خاص : ترجمة – محمد بناية :
حين تعرضت أوروبا، وبخاصة أوروبا الوسطى، بيد أبناءها إلى موجات من العنف وقمع الفاشية والنازية في “إيطاليا وألمانيا والنمسا”، كانت طبقة العلماء والمفكرين وخبراء الاجتماع والعلوم الإنسانية وأساتذة الجامعات، قد اصطدمت معهم بشدة وسعت إلى تنحية المسارات الاجتماعية والثقافية بالدولة.
تعددت الأسباب وتهجير العلماء واحد..
ونتيجة لذلك اُجبر معظمهم، بسبب القمع الشديد، على الهجرة إلى “الولايات المتحدة الأميركية” وأحيانًا إلى “بريطانيا”؛ حيث اضطر العلماء والمثقفون، لاسيما من “ألمانيا وإيطاليا والنمسا وبولندا والتشيك والمجر”، للهجرة؛ ويمكننا الإشارة إلى أسماء: “هيرمان هسه”، و”لودو ویغ وينشتاين”، و”سيغموند فرويد”، و”فرانتس نويمان”، و”إريك فروم”، و”توماس مان”، و”هربرت ماركوزه”، و”ماكس هوركهيامر” وغيرهم.. ورغم إجبار بعضهم على مغادرة ديارهم بسبب جنسيتهم اليهودية، لكن كان بينهم علماء غير يهود وإجبروا على الهجرة تحت وطأة الضغوط “الفاشية” و”النازية”.
لم يكن معظهم مستعدًا للقبول بنظام الحكم وفضل الهجرة كنوع من المبادرة لفضح الحكومات الإستبدادية في بلدانهم، أو أن الأجواء كانت شديدة الصعوبة بالشكل الذي جعلهم يستشعرون مسألة أن المجال بات مغلقًا أمام أي محاولة للتنفس الثقافي والعلمي، مثل “ولودو ویغ وينشتاين” أو “توماس مان”.. والملاحظة الأبرز هي أن جميع هؤلاء حافظوا، رغم الهجرة، على هويتهم ورسالتهم بشأن دعم العملية الثقافية في بلدانهم وتنشأة القوى البشرية، ومن ثم إعادتهم إلى موطنهم وخدمة بلادهم.
ومعظمهم حين هاجر إلى “الولايات المتحدة الأميركية”، (ذلك البلد الذي استقبلهم بشكل جيد وهيأ لهم المجال للممارسة الحرة على كافة المستويات الاجتماعية، وأثنى بحفاوة على قدراتهم واستفاد منهم في تقوية بنيته الثقافية)، لم يفقد هويته أو يتعرض لبيع نفسه، ولم يغيب عن أذهانهم أن عليهم يومًا ما العودة إلى بلادهم ووضع خبرتهم تحت تصرف مجتمعاتهم وخدمة أبناء وطنهم.
العراق والانفتاح المتسارع على الأخبار الكاذبة..
يقول “سید علي موسوي خلخالي”، مساعد رئيس تحرير موقع (الدبلوماسية الإيرانية)؛ المقرب من وزارة الخارجية، عرضت هذه المقدمة، بحيث يكون لدي دليل يساعدني في دراسة وضع دولة كـ”العراق” في مرحلة الحرية والإطاحة بالنظام الديكتاتوري.
لأنه بعد الإطاحة بحكومة “حزب البعث” البوليسية، تابعنا جميعًا انفتاح المجال السياسي والثقافي والاجتماعي في “العراق”، وهو أمر غير مسبوق.
وعلى الفور تبلور، عقب سقوط “صدام حسين”، مجال إعلامي شديد الانفتاح وتحرك سريعًا بإتجاه توجيه الرأي العام العراقي. كانت الأخبار متسارعة بشكل كبير؛ وأسهم الفضاء الإعلامي المفتوح للعراقيين من الوصول إلى أي خبر مهما كان نوعه. في ظل هذه الأجواء وإزاء هذا السيل الإخباري تعرض المخاطب العراقي لأزمة، حيث حلت الأخبار الكاذبة محل الأخبار الحقيقية. ذلك لأن هذه الأجواء افتقرت إلى العنصر المهم وهو النخبة التي تملك نبض الرأي العام وتتمتع بالمكانة الرفيعة التي تعترف لها جميع الأطراف بالاحترام.
إنعدام الدور النخبوي كحلقة وصل بين المجتمع والسلطة..
وسعت “الحوزات العملية” في “النجف” والمراجع العظام إلى تحمل أعباء تلكم المسؤولية، ونجحوا للإنصاف في ذلك إلى حد كبير، لكن تحمل “الحوزة” لكل أعباء هذه المسؤولية ذات الأبعاد الممتدة غير ممكن. ولذلك رأينا جميعًا أن ثمة حلقة مفقودة بين المجتمع والسلطة. وإنعدام هذه الحلقة تسبب في تشكيل حكومة مأزومة في مرحلة ما بعد “صدام حسين”؛ وهو أمر غير مرغوب بالنسبة لدولة كما “العراق”.
والسبب في ذلك يعود إلى عاملين مهمين:
الأول: القمع الشديد في عهد “صدام حسين”.
ثانياً: عزوف وإنبهار وذوبان المفكرين العراقيين في الثقافة الغربية والدول التي هاجروا إليها.. فالقمع الشديد إبان “صدام حسين”، والذي بدأ مطلع السبيعنيات وحتى بداية الألفية الجديدة، أي حوالي 30 عامًا، كان شديدًا بالقدر الذي فرّغ الجامعات العراقية من أي مفكر أو عالم.
لقد كانت “جامعة بغداد”، حتى قبيل صعود “حزب البعث”، من الجامعات الآسيوية العريقة. أما المثقفون والنخبة الثقافية والعملية؛ إما تعرضوا للإعدام أو الجلوس بالبيت أو اللجوء للهجرة.
لقد كانت أجهزة قمع “صدام حسين” ترصد؛ لاسيما في الثمانينيات، مجتمع المهجر العراقي في قلب “باريس” و”لندن”، ومن ثم اغتيال الشخصيات المعارضة للنظام.
وسكوت الدول الأوروبية حيال هذا النوع من التعاطي، وأحيانًا السماح لعناصر “حزب البعث” للقيام بمثل هذه العمليات، نوعًا من التواطؤ الغربي مع “صدام حسين” على تفريغ المجتمع الثقافي العراقي من أي عنصر غير مرغوب فيه.
من جهة أخرى؛ يتهم “علي موسوي خلخالي”، النخبة العراقية، بالضلوع في الركود والجمود الفكري والثقافي بالمجمتع. إذ رفض معظم من فروا ولجأوا إلى أوروبا وأميركا العودة إلى “العراق” بعد سقوط “صدام حسين”.
ولاشك أن الكثيرون منهم ذاب في المجتمعات العربية وكان يستشعر الغربة حيال المجتمع العراقي. لذلك لم يُرى أي أثر للمثقفين والعلماء العراقيين في المناخ الثقافي العراقي. إذ لم يكن لدى بعضهم، مثل “کنعان مکیه”، “أحمد مطر”، “لیث کبه” وآخرين؛ وقد كانوا معارضين سياسيين لـ”حزب البعث” وأبرز الوجوه الثقافية لتيار المعارضة، أي دور بناء في مجتمعهم وقد فضلوا الهجرة والإحجام عن العودة لبلادهم.
ولا شك أن النخبة الثقافية العراقية لم تعبأ بمجتمعها وأهملت في تشكيل فضاء عراقي غير مطلوب. وكان تخاذلهم سببًا في عدم ترجمة الأصوات الشعبية للسلطة، وفشلت الحكومة في تنظيم الشكل المطلوب، واستمرار هكذا وضع قد يؤدي إلى عواقب أشد وأسوأ.