10 أبريل، 2024 10:17 م
Search
Close this search box.

الجيل الثاني للدبلوماسية: تدافع الهويّات في السياسة الخارجية

Facebook
Twitter
LinkedIn

الكاتب: حسن صعب
المهمة الإنسانية الأسمى للدبلوماسية في الجيل الأول والثاني هي إيجاد موطئ للسلام في عالم يضج بالصراعات والاضطرابات، حيث اصطبغت خارطته الحالية باللون الأحمر القاتم.
يقول المؤلف ياسر عبد الحسين، في مقدّمة كتابه “الجيل الثاني للدبلوماسية: تدافع الهويّات في السياسة الخارجية” الصادر حديثاً عن دار الرافدين للطباعة والنشر والتوزيع في بيروت، إن موضوع الهويّة يشكّل موضوعاً ساخناً وحاسماً ومقلقاً في المجتمعات، وخصوصاً تلك التي تعيش التحوّلات الانتقالية، وحتى المجتمعات شبه المستقرة. ومع أن موضوع الهوية ليس بجديد، لكن الجديد يتمثل في أن الجماعات والمكوّنات باتت تعتقد أن هوياتها لا تحظى بالاعتراف الكافي؛ ولهذا هي تجد الفرصة الكبيرة في عالم اليوم، مع موجات العولمة المتزايدة، وضعف فكرة الدولة الوستفالية، وتصاعد الاستثمار السوقي، في ظل تفكك المجتمعات الديمقراطية إلى شرائح تستند إلى هويات ضيّقة، في مقابل ضعف الهويّة الوطنية أو غيابها.

لقد أصبح البحث عن الهوية مشكلة العصر، والتي كُتِب عنها مئات الكتب؛ لكن دراسة تأثير هذه المشكلة على السياسة الخارجية تبقى شبه منعدمة. وفي أتون عالم الدبلوماسية اليوم بتنا نعيش جيلين: الجيل الأول، الذي نسجته أوراق ميكيافيلي التي كتبها على طاولة مكتبه في فلورنس، وصولاً إلى ما كتبه هنري كيسنجر في جزءين عن الدبلوماسية؛ والجيل الثاني، الذي يمثّله عالم الدبلوماسية اليوم، والتي تؤدي فيه دبلوماسية الهوية، فردية كانت أم جماعية، دوراً كبيراً.

إن الهوية اتخذت اليوم، في مدارك الاهتمام على مستوى العلاقات الدولية والسياسة الخارجية، شكلين أو نمطين:

– النمط الأول: صورة الهوية الداخلية وتأثيرها في النسيج السياسي المجتمعي، من حيث إسهامها بصنع السياسة الخارجية في بوتقة مجتمعية تنعكس للعالم الخارجي.

– النمط الثاني: صورة الهوية الخارجية للدولة عبر أدوات السياسة الخارجية، والتي تشكّل صورة الدولة ومقياس تفاعلها مع النظام العالمي.

ويضيف المؤلف: إن هدف هذا الكتاب هو البحث عن منهج جديد لتحليل السياسة الخارجية من باب فهم الهوية وإدراكها، حتى على مستوى الثقافة الجماهيرية. فالحديث ليس عن مفهوم الرأي العام ودرجة انسجامه مع مؤشرات السياسة الخارجية ومواقفها، لأن السياسة الخارجية والرأي العام نهران لا يلتقيان في أكثر الأحداث؛ وإنما الحديث هو عن سياق الدعم والاتفاق العام الداخلي على ثوابت ومنطلقات ورؤى السياسة الخارجية التي يطرحها صانع القرار، وخصوصاً في مسار عملية بناء دولة مؤسسيّة قادرة على توفير مقياس المصلحة العامة لتلك المجتمعات.

وفي الكتاب محاولة للبحث عن منطق تحليلي يُعدّ أقرب للحقيقة في عالم السياسة التي يكون فيها الثابت متغيراً، في عالم يسوده الشك، وفقدان الثقة، وانتشار القوّة، والتشظي، حتى بات من الصعب تحليل سلوك الوحدات الفاعلة على مستوى العلاقات الدولية، مع تداخل شبكة من أنماط الفاعلين والمؤثرين، وإزاحة الصورة الوستفالية التقليدية، ليحلّ بدلها إطار بلا صورة دولية واضحة، فيما بات الكل يبحث عن العقلانية وسط غياب أي منطق أو أثر لتقفّي المنهج الذي يسير به العالم في منظومة الحرب المفتوحة.

إن السياسة الخارجية تحتاج إلى مايسترو واحد لضبط الإيقاع، وإن تعدّدت الآلات التي تقوم بالعزف. والسياق الطبيعي الذي يجب أن تقوم به الدول هو توحيد أجهزتها ومكوّناتها ونسقها الاجتماعي كما لو أن هناك عرض أوبرا لكن على المسرح الدولي؛ وهذا هو شكل التحدي الأكبر للجيل الثاني من الدبلوماسية.

حول أطوار الدولة ووظائفها، يقول المؤلف إن الحديث عن دبلوماسية الجيل الثاني والسياسة الخارجية يجب أن يسبقه حديث عن الوحدة الأم التي تنتج عنها هذه السياسة، وهي الدولة، بكل صورها وتجلّيها الاجتماعي، كونها وحدة قياس الهويّة ووعاءها الصاهر أو الجامع لكل مكوّناتها الأنثروبولوجية، في ظل الحديث عن أنه لا بديل عن الدولة إلاّ الدولة ذاتها.

وفي عالم الجيل الثاني (وولادة غوغل ( Google، يمكن القول إن انتشار مفهوم الدولة القومية في القرن العشرين هو فعل من أفعال العولمة؛ أو بمعنى آخر، إن شيوع هذا المفهوم ونشر الأفكار المتعلقة بالدولة القومية أدّى إلى سرعة ظهور العولمة.

ومن أجل فهم معالم الجيل الثاني يجب فهم سياق الهوية في إطار العولمة. وقد ذهب فريق كبير من المتخوفين إلى أن العولمة تهدّد بتدمير الثقافات القومية والعرقية المميّزة، فيما رأى آخرون أنه يمكن للحكومات أن تقيّد بعض حريات الأفراد لكي تحمي الممارسات الثقافية المميّزة من مكبس العولمة. فعلى سبيل المثال، هناك الحماية الثقافية في أكبر المقاطعات الكندية، وهي مقاطعة كيبك، Quebec، حيث يتم تشجيع استعمال الفرنسية؛ بل وتُستخدم الوسائل القسرية لمنع سيطرة اللغة الإنجليزية.

وعموماً، فإن العولمة في عالم الجيل الثاني قد غيّرت كل اتجاهات الدولة بنسقها الجديد، ووظائفها بشكل عام، وإن كان البعض يرى أن صراع العولمة مع الهوية مستمر بشكل حثيث، وقدّر آخرون أن صعود الرئيس الأميركي دونالد ترامب يمثّل نهاية عصر العولمة. وعلى أي حال، فإننا لا نزال نعيش اتجاه الدولة الافتراضية في زخم الاتجاه المعولم.

وعلى الرغم من تآكل الدولة القومية وغرق باخرتها في بحر العولمة المتلاطم، يقول الكاتب الأميركي بيتر دراكر إن «الدولة الحديثة لن تختفي، ويمكن أن تبقى أقوى وحدة سياسية لوقت طويل». لكن، ولأن عصر العولمة نفسها يقترب من نهايته، كمقدّمة لمرحلة الجيل الثاني، فإن معالم تحديات هذا الجيل تبرز في ظهور المزيد من الدول الفاشلة عبر خلق دويلات جديدة، أو الارتداد نحو الهويات القومية بصورة قاتمة، في محاولة لغلق النوافذ أمام دخول هواء العولمة.

دبلوماسية الميكرو

حول (الجيل الثاني ودبلوماسية الميكرو)، يقول المؤلف إن من الأصح أن نُطلق اليوم عبارة (فكّر عالمياً وتصرّف عالمياً، Think global, act global ) وهي العبارة الأقرب لعالم السياسة الخارجية والدبلوماسية، وذلك بحكم المتغيرات الكبيرة الحاصلة في العالم؛ وبالنتيجة لا يمكن إبعاد أداة التفكير والتنفيذ، وبحكم عولمة المحلي.

وفي السياق يمكن فهم صعود الدبلوماسية الرقمية في الجيل الثاني، من خلال المعدّل السريع الذي تدخل فيه التكنولوجيا الرقمية الجديدة السوق والسرعة التي يعتمدها الأفراد والشركات والمؤسسات؛ وأيضاً عبر فهم التأثير المعرفي في عملية التحوّل الرقمي من خلال الطريقة التي تُستخدم بها التقنيات الرقمية للتفاعل مع الآخرين، في وقت أصبحت فيه البيانات الضخمة تمثّل مجرى الدم للثورة الرقمية، وهي أهم سلعة في الجيل الثاني بسبب قدرتها على التقاط أنماط سلوكية والتنبؤ بها وتشكيلها.

وكأنموذج، فقد أصبح دونالد ترامب أول رئيس أميركي يستخدم حساب تويتر Twitter الخاص به بشكل نشط، بغضّ النظر عن أي استراتيجية دبلوماسية أميركية، مع تأثير مباشر على السياسات العامة التي حدّدتها الحكومة الأميركية، حيث يقيل ترامب عبر تويتر مسؤولين وقادة، ويعبّر عن اتجاهات السياسة الخارجية لبلاده ومواقف البيت الأبيض.

لقد فتح الجيل الثاني للدبلوماسية اتجاهاً جديداً يمكن تسميته بالميكرو الدبلوماسي

Diplomatic Micro، بعد أن فقدت الدول عملية احتكار هذه الوظيفة، مع بروز المجتمعات المحلية والجهوية والشبكات الاجتماعية والاقتصادية، وتحوّل الفرد إلى نحوٍ أكثر مشاركة عبر دبلوماسية عابرة للسياقات الثقافية التقليدية، لتصبح ذات مسار اجتماعي دقيق وشامل، يأخذ كافة الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية عبر نظام حوكمة عالمي.

إن التصغير في العمل الدبلوماسي اليوم يتطلب تلسكوباً دقيقاً يفتش عن الأواصر الاجتماعية في البنى الخاصة بكل كيان فاعل على مستوى السلوك السياسي؛ وهذا التصغير شمل السياسة الخارجية أولاً، ومن ثم وصل بطريقة أو بأخرى إلى الدبلوماسية. وهذه الدبلوماسية الميكروية تتحرك في فضاء واسع له امتدادات منفتحة، ولن تستوعبه اتفاقية فيينا في العمل الدبلوماسي اليوم. فهي ليست دبلوماسية عامة أو دبلوماسية التأثير، بل هي أشمل كونها تسهم في محاولة استثمار الهوية في خلق اتجاهات العمل الجديدة في السياسة الخارجية.

عن (تشريح الهوية والبحث عن الذات)، يقول المؤلف إن الهويّة الاجتماعية تتكوّن بشكل عام من أربعة عناصر رئيسة هي: اللغة أو الثقافة، والدين والعادات الاجتماعية والتقاليد، فضلاً عن التاريخ، حيث إن الهوية هي تلك الطرق التي يتخذها الأفراد والجماعات، والتي تميّزهم عن الآخرين في علاقاتهم الاجتماعية؛ وكذلك هي طرق تُعرّف الأشخاص والجماعات على أنفسهم على أساس أنواع الهويّة التي تعتمد في تحديدها على مكوّنات معيّنة، مثل العرق والدين، واللغة والثقافة بشكل عام.

وفي المجتمعات الحديثة تشكّل القومية عنصراً مهماً للهويّة، حيث إن معظم الدول القومية أكدت على أهمية الأمة nation، وحاولت استعمال الهوية الوطنية لخلق التضامن بين المواطنين من مختلف الطبقات أو الأصول العرقية.

وبصفة عامة، فإن أزمة الهوية تتجلّى في مجموعة من التعبيرات الموظفة من طرف الأفراد والجماعات للتمايز عن الآخرين، وكلّما تراخت الجماعات السياسية عن الالتزام بالتعبئة وراء الهويات. وهكذا لا بد من إعادة مساءلة مفهوم الهوية في أبعاده المختلفة، وفي علاقته بالتدفقات الدينية أو الثقافية أو الاقتصادية، ومن أجل منح إمكانيات أفضل لفهم الاستراتيجيات الهوياتية لمختلف الأفراد والشعوب في علاقاتها بالديناميكيات الرافضة أو المقاومة للعولمة في الجيل الثاني.

الهوية والسياسة الخارجية

حول (الهوية والسياسة الخارجية: عدسة بلا إطار)، يلفت المؤلف إلى افتقاد عدسة صانع القرار لفهم الآخر الدولي على مستوى السياسة الخارجية للإطار الذي يحافظ على بقائها ويريح المستخدم على استعمالها بالشكل الأمثل، لرؤية البعد البيْني الاجتماعي للسياسة الخارجية الجديدة، وفق منظور الإطار المعولم لنمط وظائف وأنماط أدوار الدولة في القرن الجديد.

إن الهوية توفّر العدسة التي ترى الدول من خلالها مكانها في المحيط الدولي الأوسع، فضلاً عن دوافع الآخرين؛ وهذا بدوره يؤثر في كيفية تفاعل الدول مع الجهات الفاعلة الأخرى، مع الاعتراف بأن الهويات والثقافات الاجتماعية قد تنعكس عبر التغييرات في السياق الاجتماعي بما يفرض إعادة تقييمها، وبالتالي تغيير سياسات الدولة وسلوكها.

ويرى المؤلف أن تعريف الهوية في السياسة الخارجية يتمثل في القيم الاجتماعية التي تنعكس في التقاليد الوطنية، المحرّك الرئيس للسلوك السياسي، والتي تشكّل مدخلاً لفهم صنع القرار على مستوى السياسة الخارجية؛ وهي في الوقت ذاته العنصر السلبي لتشظي السياسة الخارجية في حالة عدم القدرة في السيطرة على التنوّع.

لكن عدسة الهوية لا توفّر وحدها المقياس التحليلي للسياسة الخارجية، بحيث إذا لم تقترن الهوية بعنصري المصلحة الوطنية والقوة لا يمكنها لوحدها أن تمثل الموجّه المعياري للسياسة الخارجية. وإذا كانت الهوية هي الوعاء البشري الشامل لكل الألوان والأعراق والأديان والقوميات، فإن التعبير عنها بشكل مباشر يشكّل أزمة كبرى في مجتمعات لم تحسم بعد أسئلتها الكبرى في التاريخ.

حول (السياسة الخارجية: الديمقراطية واللامركزية والأقليّات)، يقول المؤلف إن الديمقراطية تنبع من أصل فهم السياسة بكونها فن المراجعة اليومية أو النقد الذاتي، حيث لا يمكن التعويل على البناء الديمقراطي من خلال المؤسسات فقط، بل من خلال تحوّله إلى مؤسسة وثقافة جماهيرية تنسجم في إطار مشترك عبر الحكم الرشيد. ولا يُفهم هنا أن المشكلة الكبرى تكمن في الشعوب؛ فالشعوب، كما يقول المؤرّخ الفرنسي غوستاف لوبون، مثل الأكواب، تستطيع أن تملأها بالخل أو أن تملأها بالزيت؛ لكن المشكلة في أزمة الثقافة السياسية التي تعاني منها الشعوب التي تمرّ بالمراحل الانتقالية، والتي تصوّر كل ما يجري من عدسة فقدان الثقة.

كذلك، فإن ممارسة السياسة الخارجية كانت على عاتق الحكومات المركزية بشكل عام، كون الحكومة الوطنية هي صاحبة القرار. أما في الدول الفدرالية، فإن السلطات الدستورية تتشارك فيها عادة الحكومة المركزية مع الوحدات المكوّنة الأخرى (ولايات، مقاطعات أو كانتونات)؛ لكن مسؤولية السياسة الخارجية هي تقليد من أعمال الحكومة المركزية بحكم الوثيقة القانونية الأعلى في الدولة (الدستور)؛ وفي الدول الاتحادية تبقى السياسة الخارجية أحد اختصاصاتها، مع إعطاء بعض الولايات أو المقاطعات دوراً معيّناً في عملية صنع القرار في السياسة الخارجية، بخلاف ما يحصل في الدول البسيطة التي تكون فيها السياسة الخارجية اختصاصاً تاماً للسلطة المركزية.

وفي ظل التعددية الثقافية للمجتمعات الحديثة، يندرج الاتجاه العام في العلاقات الدولية، الداعي إلى مراعاة الخصوصيات الثقافية في تفاعلات أطراف النظام الدولي، سواء تعلق الأمر بثقافة الأقليات، أو التوازن في أفكار النوع البشري، أو التعايش مع مختلف الأعراق الإنسانية، أو حوار الثقافات وتعايش الأديان وما إلى ذلك.

ولدى الأقليات في العالم لا يوجد اتفاق عام على معنى محدّد للهوية؛ فهناك إشكاليات في تعريفها بسبب اختلاطها مع مفاهيم أخرى، مثل القومية والأمة وحتى الجنسية. ويتجسد مفهوم الهوية لدى البعض على أساس الوعي بالذات الاجتماعية والثقافية؛ فالهوية ليست ثابتة، بل هي تتغير تبعاً لتغيّر الواقع؛ بل إن داخل كل هوية رئيسية هناك هويات فرعية متعددة يخلقها الإنسان وفق صيرورة التحوّل الاجتماعي والثقافي.

ويبدو أن للأقليات، سواء كانت عرقية أو دينية، درجات متباينة من التأثير في السياسة الخارجية، من خلال تأثيرها في قوة أو ضعف النسيج الاجتماعي الداخلي، أو في درجة الاستقرار للنظام السياسي، أو في دفع عرقلة حركة القيادة في عملية صنع القرار. ومقابل ذلك، يمكن أن تؤثر الأقليات سلباً على حركة الوحدة السياسية في المحيط الدولي، سيما عندما تتحول إلى أداة للتدخل الخارجي، أو لتنفيذ السياسة الخارجية لدولة أخرى.

متلازمات الدولة: الهوية والأمن والقوّة

عن (متلازمات الدولة: الهوية والأمن والقوّة)، يتحدث المؤلف بإسهاب، فيقول إن الأمن القومي لم يكن شيئاً يمكن تقويمه من خلال تحليل للتهديدات التي تواجهها الدولة فقط، بل عبر عملية إنتاج الأمة واستنساخها بهوية معينة؛ وبالتالي جرى التذرع بخطاب الخطر والأمن لتأكيد فهم معين من خلال بناء المعرفة؛ وكانت السياسة الأمنية تستهدف أساساً بناء شخص مختلف اختلافاً جذرياً؛ وارتباط الهوية بشكل دائم بالعلاقة مع الذات أدّى إلى توسيع نطاق تحليل الأمن التقليدي، مع تحوّل السياسات الأمنية التي كانت موجهة ضد دول أخرى، ضد الآخرين أيضاً، لأنها تقع في مواقع مختلفة للعرق أو الطبقة أو الجنس أو اللغة.

لكن المبالغة في أمننة الهويات ستترك آثاراً سلبية بالغة على أمن المجتمعات والدول، مثلما يحصل في الجيل الثاني، سيّما مع تزايد أعداد المهاجرين؛ وإن أمننة القضايا سوف تجعل الرؤية السياسية هي المتحكمة على صعيد الجماعات الإنسانية بشكل كبير.

وفي هذا السياق، فإن فلسفة الحرب على الإرهاب (داعش كنموذج) لن تصمد كثيراً في ظل الانقسام الدولي حول فهم الظاهرة الإرهابية، واحتدام صراع الهويات الفرعية والقومية على مستوى المجتمع الدولي، حيث هناك فشل واضح في التمييز بين مسلّح (لطيف) ومسلّح (خبيث)؛

يقول الجنرال الفرنسي شارل ديغول (من لا يستطيع كسب الحرب لا يستطيع صنع السلام). إن فرض إرادة الحرب أو السلام ليس بالمهمة السهلة؛ فهو يحتاج إلى صناعة تحالفات سياسية أو عسكرية، حيث يمكن أن تتحول الهوية إلى ساحة مناسبة لجمع الشتات وصناعة التحالفات؛ والأخيرة لها دور كبير في صنع أو رسم السياسات الخارجية للدول في الجيل الثاني.

ويرى الباحث مايكل بارنيت أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين الهوية والسلوك الاستراتيجي في الشرق الأوسط، من خلال مفاهيم الهوية المشتركة والتهديد الواحد، الأمر الذي أدّى إلى قيام نوع من الترتيبات المؤسسية الأمنية بين بعض دول المنطقة – حلف بغداد كأنموذج.

واستطراداً، يرى المؤلف أن الدول العربية عجزت عن مواجهة الأخطار المحدقة بها منذ نهاية الحرب الباردة، ولاسيّما بعد أحداث 11 أيلول/2001، لأنها افتقرت إلى وحدة الهدف والنفوذ والمبادرة المستقلة، ولم تتفق إلا على خفض تطلعات الشعوب، والتنسيق الأمني لمحاربة الإرهاب من دون الاهتمام بجذور التطرف، لأن ذلك يعني أن يتعامل العرب مع إخفاقاتهم الكثيرة والعميقة.

الترامبية: مختبر الهويّة الأميركية

حول (الترامبية: مختبر الهويّة الأميركية)، يستنتج المؤلف، بعد مناقشة مشكلة الهوية في الولايات المتحدة وعلاقتها بقضية صعود الشعبوية (التي تدّعي معاداة النخب الفاسدة)، بأن مجيء دونالد ترامب إلى القيادة الأميركية كان مقدّمة لصعود تيار شعبوي يميني عالمي في عالم الجيل الثاني، ولم يخص البيت الأميركي فقط. وربما يمكن الحديث لاحقاً عن أن ولادة الترامبية ليست نابعة من سياسة الحزب الديمقراطي أو الحزب الجمهوري، وإنما هي سياق لتيار شعبي جديد تمثّل بصورة الحزب الجمهوري لاعتبارات سياقية؛ فقد دفع تيار (الساخطين) بترامب إلى رأس القيادة، وهو ذاته التيار الناقم على النخبة السياسية العالمية، والذي كان في صورة «الخريف العربي» عام 2011.

إن من يريد أن يفهم سياسة ترامب (مقدّم البرامج السابق) الخارجية، عليه أن يعيد فهم ظاهرة رونالد ريغان (الممثّل السينمائي السابق)، وخصوصاً في الشأن الاقتصادي والتركيب العضوي لرأس المال قبل وبعد الحرب الباردة؛ فضلاً عن النظام النقدي وزيادة إنتاج الطاقة وإعادة الجسد الاقتصادي الأميركي المعاق الذي يواجه شبح التنّين الصيني.

وعليه، فإن إدارة ترامب لعملية صنع القرار في السياسة الخارجية الأميركية أقرب إلى عقلية إدارة شركة اقتصادية عملاقة وقوانين الطلب والعرض والسوق المفتوحة؛ والشركة اليوم هي الولايات المتحدة. وبالتالي فإن الهوية السياسية التي يعمل عليها ترامب تتمثل في المشروع القائم على مناهضة العولمة في الجيل الثاني. وإذا رأى الشعب الأميركي أن الأوامر التنفيذية (لترامب) تزيد من الأمن الداخلي، أو تقلّل من الجريمة، أو تخلق وظائف جديدة، فستكون هذه الأوامر مؤيّدة من قِبل الناخبين لدعم ترامب، حتى وإن رفضت النخبة ذلك، مثل قرار ترامب بالانسحاب من اتفاق باريس للمناخ وغيره.

روسيا: هوية النسر برأسين

عن (روسيا: هوية النسر برأسين)، يقول المؤلف إن شعار روسيا الاتحادية قد يلخص بعضاً من قصة وجدل الهوية في روسيا؛ فهو يرمز إلى نسر برأسين، بما يشير إلى جدل الهوية الروسية بين الشرق والغرب. لكن يبقى الشعب الروسي حريصاً على شخصيته وعلى وحدته أيضاً، وهي غير قائمة على العرق، لأنه ليس عنصرياً عرقياً؛ وهذه الوحدة قائمة على نوع من المفهوم المشترك للحياة، وعلى بيئة عضوية وأخلاقية مشتركة كذلك.

إن إطار الهوية الوطنية لروسيا يرتكز على قضيتين رئيسيتين: الأولى هي العلاقة مع أوروبا؛ وبالتالي فإن المناقشات تدور حول كونها جزءاً من أوروبا أو جزءاً من آسيا أو متداخلة بين العالمين أو منفصلة عن كليهما؛ والثانية هي العلاقة بين الدولة وسكانها (الدولة القومية، الإمبراطورية، الاتحاد متعدد الجنسيات).

وقد طرح الرئيس الروسي الحالي بوتين مبدأه الشهير عام 2000، والذي أكد فيه على تعميق التوجه الأوروآسيوي في سياسة روسيا الخارجية من ناحية، فضلاً عن التركيز على برامج الإصلاح الداخلي على حساب السياسة الخارجية من ناحية أخرى؛ وهي الفكرة التي سمّاها المراقبون (الأهداف الداخلية تلغي أهداف السياسة الخارجية)، لتأسيس ركيزة لتنشيط الدور الروسي في عالم متعدد الأقطاب، والعمل على استعادة دور روسيا في آسيا والشرق الأوسط بشكل تدريجي، وعدم السماح للغرب بتهميش الدور الروسي في العلاقات الدولية.

ولذلك استخدمت روسيا القوّتين الصلبة والناعمة بهدف تحقيق نفوذ جديد لها دولياً، ولحماية مصالحها الحيوية في العالم. وتُعدّ عناصر الهوية الخاصة بتركيبة الهوية الروسية ذات أهمية مفصلية في السياسة الخارجية. فروسيا جزء من الغرب، وروسيا كإمبراطورية، وروسيا كجزء من أوروبا، وروسيا كبلد مميّز وعريق، وروسيا كقوة عظمى، وروسيا كعضو تكاملي في مجتمع الدول المتحضرة؛ وأهم تلك العناصر إدراك روسيا لنفسها كقوة عظمى.

وقد أعدّ المؤلف جدولاً حول نسب تأثير أنواع أو أشكال القوة الروسية اليوم، والتي تتوزع ما بين: القوة الناعمة soft power، والقوة الصلبة Hard power، والقوة الذكية smart power، وقوة الطاقة Energy power، وقوة الدين religion power.

هوية إيران: الدين والدولة

حول (هوية إيران: الدين والدولة)، ينقل المؤلف عن صباح زنكنة، السفير الإيراني الأسبق في منظمة التعاون الإسلامي، قوله إن الهوية الوطنية الإيرانية لم تتغير كثيراً بعد الثورة الإسلامية، إلاّ بتأكيدها على الركن الديني فيها، وتغليبه على الركن الإثني؛ أي الانطلاق من النطاق المحدود بإيران إلى النطاق الأوسع للحضارة الإسلامية واستشعار التاريخ والمصير المشترك، وأنه بهذا النهج تواصلت إيران مع الشعوب الإسلامية بروح (أممية)، واحتضنت القضايا التي تهم باقي الشعوب المسلمة، كالقضية الفلسطينية والأفغانية وغيرها.

ومن هنا فإن الهوية الإسلامية صاغت السياسة الخارجية الإيرانية بصيغتها الجديدة، ووسّعت من دائرة اهتماماتها؛ كما أن الهوية الإسلامية للجمهورية الإسلامية تخطّت المذهبية الشيعية إلى المحيط الإسلامي، ممّا جعلها موضع انتقاد من بعض التيارات الوطنية والمذهبية.

وهذا الانفتاح الإيراني «الإسلامي» على القضايا العربية والإسلامية أثار حفيظة السعودية التي ترى نفسها مؤهلة لقيادة العالم العربي والإسلامي بناء على مشروعية الزعامة الروحية لها. لكن حسابات السياسة تتجاوز كل شيء وتوظّف كل شيء؛ فكان لا بدّ من تركيز الرياض على الحرب الطائفية والمذهبية، وهي الوسيلة الوحيدة للخروج من الحرج أمام تبنّي إيران للقضية الفلسطينية بشكل عملي ومؤثّر.

العراق بين انحباس الهويات وانفجارها

عن (العراق بين انحباس الهويات وانفجارها)، يقول المؤلف إن المجتمع العراقي يتكوّن من هوية وطنية عراقية رئيسية شاملة لكل العراقيين، وتجمع تحت ظلالها جميع الاثنيات والأديان والطوائف والأقليات. وهذا لا يمنع وجود هويات فرعية متميزة بعضها عن الآخر ببعض الخصائص القومية والدينية والطائفية، التي تمتلك مرجعيات مشتركة ومختلفة نسبياً، وهي: الشيعة والسنّة والأكراد والتركمان، إلى جانب أقليات دينية وقومية أخرى، مثل الآشوريين والكلدان واليهود والأيزيديين والصابئة.

وقد حدّد الدستور العراقي هوية الدولة، كما نص دستور 2005 في بعض مواده، مثل: جمهورية العراق دولة اتحادية واحدة مستقلة ذات سيادة كاملة، ونظام الحكم فيها جمهوري نيابي (برلماني) ديمقراطي.

كما نصّ الدستور بأن الإسلام دين الدولة الرسمي، وهو مصدر أساس للتشريع، بشرط عدم جواز سنّ قانون يتعارض مع ثوابت حكم الإسلام أو المبادئ الديمقراطية، أو يتعارض مع الحقوق والحريات الأساسية.

من جهته، يرى الباحث العراقي في علم الاجتماع، علي السعدي، أن من بين معوّقات العمل الدبلوماسي العراقي، افتقار الفكر السياسي العراقي إلى رؤية حديثة، من دون الإجابة على السؤال الذي بقي معلّقاً منذ قيام الدولة العراقية الحديثة عام 1921 إلى حين انهيارها في التاسع من نيسان / أبريل 2003؛ ما هو العراق؟ أو من هو العراق؟ هل هو أمّة أنشأت دولتها؟ أم دولة حاولت تكوين أمّتها؟

ويبقى السؤال الأبرز: هل أن القيادة العراقية الحالية تمتلك رؤية استراتيجية في قيادة السياسة الخارجية، وبالذات في تحديد الأهداف القومية للدولة العراقية، وما هي طبيعة الأهداف القصيرة والمتوسطة والطويلة المدى للسياسة الخارجية؟ مع الإشارة إلى أن مسألة الهوية العراقية تظل جزءاً أساسياً من عملية بناء الدولة: من هو العراقي ولمن ينتمي؟

وهنا يسلّط المؤلف الضوء على أزمة الهوية للأقلية الكردية في العراق، والتي عادت للظهور لعدة أسباب، منها: وجود مخزون تاريخي ضخم، قائم على تماثلات تاريخية ودينية، وانغلاق هذه الجماعات على بُنية معرفية؛ أزمة الهوية التي تعصف بالمجتمع العراقي والمتحول تاريخياً، ووقوعه بين هويتين عربية وكردية، ناهيك عن هوية سياسية لم تتبلور، وهوية دينية قادرة على إعادة إنتاج نظام الفروقات؛ التوظيف الرأسمالي الرمزي للجماعات الدينية والعرقية العراقية من خلال الأفكار، والعقائد، والتقاليد، والتي تشكّل المحرّك الأساس للتوترات المستديمة بين الأقلية الكردية والدولة العراقية.

وعموماً، تبقى القضية الكردية أهم العوامل المؤثرة في رسم العراق لسياسته الخارجية والداخلية.

 

إسبانيا: الهويّة والتحوّل

إسبانيا: الهويّة والتحوّل، هو العنوان الأخير الذي عالج المؤلف ضمنه نشوء الهوية الإسبانية وتطوّرها، منذ القرن الثامن عشر، والذي برز من خلال الاهتمام بالمعنى التاريخي لمفهوم إسبانيا، وإنشاء المؤسسات الثقافية الوطنية، وتطوير مشاريع حكومية على المستوى الوطني؛ فقبل ذلك التاريخ كانت الدولة الإسبانية تتألف من سلسلة من الممالك المتميزة، التي توحدت رسمياً من خلال الزيجات الحاكمة والغزو العسكري، ولكن من دون هوية وطنية شاملة.

وقد كان للهوية الدينية دور في إنشاء الدولة الإسبانية، وكذلك في بلورة هوية الشعب الإسباني وصياغتها، خاصة وأنها ارتبطت بتحرير شبه الجزيرة الإيبيرية من السيطرة الإسلامية، وترحيل اليهود والمسلمين من إسبانيا بالقوة. وقد أسهمت محاكم التفتيش مباشرة في تأسيس الدولة لأن تلك المحاكم كانت الصيغة الأولى للنظام والقانون، في ظل وحدة الكنيسة والدولة ضد آثار الحكم الإسلامي.

وإضافة إلى الأبعاد الداخلية لأزمة الهوية في إسبانيا، يتوقف المؤلف عند تحدّي دخول إسبانيا في حضن الأم الأوروبية، حيث لم يستطع الاتحاد الأوروبي بلورة هوية موحدة للدول الأعضاء فيه حتى الآن.

وفيما يركّز الدستور الإسباني على قضية جوهرية في المادة الثانية، حيث يؤكد على (وحدة الأمة الإسبانية غير القابلة للانفصام، ووطن جميع الإسبان المشترك غير القابل للتقسيم؛ وهو يعترف بحق القوميات والمناطق التي تتكوّن منها الأمّة الإسبانية في الحكم الذاتي، ويعترف بالتضامن فيما بينها جميعاً، ويضمن ذلك الحق)؛ إلا أنه لا تزال هناك مشكلات تتعلق بالانفصال ووحدة الدولة الإسبانية، على الرغم من السعي الحثيث لبناء عقد اجتماعي يضمن التعايش بين الهويات القومية والتاريخية المختلفة وتجاوز الصراعات التي شهدتها سابقاً؛ لكن المشكلة التي تتعلق بالقوميات التاريخية ما زالت تظهر بين مدة وأخرى، ومن أبرز تجلياتها موضوع «استقلال» إقليمي كتالونيا والباسك أو الدعوة إلى انفصالهما عن إسبانيا.

في الختام، يؤكد المؤلف أن المهمة الإنسانية الأسمى للدبلوماسية في الجيل الأول والثاني هي إيجاد موطئ للسلام في عالم يضج بالصراعات والاضطرابات، حيث اصطبغت خارطته الحالية باللون الأحمر القاتم.

وقد حاول هذا الكتاب بحث كلمة السر المفتاح لمشكلات الجيل الثاني، والتي تحوي على جوهرين: الأول خارجي يتعلق بهوية الدولة ونمطية تفاعلها مع العالم ومع محيطها، والداخلي المتعلق بلباب هوية المجتمع ومكوّناته المتعددة؛ وكلاهما مؤثّر على المنتج المعقد المركّب، وهو السياسة الخارجية.

فلو نظرنا، على سبيل المثال، من بعد آخر، لوجدنا أن هوية الإسلام الشيعي ليست محض خطر، كما تصوّرها بعض الدول ذات الهوية السنّية؛ ولا الاتحاد الأوروبي يمثّل، من حيث هويته، نادياً مسيحياً.

وأخيراً، لقد أجاد مؤلف الكتاب، الذي عرضنا لمقتطفات جد موجزة من مختلف المسائل والقضايا الشائكة التي تطرق إليها، في معالجة مسألة الهوية وتأثيرها البالغ في السياسات الداخلية والخارجية للدول، مقدّماً تصورات واقعية إزاءها، استناداً إلى خبراته النظرية (الأكاديمية) والعملية في هذا المجال خلال السنوات الأخيرة.
المصدر: الميادين نت

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب