قصّة قصيرة

خاص : بقلم – عدّة بن عطية الحاج (ابن الرّيف) ـ مستغانم :

عيّنت إمامًا في إحدى القرى النّائية وأنا لاأحفظ من القرآن سوى سورة الفاتحة وسورة الفلق وسورة النّاس؛ وكنت أقول في نفسي: أنا لا أفقه شيئًا في أمور الدّين فكيف سأعتلي المنبر وأقوم بوعظ النّاس وإرشادهم إلى سواء السّبيل، اتصل بي أحد أعيان تلك القرية وقال لي: يا سي بوخبزة أنت إمامنا وقدوتنا ولكن نُريد نحن أن نتحكم فيك لا ترفض لنا أيّ طلب، كن بيننا كالميّت بين يدي غاسله، وفي ولائمنا نُريدك أن تكون أوّل من يحضر وآخر من يُغادر مجالسنا السّعيدة أو التّعيسة، سنُغدق عليك بالأموال وبالهدايا، نحن نحتاج إلى أئمة من أمثالك لكي نجمّل صورتنا أمام هذا المجتمع البائس، نحن حججنا عدّة مرّات واعتمرنا عدّة مرّات، حتّى الجنّة سوف نشتريها بأموالنا، لا تقل في دروسك وفي خطبك إلاّ الأشياء التي تُرضينا فقط وإيّاك أن تتجرّأ وتنتقدنا وإلاّ سوف يكون مصيرك الطّرد من مسجد القرية نهائيًا، وأنصحك من الآن: قدّم دروس السّيرة النّبوية فقط ودعك من الدّروس والخطب التي تنتقد وجهاء القوم ستجلب لنفسك المتاعب فقط.

ـ قال له سي بوخبزة: يا سيّدي ويا وليّ نعمتي، راني نحوّس على الخبزة انتاعي فقط، أنا حشيشة طالبة المعيشة، أنا عبدكم، لو طلبتم منّي أن أعبدكم سوف أعبدكم لأنّكم أنتم أولياء نعمتي، لقد غمرني فضلكم، تركتم الفقراء والمساكين ولم تساعدوهم وتساعدونني أنا الذي عندي مرتب مريح أتقضاه من خزينة الدّولة ولكنّكم تركتم الفقراء والمساكين ولم تساعدوهم وتساعدونني أنا الذي لاأحتاج إلى أيّ مساعدة، أنا أصلاً أعتبر من أثرياء قريتي أملك أراضي فلاحية وشيّدت مؤخرًا عمارتي الفخمة واقتنيت في الآونة الأخيرة سيّارة فخمة من الطّراز الرّفيع.

ردّ عليه ذلك الثّريّ وقال له بالحرف الواحد: نُريدك أن تكون كالكلب كلّما ألقمناه حجرًا كفّ عن النّباح، نُريدك أن تكون حملاً وديعًا تعيش بين الثّعالب والذّئاب المفترسة هادئًا مطمئنًا، لا تناقش الأفكار التي ندعوك إلى تبنيها، اعتقد ولا تنتقد، لا تمش إلاّ في الطّريق الذي سوف نرسمه لك في قادم الأيّام، إذا أطعتنا سوف تعيش سعيدًا وتموت سعيدًا، وعندما تموت سنبني على قبرك ضريحًا ونجعلك وليًّا صالحًا تُشدّ إليك الرّحال وستُخلّد إلى أبد الدّهر، هكذا نُريدك أن تكون كالخاتم في أصابعنا، وسوف ندخلك جنّتنا التي وعدنا من أطاعنا بالدّخول إليها فرحًا مسرورًا.

ـ قال له سي بوخبزة: سأكون كلبكم الوفيّ، الذي سيتبع قافلتكم حيثما سارت، أطلب منكم قبل وصولي إلى قريتكم أن تجمّلوا صورتي أمام النّاس، اجعلوني علاّمة عصري الذي فذّ أقرانه وبزّ أترابه، أريد أن أكون مشهورًا بين النّاس بالصّلاح والتّقوى والعلم، جمّلوا صورتي وسوف أكون رهن إشارتكم لا أعصي لكم أمرًا، أنتم من صنعني وجعلني في العلم وحيد دهره وفريد عصره، شكرًا لكم جزيلاً يا أيّها الأوفياء.

ـ قال له ذلك الثّريّ وقد انتفخت أوداجه من شدّة الغضب: سنزوّر لك كلّ الشهادات التي كنت تحلم بها في حياتك، أوّل شهادة سنمنحها لك تزويرًا وليس حقيقة هي شهادة حفظ القرآن عن ظهر قلب وشهادة الإجازة في القراءات العشر وشهادة التّخرّج كإمام من زاوية الشيخ بلكبير بأدرار وشهادة التّخرّج من جامعة القرويين بفاس وشهادة العالمية من جامعة الزيتونة وشهادة الماجستير من كلية الشّريعة بجامعة دمشق وشهادة الدكتوراه من جامعة السّوربون، كلّ هذه الشّهادات ستكون في يدك في غضون أسابيع قليلة فقط.

ـ قال له سي بوخبزة: شهادة الدكتوراه من جامعة السّوربون، هذا مستحيل، أنا لا أتقن الفرنسية، أحضروا لي شهادة الدكتوراه من جامعة الأردن وهذا حتّى لا يتفطن لي الناس وأستطيع خداعهم، لن أكون الأوّل ولن أكون الأخير من زوّر الشهادات العلمية التي لا يستحقها، التّزييف عمّ كلّ شيء.

ـ قال له ذلك الثّريّ وهو يبتسم ابتسامة ساخرة ماكرة: نحن من يصنع المثقفين والعلماء، تُريد شهادة الدكتوراه من جامعة الأردن، ستكون عندك في غضون أيّام معدودة فقط، لا تقلق يا حملنا الوديع، ستكون كلّ ما تريد، فقط طبّق كلّ ما نطلب منك ولا تُناقش، من ناقشنا أو عارضنا جاءته المتاعب من كلّ باب وهجمت عليه الهموم هجوم الأسود على الغزلان، من عارضنا حطّمناه كما تُحطم الأمواج العاتية السفن المهترئة، إذا كان مثقفًا ومتفوقًا سنحرمه من الشهادات العليا فسوف لن يراها ولو في الأحلام، ومن رضينا عنه سنمنحه كل الشهادات العليا التي يُريدها وسنعيّنه في أرقى المناصب.

ـ قال له سي بوخبزة: هناك مشكلة ؟

ـ قال له ذلك الثّريّ: ما هي ؟

ـ قال له سي بوجبزة: أنا إبن حركي.

ـ قال له ذلك الثّريّ: سنجعلك إبن مجاهد، ولو أردت سنجعلك إبن شهيد، ولكن هناك إشكال، هل مات والدك قبل الإستقلال أم بعد الإستقلال ؟

ـ قال له سي بوخبزة: مات والدي بعد الإستقلال بعد أن نجا من سكّين المجاهدين الحقيقيين.

ـ قال له ذلك الثّريّ: إذاً، سنجعلك إبن مجاهد مزيّف، سنمحي تاريخ والدك القذر بجرّة قلم فقط، يوجد الكثير من أمثالك في مجتمعنا هذا النّتن، وستحصل على كلّ الإمتيازات التي تحصل عليها أبناء المجاهدين الحقيقيين.

ـ قال له سي بوخبزة: لن أنسى لك هذا الفضل وهذا الجميل ما حييت، والدي كان حركيًّا باع ضميره لفرنسا وبعد الإستقلال ندم على فعلته بعد أن نجا من الموت بأعجوبة لأنّ خالي المجاهد الحقيقي هو الذي قام بإنقاذه من الموت الحقيقي بل أنقذه من الذّبح بالسّكين على يد المجاهدين الحقيقيين، والدي بعد الإستقلال صار لا يخرج من البيت إلاّ نادرًا لأنّ النّاس صاروا ينادونه بالحركي، وفي عيد الإستقلال وفي عيد الثّورة لا يخرج من البيت إطلاقًا وبقي على هذا الحال إلى أن مات ولم يسر في جنازته إلاّ الحركى من أمثاله، وبقينا نحن أبناء الحركى ننعم في الإستقلال بكلّ أنواع النّعم المتاحة والغير المتاحة كأنّنا أبناء مجاهدين حقيقيين.

ـ قال له ذلك الثّريّ: غدًا ستكون لك أوّل خطبة في ذلك المسجد الذي عيّناك فيه، عليك ألاّ تقول كلمة الحقّ، بل قل فقط الأشياء التي يُريد سماعها أهل القرية فقط، يجب أن تكون دروسك وخطبك حول المحبة والأخوة والإنسانية والسلام، كن صوتنا الذي نُريد إبلاغه للآخرين معنا ستعيش وستحقق ما تُريد، فقط نُريدك أن تكون كالأبله، نحتاجه عندما نُريد ونرميه وقت ما نشاء، ونحن عندما نرميك ستسقط على قدميك وليس على رأسك، حتّى في رمينا إيّاك سنُشفق عليك فلا تقلق، كن معنا فقط في الإتجاه الذي نسير فيه وإذا ملت عنّا سنميل عنك، فكن وفيًّا وكفى.

ـ قال له سي بوخبزة: راني معاكم في الخطّ، راني نحوّس نحافظ على خبزتي، انتوما سيادي وأنا عبدكم.

هكذا صار سي بوخبزة عبدًا للدينار وللدرهم، يفعل المستحيل من أجل إرضاء أسياده، لقد رضوا عنه ورضي عنهم، صار لا يتكلّم إلاّ على لسانهم، ولا يقدّم إلاّ الدّروس والخطب التي ترضيهم فقط، صار يعزف السنفونية التي تروقهم ويغنّي الأغنية التي تعجبهم فقط، يغنّي ما يطلبه المستمعون، هذا هو سي بوجبزة العلاّمة الكبير.

تمت

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة