خاص : دراسة بقلم – عمرو إمام عمر :
“إعادة إنتاج الرأسمالية”
من عمليات الرأسمال المالي الرابحة للغاية، المضاربة بقطع الأراضي الموجودة في ضواحي المدن الكبرى التي تتسّع بسرعة، وفي هذه الحالة يندمج احتكار البنوك باحتكار الريع العقاري وباحتكار طرق المـواصلات، لأن ارتفاع أسعار قطـع الأراضي وإمكانية بيعها بصورة قطع صغيرة، يتوقف بوجه خاص على سهولة المواصلات مع مركز المدينة ووسائط المواصلات تلك في أيدي الشركات الكبرى المتصلة بتلك البنوك…
فلاديمير لينين
الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية
خلال السنوات الأخيرة التي سبقت نهاية الحرب الباردة وتفكك الكتلة الاشتراكية خلال عام 1987، بدأت تتعالى الأصوات بضرورة البحث عن نظام عالمي جديد عادل، ربما كان أول من أشار إلى هذا هي “لجنة الجنوب” (1) برئاسة الرئيس التنزاني السابق؛ “غيوليوس ك. نيريرا” (2)، التي ضمت عددٍ من كبار السياسيين والاقتصاديين في دول العالم الثالث، حيث تمت محاولة إيجاد رؤية جديدة للعلاقة بين الشمال والجنوب أو بين دول العالم الأول والثالث في ضوء المتغيرات الدولية الجديدة، فالإخفاقات التنموية التي عانت منها دول العالم الثالث بداية من ثمانينيات القرن الماضي نتيجة لارتفاع أسعار النفط من منتصف السبعينيات (3) القت بظلالها بشدة على فاتورة حركة التنمية في تلك الدول وحّملتها بأعباء لم تكن محسّوبة من قبل فزيادة أسعار النفط ارتفعت بأضعاف أضعاف ما كانت عليه، كذلك الضعف الذي بدأ يحل بقبضة الدولة بالعديد من تلك الدول في السّيطرة على حركة الأموال داخل منظومتها نتيجة للتحولات في المنظومة الاقتصادية العالمية، والضغوط السياسية العنيفة التي فرضتها أوروبا وأميركا للسّيطرة على الموارد الطبيعية خاصة في إفريقيا، كذلك فرض هيمنة الشركات المتعددة الجنسيات على التجارة العالمية، مما أثر على الاستقرار السياسي للعديد من تلك الدول، أنه استعمار جديد من الشمال للجنوب، لذا كانت تلك اللجنة هي محاولة إيجاد صيغة تعّايش تحمل ولو قدرٍ معقول من العدل في المنظومة السياسة الدولية الجديدة.
بعدها بسنوات قليلة؛ عام 1992، أصدر “نادي روما” (4) تقرير تحت عنوان “الثورة العالمية الأولى (من أجل مجتمع عالمي جديد)”، في هذا التقرير تم إثارة قضية الدولة والعلاقة بين مراكز الحكم والأفراد المشّكلين للمجتمع وشكل ومهام وحدود التزامات تلك المراكز في إدارة شؤونه والعلاقة ما بين مراكز الحكم والأفراد، والعلاقة ما بين الأفراد بعضهم ببعض، وبالتالي شكل المنظومة السياسية والاجتماعية في العالم الجديد كذلك التكتلات الاقتصادية والتجارية الجديدة، إنها عملية إعادة بناء لشكل العالم أطلقوا عليها “الثورة العالمية الأولى”، كانت محاولة لرسم صورة للعالم الجديد الذي بدأ يتشكل.
على جانب آخر أشار عدد من مراكز الأبحاث السياسية والمستقبلية إلى بداية فقدان الرأسمالية قوتها الدافعية الداخلية نتيجة للأزمات الاقتصادية المتتالية، وأنها تمر الآن بمرحلة الترنح التاريخي المقارب لنهاية الحقبة، لذا كان لابد عليها وأن تجد الخلاص مبكرًا وإلا ستشهد نهايتها كما انتهت الأنظمة السابقة وسيولد نظام جديد على أنقاضها، من هنا بدأ يظهر على الساحة مصطلح جديد تعرفنا عليه في بداية الألفية على لسان وزيرة الخارجية الأميركية في تلك الفترة “كونداليزا رايس” وهو “الفوضى الخلاقة”، وقد تابعنا في بلادنا حملات دعائية محذرة من هذا المصطلح الجديد وقرأنا العديد من المقالات والكتب تُشير إلى أن هذا المفهوم الجديد نحن المقصودين به العرب والمسلمين بالتحديد، حتى تُهيّمن الصهيونية على منطقتنا، ربما به جزء من الحقيقة، لكن الواقع أكبر من ذلك، فعملية الفوضى ليست قاصرة على منطقتنا فقط بل هي رؤية لعالم جديد يتشكل وفق المصالح السياسية الأميركية الجديدة ولحلفائها، وهذا يأخذنا إلى تصريح أدلى به الأدميرال “ستانسفيلد تورنر”؛ المدير السابق لوكالة المخابرات الأميركية، في حديثه لصحيفة (ديلى تليغراف) البريطانية، في 16 حزيران/يونيو 2003، قائلاً:-
“قوتنا عظيمة جدًا، ومن غير المُرجّح أن يكون بمقدر أحد من تحديها لسنوات وسنوات طويلة، لدرجة أنك ستضطر للعودة إلى زمن الإمبراطورية الرومانية لتجد ما يوازينا، وأنه من الخطأ اللغوي التحدث عن الولايات المتحدة كقوى عظمى، فنحن قوة فوق العظمى، وأنا لم ينم إلى علمي أن العالم قد رأى من قبل شيئًا مشابهًا…”.
من تلك الكلمات يمكننا القول أنها تُساعدنا على أن نضع أيدينا على الرؤى السياسية الأميركية الجديدة لما بعد الحرب الباردة، فالسياسيين والمفكرين الأميركان علموا من خلال دراسة التاريخ أن الإمبراطوريات الكبرى عندما تصل إلى أقصى مداها الجغرافي والسياسي تبدأ في الترهل والتحلل وهذا ما شاهدناه كمثال على ذلك في الإمبراطورية الفارسية والرومانية والعربية الإسلامية، لذا وجدوا الحل في نشر الفوضى، ولكنها فوضى من نوع خاص؛ خلال خمسينيات القرن الماضي وضع عالم الاجتماع الأميركي “بيتيريم سوروكين” (5) نظرية أطلق عليها “قانون الدمج” لرصد ودراسة وتفسير الظواهر الثقافية والاجتماعية المختلفة لدى الشعوب، إلا أن تلك النظرية كانت في حاجة إلى عملية رصد شامل للتراكم المعرفي والعلمي للمجتمعات ودراستها وعمل دراسات إحصائية لرصد تطورها والتغيرات التي تطرأ عليها ومدى تأثير مجتمع ما على المجتمعات المجاورة له، تلك الدراسات لا تُقدر عليها عادة سوى الدول الكبرى (6) لما تتطلبه من توافر للكوادر والتقدم المعرفي في رصد ودراسة كافة المجالات المؤثرة على المجتمعات كذلك الوقت والمال، لتشكل جزءًا أساسيًا من عمليات صناعة القرار الاستراتيجي من هنا بدأ ظهور “علم الدراسات المستقبلية” (7)، وعادة ما تقوم بتلك الدراسات المؤسسات العسكرية والسياسية الحكومية وإن بدأت بعض الشركات المتعددة الجنسيات في العشرين عامًا الأخيرة الاهتمام بعلم دراسة المستقبليات لدراسة أوضاع الأسواق وتقلباته لوضع استراتيجيات لها.
الإمبراطورية الأميركية الكونية
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية وبالتالي ضعف قوى التحرر الوطني في دول العالم الثالث بات من الواضح أن الرأسمالية حققت انتصارًا ساحقًا وأن العالم اليوم أصبح بين أيديها، وانبرى مفكريها في وصف ما يحدث أنه “نهاية للتاريخ” على أساس هزيمة المعسكر الاشتراكية ونهاية الصراع بين القوتين العظمتين وانتصار أفكار الرأسمالية والليبرالية السياسية وفرض نمط السوق الحرة المعولمة وقد ارتبطت تلك الأفكار بالمفكر الاقتصادي الأميركي الجنسية الياباني الأصل “فرانسيس فوكوياما” التي طرحها في كتابه “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” الصادر عام 1989، ووجدت النخب السياسية الأميركية في ما طرحه “فوكوياما” فرصتها لإعادة تشكيل العالم وفق مصالحها ومصالح الرأسمالية العالمية، وعلى الرغم من تراجعه عن الكثير من الأفكار التي طرحها في كتابه إلا أن الاستراتيجية السياسية الأميركية لم تتخلى عنها بل أنها أصبحت أكثر تمسكًا بها مع مرور الوقت في تنفيذ مخططها بالسّيطرة الكاملة على الكوكب.
يقول المفكر الروسي “ألكسندر بانارين” (8) رئيس قسم العلوم السياسية بجامعة موسكو في كتابه “الإغواء بالعولمة”: –
“أنه من المقرر استخدام توصيات الدارونية الاجتماعية الاقتصادية على النطاق العالمي، فعند الاستخدام الموسّع لصيغة (مدرسة شيكاغو) تظهر المؤسسات أو الفئات الاجتماعية المنفصلة الغير قادرة على التكيف لا ينبغي منحها فرص التنمية كي لا تغرق كوكبنا الضيق بمادة بشرية سيئة النوعية، بذلك تغدو الدارونية الاجتماعية الاقتصادية عنصرية عادية”.
من هنا يوضح لنا “ربانارين” ما هو شكل العالم الجديد ما بعد صراع الإيديولوجيات تتم فلترة المجتمعات، بين أقلية مالكة لموارد الكوكب، وأغلبية منبوذة فقط يسمح لهم بالحياة لخدمة الأقلية المالكة، وهذا ما بدأنا نلمسه بوضوح خلال السنوات الأخيرة.
التحالفات العرقية والمذهبية بديل للدولة القطرية
كما ذكرت من قبل أن القضية هي إعادة تشكيل العالم سياسيًا واجتماعيًا للمحافظة على استمرار الرأسمالية مسّيطرة على الأوضاع، فقد شهد العالم منذ عام 1990 الكثير من التغيرات الحادة، تحطم سور برلين وتوحدت الألمانيتين الشرقية والغربية، شاهدنا انتخاب المنشّق “فاكلاف هافل”؛ عميل المخابرات الأميركية رئيس لجمهورية تشيكوسلوفاكيا؛ والذي عمل على تفكيكها وتقسّيمها، غزو العراق للكويت، زيادة أسعار النفط بمعدلات غير مسّبوقة، نهاية مجموعة النمور الآسيوية؛ فبعد صراع الإيديولوجيات دخلنا في صراعات العرقيات والمذهبيات، أزمات اقتصادية متلاحقة، حروب أهلية وإقليمية، طاعون جديد يجتاح العالم لا أحد يعرف من أطلقه، صعود مثير للجدل للفاشيات العنصرية في الغرب والدينية في بلادنا، ثورات شعبية عشوائية تجتاح المنطقة العربية، زيادة معدلات الفقر في العالم بشكلٍ غير مسّبوق منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ثورة كادت أن تنفجر في أوروبا – احتجاجات القمصان الصفراء -، أزمات المياه والبيئة، بركان من التناقضات والصراعات الجديدة ينفجر بشكلٍ مفاجيء ومستمر، فالحرب الباردة التي كانت تُحدد شكل النظام العالمي انتهت وأصبح اليوم لابد من منظومة جديدة تُعيد تشكيل العالم على أسس مغايرة لما كانت من قبل، بل والعمل على عدم إعادة إنتاج ما سّبق، فكل القيود القديمة التي عانت منها الرأسمالية قد انتهت، لذا كان لابد عليها إذابة جليد الأوضاع الجيوبلوتيكية المورثة من الصراع المنتهي، وفرض نظام جديد بأوضاع مغايرة من خلال “ثورة عالمية جديدة تقودها الرأسمالية” تُعيد تشكيل العالم بأسس جديدة وفق رؤيتها ومصالحها، لذا أصبح على الرأسمالية أن تعمل على محو السجل التاريخي الذي واكب فترة الحرب الباردة بكافة المفاهيم التي انتشرت حينها؛ ومنها بالطبع الاشتراكية والتحرر الوطني والاستقلالية والدولة القومية أو الوطنية، لذا كان الهاجس الأول لها هو إقناع الشعوب بتلك الثورة الجديدة وإشراكهم فيها بل وأن يقوموا هم ذاتهم بجزء كبير من عملية التغيير وأن يتقبلوا عمليات العنف والتدمير والحروب القادمة المواكبة لعملية التغيير الثورية كما قبلوا من قبل حروب القرن العشرين التي كانت واضحة المعالم؛ وقد وجدت الرأسمالية أن الطريقة الوحيدة لتفرض نفسها أن تقوم بعملية استلاب مستمرة للمجتمعات على ثلاثة مستويات أو ثلاثة أطوار…
- إسباغ الشكل السّلعي على العلاقات الاجتماعية؛ بما فيها علاقات الإنتاج (تسّليع المجتمع بأكمله).
- إخضاع قوة العمل بكل ما تنطوي عليه من الاستقلالية والابداعية البشرية لسّيرورة الإنتاج الرأسمالي.
- أن تقوم المجتمعات المتضررة نفسها بعملية إعادة إنتاج الرأسمالية، بأن يكون رأس المال هو نواة الحياة الاجتماعية.
لتحقيق ذلك بات تدويل وجمعنة رأس المال هو أساس للعملية الاقتصادية برمتها ، لتُصبح أي عملية تغير في المجتمعات مرتبطة بشكلٍ وثيق بالنواة الأساسية “رأس المال”، ولن يحدث ذلك إلا من خلال عملية إعادة بناء شاملة سياسية، اقتصادية، اجتماعية، وثقافية، على أن تكون مجتمعات الدول التي عاشت فترات إما تحت الحكم الاشتراكي أو مفاهيم التحرر الوطني هي بؤرة التركيز لتلك العملية.
منذ سنوات تعرفنا على مصطلح “عقيدة الصدمة” (9)؛ وكيف تمت تجربتها لأول مرة في كل من شيلي والأرجنتين في سبعينيات القرن الماضي والتي استخدمت للسّيطرة على شعوب تلك البلدتين لقبول إجراءات هي في الأصل ضد مصالحها، كذلك العديد منا قرأ كثيرًا عن هراء أو خرافة العلاقة بين نمو الناتج المحلي وزيادة فرص التوظيف، فأسلوب الصدمات وتغيّب الوعي جزء من عملية الفوضى التي اعتمدت عليها الاستراتيجية الأميركية؛ وسنعود لها مرة أخرى في سطور تالية، لكن القاعدة الأساسية التي أرتكزت عليها تلك السياسة تقوم على زعزعة الأمن الداخلي في المناطق المسّتهدفة بناءً على التحليل الدقيق للمجتمعات من خلال خمس نقاط أساسية: –
- تفجير الصراعات العرقية والدينية: وهذا ما شاهدناه في العراق وجنوب السودان ومن قبلهما في قبرص من خلال القضاء على حالة التوافقية القائمة على التوازن العرقي، التي تصل إلى حد تسّليح أحد الأطراف ضد الطرف الآخر مثل ما حدث في الحالة الكُردية شمال العراق وفي جنوب السودان، وقد جرت محاولات لخلق صراعات من هذا النوع في مصر من خلال تفجير مشكلة تعويضات النوبيين على سبيل المثال، أو الأقباط في الصعيد، وفي المغرب العربي من خلال تفجير قضية البربر.
- صراع العصبيات: القضاء على الانتماءات الوطنية والقومية واستبدالها بانتماءات قبلية أو عشائرية أو مذهبية مجزأة، مما يُقوض مؤسسات الدولة وإضعافها، هذا السيناريو تم تطبيقه في كل من الصومال والعراق وجنوب السودان ولبنان وسوريا.
- الاستقرار الأمني: خلق حالة من عدم الاستقرار الأمني وإطالة مداها حتى تُطالب الشعوب نفسها بالتدخل الدولي المتمثلة بالطبع في الأميركان، وقد استفاد الساسة الأميركان مما حدث في لبنان بعد الحرب الأهلية وموجة التفجيرات والسيارات المفخخة التي اجتاحت البلد في تلك الفترة بنقلها لبلاد أخرى.
- ضرب الاستقرار الاقتصادي: من الدروس التي استفاد منها الساسة الأميركان حالة الانهيار التي حدثت في الاتحاد السوفياتي في بداية التسعينيات وحالة الفوضى داخل المجتمع الروسي التي جعلت كثير من الناس تقبل بأوضاع كان لا يمكن قبولها من قبل بل كانت من أساسيات النظام الاجتماعي نفسه.
- القوى الناعمة: المتمثلة في الإعلام ووسائل التواصل الإجتماعي، استفاد الأميركان من تجربة ألمانيا الشرقية وكيف تم اختراق المعسكر الاشتراكي من خلال القنوات التلفزيونية الألمانية الغربية التي كان يصل إرسالها إلى ألمانيا الشرقية في رسم صورة مخادعة عن الحياة في الجانب الغربي وتقويض فكرة الاشتراكية في الجانب الشرقي، اليوم أضيف إليها شبكة الإنترنيت وشبكات التواصل الاجتماعي لخلق وعي جمعي مزيف للأوضاع المرتبكة حاليًا.
حرمة الملكية الفردية لا تنطبق على الفقراء
العديد منا قرأ عن التجربة الهندية والتقدم الاقتصادي الكبير الذي حققته حتى باتت الهند اليوم حسّب تقرير “آفاق الاقتصاد العالمي” (10) الصادر فى تشرين أول/أكتوبر 2022، وفقًا للناتج المحلي الإجمالي هي خامس أكبر اقتصاد عالمي يتفوق على الكثير من دول العالم الأول مثل المملكة المتحدة وفرنسا، فوتيرة النمو الاقتصادي الهندي خلال العقد الأخير كانت تتراوح ما بين 6 إلى 7%، إلا أنه في المقابل كانت هناك تقارير تشير إلى زيادات مهولة في معدلات الفقر، فمثال على ذلك تقرير مؤسسة (SOS Children s Villages)، فإن 68% من الهنود يعيشون تحت خط الفقر ويجنون أقل من دولارين في اليوم، كذلك هناك 30% من السكان وهم الأشد فقرًا يعيشون بأقل من 01 دولار يوميًا، مع الأخذ في الاعتبار أن عدد سكان الهند 1.408 مليار نسّمة، من تلك الأرقام نستخلص أنه لا توجد علاقة وثيقة بين زيادة العدد السكان وأنخفاض النمو الاقتصادي، كذلك لا توجد علاقة أيضًا بين القضاء على الفقر وزيادة النمو الاقتصادي.
إن عصر الخصخصة جعل من الاقتصاد الهندي أحد أسرع الاقتصاديات نموًا في العالم، فالشركات الهندية الكبيرة التي تم خصخصتها بدأ من بدايات ثمانينيات القرن الماضي كانت بمثابة البئر الذي يفيض ذهبًا، أنها بمثابة الحلم لرجال الأعمال، لكن الغريب أن المصدر الرئيس لثروة تلك الشركات أتى من العقارات والأراضي ليس من الإنتاج، فقد ساعدت حكومات ضعيفة وفاسدة رجال الأعمال في الاستيلاء على مساحات شاسعة من الأراضي، وإصدار قرارات في صالحهم باستحواذ شركاتهم على تلك الأراضي بدعوى المصلحة العامة حتى لو كانت “ملك لأفراد”، وبالتالي تم مصادرة الأراضي من صغار الملاك وكالعادة تطايرت التصريحات من السياسيين بوعود لهؤلاء المنكوبين بتعويضهم تعويضات عادلة بعد مصادرة أراضيهم وتهجيرهم لإنشاء مضمار لسّباقات الفورميلا وان، ومطارات خاصة، وبناء بُنّى تحتية وطرق سريعة لخدمة شركات رجال الأعمال الكبار.
بالطبع كل هذا كان لابد وأن يُفجر احتجاجات شعبية وانتفاضات من الذين أضروا وسئموا من عمليات القمع المستمرة للفقراء، من أهم تلك الحركات هي حركة “النكساليتي” (11) التي انطلقت من ولاية تشهاتيسغاره-Chhattisgarhi، وهي تُعتبر تاسع أكبر ولاية هندية، يبلغ عدد سكانها 30 مليون نسّمة، واقتصادها من الاقتصاديات المؤثرة فحجم الناتج المحلي لتلك الولاية وحدها وصل عام 2018 إلى 41 مليار دولار، تعتبر الزراعة هي أساس العملية الاقتصادية فـ 80% من السكان يعملون بها، قامت الحكومة المحلية للولاية بالاشتراك مع الحكومة الفيدرالية في عام 2006؛ بعمليات مصادرة واسعة للأراضي التي يملكها صغار الفلاحين لإنشاء مصانع للصلب لصالح شركة “تاتا ستيل”، كذلك مصادرة أراضي شاسعة أخرى أكتشف فيها خام البوكسيت والحديد ومعادن أخرى لصالح شركات التعدين، بالطبع لم يمر هذا مرور الكرام برغم حملات الخداع الإعلامية والوعود الكاذبة لتنفجر انتفاضات فلاحية كبيرة احتجاجًا على القرارات الحكومية قتل فيها ثلاثة عشر شخص من بينهم شرطي وجرح العشرات، وتمت محاصرة القرى المحتجة واستمر الحصار سنوات طويلة ولم ينتهي، أنضم للحركة الآلاف من الفلاحين واستوطنوا الغابات، ليعلن رئيس الوزراء الهندي أن هؤلاء الذين لم يخرجوا من الغابات سوف يعدون إرهابيين، على الرغم أن غالبية المختبئين في الغابات ليسوا مسلحين بل هم فلاحين فقراء تم تهجيرهم بعد مصادرة أراضيهم، يحاولون العيش من خلال زراعة أراضي الغابات، وبهذا باتت حراثة الأرض وبذر البذور يصفها رئيس الوزراء عملاً إرهابيًا، وعلى الرغم من مرور سنوات لم تنجح الحكومة الهندية في إخراج المتمردين من الغابات اضطرت للإعلان عن استخدام الجيش والقوات الجوية، لكنها لا تُسّمى هذا حربًا بل أطلقت عليها محاولة “خلق مناخ استثمار جيد”، لينتقل آلاف الجنود المدعوم بالمدرعات والطائرات للاشتباك مع أفقر الناس وأكثرهم جوعًا في العالم.
ما يحدث في الهنـد هو مثال صغير لما يحدث أو سيحدث في أجزاء أخرى من سطح هذا الكوكب؛ خصوصًا في مناطق دول العالم الثالث، أنها ثورة الرأسمالية العالمية الجديدة لإعادة إنتاج نفسها ولم يُعد في جعبة البشرية إلا حل وحيد ثورة مضادة تعمل على وئد الثورة الرأسمالية والقضاء عليها.
_____________________________________________
هوامش
1 – تأسست لجنة الجنوب عام 1987؛ بعد سنوات من اللقاءات ضمت عدد من مثقفي وسياسي من دول العالم الثالث، أعلن عن البدء في تأسيسها لأول مرة في مؤتمر دول عدم الانحياز الذي عقد في مدينة هراري عاصمة زيمباوبي في عام 1986، ليخرج أول تقرير لها عام 1987 وهو ما أشرنا إليه.
2 – غوليوس كامباراغ نيريري (13 نيسان/إبريل 1922 – 14 تشرين أول/أكتوبر 1999) ناشطًا ومنظرًا سياسيًا مناهضًا للاستعمار في تنزانيا؛ حكم تنغانيقا كرئيس للوزراء من 1961 إلى 1962؛ ثم كرئيس من 1963 إلى 1964، وبعد ذلك قاد الدولة التي خلفتها، تنزانيا، كرئيس للجمهورية من 1964 إلى 1985. كان عضوًا مؤسس في حزب تنغانيقا للاتحاد الوطني الإفريقي (T.A.N.U)، الذي أصبح في عام 1977 حزب تشاما تشا مابيندوزي (الحزب الثوري) – وترأسه حتى عام 1990. من الناحية الإيديولوجية، هو قومي إفريقي واشتراكي إفريقي، روج لفلسفة سياسية تُعرف باسم أوغاما.
3 – تأثير حرب تشرين أول/أكتوبر 1973.
4 – نادي روما؛ منظمة غير حكومية نشأت بعد الحرب العالمية الثانية بالتحديد في عام 1968، مقرها الرئيس في مدينة باريس وإن بدأ تأسيسها في مدينة جنيف بسويسرا، وأكتسب الاسم “نادي روما” بسبب نشأة الفكرة بين مجموعة من المفكرين الأوروبيين والأميركان ومن بعض دول العالم الثالث كانوا يجتمعون في أكاديمية “دي لينتشي” بمدينة روما، اهتم النادي بمستقبل الإنسان ودراسة التغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية وعمل دراسات وتقارير عنها.
5 – بيتيريم سوروكين؛ عالم أجتماع أميركي روسي الأصل، هاجر للولايات المتحدة الأميركية عام 1923، أسس قسم علم الاجتماع في جامعة هارفرد، وكان من أشد معارضي الفكر الماركسي، اشتهر بمسّاهماته في نظرية الدارونية الاجتماعية.
6 – أهتمت بعض الدول العربية بعلم الدراسات المستقبلية من`أواخر ستينيات القرن الماضي؛ ومن أهم تلك الدول مصر، الجزائر وسوريا.
7 – علم الدراسات المستقبلية-futurology Studies؛ يهتم برصد التغيرات في ظاهرة معينة، و يسعى إلى تحديد الاحتمالات المختلفة لتطورها مستقبليًا وتوصيف ما يُساعد على ترجيح أحتمال على غيره.
8 – ألكسندر سيرغييفيتش بانارين، ولد في 26 كانون ثان/يناير 1940؛ بمدينة دنيستك بأوكرانيا، وتوفي في 25 أيلول/سبتمبر عام 2003، بمدينة موسكو، تخرج من كلية الفلسفة جامعة موسكو عام 1966، حصل على العديد من المناصب الأكاديمية والجوائز المحلية والدولية ومن أهم أعماله كتاب فلسفة السياسة (1996)، كتاب ثأر التاريخ: المبادرة الروسية الاستراتيجية للقرن الواحد والعشرين (1998)، الذي منح جائزة لومونوسوف من الدرجة الثانية؛ وكتاب المثقفون الروس في الحربين العالميتين وكتاب ثورات القرن العشرين (1998)؛ وكتاب التنبؤ السياسي العولمي في ظروف عدم الاستقرار الاستراتيجي (1999)، وكتاب روسيا في دورات التاريخ العالمي (1999)؛ وكتاب البديل الروسي (2000)؛ وكتاب الإغواء بالعولمة (2000)؛ وكتاب الحضارة الأرثوذوكسية في العالم العولمي (2001).
9 – كتاب “عقيد الصدمة-The Shock Doctrine”؛ للكاتبة نعومي كلاين صدر في عام 2007؛ ترجم للعربية بنفس الاسم.
10 – تقرير يُصدره “صندوق النقد الدولي” يعرض هذا التقرير تحليل خبراء الصندوق وتوقعاتهم بشأن تطورات الاقتصاد العالمي في مجموعات البلدان الرئيسة (التي تُصنف حسّب المنطقة ومرحلة التطور … إلخ)، وفي كثير من البلدان المنفردة؛ يُركز التقرير أيضًا على أهم قضايا السياسة الاقتصادية وتحليل تطورات الاقتصاد وآفاقه المتوقعة. وعادة ما يتم إعداد هذا التقرير مرتين سنويًا في سّياق إعداد الوثائق المطلوبة لاجتماعات اللجنة الدولية للشؤون النقدية والمالية، كما يستخدم باعتباره الأداة الرئيسة لأنشطة الصندوق في مجال الرقابة الاقتصادية العالمية.
11 – “النكساليتى-Naxalites”؛ حركة تمرد شعبية ماوية، التي أعلنت في بيان تأسيسها أنها في صراع مع الحكومة الرأسمالية من أجل تحسّين حقوق الأرض وحقوق العمال الزراعيين والفقراء المهملين، وللحركة جناح عسكري عُرف باسم جيش التحرير الشعبي، يتبع النكساليتي أسلوب حرب العصابات مسّتعينين بتكتيكات حرب الشعب الطويلة الأمد التي وضع أسسها الزعيم الصيني؛ “ماو تسي تونغ”، خلال حرب التحرير الصينية.
المصـادر: –
- أرنوداتي روي، الرأسمالية قصة شبح، ترجمة منور الزعبي، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب وزارة الثقافة – دمشق – الطبعة الأولى 2022.
- ألكسندر كينغ، برتراند شنيدر، الثورة العالمية الأولى (من أجل مجتمع عالمي جديد)، ترجمة د. صفاء عبدالإله، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى 1992.
- نعيم تشومسكي، الاقتصاد العالمي القديم والجديد، ترجمة د. عاطف معتمد عبدالحميد، نهضة مصر للطباعة والنشر، الطبعة الأولى آذار/مارس 2007.
- أليكسندر بانارين، الإغواء بالعولمة، ترجمة عياد عيد، منشورات اتحاد الكتاب العربي، دمشق 2005 الطبعة الأولى.
- هورست أفهيلد، اقتصاد يغدق فقرًا (التحول من دولة التكافل الاجتماعي إلى المجتمع المنقسم على نفسه)، ترجمة د. عدنان عباس علي، سلسلة عالم المعرفة العدد 335 كانون ثان/يناير 2007؛ المجلس الوطني للثقافة والفنون لدولة الكويت.
- نعومي كلاين، عقيدة الصدمة (صعود رأسمالية الكوارث)، ترجمة نادين خوري، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر بيروت، الطبعة الثالثة 2011.
- أرنست فولف، صندوق النقد الدولي (قوة عظمى في الساحة العالمية)، ترجمة د. عدنان عباس علي، سلسلة عالم المعرفة العدد 435 نيسان/إبريل 2016.