مع ظهور مفردة الحاكمية في القاموس السياسي للجماعات الجهادية بعد أن استنساخ هذا اللفظ من ثقافة مختلفة وبشكل لا يتناسب مع قواعد اللغة، وجدنا أن متوالية الخداع اللغوي التي استخدمها تيار الإسلام التكفيري قد تحولت إلى أداة لتحميل اللغة معاني لا تحملها والتحول بالسياق اللغوي من سياقه الطبيعي إلى سياق مخالف للمعاني المتعارف عليها في اللغة العربية، بما جعل السياق الديني التي تدور فيها هذه المفردات وتتفاعل من خلالها سياقا مخالفا للتفكير العلمي المنطقي وفقا للقاعدة المنطقية التي تعتبر أن اللغة هى وعاء الفكر، وأن الإنسان يفكركما يتكلم، وهو ما يجعل أي تلاعب عمدي في معاني اللغة يرقى إلى جريمة التلاعب بالعقول وخداعها..
وبعد أن نجح التيار التكفيري في تسويق مفردة ” الحاكمية” وهى مفردة غير صحيحة لغويا لجأ نفس التيار لتسويق مفردة جديدة تتماهي مع فكره التكفيري وتصب في اتجاه التأسيس لخطاب من نوع غريب لم تألفه الثقافة الإسلامية لا في عصر النبوة الأولى، ولا في عصور ازدهار الحضارة الإسلامية، بل أن مثل هذه المفردات لم تظهر حتى في فترات الفتن التي عصفت بالمسلمين.
ومن متوالية المفردات التي روج لها أصحاب مفردة الحاكمية لفظ الطاغوت، وعن طريق توصيف خاطئ لسياق القرآن الكريم تم إسقاط هذا اللفظ على الحكومات المدنية التي تحكم دولها بناء على اختيارات مدنية لا دينية، وللتأسيس للفظ الطاغوت كلفظ ديني تكفيري ومفردة سياسية تخدم هدف التسويق للتيار التكفير لجأ أصحاب مفردة الحاكمية لاستخدام آية قرآنية ورد فيها لفظ الطاغوت بشكل يسقط المعنى الدلالي للآية وللمفردة على الحكومات المدنية في العالم الإسلامي، وهو إسقاط كاذب يرقى إلى درجة الافتراء على القرآن الكريم وتزييف معاني الآية التي وردت فيها هذه اللفظ والتقول على المولى سبحانه وتعالي بما لم يقله.
يقول المولى عز وجل في الآية 60 من سورة النساء : ( ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به )،وهذه الآية هي أكثر الآيات التي وظفها التيار التكفيري وأسقط عليها في وصف الأنظمة المدنية بالطاغوت، فضلا عن تكفيرها وتكفير كل من يعمل في خدمتها سواء في الجيش أو الشرطة أو المؤسسات السيادية أو حتى في دوائر الحكومة ووظائفها العادية، وبسبب نجاح التيار التكفيري في التسويق السياسي لهذه المفردة شهد عقد الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، وحتي بداية الألفية الجديدة ترك عدد كبير من الشباب لوظائفهم الحكومية ليتحولوا لباعة جائلين أو سائقي سيارات أجرة على اعتبار أن وجودهم في وظائفهم يجعلهم في خدمة الطاغوت الذي جري التسويق لها سياسيا على أنه يساوي أنظمة الحكم المدنية.
وبالرجوع إلى الآية ( ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ) فإن سبب نزول هذه الآية خصومة كانت بين نزلت في رجلين: رجل من منافقي المدينة أظهر إسلامه وأبطن الكفر يقال له”بشر”، وفي رجل من اليهود، فدعا اليهودي المنافق “بشر”، للاحتكام للنبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن المنافق “بشر” أصر على أن يحتكم إلى بردة الأسلمي وكان كاهنا لليهود في المدينة ويعرف عنه أنه يأخذ الرشوة، فنزلت الآية : يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به، أما معنى الطاغوت اللغوي المشار له في المعاجم اللغوية فهو الكاهن، فالعرب كانوا يقولون عن الكاهن طاغوتا، وكان العرب يقولون أيضا عن الساخر طاغوتا، والمعنى الظاهر من الآية هنا الذي لا يحتمل الالتباس أن الله سبحانه وتعالى قد ضرب المثل بالمنافق بشر الذي رفض أن يذهب للنبى صلى الله عليه وسلم ليحكم في الخلاف بينه وبين اليهودي، وفضل أن يذهب لشخص آخر وظيفته “طاغوت” أى كاهن أو ساخر كما كان يجري على لسان العرب، فالمقصود بمفردة الطاغوت في هذه الآية الكريمة هي وظيفة الكاهن أو الساحر الذي أراد أن يحتكم له المنافق بشر مع خصمه اليهودي، وهو ما يظهر من سبب نزول الآية وهو ما يخالف السياق التكفيري الذي وظفه تيار الإسلام السياسي في تحميل هذه الآية فوق سياقها اللغوي والتاريخي، والاستمرار في لعبة مجافاة اللغة والخداع اللغوي بمتواليات لفظية تخدم الإسقاط السياسي الخاطئ لسياق مجتزأ من بعض الآيات القرآنية للتأسيس لخطاب تكفيري يجافي اللغة والمنطق.
يقول المولى سبحانه وتعالى في كتابه الكريم : وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ ۚ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (سورة النحل- آية 36 )، فما هو معنى كلمة الطاغوت ؟ وما هو تفسيرها من وجهة نظر مفسري القرآن الكريم ومن وجهة نظر الفقه ؟ وما هي الآيات التي وردت فيها كلمة الطاغوت ؟ ولماذا يصف الإرهابيين في الدول التي تعاني من آفة الإرهاب الجيش والشرطة بالطاغوت ؟
معنى كلمة الطاغوت
في اللغة فإن كلمة الطاغوت مشتقة من الأصل اللغوي طغى ، وهى من الطغيان والطغيان مجاوزة الحدود المقبولة أو المسموح بها، ومن ذلك قول الله تعالى قوله تعالى bracket.png إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ، والمعنى في الآية، والمعنى اللغوي في هذه الآية استنادا للقرآن الكريم هو أنه لما لما زاد الماء عن الحد المعتاد حملناكم في الجارية يعني السفينة. في الاصطلاح: هو كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع. كما عرفه ابن القيم. الطاغوت هو الطاغي المعتدي أو كثير الطغيان، وكل رأس في الضلال يصرف عن طريق الخير، و يطلق أيضاً على الشيطان، والكاهن، والساحر، وكل ما عبد من دون الله من الجن و الإنس و الأصنام، وبيت الصنم. والطاغوت يطلق على المذكر والمؤنث على حد سواء ويستوي فيه الواحد وغيره، أما في الاصطلاح فقد درج اللغويون على استخدام الكلمة بمعنى الأصنام، وعلى ذلك تسمى طواغيت والأشجار والأحجار المعبودة تسمى طواغيت.
ومن أشهر الأراء الفقهية حول الطاغوت ما أورده ابن تيمية حول الطاغوت من الطغيان، والطغيان: مجاوزة الحد وهو الظلم والبغي. في المعبود من دون الله إذا لم يكن كارها لذلك طاغوت، ولهذا سمى النبي الأصنام طواغيت في الحديث الصحيح لما قال: و يتبع من يعبد الطواغيت الطواغيت. والمطاع في معصية الله، والمطاع في اتباع غير الهدى ودين الحق سواء كان مقبولا خبره المخالف لكتاب الله، أو مطاعا أمره المخالف لأمر الله هو طاغوت. وقال ابن القيم: الطاغوت كل ما تجاوز العبد به حده من معبود، أو متبوع، أو مطاع.
آيات قرآنية ذكرت فيها كلمة الطاغوت وتفسيرها
وقد تعددت الآيات القرآنية التي ورد فيها كلمة طاغوت، ومن هذه الآيات قول الله تعالى : لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( البقرة -256 ). وقول الله تعالى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا ( النساء – 51 ) . وقول الله تعالى : وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ( النحل -36 ) . وقول الله تعالى : وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ ( الزمر- 16 ).
وقد استغلت التنظيمات الإرهابية كلمة الطاغوت أسوأ استغلال، وكان استخدام هذه التنظيمات لكلمة الطاغوت على اعتبار أن هذه الكلمة تمثل الإسقاط على الأنظمة السياسية في بلدانها ومن ذلك ما استغلها الإرهابي الأردني أبو محمد المقدسي، وهو أحد أبرز منظري التنظيمات الإرهابية حول العالم، لكلمة الطاغوت في كتابه الذي يمتلئ بالكراهية ضد المجتمع والذي صدر بعنوان “ملة إبراهيم”، ويقدم المقدسي كتابه بمقدمة إنشائية مثيرة جاء فيها : “إلى الطواغيت في كل زمان ومكان، إلى سدنتها وعلمائهم المضلين، نقول لهؤلاء إنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله”. وفي داخل الكتاب يتكرر مصطلح “الطاغوت” أو “النظام الطاغوتي” في أدبيات الجماعات الجهادية وخطاباتها . ويركز الإرهابي الأردني على استخدام كلمة الطاغوت أو الطواغيت ليوجه هذه الكلمة ضد الجيش والشرطة، وهو ما أخذته عنه جميع التنظيمات الإرهابية حول العالم وقامت بدورها باستخدام كلمة الطواغيت كصفة ضد الجيش والشرطة في بلدانها.