خاص / قراءة – رشا العشري :
د. ترتيل تركي الدرويش
الناشر : بيروت: منشورات الحلبي الحقوقية، الطبعة الأولى، 2015
عدد الصفحات: 384
يعتبر مبدأ المسؤولية الدولية من أهم مقومات ومبادئ أي نظام قانوني – وطنيًا كان أو دوليًا-، فمن البديهي أن أي علاقة قانونية بين طرفين أو أكثر لا تمتلك أي مصداقية، إلا صاحبها نظام موضوعي للمسئولية، فالمسؤولية الدولية: هي نظام قانوني يرتب الجزاء القانوني على أشخاص القانون الدولي، لعدم احترامهم لالتزاماتهم الدولية المنصوص عليها في القانون الدولي العام. وكان مقدرًا للظروف الدولية أن تدعم الفقه القانوني في ترسيخ المسئولية الدولية وجعلها واقعًا قانونيًا ملموسًا ، وإخراجها من قالب الفوضى والتعسف الغرائزي، الذي يعتمد على الثأر والأخذ بشريعة الغاب ، إلى قوالب المدونات الدولية المقيَّدة والمنظمة لها. ويعد عهد عصبة الأمم عام 1919، الوثيقة القانونية الدولية التي دوَّنت مبدأ المسؤولية الدولية ونظمته ضمن دائرة السلطان الدولي الجماعي، وبالرغم من أن هذا العهد هو البداية الحقيقية لمسيرة المسؤولية الدولية فإنه اقتصر على عموميات هذا المبدأ؛ ومع ولادة منظمة الأمم المتحدة عام 1945، أرسى ميثاقها الإطار العامل للمسؤولية الدولية، عبر إخضاع رد فعل الدولة الانفعالي والسيادي المتحرر من الضوابط، لإرادة المجتمع الدولي ضمن إطار نظام قانوني دولي نشأ لهذه الغاية.
هنا فرضت التطورات السريعة التي عرفها المجتمع الدولي منذ الحرب العالمية الثانية الاهتمام بموضوع المسؤولية الجنائية الدولية حتى يومنا هذا، فقد تم تشكيل محاكم دولية كان موضوعها تطبيق قواعد المسئولية الجنائية الدولية المترتبة على الأشخاص الطبيعيين حصرًا دون الدول مثل: المحكمة العسكرية الدولية في نورمبرج وطوكيو عام 1945، المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة عام 1993، المحكمة الدولية لرواندا عام 1994، والمحكمة الدولية الجنائية الدائمة (1998) التي أجمع فقهاء القانون الدولي الجنائي على أهمية وجودها، لأنها ستؤمن الوقاية للمجتمع الدولي من مخاطر الجرائم الدولية، وتردع مرتكبي الجرائم الخطيرة المنصوص عليها في القانون الدولي الجنائي، كما تدفع السلطات القضائية الوطنية إلى ملاحقة المسؤولين عن تلك الجرائم ومقاضاتهم باعتبارها سلطة مسئولة. لهذا يعتمد خطة الكتاب على ثلاث أبواب تبدأ بـ
الفصل التمهيد: مفهوم المسئولية الجنائية الدولية وتطورها
إن المسئولية الدولية كما المسئولية في القانون الداخلي قد انقسمت الى نوعين: مدني وجزائي وما كانت المسؤلية الدولية المدنية قد تبلورت بشكل واضح فإن المسئولية الجنائية الدولية واجهت صعوبات كثيرة . حيث تعرف المسؤلية الدولية، على أنها وضع غير قانوني بمقتضاه تلتزم الدولة المنسوب إليها ارتكاب فعل ضار، مشروع أو غير مشروع وفقا للقانون الدولي بتعويض الدولة التي وقع هذا الفعل في مواجهتها، أيضًا هى علاقة بين شخصين أو أكثر من أشخاص القانون الدولي العام بحيث تتمثل برابطة قانونية بين الشخص القانوني الذي أخل بالتزامه أو امتنع عن الوفاء بهوالشخص القانوني الذي حدث الاخلال في مواجهته .
عناصر المسئولية الدولية
1. عنصر الضرر(ضرر مادي أو معنوي)
2. الفعل غير المشروع : وهو كل مخالفة للالتزامات القانونية الدولية
3. علاقة السبيية بين الفعل غير المشروع والضرر .
أساس المسئولية الدولية
حدد الفقه الدولي أساس المسئولية الدولية بأربع نظريات هى: المسؤولية الدولية على أساس الخطأ ، أو المسئولية عن الفعل غير المشروع، أو نظرية التعسف في استعمال الحق، أو المسئولية الدولية على أساس المخاطر.
وتقوم آثار المسئولية الجنائية الدولية على نوعين هما الجزاء والعقاب الدوليين، أما آثار المسئولية الجنائية المدنية فهى قائمة على التعويض، فحسب ماقررته المادة 36 من مسودة مشروع المسؤلية الدولية للجنة القانون الدولي” أنه يقع على الدولة المسئولة عن فعل غير المشروع دوليًا التزام بالتعويض عن الضرر الناتج عن هذا الفعل في حال عدم إصلاح الضرر بالرد، وقد اهتم القانون الدولي بالالتزام بالتعويض ونظمه في حالة نشوء المسءولية الدولية .
التطور التاريخي لمفهوم المسئولية الجنائية الدولية
لم تكن المسؤولية الجنائية فكره مجهولة في القوانين القديمة، وإن كانت تُحدد على نحو مخالف لما هى عليه الآن، لأن القانون يتأثر بمعتقدات البيئة التي نشأ فيها، فالمسئولية الجنائية لا يجب أن تعزل عن معتقدات وأعراف مجتمعاتها، وذلك كله ضمن إطار تطورها التاريخي . وبدأ الوضع العام يتغير، حيث أفضت المستجدات إلى ظهور ممارسات دولية لأنواع من المسؤولية الدولية كالمسؤولية الجرمانية التي تستند إلى فكرة أن ما يلتزم الفرد به في الجماعة يعتبر ملزمًا لكل أفراد الجماعة لذلك تعتبر الجماعة مسؤولة عن الجرائم التي يرتكبها أحد أعضائها، لذلك اعتبرت المسؤولية الجرمانية مسؤولية انتقامية والجزاء فيها غرائزي ثأري بين الدول؛ حيث تطورت هذه المرحلة من المسؤولية الدولية بتطور الدول ومن خلال أفكار فقهائها، فرسمت طريقًا ورؤية جديدة للمسؤولية الدولية الجنائية، بدأت بنشوء العائلة الدولية، ثم تبلور مفهوم المسؤولية الدولية عند فقهاء القرون الوسطى، لتتطور هذه المرحلة من المسؤولية الدولية عند فقهاء القرن التاسع عشر، وصولاً إلى تعريف المسؤولية الدولية وفكر السيادة، فقد أوصل فقهاء القانون الدولي أن المسؤولية الدولية تتعارض مع فكرة سيادة الدولة، التي يقوم عليها النظام الدولي، فالدول تتمتع بحق السيادة والحرية المطلقة في إدارة شؤونها الداخلية والخارجية، والقانون الدولي يعترف للدولة بأن لها حقوقًا كالاعتراف بسيادتها وضمان سلامتها الإقليمية، إلا أن هذه الدول لا تستطيع ان تتنصل من المسؤولية الدولية تحت ستار السيادة ، وغدا من واجبها أن تعمل على احترام القانون الدولي ، لذلك فإن السيادة لا تتعارض مع المسؤولية الدولية.
الباب الأول
الجهود الدولية لإقرار قواعد المسؤولية الجنائية الدولية
استمرت المسؤولية الدولية بالاعتماد على قواعدها التقليدية والعرفية المتوارثة قبل أن تدخل عملية التأطير القانوني في هيكلية التنظيم الدولي الأول: عصبة الأمم عام 1919، ومن بعده منظمة الأمم المتحدة 1945 . كان قيام عصبة الأمم إعلانًا عن قيام النظام الدولي المتعلق بالمسؤولية الجنائية الدولية، ويعتبر قيام منظمة الأمم المتحدة تجسيدًا للتكريس الفعلي لنظام المسؤولية الجنائية الدولية المعاصر، والمرجع الدولي الأسمى للنظام الدولي بعناصره الشرعية والقانونية.
إن قواعد المسؤولية الجنائية الدولية كانت مقتصرة على المعاهدات والاتفاقيات الدولية فقط. ولكن بعد انتهاء الحربين العالميتين الأولى والثانية اتضحت أسس المسؤولية الجنائية الدولية بشكل أخر عبر الإرادة في محاكمة مرتكبي الجرائم الدولية، لذا فإن قواعد المسؤولية الدولية أخذت مسارًا جديدًا عبر اتجاه قانوني يؤكد على ضرورة تحديد مبدأ مساءلة الدولة عن أفعالها ذات الطبيعة الجنائية فيما يتعلق بالانتهاكات الخطيرة للالتزامات الدولية وعلى أساس حماية المصالح الجوهرية للمجتمع الدولي .
الفصل الأول
جهود عصبة الأمم في تطوير المسؤولية الجنائية الدولية
أفضت نصوص ميثاق عصبة الأمم عند قيامها إلى الإعلان قيام الإطار العام لمكونات نظام المسؤولية الدولية. حيث انتقلت المسؤولية الدولية في عهد العصبة إلى التطبيق العملي عبر معاهدة فرساي التي ارست قواعد المسؤولية بشقيها المدني والجزائي، فقد تضمن ميثاق العصبة عددًا من الجزائات التي توقعها العصبة على الدولة التي تخل بتلك القواعد، وانحصرت في الطرد من المعصبةن والمقاطعة الاقتصادية، والجزاء الجنائي. بالتالي كان للعصبة دور في تكريس المسؤولية الدولية.
أما المسؤولية الجنائية الدولية فقد تكرست بشكل أوضح فيما بعد عبر جهود الفقهاء واللجان الدولية التي دعتها العصبة، وكرستها بشكل واقعي لا قانوني.
في البدء، اتضح إن ولادة العصبة في مناخ دولي لا تتنازل الدول فيه عن بعض من امتيازات سيادتها الوطنية في مقابل تطبيق قواعد المسؤولية الجنائية الدولية حد من فاعليتها، فلم تراع أي من هذه الدول مبادئ المسؤولية الجنائية الدولية، خاصة إن خلاقات الدول الكبرى حول الحرب ومشروعيتها، وصعوبة انتقال جريمة الحرب من منطق سيادة الدولة إلى منطق العدالة والقانون، جعل مبدأ المسؤولية الجنائية الدولية صعبب التحقيق والتطبيق، إلا أن العصبة طبقت عمليًأ بعض الجزاءات والعقوبات على الدول التي خالفت الميثاق، وقواعد القانون الدولي، حيث توقع على الدولة المخالفة الجزاءات التالية وهى:
1. قطع كل العلاقات التجارية والمالية بين الدول الأعضاء والدولة المعتدية، وكذلك كل الاتصالات المالية والتجارية والشخصية بين أى دولة عضو أو أخرى غير عضو في العصبة
2. اللجوء إلى القوة العسكرية والأعمال الحربية
3. طرد أي دولة منم العصبة إذا ثبت إدانتها في الإخلال بتعهداتها بمقتضى العهد.
