إعداد/ عمر جاسم
اصبحت مقيمية بغداد دعامة من دعائم النفوذ البريطاني في العراق وكان العراق ميداناً لهذا التنافس الذي ضم لصالح بريطانيا سنة 1810،الا ان العامل الستراتيجي تجاه منطقة الخليج العربي سرعان ما بدأ بالظهور مجدداً منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر بسبب المخاوف البريطانية من روسيا القيصرية التي عدت العدد المتحمل لبريطانيا في الشرق حتى نهاية ق19م،ان هذه المخاوف بغض النظر عن مصداقيتها كانت قائمة على الاعتقاد بان هناك سياسة روسية مرسومة منذ عهد القيصر بطرس الكبير(1672-1725)للاستحواذ على الهند وتجارتها من جهة،والتقدم نحو الخليج العربي عبر بلاد فارس من جهة اخرى،ويبدو ان هذا الاعتقاد ترسخ إثر المكاسب الاقليمية التي حصلت عليها روسيا القيصرية بعد حروبها مع بلاد فارس اثناء السنوات(1804-1813)و(1826-1828)ومع الدولة العثمانية خلال الفترة(1827-1829).
لقد اخذ التدخل الروسي في كل من بلاد فارس والدولة العثمانية يتزايد باطراد منذ ثلاثينيات ق19 ،واخذت المقاومة البريطانية في وجه ذلك التدخل تزداد باطراد ايضاً وكان التقارب الذي حصل بين الدولة العثمانية وروسيا القيصرية في ذلك الوقت مثار قلق بريطانيا على مصالحها في المنطقة؛فبعد ظور النزاع بين السلطان العثماني محمود الثاني ووالي مصر محمد علي باشا(1805-1849)وقيام الاخير بالسيطرة على بلاد الشام في (1831-1833)وتهديده السلطان محمود الثاني في عقر داره،ثم اقامة تحالف عسكري عثماني-روسي ضد محمد علي باش بموجب معاهدة بموجب معاهدة (خنكار-اسلكسي) والى جانب التهديد الروسي اعتبرت بريطانيا التوسع المصري في بلاد الشام تهديداً مماثلاً لمصالحها في العراق،فقد اعتبر وزير خارجية بريطانيا بالمرستون ان هدف محمد علي باشا هو اقامة امبراطورية عربية واسعة ولاشك ان تعاطف بعض القوى المحلية في العراق مع المصريين في بلاد الشام وتقدم القوات المصرية نحو نجد سنة 1836 ازاء نوايا محمد علي باشا للتحرك باتجاه بغداد والخليج العربي.
وتجدر الاشارة الى ان محمد علي كان قد اتخذ موقفاً سلبياً من مشاريع المواصلات البريطانية الرامية الى ربط البحر المتوسط بالخليج العربي عن طريق مرفأ السويدية السوري والملاحة النهرية في الفرات ولمواجهة النفوذ الروسي المتنامي في الدولة العثمانية من جهة وخطر التوسع المصري من جهة اخرى.نشطت الدبلوماسية بريطانيا في القضاء على هذه الاخطار ،وبحلول عام 1841 كانت الدبلوماسية قد حققت ذلك بنجاح وزال خطر محمد علي ،كما عملت على ابعاد العراق عن النفوذ الروسي من خلال الاهمية التي اولتها بريطانيا للمنطقة عامة لضمان حرية المواصلات مع الهند عبر الاراضي العثمانية ويفسر لنا هذا الاهتمام البريطاني المتزايد بمشاريع المواصلات مع الهند عبر العراق منذ ثلاثينيات ق19.
ادرك البريطانيون منذ وقت مبكر اهمية العراق في المواصلات لاسيما في نقل البريد بين الهند ولندن ثم جاءت المنافسة الدولية مع فرنسا وروسيا لتزيد من اهتمام البريطانيين بتأمين مواصلاتهم عبر العراق وترتب على ذلك اجراء عملية مسح ودراسات عديدة في العراق.
أما اول عملية مسح لانهار العراق فقد بدأت على يد جسني،وبناءاً على طلب السفير البرطاني في استانبول(روبرت غوردن)وبعد استحصال الموافقات الرسمية وتمهيداً لعمل البعثة حصلت بربطانيا على فرمان من السلطان محمود الثاني 1834 والذي نص على السماح باخرتين بريطانيتين بالابحار في نهر الفرات وقد استغرقت البعثة فترة طويلة بين سنتي(1835-1837) عانت خلالها البعثة من صعوبات جمة ومنها غرق الباخرة دجلة وبعد اكمال عمليات المسح توصل جسني الى صعوبات عديدة تعترض استخدام نهر الفرات للملاحة والتجارة بين بريطانيا والهند وبعد جسني اكمل لنج عملية مسح نهر دجلة وشط العرب وبعض اجزاء نهر الفرات بين سنتي (1838-1840).
وفيما عدا عمليات المسح لانهار العراق فان النصف الثاني من ق19 شهد طرح مشاريع مد سكة حديد فراتية بين البحر المتوسط والخليج العربي وطريق الهند خوفاً من احتمال تقدم روسي الى الخليج العربي وطريق الهند وبالتالي تهديد المصالح البريطانية في الهند.وقد طرح اول مشروع من هذا القبيل سنة 1856 الا ان المشروع فشل لانه تطلب ضمانات مالية من الحكومتين العثمانية لبريطانية ولم تكن الحكومة العثمانية راغبة وقادرة على منح تلك الضمانات .وطرح المشروع مرة اخرى 1862 ، 1871 عندما اقترحت لجنة خاصة في مجلس العموم انشاء سكة حديد فراتية تربط احد موانيء البحر المتوسط برأس الخليج العربي بكلفة تصل الى عشرة ملايين باون استرليني،الا ان الحكومة البريطانية لم تدعم المشروع لان قناة السويس كانت قد افتتحت وتعمل بكفاءة منذ سنة 1869 ،ومع ان مشاريع اخرى جرى طرحجا بعد ذلك الا ان الحكومة البريطانية لم تأبه بها وخاصة بعد الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882 وتأمين المواصلات البريطانية عبر قناة السويس.
استمر العراق يحضى باهمية سياسية وستراتيجية بالنسبة لبريطانيا ،لاسيما القسم الجنوبي منه والذي يعد مدخلاً الى شمال الخليج العربي فقد صرح كرزن في عام 1892 :”ان بغداد تقع ضمن موانيء الخليج العربي ويجب ان تدخل ضمن السياسة البريطانية التي لاتنازع”.
وخلال العقد الاول من ق20 اندفعت بريطانيا نحو ميدان التوسع الاستعماري واقامة مناطق النفوذ وكانت الدولة العثمانية احد الميادين الاساسية التي تغلغل فيها رأس المال الالماني من خلال مشاريع السكك الحديدية وسرعان ما وجه الالمان اهتمام الى العراق ودرسوا امكانية استغلا ثرواته النفطية.
على ان اهم هذه المشاريع الالمانية تمثل في مد سكة حديد برلين-بغداد من خلال انشاء سكة حديد تربط بين شبكة السكك الحديدية في الاناضول وميناء البصرة عند رأس الخليج العربي ففي آذار 1903 حصلت (شركة سكة حديد الاناضول)وهي مؤسسة المانية تعمل لحساب البنك الالماني والحكومة الالمانية على امتياز من الدولة العثمانية لمد وتشغيل سكة حديد تمتد من قونية الى بغداد فالبصرة.
الا ان هذا المشروع هدد الاستراتيجية البريطانية في الصميم من خلال التهديد باصال الالمان الى رأس الخليج العربي؛فكان ذلك مقدمة الى مفاوضات بريطانية- المانية استمرت حتى تم التوصل الى مشروع اتفاق في 15 تموز 1914 تخلت بموجبها بريطانيا عن معارضتها للمشروع مقابل تخلي الشركة الالمانية عن حقوقها في ايصال سكة الحديد الى الخليج العربي او بناء ميناء على سواحله،وعلى اية حال لم يكتب لهذا الاتفاق النجاح بسبب انلاع الحرب العالمية الاولى التي انفردت بريطانيا بعدها بالسيطرة على العراق والخليج العربي.
الى جانب اهمية العراق للمواصلات البريطانية في العراق فان اهميته استمرت قائمة بالنسبة للبريد السريع بين الهند ولندن،وتم في الوقت نفسه تنظيم نقل البريد من بغداد الى دمشق اسبوعياً بواسطة الجمال (بريد الهجين)واستمر هذا الترتيب قائما حتى ثمانينيات ق19 عندما جرى الغائه من جانب بريطانيا،من جانب آخر شهد النصف الثاني من ق19 انشاء خطوط تلغراف عبر العراق ،ومع نهاية 1864 تم انجاز خط تلغرافي يمتد من بغداد الى ايران عبر خانقين ومنها الى طهران وانتهاءاً بميناء بوشهر على الخليج العربي حيث ربط بخطوط الاتصال التلغرافي مع الهند.
وفي نفس تلك السنة بدأت المواصلات التلغرافية بين والهند كما قامت بريطانيا وحكومتها في الهند بافتتاح مكاتب بريدية تابعة لها في كل من البصرة ويغداد 1868 وكانت هذه المكاتب تحت اشراف الممثلين الدبلوماسيين البريطانيين فيها في اطار وسائل النفوذ البريطاني في العراق.
اما بالنسبة للمصالح الاقتصادية في العراق اذ شهدت التجارة الخارجية العراقية توسعاً سريعاً خلال النصف الثاني من ق19 كانت حصيلة جملة عوامل داخلية وخارجية.
وقد تمثلت التطورات الداخلية التي شهدها العراق ابتداء بثلاثينيات ق19 ومنها عودة الحكم العثماني المباشر على العراق وادخال الاصلاحات الادارية والعسكرية التي دعمت الاتجاه نحو النطام والامن ،وجهود الوالي مدحت باشا بتسوية مشكلة الاراضي في العراق من خلال تثبيت ملكينها في السجلات الرسمية،وايجاد طرق المواصلات الحديثة لاسيما النهرية منها…الخ.
اما التطورات الخارجية فقد تمثلت في المتغيرات التي طرأت على السياسة التجارية العثمانية ،فقبل 1838 كانت الدولة العثمانية تفرض رسوماً عالية اعاقت التجارة الخارجية لكن هذه السياسة سرعان ما تغيرت منذ عقد الاتفاقية التجارية العثمانية-البريطانية ومعاهدة بلطة ليمان 1838 التي نصت على الغاء كل انواع القيود التي كانت تمنع التجار البريطانيين من اقامة علاقات مباشرة مع التجار المحليين في الدولة العثمانية ،وفرضت الاتفاقية رسوماً ثابتة متحفظة على الواردات والصادرات والتي اصبحت المنتجات المحلية تخضع للرسوم لدى تداولها داخل الدولة العثمانية.
وصارت اتفاقية بلطة ليمان انموذجاً لاتفاقيات مماثلة عقدت مع فرنسا والدول الاوربية الاخرى ،وقد ترتب على تطبيق هذه المعاهدة تدفق البضائع الاوربية الى البلاد العربية والى خروج المواد الاولية منها لتغذية مصانع اوربا من جهة اخرى فان عهد الاصلاحات العثمانية (التنظيمات)في سنة 1839-1876 شهد اتخاذ اجراءات لتنظيم النشاط التجاري وتشجيع التبادل التجاري الداخلي والخارجي ،واخيراً فان افتتاح قانة السويس سنة 1869 كان مهماً في تطور التجارة العالمية.
وان اية دراسة عن المصالح البريطانية في العراق في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين يجب ان تأخذ بنظر الاعتبار شركات النقل والتجارة البريطانية العاملة في العراق والتي كان لها دور في تحقيق الهيمنة البريطانية على تجارة العراق الخارجية ،وتعد شركة لنج للملاحة النهرية احدى اهم الشركات البريطانية التي نشطت في العراق منذ ق19 حيث حصلت الشركة على اعتراف عثماني بتأسيس الشركة بموجب فرمان عثماني الصادر في 1861 باسم شركة الفرات ودجلة للملاحة التجارية المحدودة في لندن برأسمال اولي قدره 15000 باون استرليني ،وقد عززت هذه الشركة مركزها في العراق من خلال هيمنتها على النقل التجاري النهري ومساهمتها في عملية تصدير المنتجات العراقية لاسيما الحبوب والاصواف وقد جعلت هذه الشركة الباب مفتوحاً امام تغلغل المصالح الاقتصادية البريطانية وبالتالي النفوذ البريطاني في العراق وقد ارتفع رأسمال الشركة الى 100.000باون استرليني قبل الحرب العالمية الاولة ثم الى 300.000 باون استرليني سنة 1919،والى جانب هذه الشركة ساهمت شركات ومؤسسات تجارية بريطانية كثيرة في توريد السلع والمنتجات المختلفة الى العراق من خلال وكلاء في العراق لاسيما اليهود.
وفي مطلع ق20 بلغت اهمية العراق الستراتيجية درجة كبيرة نتيجة لاكتشاف النفط في عبادان وكانت حماية حقول النفط في عبادان من جملة الاسباب التي تذرعت بها بريطانيا عند احتلال البصرة.
ومع تزايد المصالح البريطانية في العراق دفع الساسة البريطانيين الى اعتبار وادي الرافدين مجالاً حيوياً للنشاط السياسي والاقتصادي البريطاني ،واوضح اللورد ليرزت ذلك سنة 1916 بقوله:من الخطأ ان نفترض ان مصالحنا السياسية تنحصر في الخليج ،فانها ليست منحصرة بالمنطقة الواقعة بين البصرة وبغداد وانما تمتد شمالاً الى بغداد نفسها.
وتأكيداً لهذه الاهمية بدأت الجهات العسكرية البريطانية بعرض الخطط العسكرية للاحتلال صوب العراق قبل اندلاع الحرب الاولى فقد شكلت حكومة الهند لجنة رباعية سنة 1911 لتقوم بدراسة الاجراءات التي يجب ان تتخذها لحماية مصالحها في جهات العراق الجنوبية وقد اوصت اللجنة في تقريرها باحتلال الفاو والبصرة.
وعلى الرغم من عدم الاخذ بمقترحات اللجنة في حينها لانها سابقة لاوانها الا ان القناصل الانكليز في بغداد والبصرة والموصل اخذوا باعداد المعلومات اللازمة عن الجيش العثماني:اعداده وتجهيزه وقدرته على التحرك فضلاً عن القيام باحضار الخرائط اللازمة للاعمال العسكرية.
وعند اندلاع الحرب العالمية الاولى في 1914 وتعاطف الدولة العثمانية مع المانيا بدأت بريطانيا تهيء قواتها العسكرية للحفاظ على احتلالها للخليج العربي وفي 6تشرين الثاني 1914 نزلت القوات البريطانية في الفاو وفي 22 تشرين الثاني احتلت البصرة لينتهي الاحتلال البريطاني باحتلال الموصل في 8 تشرين الثاني 1918.
المصدر/ مركز الدراسات الاستتشراقية