26 فبراير، 2025 8:17 ص

الحلم آلية لإنتاج المعنى في “رقصة العنكبوت” للروائي “مصطفى لغتيري”

الحلم آلية لإنتاج المعنى في “رقصة العنكبوت” للروائي “مصطفى لغتيري”

 

كتب: عبد النبي بزاز

تتمظهر تجليات الحكي في رواية ” رقصة العنكبوت ” للأديب المغربي مصطفى لغتيري عبر عناصر سردية أساسية من مكان وزمان وشخوص ووقائع، إلا أن الحلم بامتداداته وأبعاده الجمالية والدلالية يشكل منعطفا فارقا في سيرورة الأحداث بتخليصها من مأزق حافل بالمفارقات تزاوجا مع الجانب الأخلاقي وما يحكمه من مبادئ وثوابت داخل مجتمع تتعدد أعطابه القيمية، وتتفاقم اختلالاتها وآفاتها.

فالسارد يوسف الذي تشبع بقيم ومبادئ ترسخت في عقله ووجدانه وغدت جزءا من منظومة تفكيره وسلوكه يجد نفسه وسط دوامة حيرة نفسية، وارتباك ذهني غداة تلقيه عرضا مغريا يتمثل في شغل يخلصه من براثن العطالة وأدران العوز والفاقة : ” لكنني كنت مضطرا إلى التعلق بهذه القشة حتى أنقذ نفسي من براثن البطالة والتسكع في الشوارع .. ” ص 15/ 16

عرض من رجل الأعمال الثري« حسن » الذي بعد أن تعرف على عشقه لفن الرسم والتشكيل الذي يمارسه بشغف وتفان : ” أخبرته بأنني رسام هاو، وأحب هذه الهواية إلى حد الشغف. إلا أنني لا أجني منها أي ربح مادي .. وهذا  ما يحرضني على التخلي عنها لأبحث عن عمل أرزق منه .. ” ص 9 اقترح عليه تقليد لوحات معروفة وتوقيعها بأسماء مزورة لبيعها بأثمنة محترمة توفر له دخلا يضمن له عيشا كريما : ” لا أحد يستطيع أن يتأكد أن هذه اللوحات مجرد نسخ مزورة… زد على ذلك أن أكثر زبنائنا لا يفقهون شيئا في الفن.. فهم يقتنون اللوحات لتزيين بعض محلاتهم التجارية ..” ص  15 حسب تأكيد السيد حسن، مما زج بيوسف في نفق حيرة عارمة قبل أن يقدم على اقتراف فعل يتنافى ومبادئه الأخلاقية والفكرية: ” الرجل يا سيدتي يريدني أن أقلد بعض اللوحات، يتكفل هو بوضع تواقيع مزورة عليها.” ص 21 ليساهم في عملية تزوير وتدليس منافية لقيم الفن وغاياته: ” حين أفكر في طبيعة عملي المرتبط أساسا بتقليد لوحات الآخرين ، بل وبتزويرها ..” ص 43 ، لترخي مفارقة معضلة الشغل وآفة العطالة وعرض فرصة العمل المقدمة من السيد حسن بطابعها المشبوه بظلالها على كيان يوسف وتعميقها لإرهاصات أزمة أخلاقية وثقافية ما فتئت مظاهرها وتبعاتها تتضاعف وتتفاقم . فهاجس وهَمّ العثور على الشغل غدا قاسما مشتركا بين أفراد محيطه الأسري فتسأله والدته : ” ألم تجد أي شغل بعد؟” ص 16 ، كما أن صفقة التزوير خلفت في نفسه أثرا عميقا تجلله الحيرة والقلق خصوصا موقف منى الرافض لهكذا سلوك ناشز وهجين : ” ــ ترفض طبعا.. هذه جريمة لا يمكنك المشاركة فيها.. هي بالتأكيد ضد الأخلاق والقانون ” ص 22 ، ورغم بحثه عن مسوغات ومبررات تدرأ عنه محاولة الانفلات والتنكر لمرجعية ثوابت أخلاقية وثقافية تربى في حضنها، وتشبع بقيمها ومواضعاتها إلا أن موقفه يظل فاقدا لعمق الإقناع، ورجاحة الرأي في رده على منى : ” عن أية جريمة تتحدثين يا سيدتي… إن الرجل أخبرني بأن الكثير من الفنانين يقومون بهذا العمل… الجريمة هي أن أظل هكذا أتسكع في  الأزقة دون عمل ..” ص 22

فمبرر التخلص من ربقة البطالة لاقتراف عملية تزوير شنيعة إسوة بفنانين آخرين لم تقنع منى التي جابهته بحزم وصلابة : ” أنت الآن ، وبكل بساطة تبحث عن مبررات تسيغ لك القيام بعمل قذر ولا أخلاقي.. هو بكل تأكيد يتعارض مع المبادئ التي ظللت دائما تؤمن بها .. ” ص 23 . أمام وضع اجتماعي مزر يستدعي الانعتاق من نيره العثور على عمل يقيه ضنك العيش ومتطلباته المتزايدة خصوصا أنه ينتمي لأسرة ذات دخل محدود : ” أبي مستخدم بسيط في إحدى الشركات من القطاع شبه عمومي. ” ص47

قبِل، على مضض، امتهان شغل مشبوه مضحيا بعلاقته مع منى والتي تقوم على مبادئ راسخة تصر على التمسك بها : ” ــ اسمع يا يوسف ، أقسمت أن لا ألتقي بك حتى تترك ذلك العمل . عندما تحسم أمرك اتصل بي لنلتقي.” ص 71، وما ينجم عن ذلك من تنكر صعب ومكلف لعلاقة عشق متجذرة بذهنه ووجدانه : ” وماذا سيحدث لو قطعت اتصالي بمنى حقا أعرف جيدا أنني أحبها… لقد وضعتني أمام اختيار.. إما هي وإما عملي مع السيد حسن .. ” ص 74، واختار طريقا يتنافى ومبادئه مرجحا رغبة الحصول على دخل يغطي به مصاريف حياته، وينأى به عن محنة البطالة وما تفرزه من معاناة ومكابدة كما هو حال ثلة من أصدقائه.

: ” كل مساء اعتدت أن أجتمع بلفيف من الأصدقاء في مقهى بحي الألفة حيث أقطن، أصدقاء الدراسة الذين أنهوا تعليمهم وحصلوا على شواهد تؤهلهم لدخول سوق العمل، تخصصاتهم متعددة ما بين اللغات والاقتصاد والعلوم، لكنهم ما زالوا على حالهم، يعيشون على إيقاع البطالة …” ص 60، لينخرطوا في أعمال بعيدة عن مجال دراستهم؛ كالمتاجرة في السلع المهربة من الشمال، أو التفكير في موضوع الهجرة إلى أوربا ولو عن طريق الهجرة السرية وحتى (الحريك) إن اقتضى الحال، وإن كان له موقف مغاير لأصدقائه بخصوص الهجرة : ” هل تصدق أن أوربا جنة على الأرض.

إذا ذهبت إلى هناك يا صديقي، فشمر على ساعد الجد، سوف تشتغل في أشغال لا تقوم بها سوى الدواب ” ص 64، إلا أن تسخير فنه لتقليد رسم لوحات وتوقيعها بأسماء مزورة لقي معارضة من طرف هدى ابنة السي حسن : ” أنت فنان موهوب لم تضيع وقتك في تقليد لوحات الآخرين ؟.. لم لا ترسم لوحاتك الخاصة… ثق بي أنك موهوب جدا عملك يدل على ذلك وهذا العمل لا يناسبك. ” ص 78 التي فتحت أمامه كوة أمل منبعه الثقة في ملكته الفنية مقترحة دعمه بعرض لوحاته على أساتذتها بفرنسا حيث يختلف الاهتمام بالفن التشكيلي والتعاطي معه مما يشرع أمامه آفاقا مغايرة هناك  ” في فرنسا الأمر مختلف.. هناك يوجد اهتمام حقيقي بالفن.. أعرف رسامين محدودي المواهب، ومع ذلك يتم الاحتفاء بهم، وتباع لوحاتهم بأثمنة لا تخطر لك على البال” ص 79 .

