتيك معهن، فلا تتمنى أن تبارحهن، أو يبارحنك([69]) إن الآلة الدعائية لتسليع الجسد الأنثوي الأسود تخاطب الغرائز الذكورية كافة، سُكر، متعة ساحرة، ولتتم عملية الدعاية وإنتاج عملية التسليع يشير إلى رواج هذا الجسد / السلعة بين كل أفراد الأسرة من الذكور ” ليتك تتجاسر وتجرِّب ما جرَّبناه أنا والمهدي والشارف وحمزة. لقد صدَّقوني؛ فتبعوني فلم يندموا([70]).تحوّل الجسد الأنثوي الملون إلى سلعة يوظفها الرجال لخدمة مصالحهم المادية: متعة أو ربح مالي ” فصاروا يأتونها، فامتهنت، بمرور الوقت تسلية الرجال، حفظًا للبقاء، ثم صارت تلك مهنتها([71]) تمت عملية التسليع بدقة وحرفية رأسمالية؛ فصار مغنمًا كبيرًا متعددًا، فمرة جسدًا يباع للمتعة، ومرة يستخدم في أعمال السرقة والاحتيال، ومرة في أعمال المنزل، ومرة للمتعة الخاصة، وكلها حيل رأسمالية لا تقيم وزنًا للقيم الإنسانية أو الفطرة أو الأديان السماوية أو الأخلاق، فالفقي الشيخ الذي يقصده الناس للفتوى والسؤال فيما يتعلق بأمور الدين يمارس بمنطقه الذكوري الرأسمالي عملية تسليع الجسد الأنثوي ” ظلَّت تعويضة محتجزة في بيت من بيوت بنات باب الله، عند سيدة تأتمر بأوامر الفقي … قال لها احتفظي بها كأمانة ولا تستعمليها([72]) أرادها سلعة له فقط، لذلك فعلي السيدة أن تحتفظ بها ولا تستعملها، كي تبقى له وحده، لكنَّ النظرة تغيَّرت عندما تغيَّر الحال وضاقت، فبدأت السيدة تستعمل ” تعويضة” لأن الفقي لم يستمر في إرسال نفقتها كما كانت، وكان يعلم الفقي / الرجل أن السيدة ستستعمل جاريته لكنَّه تجاهل الأمر/ طالما لا يتكلف نفقاتها، ويستطيع التمتع بها في أي وقت، وذكر الخطاب لفظة ” تستعملها ” للتأكيد على عملية التسليع الجسدي للمرأة السوداء.
” أحب النساء الجامحات الرافضات، خذي ما معي الآن وسأزيدك غدًا … قالت المرأة وهي تعد النقود: هذا قليل جدًا، ألا ترى كم هي شابة يافعة وجميلة، كلا كلا لا أستطيع: لماذا؟ سيعاقبني سيدها، قال لها سأزيدك أقسم لك غدًا عندما أبيع الحطب([73]) تمت عملية تسليع جسد ” تعويضة ” وراجت تلك العملية، وغلا ثمنها، وأصبح الجسد الإنساني بلا كرامة، ويوازي الحطب الذي سيبيعه التاجر الراغب فيها، فالخطاب يؤكد عملية التسليع وهدر الكرامة بالربط بين جسد الأنثى وتجارة الحطب، فكلاهما صار تجارة قائمة على البيع والشراء، الربح والخسارة، لكنَّ جسد الأنثى لا يقبل الخسارة في مفهوم الرأسمالية.
فالذي وضع ” تعويضة ” في أحد بيوت البغاء هو الفقي، الذي يؤم الصلاة ويفتي الناس في أمور دينهم، لكنَّه عبر منظومة المجتمع البطريركي يستبيح كل شيء طالما أنه يحقق له ما يريد ويحمي تقاليد ذلك المجتمع، فمن وجهة نظره تعويضة الجارية السوداء ملك يمين وبيده أن يستعملها ” كما ذكرت الرواية ” كما يشاء.
إننا أمام مجتمع بطريريكي منفصم نفسيًا، يدعي أن هدفه حماية القيم الإنسانية والدينية، والأخلاقية، وإقامة العدل وتحقيق المساواة، لكنَّ الحقيقة إنه يسعى لتحقيق مصلحة المجتمع الذكوري والرأسمالي ضاربًا بكل القيم عرض الحائط طالما أنها تقف حجرة عثرة في طريق تحقيق مصالحه العليا، عبر تسليع كل شيء، حتى ما ليس بسلعة وله قدسية إنسانية وحرمة دينية، فلا يعارض ذلك المجتمع تسليع جسد الأنثى، إنما يكتفي بإغماض عينه مدعيًا عدم العلم بالأمر. يجاهر بالرفض لكل الممارسات اللاأخلاقية وفي الخفاء وتحت ذرائع متعددة يمارسها” نحن لمتعتهم فقط إذا انتهت واحدة جاءت أخريات، انظري حولك هل سمعت من قبل غير ذلك ، الكل يتسرى بالسوداوات من فقير الشارع إلى التاجر إلى فقيه الخلوة. لا أحد يكترث لروح عبد وقلبه. لا أحد([74])
الحق في الإنجاب
(1)
حرية المرأة ومفهوم الأمومة
” إن تحرر المرأة يتطلب ثورة بيولوجية في مقابل الثورة الاقتصادية التي قدمتها الماركسية لإنهاء اضطهاد العمال، ويمكن للتكنولوجيا أن تجعل هذه الثورة ممكنة([75]) إن النسوية الراديكالية والليبرالية والاشتراكية والملونات، كل تلك النسويات اتفقت على أنه يجب أن تقوم المرأة بثورة ترد لها حقها المسلوب، واختلفت تلك المدارس فيما بينها حول حجم الثورة مع اتفاقها بضرورتها، وهناك النسوية الردايكالية التي تسعى لهدم ثقافة المجتمع وإعادة بنائها وفق متطلبات المرأة ورغبتها في استعادة ذاتها، وتسعى هذه النسوية إلي توظيف التكنولوجيا لتحقيق ما تريده ” لأن التغيرات التكنولوجيا والترتيبات القانونية، مثل الأمومة بالعقد، جعلت من الممكن للمرأة التي أنجبت أن تكون غير المرأة التي حملت والمرأة التي حملت غير المرأة التي ربت([76])
تعرض الرواية وتناقش داخل النص الروائي وعبر مجتمع النص رؤيتها وما تقبله وما ترفضه من الأفكار النسوية المتنوعة، فالخطاب الروائي يؤكد على أن النسوية بمختلف مشاربها لن تغير الثقافة المجتمعية للمؤلفة إلا إذا كانت تتفق والعقل والمنطق والفطرة السليمة، فكل منظومة تقهر المرأة يسعى الخطاب الروائي لمناقشته وهدمه، وإعادة تشكيله من جديد، لذلك جاءت فكرة الأمومة واضحة في الرواية، فالرواية تناقش ما استقر من عادات المجتمع وتقاليده وتضر بفكرة الامومة، و تؤثر سلبًا على الأبناء، فالمجتمع الذكوري يرفض الاعتراف بالأبناء غير الشرعيين ويهدد حياة الأم، التي تقع في تلك الخطيئة، ولا يحاول مطلقًا الإصلاح، أو نسب الأبناء إلى أبائهم وأمهاتهم، لذلك فإن الأم تلجأ لفكرة الخلاص من الطفل سواء قبل ميلاده عبر الإجهاض، أو فكرة إلقائه أمام أبواب المساجد أو الكنائس أو الملاجئ أو تركه فريسة للحيوانات دون أدنى مشاعر إنسانية، إن المجتمع الذكوري الذي أباح للذكور حرية الفعل دون أي عقاب هو الذي أباح لهم العبث بأقدار النساء دون تحمل للمسئولية.
” أقنعت صاحبة الدار بأن موت الطفل في القمامة سيلفت الانتباه لمن يقمن بالإجهاض السري وقد يوسوس أحدهم للدرك بأن الفعل لا يجسر على القيام به إلا بيوت باب الله([77]) ة تعكس الرواية الخلل الواضح داخل البناء المجتمعي، الذي ساده الظلم الذكوري، والاستغلال، فكل أبناء السفاح نتيجة لاستغلال الرجل لجسد الأنثى دون تحمل للمسئولية، بل إنه يهرب تاركًا العار للأنثى ولأهلها، والمصير المجهول للطفل، ” كان اللقطاء يملؤون الشوارع([78])فرض الاستغلال الجسدي للأنثى ظهور ما يعرف بالكفالة الاجتماعية، او التبني أو الرعاية الاجتماعية فهؤلاء الأطفال أبناء الظلم الاجتماعي يصدِّرهم المجتمع للمجهول، وقد تساعد الأقدار هذا الطفل بمن يتكفله كما فعلت تعويضة مع مفتاح ” اهتز قلب تعويضة وتذكرت صغيرها … ثم عادت إلى الجامع جريًا بأزيز رئتيها المتعبتين وبخطوات تسابق المصلين … نهبت الطفل من العتبة واختفت كما ظهرت في جهة أخرى([79]) قررت تعويضة رعاية الطفل بوصفه بديلًا عن ابنها الذي قُتل أمامها، قررت أن تصحح أخطاء المجتمع الذكوري ولا تترك طفلًا يتحمل الظلم دون ذنب، ويتحول إلى طفل شارع يمارس كل الموبقات ويهدد السلم المجتمعي؛ لينتقم من ذلك المجتمع الذي فرض عليه حياته القاسية.
إن الخطاب الروائي من خلال السرد ومجتمع النص يناقش قضية الأمومة ومفهومها وهل الطفل يحتاج إلى أمومة ” بيولوجية” لا اجتماعية؟ أم يحتاج للأمومتين البيولوجية والاجتماعية معًا؟ أم أحدهما تغني عن الأخرى؟ إن الخطاب يؤكد أن مفهوم الأمومة بيولوجي واجتماعي، فالأمومة الحقيقية تكمن في العلاقة الإنسانية الحميمية التي يحتاجها الطفل ممن يرعاه، فالأم الحقة هي الأم التي ترعى وتحافظ وتربي، وتنشئ علاقة حميمية مع الطفل، تدفعه للمجتمع بوصفه إنسانًا صالحًا، وهذا ما مارسته تعويضة مع ” مفتاح ” طفل الخطيئة، فلقد تعهدته بالرعاية والحماية، فشعر بمعنى الأمومة الحقيقية، كما شعرت هي أيضا، ولم تفكِّر لحظة إنه ليس بابنها؛ لأنها نجحت في إقامة تلك العلاقة الحميمية بينها وبين الطفل. تتسق الرواية مع الرؤية النسوية القائلة، بأن الأمومة اجتماعية قبل أن تكون بيولوجية أو بمعنى آخر ” فاعلية الأم بالتبني لا تقل عن الأم الطبيعية([80]) البيولوجية.
كذلك تؤكد الرؤية النسوية للرواية طبيعة أن العلاقة الحميمية بين الأم والابن هي التي تخلق مفهوم الأمومة الحقة، فمفتاح لم يشعر بأمه الطبيعية البيولوجية، ولم تتحرك مشاعره تجاهها، وظل أسير أمه الاجتماعية، ” لم يكن مفتاح راغبًا في الذهاب مع السيدة، لكنَّه لم يتكلم ولم يعترض، كانت عيناه تنطقان فيما عمتي صبريه تقنعه، كأنه مثَّل أمامها أنه اقتنع إرضاء لها فقط، لكنَّه في حقيقة الأمر لم يحمل لتلك الخطوة سوى الرفض([81]) يعكس هذا حقيقة العلاقة بين مفتاح وتعويضة في اختياره وشعوره، تجاه أمه، أمه التي ربَّته، كذلك تألمت أمه بالرعاية، أمه الاجتماعية لفقده، كأم حقيقية تجاه ابنها الحقيقي الذي سيغيب عنها، ” وأشعر من صوتها أنها تريد أن تبكيه ولكن ليس أمامي([82]) واستمرت المشاعر الإنسانية وليدة التعايش الإنساني الاجتماعي، بين الأم الاجتماعية والابن الاجتماعي، ” هرب مفتاح مرات عديدة وجاءنا … أنه يحب حياته معنا في الزرايب أكثر([83]).
يتجاوز النص الروائي فكرة الأم الواحدة، متقبلًا فكرة تعدد الأمهات النسوية، ويؤكدها، ويؤكد وجودها وينتصر لها ” صارت لي أمهات جدد، أحببتهن وتعلَّمت منهن وارتبطت بهن بعد وفاة عمتي صبريه([84])
(2)
مصير المرأة ليس بيدها
تستمر الرواية في مناقشتها للنسوية، عبر مناقشة قضايا مجتمع النص الروائي، وما يمارسه المجتمع الأبوي ضد النساء، بصفة عامة والملونات خاصة، فالمجتمع الأبوي ينصِّب من نفسه سلطة مهيمنة تفرض على النساء ما تريد، بل وأعطى نفسه الحق في تنفيذ ما يريده دون معرفة أصحاب الشأن من النساء في مجتمع النص.
كان الإجهاض من الممارسات التي تفرضها العادات والتقاليد على المرأة التي تُستغل جنسيًا رغبة في حماية نفسها ” حتى أنها شاركت ذات صباح أحد أيام الشتاء والجوع في توليد شابة بيضاء حملت سفاحًا من قريبها([85]) إنها الرغبة في حماية النفس من تسلط المجتمع الذي سهَّل للذكور استغلال أجساد النساء دون عقاب، وأوقع العقاب بالضحية؛ فاستهان الرجال بأجساد قريبتهن ” حملت سفاحًا من قريبها” فلم يراع الرجال أي حرمة ولا قدسية ولا عرف فيما يفعلون، طالما أنهم ناجون من العقوبة.
كان إجهاض الحرَّة اختياريًا رغم كونه مفروضًا عليها من قبل المجتمع، لكنَّه يبقى بعلمها واختيارها الإجباري، لكنَّ الملونات يتم التعامل معهن بطرق مختلفة وأساليب تمتهن كرامتهن الإنسانية، فالمجتمع الأبوي الذي فرض على الملونة أن تبقى جارية وملك يمين يتسرى بها الأحرار أينما ووقتما شاءوا، هو الذي، يختار مصيرها، ومصير ما في رحمها من السادة الأحرار.
فالمجتمع الأبوي هيأ لنفسه سبل الاستمتاع بالجارية، لكنه حرمها من أن يكون لها ابن من سيدها، فهي مجرد أداة للمتعة فقط، لا حقوق لها، لذلك لو جاء القدر بحمل أو إنجاب فلابد من أن يفرض عليها الإجهاض أو استعباد الطفل مثل أمه. فالدوافع الاقتصادية كانت تفرض إنجاب الأمة من سيدها، ليكون الابن عبدًا يوفِّر لأسرته الحرة حاجتهم من العبيد دون تكلفة مالية، فالأمة وأبناؤها يصبحون سلعة اقتصادية وتجارة رابحة في حال إنجابها من سيد أو عبد.
” مر يا عمتي، وطعمه لاذع، اشربي ، اشربي لن يحدث لك شيء، سيقويك وينشطك حتى في الفراش، ويجعل رائحة عرقك طيبة … وحتى لا تشك الخادمة الصغيرة في المحلول الذي تتجرعه وفي نية السيدة رفعت الجالسات كؤوسهن وشربن قبلها([86]) لا حق للأمة في الاختيار، الكل يتآمر عليها بهدف حماية سلطة المجتمع وتقاليده الراسخة ” وفي الليلة نفسها أعدت اللالاعويشنة بنفسها خلطة الأعشاب التي جاءت بها صديقتها مناني، سيقسمان الشراب بعد تمامه، فمناني هي الأخرى لديها خادمتان تريد إجهاضهما واحدة سرية لزوجها، وأخرى لابنها([87]) ولا بأس من تكرار الجرعة كلما تكرر الحمل فالغاية الذكورية تبرر الممارسة مهما كانت لا إنسانية أو ضد الشرع والدين والفطرة، فالمجتمع الأبوي بتسلطه يوظف كل شيء لخدمة مصالحه الاجتماعية والاقتصادية ولا يقف الدين أو العقل عائقًا لتطلعاته الرأسمالية الاجتماعية.
كان الخوف الحقيقي من إنجاب الأمة أيضًا خوفًا اقتصاديًا رأسماليًا، فالأم الحرة تخاف من أن تلد الأمة ابنًا يشارك ابنها في ميراثه، طالما أنها لن تستطيع منع الزوج من الاعتراف به، ولن تستطيع دفعه لاستعباده ” قررت نساؤهم إجهاضهن لئلا يلدن شركاء شرعيين لأبنائهم الكل يحارب لصالح نفسه، الأنانية البشرية في أقذع حالاتها([88]).
الأندروجينيَّة واضطراب الهوية
يشير ” كوكويبلي ولاكي Kokopeli and Lakey Ygn إلى أن كل من الجنسانية الذكورية والأبوية بوصفهما نظامين متكاملين يدعمان ويكرسان استغلال النساء في المجتمعات البشرية، فالجنسانية الذكورية تدعم الممارسات الجنسية بين الذكور والنساء Heterosexuality بشكل رئيس على حساب المثلية الجنسية Homosexuality كما أن الأبوية تمثل بنية عريضة وممأسة من هيمنة الرجال على النساء، عبر الفرص والمكافآت وأشكال العقاب غير المتساوية المستندة إلى اختلافات الدور الجنسية([89]) لذلك سعت الراديكالية إلى هدم هذه الأدوار الجنسانية وبناء نظام مؤسس على المساواة بل تجاوزت حد المساواة، وارتأت أن المساواة بين الرجل والمرأة تضمن للرجل الهيمنة والسيطرة ” لذلك سعت للهدم البناء المجتمعي ككل وبناء مجتمع جديد منظم على قيم جديدة، أهمها فكرة الاكتفاء الذاتي جنسيًا؛ وذلك للاعتقاد بأن القمع الجنسي هو أكثر السمات تجذرًا في المجتمع أن كلا من أشكال القهر الأخرى الاستغلال الطبقي والكراهية العنصرية وما إلى ذلك مجرد أشكال ثانوية([90]) تساعد على تماهي المرأة في الرجل، واستمرار خضوعها له، وهذا الخضوع غير مبرر نظرًا لإيمانها ” أن الاختلافاتالجنسية محددة نسبيًا، ولا تفسر أو تبررالاختلافات النوعية، ونتيجة لذلك تعتقد أن الطبيعة الإنسانية أندروجينية، بغض النظر عن الجنس الموروث الجيني للأب أو الأم([91]) لذلك تؤمن النسويات الراديكاليَّات بالثورة ، تلك الثورة التي تضمن عدم تماهي المرأة في الرجل، وممارسة النموذج الأنجع لهن، الذي يضمن كسر الهيمنة الذكورية عامة والجنسية خاصة، فمن وجهة نظرهن أن المثلية الجنسية هي مفتاح التحرر، ” فالنساء غير المثليَّات جنسيًا متماهيات مع الرجال، ولا يستطعن تحقيق طبيعتهن الحقة، وأن يصرن متماهيات مع النساء وقد قاد ذلك إلى نمو السحاقية السياسية([92]) من هنا تبرز النسوية الروائية التي تناهض هذا التوجه، الذي يتعارض مع الفطرة السليمة، ويهدم النظم المجتمعية المستقرة، لا بوصفها نظمًا أبوية قمعية، إنما بوصفها نظمًا إنسانية فطرية تضمن للإنسان تعمير الكون واستمراره، فلو ساد منطق النسوية الراديكاليَّة، لتوقف الكون عن النمو، توقف حتى يتلاشى وينقرض تمامًا، بفعل الممارسات اللاإنسانية، لذلك توضح النسوية الروائية عبر خطابها، أن المرأة لا تستطيع أن تتكيف مع الوضع المثلي المخالف للفطرة، بل تنفر منه حتى لو سقطت فريسة له لبعض الوقت. ” ثم كنائم لدغته عقرب توقفت عن دعك ظهر تعويضة بالليفة وفي حركات متلاحقة خلعت قفطانها وسروالها وحشرت جسدها الضخم معها في الحوض([93]) يبرز النص الظروف المحيطة بالمثلية الجنسية بين امرأتين بنحو يحمل الوجع النفسي ” لتعويضة ” التي تشبه حالة لدغة العقرب للإنسانة فتؤلمه ويفقد وعيه، فالخطاب النسوي الروائي لا يقبل الرؤية الراديكاليَّة، ويبرزها في صورة منفرة، ” اعتصاب أنثى لأنثى ” للتأكيد على أن كسر ناموس الكون يعد اغتصابًا يهدر الكرامة الإنسانية، يؤدي كما يؤدي القهر الأبوي إلى نتائج نفسية خطيرة تتمحور في اضطراب الهوية، وفقدان الإنسان لذاته ” كان استسلام الإنسان لمحنته يمنحه مناعة ضد التأثر بها، ما كانت تبكي تعويضة منه لم يعد يبكيها، وما كانت تستاء منه لم يعد يسيء إليها، وما كان يحزنها لم يعد أكثر من ممارسة يومية([94]) بدت المثلية الجنسية في أبشع صورها، فهي محنة تشبه أو توازي محنة الاستعباد وعلى الإنسان أن يتماهى معها لا حبًا أو رغبة فيها، إنما من أجل مواصلة الحياة، حتى تحين فرصة للخلاص، من تلك المحنة الموجعة، استطاعت تعويضة أن تهرب ، وأن تغادر ذلك المكان الموبوء الذي شهد هدر كرامتها، وجسدها، وكان عليها أن تنسى كل شيء ” أما أمر الشوشانة فلا تقصيه على أحد، ادفنيه كما دفنت ابنك، الأفضل أن تدفنيه بينك وبين نفسك، فلا شيء يأتي من استرجاعه سوى الوجع([95]) هدم النص الروائي شطحات الراديكاليَّة النسوية مؤكدًا أن الفطرة السليمة تأبى تقبل هذا الجرم الذي يعد سقوطًا في قهر جديد لا يقل خطرًا عن القهر المجتمعي للمرأة، لذلك وجب دفنه والخلاص منه حتى تتخلص المرأة من امتهان أنوثتها من أنثى مثلها، وحتى تنجو من العقاب المجتمعي الأبوي لو انكشف هذا الأمر. ” كثير من الجواري كما تعلمين يا تعويضة حصل لهن ذلك وأكثر وعندما نطقن أو تفوهن لم يتقبلهن أحد بل على العكس ازدادت حياتهن صعوبة حتى مع بني جلدتهن متى ينتهك الجسد تنتهك الروح([96])
يلح الخطاب النسوي الروائي على إبراز دور المجتمع الأبوي الظالم في كل ما يحدث للمرأة حتى الممارسات المثليَّة له دور فيها، فظلمه للمرأة عامة والملونة خاصة هو الذي دفع إلى انتهاك جسدها، ذكوريًا وأنثويًا، بل إن المجتمع لا يعالج الأمراض الناجمة عن ممارساته الظالمة، بل يستمر في ظلمه للضحية / الأنثى ويحملها ذنب كل ما يقع عليها من قمع، فالمجتمع الأبوي يفرض على النساء المتماهيات مع الأبوية المجتمعية الانتقام من الأنثى الضحية وتعميق جراحها، وتبقى المرأة في نظره شيطانًا، يسعى لهز دعائم المجتمع وهدمه، لذلك وجب منعها بكل الوسائل حتى لا تتمادى وتحطم الثوابت المجتمعية.
المرأة الجديدة
تهتم النسويات بالأدب بوصفه خبرة ثقافية مؤثرة، متجسدة في مؤسسات قوية، إنهن مهتمات باكتشاف كيف أن الأدب – بوصفه خبرة ثقافية – ليس مجرد أداة تعكس واقع الحياة الفعلية للنساء في نصوص أدبية، فهو مؤثر في إنتاج المعاني والقيم التي تكبل النساء بقيد عدم المساواة([97]) إن الرؤية النسوية للرواية تسعى لتحطيم تلك القيود التي تكبل المرأة وتحاول بناء ذات نسوية جديدة، مختلفة عن تلك الذات المكبلة بالقيود التي صنعتها الثقافة. فبالثقافة تسعى النسويات إلى تحطيم كل القيود المفروضة على المرأة، فالمعركة النسوية تعيد توظيف سلاح القهر؛ ليكون هو ذاته سلاح الانعتاق من القيود التي تضع المرأة في موضع متدنٍ عن الرجل، ” إن عودة المقهورات – المقهورين في ثقافتهم ومجتمعهم تتسم بالقوة المدمرة أو المتفجرة التي تقلب الحياة رأسًا على عقب بقوة مدعومة بالقهر القديم([98]) إن الهدف الأسمى هو خلق نموذج نسوي جديد يعرف بالمرأة الجديدة، تلك المرأة التي خرجت من رحم المعاناة والتهميش والاستعباد؛ لتقود ذاتها لخلق مجتمع جديد، يقبل دورها وطموحها، ويعترف بقوتها ومساواتها بالرجل، بل تفوقها عليه إن هي سعت لذلك وامتلكت أدواته.
فتلك الجارية تعويضة الخادمة استطاعت أن تتعايش مع ذاتها، وتحدد هدفها وأدواتها؛ لتستعيد ذاتها بعد فترات من القهر والغياب والاعتراض النفسي، وتقرر مصيرها، وتبادر. ” لم أعد أشعر إني جارية تُسرِّي سيدها، فأنا الأخرى أتسرَّى به، هذه هي المساواة الإلهية، تمنحني القناعة الكاملة بأنني وهو واحد، في الحب هو عبدي، أكثر مما يبدو العبد العادي([99]) استطاعت الجارية تعويضة أن تتحرر من عبوديتها، وتنطلق من الانفعال والانزواء إلى دائرة الفعل، الفاعلية والمبادرة القائمة على وعي تام بالذات، إن تلك الفاعلية هي التي مكَّنتها من الهروب بنفسها، وبالوليد المظلوم؛ لتبث فيه الحياة والوجود، وتنعتق هي من أسر الموروث الثقافي البغيض، الذي ألقى بها في مأزقها الوجودي ” خادمة / عبدة عند امحمد الكبير – جارية للفقي – رفيقة سحاقية – سلعة جسدية ”
” لا وقت للدموع، لطالما واجهت الكثير من الصفات وأنت الآن إنسان طليق، يجب أن تهربي بحياتك ولا تعودي إلى شيء مما مضى، إنها فرصتك الثمينة الحرية أو اللاحرية لن تخسري بعدها شيئًا([100]) اختارت تعويضة الحرية والميلاد الجديد، اختارت اسمًا جديدًا يعكس الحياة الجديدة والماضية ” صبرية ” لتصبح مخلوقًا جديدًا، استطاعت أن تنتج للمجتمع طفلين بصورة جيدة. خلقت بداخلها امرأة جديدة قادرة على التحدي والهروب بذاتها حيث تختار ووفِّقت إلى حد بعيد، لكنَّ النجاح الأكبر تمثل في نقل تجربتها إلى بنتها عتيقة، التي تحولت إلى نموذج نسوي جديد مبهر، يعبِّر بصدق عن قدرات المرأة الحقة، تلك القدرات التي دفنت سابقًا تحت وهم النوع الضعيف الذي يجب أن يخضع للرجل ويتماهى معه، لا بوصفها ندًا إنما بوصفها تابعة أو عبدة.
غيَّرت عتيقة تلك المفاهيم القديمة وجاءت بصورة جديدة ستصبح لاحقًا نموذجًا يحتذى به ” عتيقة الصبورة الصامتة كأمها كصخرة تتحمل لطم الأمواج المالحة لها منذ زمن بعيد دون أن يفتها الملح([101])
إن الشخصيتين المحوريتين في الرواية هما تعويضة وابنتها عتيقة، تلك الشخصيتان اللتان غيَّرتا الصورة السلبية النمطية عن المرأة عامة والملونة خاصة، واستطاعتا خلق ثقافة جديدة، وتحدي قوي ينتهض الثقافة الذكورية ” ومن ذلك الوقت أصبحت أبتعد عن عالم الزرايب وأدخل عالمي الجديد([102]) عالم صنعته بيدها وبيد والدتها، لكل بنات جنسها، ” عالم أوسع من الأول مرتبط بالإنسانية، ولا دخل له بتصنيف الإنسان إلى لون أو جنس([103]) خلَّفت عتيقة ماضيها الثقافي المؤلم، وراحت تنتج لذاتها من خلال القهر والظلم والموت حياة جديدة، وهي وحيدة بلا أم ولا أب ولا أصل معروف ” ولا قيمة فيه لرابطة الدم هذا هو أهم ما تفتَّحتُ عليه إذ إنني لا أملك أية روابط في مجتمع تتحكم فيه القربى . أملك عقلًا وقلبًا وهو ما يتطلَّبه أن تكون فردًا في العائلة الإنسانية([104]) كسرت القيود المفروضة على المرأة وأصرَّت على الخروج للحياة بمساندة من الرجل الذي اختارته بعقل وقلب زوجًا لها ” كان مختلفًا عمن في جيله، ففي حين تخجل الرجال من حضور المرأة ويعتبرونه عيبًا أصرَّ يوسف أن أخرج وأتعلم وأعمل خلافًا لنساء جيلي إلا القلة منهن([105])
كسرت عتيقة التابو الأول في مجتمعها الأبوي وخرجت للتعلم والمعرفة، وتفوقت على نظرائها من الرجال لا النساء، فهي اختارت هدم مملكة الذكور الظالمة التي لم تقو أية امرأة أو رجل على تحديها حتى أبيها امحمد الصغير ” مات دون أن يجرؤ على تحديها ومجابهتها وانتقلت عتيقة ” المرأة الجديدة” إلى التابو الثاني الذي كان يمنع المرأة من الخروج للعمل العام، والتعامل مع الرجال ” كنت أعمل في المستوصف الإرسالي طيلة الوقت … حياتي عامة ولا متسع فيها لشيء خاص([106]) تحولت حياة المرأة الجديدة إلى النور، بعد أن كان الرجل يواريها خلف الجدران، ولا يسمح لها بالخروج للحياة العامة بوصفها شيئًا محرمًا أو متدنيًا أو شيطانيًا أو مقدسًا، ولو خرج لمارس – من الوجهة الذكورية – أفعال الشياطين عبر الإثارة والإغواء إلى حياة معلومة للجميع، تظهر، تتحرك، تعالج وتترك الأثار الطيبة في النفوس، لم تعد المرأة عورة تستر في البيت هكذا كانت عتيقة ” المرأة الجديدة”.
اختارت عتيقة زوجها عن حب، فبعد أن تحطمت القيود المفروضة عليها واستطاعت أن تتعلم وتعمل، وتصير جزءا من الحياة العامة يراه المجتمع ويحترمها لما تقدمه وتمارسه، قررت تحطيم التابو الثالث المتمثل في تحريم الحب على الأنثى وتحريم اختيار الزوج بوصفها جرأة ووقاحة لا تناسب طبيعتها، ” وفي صبيحة الغد جاء باكرًا إلى مقر إقامتي وأدركت أنه سيصارحني بحبه لاحظ الأخوات التغيرات في علاقتي به، فقالت الأخت ماريا لابد أنه جاء بهذه السرعة في صباح شتوي بارد ليطلب يدك وبالفعل طلبني يوسف للزواج رغم فارق العمر([107]) كانت علاقة معلومة للجميع لم تخجل منها لأنها تمتلك القوة والشجاعة على الفعل والفاعلية المجتمعية، لقد فرضت وجودها ومن ثم حبها لرجل على الجميع، ويبرز الخطاب الروائي كاشفًا عن قوة عتيقة عندما تعبِّر عن الحب بنسبته للمرأة لا للرجل، ” في علاقتي به ” إنها هي التي اختارت وانطلقت إلى دائرة الفاعلية لا رد الفعل والانزواء. تعلن الرواية عن النموذج الجديد للمرأة ” المرأة الجديدة” القوية القادرة على الحياة والنجاح، ومجابهة المجتمع الذكوري، إن الخطاب الروائي يبرز تلك الحرية،لتكون نموذجًا يحتذى به لدى النساء عبر رسمه صور التعاطف المتنوعة مع شخصية عتيقة.
لقد اعتادت عتيقة أن تكون في مركز الاهتمام مما مكَّنها أن تقدِّم خدماتها للجميع، وتنجح كذلك في إدارة منزلها وأولادها، لقد فرضت عتيقة وجودها على المجتمع الذي تقبَّل – على مضض – دورها فيه وهدمها لثوابت المجتمع الأبوي الذكوري، وكشف الخطاب الروائي عن تعاطفه مع تجربتها، فاعترف بها وتجربتها وكافأها بإثبات نسبها ؛ وليعيد بناء ثقافة جديدة موظفًا العمل الروائي الثقافي في هدم ثقافة وبناء ثقافة جديدة.
الخـــاتــمة
عالجت الدراسة القضايا النسوية المتنوعة من خلال دراسة رواية ” زرايب العبيد لنجوى بن شتوان، تلك الرواية التي تهتم بالبحث النسوي الأثنوجرافيا، الذي يعرض لحياة المهمشات من النساء الملونات في مجتمعاتهم البعيدة عن الأنظار، كما عالجت الدراسة تلك القضايا النسوية، وكشفت عن محاولات الخطاب النسوي الروائي لصناعة ثقافة جديدة، تحيا فيها المرأة دون خوف أو قلق من الاضطهاد والاستغلال والتحرش، تستطيع الاعتماد على ذاتها في مساواة تامة بينها وبين الرجل.
كما عرضتالدراسة للأمراض المجتمعية التي نتجت عن قهر النساء، وهيمنة المجتمع الذكوري بمنظومته القهرية على الجميع، التي لم تختلف كثيًرا بين زمن الرواية والواقع الآني للمرأة العربية. ومن أهم النتائج التي توصلت إليها الدراسة:
- تعد رواية ” زرايب العبيد ” منتجًا ثقافيًا إنثوجرافيًا.
- كشفت الدراسة عن تبني الرواية الجديدة للرؤى الفلسفية والنفسية في مناهضة الثقافة الذكورية والبطريركية المجتمعية.
- لفتت الرواية الأنظار إلى قضايا المرأة الليبية، والمعاناة التي تحياها في ظل سيطرة القبلية المجتمعية
- كشفت الدراسة عن حالة الاغتراب النفسي والاجتماعي والسياسي التي تعيشها المجتمعات المهمشة داخل البلدان العربية.
- أوضحت الدراسة العنصرية المبطَّنة التي تحيا فيها المجتمعات العربية.
- كشفت الدراسة عن حالة الفصام النفسي الذي تعاني منها المجتمعات العربية، التي تنتمي لأكثر من أيديولوجيا متناقضة، من خلال ممارساتها مع المرأة.
[1]) البحث النسوي ص 9
[2](John D. Brewer, Ethnography,Open University Press. Buckingham, First Published 2000,p:10
[3]) شارلينناجىهيسى – بايبر / باتريشاليناليفى مدخل إلى البحث النسوي، ممارسة وتطبيقًا: تر: هالة كامل، المركز القومي للترجمة، 2015م: ص 285
[4]) نجوى بن شتوان: زرايب العبيد، دار الساقي، الطبعة الأولى 2016م: ص 7
[5]) المرجع السابق: ص 33
[6]) السابق: ص 30
[7]) السابق: ص 31
[8]) السابق: ص 32
[9]) السابق: ص 70
[10]) السابق: ص 70
[11]) السابق: ص 70
[12]) السابق: ص 71
[13]) السابق: ص 71
[14]) السابق: ص 53
[15]) السابق: ص 54
[16]) السابق: ص151
[17]) السابق: ص 151
[18]) السابق: ص106
[19]) السابق: ص 106
[20]) نورة فرج المساعد: النسوية فكرها واتجاهاتها، المجلة العربية للعلوم الإنسانية – الكويت – 2000: ص 28
[21]) نجوى بن شتوان: زرايب العبيد ص 9
[22]) المرجع السابق ص 20
[23]) السابق: ص 47 : 48
[24]) أندرو هيود: مدخل إلى الأيديولوجيات السياسية: تر: محمد صفار، المركز القومي للترجمة الطبعة الأولى2012 م: ص 296
[25]) المرجع السابق: ص 296
[26]) نجوى بن شتوان: زرايب العبيد: ص 232
[27]) المرجع السابق: ص 242
[28]) السابق: ص 270
[29]) السابق: ص 148
[30]) السابق: ص 148
[31]) السابق: ص 148
[32]) السابق: ص 282
[33]) السابق: ص 282
[34]) السابق: ص 217
[35]) السابق: ص 202
[36]) السابق: ص 232
[37]) أندرو هيود: مدخل إلى الأيديولوجيا السياسية: ص 296
[38]) المرجع السابق: ص 297
[39]) بام موريس: الأدب والنسوية: ت: سهام عبد السلام، سحر صبحى، الأدب والنسوية، المجلس الأعلى للثقافة 2002ص 18
[40]) نورة فرج المساعد: النسوية فكرها واتجاهاتها: ص 13
[41]) نجوى بن شتوان: زرايب العبيد: ص 24
[42]) هناء محمد المرصفي: النسوية الإسلامية المعاصرة: حوليات آداب عين شمس، مج 36، 2008: ص 155
[43]) نجوى بن شتوان: زرايب العبيد: ص 43
[44]) المرجع السابق: ص 54
[45]) السابق: ص 54
[46]) السابق: ص 55
[47]) السابق: ص 55
[48]) السابق: ص 56
[49]) السابق: ص 163
[50]) السابق: ص 163
[51]) السابق: ص 164
[52]) السابق: ص 164
[53]) أسماء معيكل: الجسد الأنثوي والأهواء، مجلة فصول، مج 25/ 3 العدد 99 ربيع 2017 م، ص: 562
[54]) نجوى بن شتوان: زرايب العبيد: ص 65
[55]) المرجع السابق: ص65
[56]) السابق: ص 145
[57](Diane Hoeveler ,Frankenstein, Feminism, and Literary Theory,” in The Cambridge Companion to,Mary Shelley. Ed. Esther Schor. Cambridge, UK: Cambridge University Press, 2004,p:49 انظر
[58]) نجوى بن شتوان: زرايب العبيد: ص 145
[59]) بام موريس: الأدب والنسوية: ص12.
[60]) أسماء معيكل: الجسد الأنثوي والأهواء، ص: 564
[61]) نجوى بن شتوان: زرايب العبيد ص57.
[62]) المرجع السابق ص61.
[63]) السابق ص138.
[64]) السابق 138.
[65]) أسماء معيكل: الجسد الأنثوي والأهواء: 564.
[66]) نجوى بن شتوان: زرايب العبيد ص294.
[67]) كرس شلنج: الجسد والنظرية الاجتماعية: تر: منى البحر، نجيب الحصادي، دار العين الطبعة الأولى 2009: ص 170
[68]) نجوى بن شتوان: زرايب العبيد: ص 180
[69]) المرجع السابق: ص 182 : 183
[70]) السابق: ص 183
[71]) السابق: 146
[72]) السابق: ص 286
[73]) السابق: ص 289
[74]) السابق: ص 318
[75]) نورة فرج المساعد: النسوية فكرها واتجاهاتها : ص 25
[76]) المرجع السابق: ص 25
[77]) نجوى بن شتوان: زرايب العبيد ص 303
[78]) المرجع السابق: ص 304
[79]) السابق: ص 308 : 309
[80]) نورة فرج المساعد: النسوية فكرها واتجاهاتها: ص 17
[81]) نجوى بن شتوان: زرايب العبيد: ص 83
[82]) المرجع السابق: ص 83
[83]) السابق: ص 83
[84]) السابق: ص 26
[85]) السابق: ص 303
[86]) السابق: ص 202 : 203
[87]) السابق: ص 202
[88]) السابق: ص 331
[89]) صالح سليمان عبد العظيم: النظرية النسوية ودراسة التفاوت الاجتماعي: دراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية الأردن 2014م: 645
[90]) أندرو هيود: مدخل للأيديولوجيا السياسية: ص 302
[91]) المرجع السابق: ص 288
[92]) السابق: ص 301
[93]) نجوى بن شتوان: زرايب العبيد: ص 301
[94]) المرجع السابق: ص 302
[95]) السابق: ص322
[96]) السابق : ص 322
[97]) الأدب والنسوية: ص 38
[98]) Helene Cixous and Catherine Clement, THE newly porn woman,, translation BY Besy wing, introduction BY Sandra M.GILBERT,i.b.tauris, publishers,London,1996. P: ix
[99]) نجوى بن شتوان: زرايب العبيد: ص 192
[100]) المرجع السابق: ص 315
[101]) السابق: ص 12
[102]) السابق: ص 26
[103]) السابق: ص 26
[104]) السابق: ص 26
[105]) السابق: ص 26
[106]) السابق: ص 27
[107]) السابق: ص 28