الفصل الثاني
جهود منظمة الأمم المتحدة في تطوير المسؤولية الجنائية الدولية
بعد نشأة منظمة الأمم المتحدة وفي ظل الهيئة الأممية ظهر اتجاه واسع لتطبيق المسؤولية الجنائية الدولية وتوسيع الجزاءات الدولية خاصة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وتعتبر سابقة محكمتى نورمبرج 1945، وطوكيو 1946، التي أقيمتا لمحاكمة مجرمي الحرب بعد الحرب العالمية الثانية، والتي طبقتا مبدأ المسؤولية الجنائية الفردية، الإعلان الفعلي لسريان مبدأ المساءلة الدولية الجزائية، حيث عملت الأمم المتحدة على تفعيل قواعد القانون الدولي الجنائي عن طريق تفعيل النظام القانوني للمسؤولية الدولية الجنائية عبر الجزاءات الدولية بمختلف أنواعها سواء العسكرية أو الاقتصادية.
المسؤولية الجنائية الدولية في ميثاق الأمم المتحدة
إن المسؤولية الجنائية تختلف عن المسؤولية المدنية بمسألة الجزاء والعقاب، لأن فحوى المسؤولية الجنائية هو العقاب المناسب والرادع للفاعل حتى لايعود هو وغيره لهذا الفعل الجرمي.
وفكرة الجزاءات في ميثاق الأمم المتحدة تهدف إلى تحقيق الأمن والسلم الدوليين، لذا احتوى ميثاق الأمم المتحدة على العديد من المواد التي نبذت أي إخلال بهما، بحيث تضمنت المادة الأولى من الميثاق مسألة حفظ الأمن والسلم الدوليين، وعملت على تحقيق ذلك بطريقتين هما: إما تسوية النزاعات بالوسائل السلمية وفقًا لأحكام الفصل السادس من الميثاق، أو باتخاذ الإجراءات الجماعية لمنع وإزالة تهديد السلم والأمن الدوليين وفقًا للفصل السابع من الميثاق.
وقد انقسمت الجزاءات في الميثاق إلى:
1. الجزاءات المتعلقة بعضوية الدول وحقوقها في الأمم المتحدة، وتشمل الطرد من المنظمة ، والوقف بنوعية الكلي والجزئي
2. الجزاءات غير العسكرية، وتشمل التدابير الدبلوماسية والاقتصادية
3. الجزاءات القسرية، وتكون إما عسكرية أو غير عسكرية.
المعاهدات والمواثيق الدولية التي تعزز المسؤولية الجنائية الدولية تحت مظلة الأمم المتحدة
إن المعاهدات والمواثيق الدولية من أهم المصادر التي يمكننا استنباط قواعد المسؤولية الجنائية الدولية منها، فهيلى كثيرة وبالتالي تبين بشكل جلي قواعد المسؤولية والتجريم والعقاب.
ومن المعاهدات والاتفاقيات التي ترسخت في ظل منظمة الأمم المتحدة هى: الاتفاقية الخاصة بتأسيس المحكمة العسكرية الدولية (نورمبرج وطوكيو) لمحاكمة مجرمي الحرب الألمان، والأخرى لمحاكمة مجرمي الحرب اليابانيين الرئيسيين، وتعتبر الاتفاقية في حقيقة الأمر أول أول القوانين الجنائية الدولية الإجرائية لأنها بصفتها وثائق دولية تتضمن لأول مرة عناصر للجرائم الدولية، ومقاضاة المجرمين والنظر في الدعاوي الخاصة بالجرائم وغيرها.
ومن الاتفاقيات المكرسة للمسئولية الدولية الجنائية، نذكر منها:
1. اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها 1948
2. اتفاقية عدم تقادم جرائم الحرب والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية 1968
3. الاتفاقية الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها 1973 .
الباب الثاني
المسؤولية الجنائية الدولية في قضاء المحاكم الدولية الجنائية
ظلت فعالية المسؤولية الجنائية الدولية بعيدة التحقيق بشكل عملي على أرض الواقع بالرغم من تواجد منظمة المم المتحدة وماقدمته من معاهدة فرساي لمبدأ المسؤولية الجنائية الدولية،ومع انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي دخل المجتمع الدولي مرحلة جديدة تبرز ملامح الشرعية الدولية فيها، فقد أسندت إلى مجلس الأمن الدولي صلاحيات أعم وأشمل باعتباره الجهاز الأول المسؤول عن حفظ السلم والأمن الدوليين، لكن لم تكرس المسؤولية الجنائية الدولية في القانون الدولي بل ظلت تطبيقًا عمليًا خاضعًا لإرادة مجلس الأمن ومن وراءه من دول القرار، التي لها أن تتحكم بالقرارات الصادرة عن مجلس الأمن.
لذلك كان لابد من إيجاد البدائل المناسبة وهى إنشاء محاكم مؤقتة لمحاكمتهم، فكانت البداية من المحكمة الجنائية الخاصة بيوغسلافيا السابقة التي جاء تشكيلها تطبيقًا لمبدأ المسؤولية الجنائية الفردية، والتي أنشئت بقرار مجلس الأمن رقم 808 في 22 فبراير عام 1993، وتلتها المحكمة الجنائية لرواندا المنشأة بقرار مجلس الأمن رقم 955 في 8 نوفمبر 1994، توالى بعد ذلك إنشاء المحاكم الدولية الجنائية بأنماطها، معلنة عن تطبيق المسؤولية الجنائية الدولية على الأفراد، إلى أن دخلت المحكمة الدولية الجنائية الدائمة حيز النفاذ عام 2002. لذا فالمحكمة الدولية الجنائية تمثل في الوقت الراهن التطور الأهم في القانون الدولي الجنائي، فقد رسَّخ نظام المحكمة مبدأ المسؤولية الجنائية الفردية، وكرَّس المسؤولية الجنائية للرؤساء والمسؤولين في الدولة وعدجم الاعتداد بالصفة الرسمية كمانع لمساءلتهم، زبذلك أصبح هذا المبدأ قاعدة دولية مكرسة في القانون الدولي الجنائي.
الفصل الأول
المسؤولية الجنائية الدولية أمام القضاء الدولي الجنائي المؤقت
إن قيام المحاكم الدولية الجنائية بكافة أنماطها تأتي ضمن السياق التكاملي لحفظ الأمن والسلم الدوليين، والعلاقة بين المحاكم الدولية الجنائية والأمم المتحدة، إما أن تكون علاقة تبعية، أو أن تكون علاقة تعاون فقط.
كانت علاقة محكمتي يوغسلافيا السابقة ورواندا بالأمم المتحدة علاقة تبعية، ذلك لأنهما أنشئتا بموجب قرارات اتخذها مجلس الأمن بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة بهدف الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، حيث تعتبر هاتين المحكمتين الانطلاقة والبداية في التكريس الدولي المعاصر للمسؤولية الدولية الجنائية.
وهناك محاكم جنائية دولية غلافها تعاوني بين منظمة الأمم المتحدة وأجهزتها خاصة مجلس الأمن والجمعية العامة والامين العام، كالمحكمة الخاصة بسيراليون وكمبوديا ولبنان. وتنص النظم الأساسية لهذه المحاكم الجنائية المؤقتة بشكل نمطي على أنه لهذه المحكمة الأسبقية على المحاكم الوطنية، وتتكون هذه المحاكم من قضاة محليين وقضاة دوليين يطبقون كلاً من القانون الوطني والقانون الدولي، وتمتاز هذه المحاكم بكونها تقام على البلد الخاص بها، وموظفوها إلى حد كبير ينتمون إلى الوطن، وتجد مساندة مباشرة من الأنظمة القانونية الوطنية حيث أنها توفر حلاً للأنظمة الوطنية الواسعة الامتداد والقليلة التجهيزات، إلا أنها تواجه انعدام التعاون من طرف الدولة التي تقام عليها أو من طرف دول أخرى؛ وعلى النقيض من المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا لن تكون لها علاقة مباشرة مع مجلس الأمن وسلطات “الباب السابع” من ميثاق الأمم المتحدة، ولكن قد تؤدي الرغبة في اكتساب الاستقلال المحلي إلى أقصى حد إلى نتائج عكسية، بما أنه قد يكون من الصعب العثور في بلد عدالته ممزقة على موظفين ذوي خبرة ومدربين بشكل مناسب. أيضًأ كانت ثمة اختلافات واسعة في سرعة التنفيذ الوطني والدولي للمتابعات. فمثلاًفي سيراليون وبعد إبرام اتفاق السلام في 1999، تم أولاً النص على إقامة محكمة خاصة في قرار مجلس الأمن عام 2000، وتم التوصل إلى اتفاق بين الأمم المتحدة الأمم المتحدة والحكومة الوطنية في 2002، وبدأت المحاكمات في مارس 2004.
وعكس ذلك تطلب الأمر عدة سنوات للتوصل الأمم المتحدة والحكومة الكمبودية إلى اتفاق حول إنشاء محكمة خاصة بكمبوديا وإلى غاية مارس 2004 – بعد مرور 30 سنة على الانتهاكات التي وقعت- ليس ثمة ما يدل على قرب الشروع في اتخاذ خطوات واقعية.
الفصل الثاني
المسؤولية الجنائية الدولية أمام المحكمة الدولية الجنائية
تأتي أهمية المحكمة الدولية الجنائية من كونها الهيئة المجسدة للعدالة الدولية الجنائية الدائمة، فدورها في المجتمع الدولي المساءلة عن أنواع محددة من الجرائم الدولية التي تعمل على ردع الأشخاص.
يمكن وصف نظام المحكمة الدولية الجنائية من مضامينهبما يلي:
1. النظام الأساسي للمحكمة هو معاهدة دولية.
2. يُنشئ النظام محكمة جنائية دولية دائمة وليست مؤقتة أو حصرية كالمحاكم السابقة أو المعاصرة.
3. نظم النظام الأساسي تسوية المنزاعات الخاصة بين الأطراف بحسب المادة 119 منه عن طريق المفاوضات بين الدول.أقر النظام المبادئ القانونية التي تحكم المسؤولية الجنائية .
4. أقر النظام المبادئ القانونية التي تحكم المسؤولية الجنائية الدولية كما وردت في المادة رقم 21.
يبين النظام الأساسي للمحكمة آلية ممارسة اختصاصاتها في المواد 12-15 منه
1. إحالة دولة طرف إلى المدعي العام كطلب للتحقيق في حالة جرائم داخلة في اختصاص المحكمة (جرائم حرب أو جرائم ضد الانسانية وغيرها)
2. قيام مجلس الأمن بإحالة طلبه إلى المدعي العام موضحًا فيه أن جريمة من الجرائم الداخلة في اختصاص المحكمة قد ارتُكِبت بالفعل.
الاختصاص الموضوعي للمحكمة الدولية الجنائية
حدد اختصاص المحكمة الدولية الجنائية الموضوعي على أربع جرائم أساسية اعتبرت من أشد الجرائم الدولية خطورة، وأكثرها تهديدًا لبنية وقيم النظام القانوني الدولي. وهذه الجرائم الدولية الواردة في النظام الأساسي هي على سبيل الحصر، لذا فإن المحكمة لا تختص بالنظر إلا في هذه الجرائم وهى كما حددتها المادة الخامسة من النظام الأساسي للمحكمة:
1. جرائم إبادة الجنس
2. الجرائم ضد الإنسانية
3. جرائم الحرب
4. جريمة العدوان
يتضح من التطرق للمحاكم الدولية أن إمكانية تحميل الرؤساء المسئولية الجنائية كمسببي حرب، هى في الواقع العملي صعبة التحقيق خصوصًا حين يكون الرئيس على قمة هرم السلطة لبلده ، والدليل على ذلك هو عدم حصول إدانة عملية حصلت في التاريخ لرئيس دولة أثناء تأديته لواجبه كرأس للسلطة التنفيذية في بلده، أما الحالات التي حصلت منذ الحرب العالمية الثانية حتى الآن فلا تتعدى كونها محاكمات لرؤساء ومسؤولين تمت الإطاحة بهم وإزالتهم عن هرمية السلطة ( يشار إلى التأثير السياسي في تشكيل وقرارات المحاكم المذكورة أعلاه )، ويرجع الفضل في ذلك بكل تأكيد لموضوع السيادة الوطنية الذي يحتمي خلفها الرؤساء وكبار المسؤولين.
الباب الثالث
نطاق المسؤولية الجنائية الدولية
بعد الحرب العالمية الأولى والثانية ظهر اتجاه جديد يرى أن الأفراد هم الشخص الدولي الوحيد المعني بالمسؤولية الجنائية الدولية، والدولة لا تتحمل إلا المسؤولية الدولية بصورتها المدنية المتمثلة بالتعويض الذي يناسب الضرر الحاصل نتيجة الانتهاكات الدولية. ثم إن ظهور المنظمات الدولية واكتسابها الحقوق وفرض الواجبات الدولية عليها أوجب الاعتراف لها بالشخصية الدولية. وعلى ذلك ظهرت الإشكاليات التي تحيط بالمسؤولية الجنائية الدولية للشخص المعنوي.
الفصل الأول
إشكالية المساءلة الجنائية للشخص المعنوي دوليًا
الشخص المعنوي: هو مجموعة من الأشخاص والأموال أُنشئت من أجل تحقيق أغراض معينة يعجز كل منها منفردًا عن تحقيق هذه الأغراض في فترة زمنية معينة قد تطول أو تقصر، مما ينتج عنها خلق شخص قانوني متميز ومستقل بذاته عن هؤلاء الأشخاص المكونين له، ويكون أهلاً لاكتساب الحقوق وتحمل الالتزامات باسمه ولحسابه الخاص.
وإذا كانت الأشخاص المعنوية في الماضي لها دور محدد، فإن التطورات الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية في العصر الحديث، أدت إلى انتشار هذه الأشخاص واتساع نطاق نشاطاتها وأصبحت تقوم بدور على درجة كبيرة من الأهمية في مختلف المجالات وتتملك العديد من الإمكانيات والوسائل الضخمة والأساليب الحديثة لاستخدامها فيما تمارسه من أنشطة، وبالتالي فكما بإمكانها تحقيق فوائد كبيرة، فإن بعضها قد يقع في الأخطاء وقد يرتكب أفعالاً تلحق أضرارًا جسيمة تفوق الضرر الذي يحدثه الشخص الطبيعي عندما يرتكب جريمته نظرًا لما يتمتع به من إمكانيات ووسائل.
ولما كان كل من الفقه والقانون قد أقرا بالمسؤولية المدنية للشخص المعنوي، فإن فكرة مساءلة الشخص المعنوي جنائيًا كانت محل جدل فقهي واختلاف قضائي .
ولما كانت بعض التشريعات الحديثة ترفض فكرة إقرار المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي (لأنه من شروطها توافر الإرادة والتمييز في حين ان الشخص المعنوي يفتقد لهذين الشرطين) فإنه على الطرف المقابل توجد تشريعات أخرى أقرت بالمسؤولية الجنائية للشخص المعنوي حيث يمكن مساءلته مدنيًا وهو لا إرادة له معتبرين أن المنطق يقتضي ذلك.
الأراء المعارضة للمسئولية الجنائية للشخص المعنوي في القانون الوطني
يرى أنصار هذا الاتجاه أن طبيعة الشخص المعنوي تحتم ان يكون نشاطه حكرًا على أعضائه من الأشخاص الطبيعيين فمن المستحيل ممارسته لنشاطاته بنفسه، بل انه يمارسها عن طريق أعضاءه، ويعلل أنصار هذا المذهب بما يلي:
1. نظرية الحقيقة: والتي تقوم على أن الشخص المعنوي هو محض خيال ولا يمكن ان يكون محلاً للمسؤولية الجنائية.
2. نظرية نفي الشخصية الاعتبارية: فأهلية الشخص المعنوي ووجوده متعلق بالغاية التي نشأ من أجلها.
3. مساءلة الشخص المعنوي تتعارض مع مبدأ شخصية العقوبة.
الأراء المؤيدة للمسؤولية الجنائية للشخص المعنوي في القانون الوطني
يرى أصحاب هذا الاتجاه أن الاشخاص المعنوية تعتبر بالنسبة للدولة سلاحاً ذا حدين ، ففي سبيل ما تقدمه من منافع عامة قد تجلب بعض المخاطر مما يستوجب إخضاعها لأحكام العقوبات، على أساس ان الشخصية المعنوية هى محض افتراض يتخيله المشرِّع استناداً لمبدأ الضرورة يرد المنطق عليه مباشرة بأن الشخص المعنوي هو حقيقة واقعية وشخص قانوني يباشر حقوقه يتحمل التزاماته أيًا كانت طبيعتها.
موقف القوانين والتشريعات من إعمال المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي
تطورت المسئولية الجنائية للشخص المعنوي تدريجيًا حتى أصبحت حقيقة واقعة في متن عدد كبير من التشريعات الوطنية الغربية والعربية.
الفصل الثاني
المسؤولية الجنائية الدولية للدول والمنظمات الدولية
إن المسؤولية الدولية للشخص المعنوي هى واقع دولي مفروض، مطبق من قبل مجلس الأمن الذي تجاوز كل الصعوبات والإشكاليات الفقهية حول ان الشخص المعنوي لا يستطيع ان يتحمل المسؤولية الجنائية الدولية بسبب طبيعته ولأنه لا توجد تتلاءم مه هذه الطبيعة.
مدى المسؤولية الجنائية الدولية للمنظمات الدولية
تعرف المنظمة على أنها تنظيم دولي يتمتع بصفة الدوام وبالشخصية الدولية، وتتفق مجموعة من الدول بموجب ميثاق أو اتفاقية على إنشائه، لذلك فإن المنظمات الدولية هى شخصيات معنوية تتمتع بكل ميزات وواجبات الشخص المعنوي، فهو كيان مستقل ذو إرادة مستقلة.
حيث تخضع المنظمات الدولية لأحكام المسؤولية الدولية باعتبارها شخصًا دوليًا، وتخضع للقواعد نفسها التي يقررها القانون الدولي بشأن مسؤولية الدول. في البدء كان الاتجاه السائد رافضًا لهذا النوع من المسؤولية تجاه المنظماتن كمنظمة الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية والإقليمية.
ولكن بعد تطور الممارسات الدولية لهذه المنظمات، عدل الفقهاء عن مواقفهم وأقروا بوجود هيئات دولية غير الدول تخضع للقواعد الدولية وتتمتع بالشخصية الدولية.
مدى المسؤولية الجنائية الدولية للدول
المسؤولية الجنائية الدولية للدولة: هى مساءلة دولة ما عن ارتكابها فعلاً يعتبره القانون الدولي جريمة دولية، حيث تنجم الجريمة الدولية عن أسباب متعددة منها:
1. انتهاك خطير لالتزام دولي ذي أهمية جوهرية للحفاظ على السلم والأمن الدوليين. ولضمان حق الشعوب في تقرير المصير.
2. انتهاك خطير لالتزام دولي ذي أهمية جوهرية لحماية الشخص الإنساني، وصون البيئة من البشرية.
نستنتج مما سبق أن المسؤولية الدولية الدولية لم تعد اليوم مصطلحًا غريبًا، بل أصبحت نصوصًا قانونية متفقًا عليها دوليًأ. أيضًا، إن آلية إنشاء المحاكم الدولية الخاصة ماتزال قاصرة عن التطبيق على المستوى القانوني وضمن مفهوم العدالة الدولية، لأنها ماتزال مرهونة بقرارات مجلس الأمن الدولي.