كما كشفت له حقيقة والدها الذي لا تربطه أي علاقة بالفن فهمُّه هو ربح المال، ومراكمة الثروات : ” الحقيقة أن أبي لن يسعده أبدا أن تنال فرصتك.. من مصلحته أن تظل تحت تصرفه إنه يستغلك ويكسب من ورائك ووراء أمثالك الكثير من المال.” 80 لتودعه بخبر محير عن والدها لم تكشف عن تفاصيله : ” لا أستطيع أن أخبرك بشيء.. سأتركك تكتشف الأمر بنفسك “ص 81 ، ولم يثنه ذلك عن مواصلة أشواط علاقته بحسن إلى أن اكتشف ميولاته الجنسية الشاذة أثناء اختلائه به وسط إقامته الفاخرة بسيدي بوزيد :

“ــ ماذا تقصد ؟..هل أنت شاذ…ــ ما هذه الكلمات القاسية …أنا فقط عاطفي، ورومانسي.. أحب أن أعيش حياتي حتى الثمالة . ” ص 95 حيث اتضحت صورته الحقيقية ورغبته المقيتة في إرضاء نزواته الجنسية الرعناء : ” أنا لا أطلب كثيرا فقط لقاء واحد في الشهر ” ص 96 لتنتهي فصول علاقة مبنية على التزوير مع رجل يعاني من عُقد  جنسية شاذة، وجشع مادي لا محدود.

وإذا كانت الأخلاق بعمقها القيمي، وثوابتها الثقافية الراسخة سببا في القطع مع علاقة عكرة بأهداف دنيئة فإن للحلم جانبا جماليا ودلاليا في إرساء إرهاصات هذه القطيعة : ” رأيت نفسي وأنا أمشي في حقل واسع شديد الخضرة.. العالم من حولي غير العالم …” ص 83 لتتشعب مسلكيات المكان وتتفرع فيلفي نفسه أمام لوحة : ” فإذا بلوحة تنتصب أمامي ، زاهية الألوان تفرض على المرء سطوتها… حين أمعنت فيها النظر ، أثار انتباهي عنكبوت صغيرة، سوداء اللون، تتحرك برشاقة داخل اللوحة… العنكبوت تضخمت بشكل لا يصدق.. ”  84 ، فتتحول هذه العنكبوت إلى كائن هائل ومرعب : ” العنكبوت تضخمت بشكل لا يصدق…

بعد لحظات التصقت بي ضغطتني نحو الحائط… ” ص 84، وتنسج علاقة غير مفهومة مع شخصية  حسن : ” لا أدري كيف حضر في ذهني تلك اللحظة السيد حسن … لا أفهم العلاقة التي يمكن أن يربطها المرء بينه وبين العنكبوت .. ” ص 85 لينخرط في نسيج الحلم بشكل زئبقي، مستعص على القبض : ” فجأة تنبثق من العدم صورة منى تحتل المكان من حولي … أحاول أن أتمسك بها ، فلا أتحصل سوى على الفراغ … ” ص  85 ، وتنتهي تفاصيل الحلم الكابوس : ” فانتفضت بكل ما أملك من قوة فإذا بي أجد نفسي على  سريري أتصبب عرقا …” ص 86، حيث يقترن الحلم بالمبادئ الأخلاقية، والأسس الثقافية بعد عودة يوسف إلى معدنه الأصيل المشكل من نبل قيم، وصفاء أفكار تقاسمها مع رفيقة درب حياته منى التي نشأت وترعرعت داخل محيط تسوده صدقية المواقف، وما يستدعيه التمسك بها والذود عن حرمتها من تضحيات جسام كما هو حال والدها : ” ابنته الوحيدة تشربت كثيرا من كلامه وخصاله..

المبادئ الكبرى محركه في الحياة.. ” ص 32، أب زج به نضاله من أجل مبادئ الحرية والكرامة إلى وضعية مزرية : ” لقد أوقف عن العمل لمدة ثلاث سنوات ، عانى فيها من الحاجة والمهانة ” ص 33  ، آلت به إلى اعتقال تعسفي جائر : ” اعتقل ثم أوقف عن العمل لمدة.. ولم يتم إرجاعه إلى الوظيفة إلا بعد مدة لا تقل عن ثلاث سنوات . ” ص 35. فتجاور الحلم المزعج كمكون جمالي والمبدأ الأخلاقي القيمي منحا الرواية شحنة دلالية أثرت بشكل فارق على تغيير منحى ناشز انخرط فيه يوسف لتحقيق مآرب نفعية تصونه من آفة البطالة ليعود إلى جادة الصواب مستأنفا علاقته بمنى ومعيدا دفء حميميتها وألفتها وألقها عبر مكالمة هاتفية اتفقا من خلالها على لقاء قريب : ” ــ أراك مساء . بغنج قالت: ــ سأنتظرك بشوق ” ص 100 بعد أن أخطرها بإنهاء علاقته مع السيد حسن : ” لقد كنت على حق، لقد تخلصت من الرجل وعمله .” ص 100.

