عرض: خليل جهشان
مارك كاتز Mark N. Katz))، أكاديمي أميركي يدرّس العلوم السياسية والدراسات الحكومية في جامعة جورج ميسون (George Mason) الواقعة في ولاية فرجينيا بالقرب من العاصمة الأميركية واشنطن. حصل كاتز على لقب الدكتوراه من جامعة إم. آي. تي (M.I.T.) في العلوم السياسية، وعمل باحثا في العديد من مؤسسات البحث الرسمية والخاصة، ومنها مؤسسة بروكينجز، مؤسسة كينان، مؤسسة روكيفيلير، مؤسسة السلام الأميركية، مجلس سياسة الشرق الأوسط، إضافة إلي فترة وجيزة قضاها في الخارجية الأميركية باحثا في الشؤون السوفياتية. وقد صدر للمؤلف خلال العقدين الماضيين العديد من الكتب والمقالات في مجال الحركات الثورية، سياسات الاتحاد السوفياتي سابقا وروسيا حاليا، والعلاقات الدولية تجاه الشرق الأوسط، أهمها “روسيا والعربية السعودية: سياسة روسيا الخارجية تجاه شبه الجزيرة العربية” (1985)، وآخر بعنوان “تأملات حول الثورات” (1998).
ملخص الكتاب
يشكل هذا الكتاب جزءا من الجدل الفكري الجاري حاليا في الولايات المتحدة حول جدوى ومستقبل الحرب ضد الإرهاب التي شنتها الإدارات الأميركية المتتالية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 والتي أدت إلى الاحتلال الأميركي لأفغانستان ومن ثم العراق بحجة القضاء على الإرهاب الدولي المعادي لأميركا ومصالحها الإستراتيجية. وازدادت حدة هذا الجدل نتيجة الانسحاب الأميركي غير الكامل من العراق وإعلان الرئيس أوباما التزامه بالانسحاب من أفغانستان قبل نهاية عام 2014، مما دفع المعارضين لسياساته من جمهوريين وديمقراطيين، على حد سواء، إلى اتهامه بالتسرع في الانسحاب من البلدين دون تحقيق الحد الأدنى من الأهداف الوطنية الأميركية المعلنة وترك البلدين في حالة هشة لا تضمن تحقيق الاستقرار والأمن والديمقراطية في أي منهما مما يقدم النصر للأعداء على طبق من فضة.
ويعترف المؤلف منذ بداية كتابه أن التدخل الأميركي في أفغانستان والعراق لم يحقق النصر لواشنطن في حربها ضد الإرهاب، كما يؤكد كذلك أن استمرار انسحابها من العراق وأفغانستان خلال السنتين القادمتين لن يقرب هذا النصر أبدا لأن الصراعات الدائرة في كلا البلدين ستستمر في حال بقاء الولايات المتحدة أو انسحابها من هناك. ويقر كاتس بأن الخروج الأميركي قد يضعف صورة الولايات المتحدة ويضر بمصالحها في العالمين العربي والإسلامي في بداية المطاف، عبر ترك الانطباع لدى الكثيرين، وخصوصا خصومها من الإسلاميين المتطرفين في المنطقة، أن واشنطن تسرعت في الخروج من البلدين وتركت المنطقة مهزومة دون تحقيق الأهداف الأساسية التي احتلت أفغانستان والعراق من أجل تحقيقها.
لكن كاتز يعتقد في نفس الوقت أن الانسحاب من العراق وأفغانستان لا يعني حتما الهزيمة للولايات المتحدة والنصر لأعدائها في الحرب المستمرة ضد الإرهاب، بل إن الانسحاب سيفيد واشنطن على المدى البعيد حيث سيساعدها أولا في تفادي الثمن الباهظ الذي ستتكبده نتيجة استمرارها في شن حروب خاسرة لا منفعة منها، وسيتيح لها ثانيا فرصا جديدة قد تستغلها لإضعاف خصومها من قوى التطرف الإسلامي والتغلب عليهم في ظروف أفضل وأكثر قابلية لتحقيق أهدافها في المستقبل، كما حدث للولايات المتحدة بعد خروجها من جنوب شرق آسيا نتيجة الثقة المفرطة والتوسع السريع لأعدائها الماركسيين في سنوات السبعينات.
مصير الحرب ضد الإرهاب
يخصص الكاتب الجزء الأول من الكتاب للحديث عن الحرب ضد الإرهاب، ويستنتج بكل صراحة أنها لن تنتهي في المستقبل القريب، بل هناك، حسب رأيه، أربعة سيناريوهات ممكنة حول مستقبل هذه الحرب. الاحتمال الأول، وهو السيناريو الأفضل من وجهة النظر الأميركية، يتمثل في فشل الحركات الإسلامية المتطرفة في إحراز أي تقدم ملحوظ نتيجة الانسحاب الأميركي من المنطقة وتمسك واشنطن بمواقفها وسياساتها مما سيؤدي إلى تراجع الدعم الشعبي لهذه الحركات الجهادية. لكن كاتز اعتبر هذا الاحتمال صعب المنال إن لم يكن غير وارد كليا.
أما الاحتمال الثاني، وهو أيضا مستحيل حسب رأي الكاتب، فيعكس أسوأ سيناريو ممكن من وجهة النظر الأميركية، ألا وهو تحقيق تنبؤ أسامة بن لادن قبل أحداث 11 سبتمبر والداعي إلى طرد الولايات المتحدة بالقوة من العالم الإسلامي مما سيؤدي إلى سقوط الأنظمة التي تدعمها واشنطن واستبدالها جميعا بخلافة إسلامية توحد العالم الإسلامي بأجمعه تحت رايتها. لكن كاتز يرى أن حلم بن لادن هذا هو أيضا غير قابل للتحقيق لأسباب ثلاثة:
إن الانسحاب من العراق وأفغانستان لا يشكل بأي شكل من الأشكال انسحابا أميركيا كاملا من العالم الإسلامي، فواشنطن لن تتوقف كليا -حسب رأي الكاتب- عن دعم حلفائها في المنطقة ضد الحركات الإسلامية المتطرفة.
إن انسحاب أميركا كليا من العالم الإسلامي لا يعني بالضرورة انهيار جميع الأنظمة التي تدعمها واشنطن.
حتى لو نشأت بالفعل عدة أنظمة إسلامية متطرفة لن تنجح هذه الأنظمة في التوحد تلقائيا في إطار دولة واحدة بسبب الخلافات والانقسامات المتوقعة بينها.
السيناريو الثالث، حسب رأي الكاتب، إيجابي ووارد في نفس الوقت، ويتمثل في نجاح الانسحاب الأميركي من العراق وأفغانستان رغم كل التنبؤات المتشائمة، مما سيؤدي إلى إضفاء الشرعية على النظامين العراقي والأفغاني وإعطائهما فرصة التغلب على أعدائهما داخليا وخارجيا والبدء في تطوير البلدين سياسيا واقتصاديا بشكل جاد. بمعنى آخر، ?نّ الانسحاب الأميركي من العراق وأفغانستان لا يعني حتما سقوط النظامين هناك.
أما الاحتمال الرابع فيعتبره الكاتب سيئا، ولكنه وارد في نفس الوقت، وهو تصور متشائم لمستقبل العالم الإسلامي الذي يتوقع أن يزداد تشرذما مع وصول الحركات الإسلامية المتطرفة إلى الحكم مما سيؤدي إلى تفاقم الصراعات الداخلية والخارجية في المنطقة.
لماذا فشلت أميركا في تعزيز الديمقراطية في العراق وأفغانستان؟
يتحدث المؤلف في هذا الجزء من الكتاب المثير للاهتمام عن أسباب فشل الولايات المتحدة في نشر الديمقراطية في العراق وأفغانستان، ويحمل واشنطن بعض المسؤولية في هذا الخصوص، لكنه يحاول أن يتجاهل السبب الرئيس، وهو أن الديمقراطية ليست سلعة قابلة للاستيراد والتصدير، بل تنبع بالأساس من إرادة الشعوب. فالتوقعات الأميركية بالنسبة لنشر الديمقراطية في العراق وأفغانستان الرازختين تحت وطأة الاحتلال الأميركي على ظهر الدبابات وفي رؤوس الحراب هي قمة السذاجة السياسية والتعالي الثقافي والغطرسة.
ويمدح المؤلف الولايات المتحدة على نجاحها في خلق الظروف المناسبة في العراق لعقد الانتخابات على الصعيدين المحلي والوطني، وكأن الانتخابات والديمقراطية هما نفس الشيء، لكنه يوجه اللوم للسلطات الأميركية لفشلها في التقريب بين مواقف المجموعات العرقية والدينية المختلفة وإقناعها بالتعاون فيما بينها بشكل فاعل وكامل من أجل تحقيق الاستقرار وتعزيز الديمقراطية في العراق. كما ينتقد كاتز الحكومة الأميركية على فشلها في ضمان فترة انتقال هادئة نحو الديمقراطية وتفادي حملات التطهير العرقي في العراق، لكنه يبرر ذلك بقلة أعداد الجنود الأميركيين خلال الفترة الأولى من الاحتلال وبالعداوة التاريخية والعميقة بين السنة والشيعة والأكراد والتي سبقت التدخل الأميركي في العراق عام 2003.
أما بالنسبة لأفغانستان فيعتبر المؤلف أن الولايات المتحدة فشلت فشلا ذريعا في بناء نظام ديمقراطي مستقر بسبب احتلالها العراق وتكريس جزء كبير من طاقاتها البشرية والمادية للحرب العراقية بدلا من تركيز كل جهودها على الحرب الأفغانية. لكن كاتز يوجه أيضا بعض اللوم للنظام الأفغاني نفسه حيث ينفرد رئيس الجمهورية الضعيف حامد كرزاي بالسلطة التنفيذية على حساب البرلمان والسلطات المحلية. وكما فعل بالنسبة للعراق، يوجه الكاتب اللوم مرة أخرى على الخلافات الإثنية داخل أفغانستان وكأنه لا أثر للاحتلال الأميركي على تأزم تلك الخلافات داخل أفغانستان وخارجها.
إستراتيجية أوباما في الحرب ضد الإرهاب
يذكرنا المؤلف في هذا الجزء من الكتاب أن الحرب ضد الإرهاب هي من صنع إدارة الرئيس السابق جورج بوش الابن، ويسرد علينا الانتقادات اللاذعة التي وجهها مرشح الرئاسة آنذاك، السيناتور باراك أوباما، الذي اتهم سلفه بسوء إدارة الحرب وبالتكلفة العالية للقوات الأميركية في العراق، ومعاداة العالم العربي والإسلامي دون سبب، وإضعاف علاقات واشنطن مع حلفائها الغربيين دون إحراز أي تقدم ملحوظ في الحد من انتشار أنشطة الحركات الإسلامية المتطرفة.
ثم ينتقل كاتز إلى شرح نقاط التغيير العديدة التي أدخلتها إدارة الرئيس أوباما على السياسة الخارجية الأميركية بعد وصوله إلى البيت الأبيض وأهمها تبني مبدأ المشاركة والتنسيق مع الحلفاء (multilateralism) بدلا من الانفراد في اتخاذ القرار (unilateralism) وخصوصا في ما يتعلق باللجوء إلى استعمال القوة العسكرية. كما تضم لائحة التغييرات التي يتضمنها الكتاب التزام أوباما بالانسحاب -ولو تدريجيا- من العراق وأفغانستان بدلا من توسيع حلقة ووتيرة الحرب هناك، والكف عن سياسة بوش الساعية إلى نشر الديمقراطية في”الشرق الأوسط الكبير”، والتركيز بشكل أكبر على المحاولات والجهود الدبلوماسية لإيجاد حلول سلمية، وخصوصا بالنسبة للنزاع الإسرائيلي-الفلسطيني. ويعترف المؤلف أن المشاكل الداخلية التي واجهها أوباما منذ تسلّمه السلطة، وخصوصا على الصعيد الاقتصادي، أجبرته على توجيه معظم جهوده إلى تحقيق أجندته الداخلية والى قضايا خارجية أخرى غير الحرب على الإرهاب الدولي.
ولكن بالرغم من كل هذه التغييرات لم تنجح الإدارة الحالية -كما يعترف المؤلف- في تحقيق الأهداف التي فشلت الإدارة السابقة في إنجازها سوى بعض التحسن في العلاقات الثنائية مع الدول الحليفة وبعض الدول العربية والإسلامية التي عارضت سياسات بوش المتشددة والعنجهية وانفراده في اتخاذ القرار. لكن معضلة الحرب على الإرهاب ما زالت دون حل دائم والوضع في العراق وأفغانستان لم يتحسن بشكل ملحوظ رغم الانسحاب الحقيقي أو المزمع تنفيذه من البلدين. كذلك فشلت إدارة أوباما في تحقيق أي تقدم في مساعيها لتحقيق الإصلاح والاستقرار في أفغانستان أو لتحقيق السلام في الشرق الأوسط. فالحرب ضد الحركات المتطرفة ما زال قائما رغم نجاح الإدارة الأميركية في قتل بن لادن حيث ما زالت القاعدة والمنظمات المرتبطة بها ناشطة في مناطق عديدة من العالم وربما ازدادت قوة في بعض البلدان مثل باكستان، واليمن، والصومال.
ماذا ينبغي على الولايات المتحدة فعله الآن؟
هنا يكمن بالأساس ضعف الكتاب. فرغم أنه كتاب يمتاز بالتشخيص الدقيق، لكنه يخلو من التكهن أو التنبؤ بالعلاج الملائم. يثير المؤلف الكثير من الأسئلة الهامة والصعبة ولكنه لم يكن موفقا في الإجابة بشكل قاطع ومقنع سوى على القليل منها. فالخطوات التي يعرضها المؤلف على صناع القرار في واشنطن ليست سيئة بحد ذاتها، لكنها تعتبر إلى حد ما عامة، سطحية، وصعبة المنال نتيجة اعتماد كاتز على المقارنة الخاطئة بين الحرب ضد الإرهاب، من ناحية، والحرب الباردة، وخصوصا حرب فيتنام، من ناحية أخرى، رغم الخلافات الموضوعية والجوهرية بين الحربين. فيشبه المؤلف الانسحاب الأميركي من العراق وأفغانستان بالانسحاب من فيتنام في أوائل السبعينات، ويقع في فخ المقارنة بين الحركات الإسلامية المتطرفة وألفيت كونغ (*) ويراهن في نظريته على قيام الإسلاميين حتما بارتكاب نفس أخطاء ألفيت كونغ وهي الغطرسة والثقة المفرطة مما سينقذ الولايات المتحدة من مغبة الأخطاء الفادحة التي ارتكبتها في العراق وأفغانستان ويمنحها فرصة جديدة للمناورة والانتصار على أعدائها في المستقبل.
يعتقد المؤلف أن الولايات المتحدة أصبحت الآن بحاجة ماسة إلى تبني نظرة جديدة حول التعامل مع الجوانب الأساسية الأربعة التي ترتكز عليها الحرب الأميركية ضد الإرهاب، لأن واشنطن لا تملك أي خيارات سهلة لإنهاء هذه الحرب أو الخروج منها كليا. وتتطلب هذه النظرة الجديدة من صناع القرار في واشنطن، حسب رأي كاتز، ما يلي:
الاعتراف بالأخطاء الجوهرية التي ارتكبتها إدارة الرئيس جورج بوش في شن حربها الفاشلة ضد الإرهاب وتفادي هذه الأخطاء من أجل إحراز نتائج أفصل عبر الأساليب الجديدة التي يتوجب على الإدارة الحالية تبنيها.
لن تستطيع إدارة الرئيس أوباما في المستقبل التراجع عن قرارها بالانسحاب من العراق وأفغانستان وعليها، تبعا لذلك، التركيز على الفرص المتاحة لها بعد الانسحاب وكيفية الاستفادة منها بدلا من التركيز على المخاطر المترتبة عن هذا الانسحاب.
على الإدارة الأميركية أن تدرك بوضوح وجود صراعات ومشاكل عديدة في المنطقة، بعضها في الواقع سبق بداية حربها على الإرهاب، وعليها أن تدرك أنّ باستطاعتها إنهاء أو فصل البعض منها عن الحرب ضد الإرهاب رغم أن هذا يتطلب سياسات ومواقف جديدة غير التي عشناها حتى الآن.
يتوجب على صانع القرار الأميركي أن يأخذ بعين الاعتبار التغييرات الجديدة التي طرأت على المنطقة، مثل مقتل أسامة بن لادن، وتطورات الربيع العربي طوال العام الماضي ومدى تأثيرها على الخلفية التاريخية والجيوسياسية على الحرب ضد الإرهاب.
قد يتفق البعض مع مارك كاتز فيما يحتويه كتابه من أفكار ونصائح إيجابية من وجهة النظر الأميركية، لكن صانع القرار الأميركي سيثبت لنا مرة أخرى أن تقديم النصائح أسهل بكثير من تنفيذها.
_______________
Mark N. Katz.Leaving Without Losing: The War on Terror After Iraq and Afghanistan. Baltimore: The Johns Hopkins University Press, 2012. 160 pages.$19.95.
عرض الكتاب: خليل جهشان، محاضر في الدراسات الدولية بجامعة ببردين بالولايات المتحدة الأميركية.
(*) ألفيت كونغ، هي الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام (Vi?t c?ng)، وهي حركة مقاومة مسلحة نشطت بين 1954-1976. (المحرر).