وإذا كان لعنصر الحلم/ الكابوس والأساس الأخلاقي الثقافي ثقل جمالي ودلالي في توجيه دفة الحكي نحو الوجهة السليمة فالرواية غنية بمقومات سردية من قبيل أمكنة تؤثث الفضاء الرئيسي لمدينة الدار البيضاء بمحطات مثل (حديقة الجامعة العربية، وحي الألفة  مقر سكن السارد يوسف، والمعاريف، وساحة مارشال، وفندق حياة ريجنسي، ودرب غلف، وسينما لامبير…)، فضلا عن فضاءات، بقيمة أقل، وردت في سياق الحكي ومجرياته كسيدي بوزيد، وسيدي رحال، وسجن العادر، وبادية اشتوكة، ومدينة الجديدة.

وشخصيات تتميز بالتعدد والتنوع كيوسف السارد ورفيقته منى والسيد حسن وابنته هدى، ووالد منى، وسعيد، وخالد،  وسعد، وسمير أصدقاء يوسف. فضلا عن توظيف للتاريخ عن طريق منحى يعمق أبعاد الرواية ويغنيها : ” أفكر في حرب الفيتنام والأثر العميق الذي خلفته في نفسية المواطن الأمريكي ..” ص 56 ، في شقها الكوني الإنساني  ( حرب الفيتنام) ، والقومي العربي ( العدوان الأمريكي على العراق ) : ” قال المذيع أن أمريكا هاجمت العراق” ص 76 ، في إشارة بصيغة نقدية لما  تعيشه الوضعية العربية من فرقة وتشرذم : ” فالشعوب العربية مغيبة ، إنها مغلوبة على أمرها .. ” ص 70. ويتوسل الكاتب بعنصر الوصف لإضفاء جمالية تعبيرية على مشهديات المتن الروائي بنفحة رومانسية حينا : ” الأشجار الشديدة الخضرة تخضبت ببعض السواد… ” ص 18 وتصوير واقع مدينة من حجم الدار البيضاء وما تعج به من اكتظاظ وازدحام أحيانا : ” طابور السيارات والحافلات انتظم على مدار البصر في انتظار الضوء الأخضر ليزحف من جديد.. ” ص 52 ، كما يتناول موضوعات كالفن التشكيلي الذي استحوذ على ذهن السارد وحسه فانغمس في أجوائه عاشقا ومبدعا ، وميولاته البارزة لألوان غنائية ( ناس الغيوان ، وبوب مارلي ) ، وموضوع الشغل ببلاده والذي حذا بفئة من خريجي الجامعة إلى امتهان أشغال لا تناسب مستواهم الجامعي من اتجار في السلع المهربة ، أو التفكير والتخطيط للهجرة نحو أوربا ومزاولة أي عمل ، هناك ، يجنون  منه دخلا ماديا : ” هنا الناس يعرفونني ولا أستطيع أن أقوم بأي عمل وضيع بعد أن أنهيت دراستي وحلمت بالوظيفة … أما هناك فلا أحد يعرفني ، يمكن أن أبدأ حياتي من جديد ، وكأنني لم أدرس يوما…” ص 65.

فرقصة العنكبوت عمل روائي يندرج ضمن أعمال الكاتب والأديب المغربي مصطفى لغتيري الذي أنتج ، بغزارة وانتظام ، منجزات سردية غنية بقيمة موضوعاتها الصادرة عن رؤية إبداعية تروم الغوص في تفاصيل المجتمع والكشف عما يخترمها من نواقص وآفات في قالب  ينصهر فيه الجمالي الخلاق بالنقدي الكشاف.

ـ المغرب

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الكتاب:   رقصة العنكبوت، رواية.

المطبعة  : مطبعة بلال ــ فاس،  طبعة ثانية 2019 .

 

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة