25 فبراير، 2025 2:02 م

التناص في القصة القصيرة جدا.. مجموعة “تسونامي” ل”مصطفى لغتيري” أنموذجا

التناص في القصة القصيرة جدا.. مجموعة “تسونامي” ل”مصطفى لغتيري” أنموذجا

 

دراسة:  د. نورة الصديق

مع انفتاح النقد العربي على الثقافة الغربية ومواكبة ما هو جديد لديها، وفدت إلى الثقافة العربية مناهج نقدية عديدة، بما تنطوي عليه من مفاهيم ومصطلحات ونظريات، وأدوات إجرائية مختلفة، تحاول إضاءة النص الأدبي وفحصه وتحليله، بما فيها المناهج البنيوية في النقد العربي والمناهج السردية والمقاربات النقدية الأخرى، كمناهج حديثة تغذي الذائقة النقدية المغربية التي تترجم أغلب الدراسات الأصلية النقدية، مثل منهج التناص كمقترب نقدي وآلية إجرائية لدراسة النصوص وفحصها، تبنته مجموعة من النظريات اللاحقة لأسماء مثل ميخائيل باختين وجيرار جنيت وجوليا كرستيفا…

هذا المفهوم الذي لم يكن غريبا عن الدراسات النقدية القديمة في النقد العربي، إذ أجمع النقاد على أنه لم يكن بعيدا عن هذه الدراسات التي سبقت ظهوره تحت مسمى السرقات الأدبية في النقد العربي، ذلك أن مفاهيم التأثر والتضمين والاقتباس أخذت مجالها الواسع في هذه الدراسات التي تعتبرها ضمن مجال السرقات الأدبية، وقد أثار ذلك ضجة كبيرة حول بعض الكتابات الموصومة بالسرقة، لكن مع دخول مصطلح التناص إلى الساحة النقدية العربية، خفف من وطأة هذه الضجة، وقد اهتم به النقاد العرب درسا وتطبيقا، لما له من دور كبير في الدراسات النقدية، وفي تبرئة المبدع من تهم السرقة المنسوبة إليه، فنشأ تراكم تراثي من المؤلفات العربية في التناص، يثري الساحة الأدبية والنقدية بما هو مفيد في هذا المجال خاصة في مجالي الشعر والرواية…

وفي هذه الورقة، سنركز على التناص كآلية نقدية واستخدامه بحرية في تفحص القصص، ومحاورتها ومناقشتها باستقلالية من خلال الإجابة عن السؤال التالي: ما مدى حضور التناص في مجموعة “تسونامي” وماهي منابعه وأنواعه؟، كما تهدف هذه الورقة إلى إجلاء مستويات التناص بين النص القصصي والنص المتناص معه باعتماد المنهج الوصفي التحليلي وهو يقوم على ملاحظة الظاهرة (النص) ووصفها وتحليلها، للوصول إلى الدلالات الجديدة التي تظهرها هذه القراءة من خلال هذه الآلية النقدية.

1ـ القصة القصيرة جدا..

يُعَد جنس القصة القصيرة جداً، أو ما يُعرف اختصاراً بـ”ق ق ج” نوعا أدبيا حديثا، ظهرت إرهاصاته الأولى مع بداية القرن العشرين في أمريكا اللاتينية، ليتطور ويزدهر على رواد كبار، لتزحف نحو الغرب الذي حظيت فيه بالحضور الوازن، لتنتقل امتداداته إلى الساحة الثقافية العربية خاصة في بلاد الشام كالعراق وسوريا وفلسطين، كما تعد القصة القصيرة جدا نمطا أدبيا انتشر بشكل سريع لعدة عوامل أفرزته في عصر السرعة والحداثة وانتشار القنوات الفضائية الكثيرة، وتعدد الوسائط وقنوات التلقي ووسائل التعبير، تغيرت معه نفسية القارئ واختلفت بشكل جذري مثل التكنولوجيا المتطورة من خلال غزو الإعلام المرئي الجارف بالإنسان إلى الهاوية بعيدا عن الإنسانية والقيم الفاضلة ومنعزل الرغبة في احتضان كتاب لقراءته، لقضاء أوقاته أمام شاشات الهاتف والتلفاز، أفقدته السيطرة في جوانب حياته، نزعت عنه التركيز في أموره، وتحمل النفس الطويل لقراءة قصص وروايات طويلة، إثر هذه المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للإنسان تظهر طاقات منتجة تتدخل في وهذا ما دفعت الكتاب لتغيير المكونات النصية سواء على مستوى المضمون أم على مستوى الشكل، وللميول لكتابة القصة القصيرة جدا وجذبتهم لإبداعها في شكلها القصير والمتشظي وكثافتها وغرابتها وومضها السريع، باعتبارها وسيلة لاستقراء هموم الإنسان وترجمة واقعه ومعاناته وتعريته أسراره وأحاسيسه بطريقة صريحة أو مضمرة.

وهذا لا يعني أن القصة القصيرة جدا انبثقت من رواسب هذه العولمة، لكن بعض أصولها تعود إلى أصول عربية تراثية؛ فهي تحديث لفن المقامة وكتاب ألف ليلة وليلة، وتطوير لفن الخبر في التراث العربي المنسوج بأفكار مسترسلة وبلغة ممشوقة ومنمقة بالعبر عن طريق المجاز والسجع والطباق والجناس، ومع ذلك فهو جنس أدبي مستحدث، استجدت فيه سمات خاصة وتقنيات جديدة وآليات التشييد الجديدة كالتكثيف والإيجاز والنزوح والشعرية والتحويل والترميز وطريقة البناء واختزال الحدث والاشتغال على مساحة أقل…. كما أنه حامل لمقومات تمنح له النجاح والاستمرارية، بواسطة تقنيات العديد من الأجناس الأدبية الأخرى الشفهية والمكتوبة والمرئية، أعادت تدويرها وتشكيلها وفق خصوصية مرحلة العصر المعيش وتحويلها إلى ظاهرة نصية، لترتبط بذات الإنسان المبدع والقارئ والناقد على السواء من خلال رسائلها التي تدعو إلى المساهمة في القراءة وتأمل مضامينها وكشف عوالمها ودلالاتها وحقائقها…

لقد اختلف النقاد والدارسين العرب في تصوراتهم و تعريفهم لمفهوم القصة القصيرة جداً، وسنستعرض بعض التعاريف التي حاولت تقديم تعريف لها، وتبيان خصائصها ومقوماتها، من أجل تقديم صورة عن مفهوم القصة القصيرة جداً. تعَرِّفها الدكتورة سعاد مسكين بأنها “ليست موضة أو موجة في الكتابة السردية الجديدة، بل هي صيغة (Un mode) جديدة في الكتابة لها وآلياتها الجوهرية التي يجب أن تكرس كثوابت ومتعاليات، تتمثل أساساً في الكثافة اللغوية، مع عمق المعنى، وتوسع الرؤية”، تؤكد الباحثة أنها نوعٌ سردي حديث يرتبط بجنس “القصة” في خصائص مشتركة مثل الحكائية، المفارقة، الكثافة، وحدة الحدث…

وعرفها يوسف حَطّيني بأنها “جنس سردي قصير جداً يتمحور حول وحدة معنوية صغيرة، ويعتمد الحكائية والتكثيف والمفارقة، ويستثمر الطاقة الفعلية للغة ليعبّر عن الأحداث الحاسمة، ويمكن له أن يستثمر ما يناسبه من تقنيات السرد في الأجناس الأخرى”.  في حين يقول جميل حمداوي: “القصة القصيرة جداً جنس أدبي حديث يمتاز بقصر الحجم، والإيحاء المكثف، والانتقاء الدقيق، ووحدة المقطع، علاوة على النزعة القصصية الموجزة، والمقصدية الرمزية … التلميح، والاقتضاب، والتجريب، واستعمال النفس الجملي القصير الموسوم بالحركية… بالإضافة إلى سمات الحذف والاختزال والإضمار… التصوير البلاغي الذي يتجاوز السرد المباشر إلى ما هو بياني ومجازي، وذلك ضمن بلاغة الإيحاء والانزياح والخرق الجمالي…”.

لا تقدم هذه التعاريف تعريفا نهائيا، جامعا مانعا للقصة القصيرة جداً ، بل تصورات ورُؤى للأدباء وللمهتمين بها، لكونها ما تزال في طور التكوُّن والتشكل، منفتحة على أجناس وفنون أدبية أخرى، ومن خلال هذه التعريفات يلاحظ  اختلاف الدارسين في قضية تجنيس القصة القصيرة جداً، إذ تعددت واختلفت الآراء حوله، وحول تأصيله واستقلاليته عن القصة والقصة القصيرة أومن عدمها لكونها تتوفر على نفس عناصر البنية السردية، فهناك من يقول أنها جنس أدبي، ومن يقول بأنها نوع سردي حديث …وهناك من لم يبد برأيه حول شرعية وُجودها، إلا أن تاريخ هذا الجنس الأدبي من إرهاصاته الأولى ولمدة أربعة عقود، ساهم في مُراكمة كمٍّ هائلٍ من النصوص والمتون، على اختلاف مضامينها وجمالياتها واتجاهاتها وحساسياتها، للتعبير عن خصوصيات هذه المرحلة في تاريخ الإنسانية.

فأينعت أولى جذور هذا النمط الأدبي في المغرب خلال ثمانينيات القرن الماضي، خاصة في الشرق، ومن روادها القاص المغربي محمد إبراهيم بوعلو، الذي كتب محمد إبراهيم بوعلو نصوصا قصصية سماها: “أقصوصة”، أدرجها لاحقا ضمن مجموعة بعنوان: “50 أقصوصة في خمسين دقيقة” بحسب ما ذكره الأستاذ جميل حمداوي في دراسة له..

وقد عرفت القصة القصيرة جدا إقبالا كبيرا من طرف الكتاب المغاربة الذين يتصدرون لائحة هذا الجنس الأدبي الذي يشق طريقه نحو أوج الساحة الثقافية المغربية، ومن هؤلاء الرواد المؤسسين للقصة القصيرة جدا في المغرب حسن برطال وعز الدين الماعزي وفاطمة بوزيان وعبد الله المتقي وسعيد منتسب وميمون لحرش…. والكاتب المتميز بكتاباته مصطفى لغتيري، والمميز بعمق نظرته وثقافته وسعة معرفته ومهارته وتفرده في تقنية الكتابة، والمتمرد على اللغة التقريرية واليومية لوعيه الشديد وبداهته القوية، له مجموعات من القصة القصيرة جدا: مظلة في قبر 2006 ـ تسونامي 2008 ـ زخات حارقة 2013- حدثنا القرد فقال 2019.. وستسعى هذه الورقة إلى سبر أغوار المجموعة القصصية القصيرة جدا “تسونامي”، والكشف عن معالم التناص، ورصد مصادره وآلياته والتقنيات المعتمدة في تشكيل بنيتها الدلالية .

2_ التناص

لغة: إن كلمة التناص مأخوذة من الجذر اللغوي ” نص ونصص ” ويدل على الرفع والظهور وأقصى الشيء .. نص الحديث يَنُصُّه نصاً : رَفَعَه وكل ما أُظهر فقد نُص، والمنصة ما تُظهَرُ عليه العروس لتُرى، ومنه قولهم نَصَّصتُ المتاع إذا جعلت بعضه على بعضٍ، ونص الرجل نصاً إذا سأله عن شيءٍ حتى يستقصي ما عنده ، ونص كل شيءٍ منتهاه”

اصطلاحا: كان العرب من السباقين إلى مفهوم التناص تحت مسمى السرقات الأدبية، في النقد العربي القديم ويطلق على ظاهرة انتقال المعاني من نص إلى آخر، وقد حدده القز ويني بمفهوم الاقتباس وهو “أن يضمن الكلام شيئا من القرآن أو الحديث”، واكتشف ابن رشيق على مدى اشتمال الموروث القديم على بوادر مفهوم التناص، يرى أن باب السرقات “باب متسع جدا، لا يقدر أحد من الشعراء أن يدعي السلامة منه… وقد أتى الحاتمي في “حيلة المحاضرة” بألقاب محدثة تدبرتها ليس لها محصول إذا حققت: كالاصطراف، والاجتلاب، والانتحال، والاهتدام، والإعارة، والمرافدة، والاستلحاق وكلها قريب من قريب”، إذ اختلف النقاد والبلاغيون حوله في تحديد وصف هذه السرقات بمصطلحات أدبية وفنية كالتضمين والاستعارة والاقتباس… بينما ظهرت في الغرب مجموعة من النظريات الخاصة بالتناص وفق مرجعياته الفكرية والتاريخية…

ظهر التناص أول مرة في دراسات جوليا كريستيفا وعرفته بأنه “التقاطع داخل نص للتعبير قول مأخوذ من نصوص أخرى ” وبأنه ” التفاعل النصي في نص بعينه” ،كما ترى جوليا أن ” كل نص يتشكل من تركيبة فسيفسائية من الاستشهادات وكل نص هو امتصاص أو تحويل لنصوص أخرى ”  وبالتالي كل نص يستدعي نصوصا أخرى، ويقبل قراءات متعددة وجديدة…

ويسمي جيرار جينيت التناص بالتداخل النصي، يقول:” محاولة دراسة العلاقة بين النص والمكونة لنص واحد…وأن هذه العلاقة تخضع لميكانيزم أو عملية تحويل، أي أن نصا واحدا يتضمن نصوصا متعددة”، إذ يدعو هذا النص بالتناص المتعالي، وبجامع النص، أي يكون التناص لا واعيا، أي يتم تذويب نص في نص آخر، وإعادة إنتاجه بذكر مصادر أخرى. وفي كتاب “فلسفة اللغة” أشار العالم الروسي ميخائيل باختين إلى مفهوم التناص من خلال في بدايات ظهوره الأولى كمصطلح نقدي كونه” الوقوف على حقيقة التفاعل الواقع في النصوص في استعادتها أو محاكاتها لنصوص – أو لأجزاء – من نصوص سابقة عليها ”

أصبح التناص بعد انتشار واتساع مفهومه في الأدب الغربي، ثم انتقاله إلى الأدب العربي ظاهرة لغوية وظاهرة نقدية جديدة جديرة بالدراسة والاهتمام، وقد قدم النقاد المغاربة تعريفات كثيرة للتناص منها أنه “فسيفساء من نصوص أخرى أدمجت فيه بتقنيات مختلفة، يجعلها منسجمة مع فضاء بنائه ومع مقاصده، إذن هو تعالق نصوص مع نص حدث بكيفيات مختلفة”، أي أن كل نص يتضمن ظلال نصوص أخرى، له علاقة بنص آخر، وبحياة أخرى تنتمي إلى عمل أدبي أو تراثي أو أسطوري… وتتفاعل مع عوالم أخرى مغايرة لها لتثريه بآثار أخرى، ليصبح بالتالي لوحة منسوجة بمزيج من الاقتباسات المختلفة المنابع التي استدعيت لخدمة النص الإبداعي، وفسيفساء تتخللها  تحولات لفظية ودلالية في تركيبها وعناصرها لتجدد عوالمه عبر التناص .

عموما يعد التناص على المستوى الإجرائي أداة خاصة بالكشف عن نفسه في النص المدروس، أي قراءة لنصوص سابقة و تأويل لهذه النصوص، وإعادة كتابتها ومحاورتها بطرائق عدة على أن يتضمن النص الجديد زيادة في المعنى على كل النصوص السابقة التي تتكون منها”، وذلك بالكشف عن آليات التناص التي اشتغل بها النص عند الإنتاج ، ويعتمد في ذلك على وعي وحصافة القارئ/ الناقد وثقافته ومصادرة السابقة على القراءة..

يعتمد كل نص مع مجموعة من المكونات والعناصر لبناء عوالمه كالشخصية والحدث والفكرة والزمان والمكان والموضوع….وباعتبار كل نص  منفتح على الأجناس الأخرى، فمن البديهي أن يتداخل مع نصوص أخرى ليتكون من جديد، بعد أن كان ميتا، واستخدم التناص بمثابة جرعة ماء لإحيائه من جديد على مستوى الإنتاج، وعلى مستوى الدراسة والفحص باعتماد قدرة القارئ وثقافته ليكون له معنى جديدا من خلال إظهار تناصاته مع النصوص الأخرى…

3ـ مجموعة “تسونامي”

بداية يجب استنطاق عنوان المجموعة القصصية القصيرة جدا، باعتباره المنفذ الرئيسي لأية قراءة، “تسونامي” هي كلمة غير مركبة كما باقي عناوين القصص الأخرى… موحية، موجزة، ذات جمالية فذة، مقترة كما هي اللغة كذلك في المجموعة…

تسونامي: ظاهرة طبيعية خطيرة، تجعل الأرض في صورة بشعة بعد اجتياحها، تخيف الجميع و ترعبه…

تسونامي : مجاز وتعبير إيحائي يشير إلى تسونامي حقيقي يعصف بمجالات الحياة: نفسيا، اجتماعيا، سياسيا، اقتصاديا…من أجل التخلص من براثن عيوبها ونجاسة أركانها، وثقل قبحها، وتبدو صفحة بيضاء جديدة لا يشوبها أي عطب أو خلل.. وقد وظف الكاتب مصطفى لغتيري كلمة “تسونامي” من أجل مواضيع إنسانية واقعية وفلسفية، في صور واضحة عير معتمة، تضفي على النصوص جمالية وفلسفة، وتمنحه انفتاحا على عوالم متعددة تستدعي قراءات متعددة في أغلب قصصها، وأحيانا تبقى بعض القصص صالحة لكل زمان ومكان… لا تخضع لتأويل واحد، بل تشرك القارئ في الكتابة وفي إعادة إنتاج النص من جديد.

تتكون المجموعة “تسونامي” من سبع وخمسين قصة قصيرة جدا، جل عناوينها تتكون من كلمة واحدة ماعدا ثلاثة، مرتبطة بمتونها ومتكاملة الانسجام دون فصل، ويطغى عليها الطابع الذهني والثقافي، تحفل بالرمز والتناص كعنصرين يساهمان في تكثيف الدلالة والإيحاء، كما تجود بعناصر الطبيعة المنسوجة بقدرة إبداعية ماهرة في سياق حكائي وفلسفي وإنساني وثقافي، يبرز أن الكاتب المخلص للقصة القصيرة جدا والمحافظ على خصوصياتها وخصائصها، تمكن بقوة من السرد القصصي المكثف والموجز….

وجاءت أغلب قصصه في المجموعة متميزة بالقصر، عبارة عن سطور، وهناك من قصصه من تتكون من جملتين كما الهايكو، قفلاتها أو خرجاتها قصيرة جدا، تعفي القارئ من توظيف خياله، وتباغته بمفاجأة محبكة بمهارة رائعة، يومض في قصص هذه المجموعة بالموضوع، بالفكرة، بالإيحاءات، عبر تناصات أدبية وفلسفية ودينية متنوعة، ليترك القارئ يستوعب باقي الأحداث ويسبر أغوارها بنباهته، لكونها منسوجة بلغة سهلة مشوقة قريبة من مستوى القارئ دون تصنع أو حشو أو إطناب يذكر، تيسر له اللغة السهلة غير القوية وغير الشعرية الغوص في عوالم النصوص المنسجمة التي تقدم مواضيعها الإنسانية بعمق، حيث تتوغل في الذات الإنسانية وتترجم طبائعها بأسلوب سلس موجز ومقنع، وبصور بلاغية مناسبة، متجنبا تسلسل البناء التقليدي(مقدمة، أحداث، نهاية)… معتمدا في نسج لغته الحكائية على المجاز والإيحاء والأنسة والتشخيص للتعبير عن هموم الناس وترجمة مشاكلهم ومواقفهم ومعاناتهم، والوقوف على تمثلاتهم ومعتقداتهم الذهنية، واصفا بدقة هيئاتهم وحالاتهم النفسية عبر سرد محبوك حامل لكثير من الموضوعات التي يحيل عليها والرهانات كبيرة، بمفارقات معلنة وبسخرية متدفقة في آخر الحكي.. في مشاهد مختزلة لغة تغني البناء الدلالي واللغوي لهذه النصوص وتضفي عليه جمالية متفردة .

4 ـ أنواع  التناص في مجموعة تسونامي:

إن أي نص كما سلف الذكر سابقا لا ينتج إلا في ّإطار بنية نصية سابقة يتفاعل معها على مستوى اللغة أو على مستوى الأجناس التي وقف عليها الدارسون، كما قال رولان بارث” كل نص هو تناص، والنصوص الأخرى تتراءى فيه بمستويات متفاوتة، وبأشكال ليست عصية على الفهم ..إذ نتعرف نصوص الثقافة السالفة والحالية، فكل نص ليس إلا نسيجا جديدا من استشهادات سابقة” أي أن التناص وصف لإدخال نص في نص آخر، مما يمكن المتلقي من معرفة حدود النصين : الغائب والحاضر..

يتناول الكاتب مصطفى لغتيري في مجموعته “تسونامي” مجموعة من القضايا المعاصرة، السياسية والاجتماعية والثقافية سواء محليا ووطنيا ودوليا، ويناقش بعض الموضوعات الذاتية والموضوعية التي اهتم بها في مجموعته بأسلوب ساخر ولاذع..   وتحمل قصص المجموعة في ثناياها تداخلا حواريا لنصوص متعددة وأفكار.. وهذا ما تلمسه هذه الورقة في انفتاح القصص على التحاور مع الموروث، والبحث عن التناصات، أو النصوص الغائبة فيها، لأن التناص داخل فضاء النص الواحد تتقاطع وتتفاعل نصوص وملفوظات أخرى، تتوغل في الغموض الإضمار عبرها يستثمر مصطفى لغتيري مجموعة من المرجعيات التراثية، أو القرآنية، أو التاريخية، أو الشعبية (الثقافة والموروث الشعبي)، والتي تمثل السمات الحضارية والثقافية والاجتماعية… من أجل بناء عالمه القصصي المتميز فنيا وجماليا، اشتغل فيها الكاتب بطريقة إبداعية من خلال الانزياحات واللغة والسرد والتلغيز دون الإفصاح كثيرا عن فحوى النص بالكامل معتمدا على سرد مفتوح الرؤيا بنسيج لغوي متناسل للحصول على قصص قصيرة  جدا مفتوحة على باب التأويل

بأكثر من معنى تقحم القارئ بلعبتها الغامضة.

وقد ارتأت هذه الورقة وضع تحديد لأنواع وتقنيات التناص الموظفة في المجموعة القصصية التي تجعل المتلقي يعيش مع قصصها، ويتعمق في أغوار نصوصها الفريدة من خلال إعجابه بالطريقة التي وظف بها الكاتب حمولته الثقافية والمعرفية والسياسية، وأحيا بذلك الكثير من الأفكار التي يعتقد القارئ أنها ماتت وانقرضت في العصر الحاضر. إذ من خلال عملية التناص يستحضر نصوصا تتجسد فيها أحداث حية موشومة في الذاكرة أو شخصيات بصمت التاريخ الإنساني بمواقفها وبأفكارها، يحاورها ويخلق منها دلالات جديدة تخدم نصوصه القصصية معتمداً على دلالتها التراثية.

4ـ1 ـ التناص مع التاريخ:

تنمو القصّة القصيرة جدّا وتتطوّر من خلال علاقتها بالنّصوص الأخرى حيث تتوالد الإيحاءات والمضمرات في ذهن القارئ الذي استطاع النّص أن يجذبه… ليوّلد لنا نصّا جديدا من إنتاج القارئ الواعي من خلال تلك التّصوّرات الذهنية التّي ولدتها القصة، كمشارك في إعادة إنتاج النص عن طريق عملية الاسترجاع والتأويل، من خلال مقاربة الانزياح واللغة والرمزية والسرد والتلغيز والمؤشرات المعرفية والثقافية في القصص التي تجعل القارئ حائرا أمام غموضها وإحالاتها التناصية المتعددة تدفعه لسبر أغوارها والإفصاح عن فحوى النص، إذ أن أغلب المجموعة تتضمن حكاية تقوم عليها القصة سابقة يهدمها ليبني قصة جديدة ذات معالم و لباس جديد…

من خلال المجموعة “تسونامي” نجد بعض نصوصه انفتحت على أحداث تاريخية، أعاد الكاتب تشكيلها لإحياء فترة تاريخية اختزلها في نص مكثف قصير لتذكير القارئ بحقيقة تاريخية راسخة بعد الحفر في ذاكرته كالقصة القصيرة جدا ” حرية ” فيها يصف الكاتب مصطفى لغتيري اندحار الإسبان في حرب الريف بتشكيل لغوي مكثف لعبت فيه السخرية والمفارقة دورهما الأساسي بلغة ساخرة مفارقة يحتقر فيها العدو الإسباني ويشيد بهزيمته الساحقة وتبخر أطماعه التوسعية في الأراضي الريفية، مؤكدا أن مفهوم الحرية ليست “بالضرورة امرأة شقراء ذات عينين زرقاوين” يقول:

“مدججين بعتادهم الحربي، تقدم الإسبان نحو جبال الريف المنيعة..

بعد محاولات عدة للاختراق، نكصوا على أعقابهم مندحرين.

حينها فقط ، أدركوا أن الحرية ليست بالضرورة، امرأة شقراء، ذات عينين زرقاوين”

لقد جعل الكاتب من تاريخ الاستعمار الإسباني موضوع للقصة القصيرة جدا في تيمة “الحرية”، وصبّ كل خيوط الحدث، ونسج قالبا قصصيا وجدانيا جعل منه تيمة متميزة في مجموعته، بل حتى في رواياته، فالكاتب مولع بالأحداث التاريخية، يعيد تشكيلها وإنتاجها بسرد متميز مشتهر به، من خلالها يعالج قضايا الشعب المغربي والهموم المستقبلية لأفراده، لتنضوي أغلب كتاباته تحت لواء الأدب الهادف… بذلك يضيء الحاضر من خلال استحضار الأحداث التاريخية، ويعبر بالموروث الثقافي وما يزخر به من أحداث تاريخية، وهو استدعاء للتعبير عن همومه واستكناه المأزق السياسي والاجتماعي في مواجهة الواقع المرير والغد الغامض…

وهذا يدل على أن” الأحداث التاريخية والشخصيات التاريخية ليست مجرد ظواهر كونية عابرة تنتهي بانتهاء وجودها الواقعي، فإن لها إلى جانب ذلك دلالتها الشمولية الباقية و الباقية للتجدد على امتداد التاريخ في صيغ وأشكال أخرى”

نفس الموضوع طرحه في القصة القصيرة جدا “كسوف” وصف فيها الاستعمار البريطاني(الإمبراطوية) في آسيا وتوسع رقعتها الاحتلالية إلى أن بزغ القمر المنير العاري غاندي المتزعم للمقاومة السلمية، والقائد العظيم للشعب نحو الحرية منقذا إياه من براثن إمبراطورية لا تغرب عنها الشمس حتى خسفها، يقول:

“لردح من الزمن، اتسعت رقعة المملكة، حتى أضحت إمبراطورية لا تغرب عنها الشمس.

فجأة بزغ في بلاد الهند الفقيرة قمر عار.. ببطء وثبات زحف في كبد السماء، ثم ما لبث أن كسف شمسها”

ويستدعي القاص شخصيات قصصه من مصادر مختلفة في كثير من قصصه القصيرة جدا، إذ يسجل استحضار الشخصيات التاريخية أو المعاصرة التي ترسخت في ذهنه من خلال سفره عبر الزمن، وذلك باستدعاء الشخصيات من الزمن الماضي إلى الزمن الحاضر مخترقا الحقب التاريخية المستدعية من أحداث وثائقية وتاريخية يوظفها للتعبير عن الواقع العربي المؤلم والانحراف الخلقي المتفشي، ويعري الفساد السياسي الذي ينهش كل القوى والنخب الحاكمة ومن خلالها يستطيع الكاتب أن يُكثف للقارئ ما يقرأه في صفحات…

كما ينتقد الكاتب، بسخريته اللاذعة في قصة “تمثال” طموح جورج واشنطن للاستيلاء على بلاد الجنوب القصية من خلال مراقبة تمثال سيمون بوليفار هو أحدُ أبطالِ الثورة التي قامت ضد الاستعمار الإسباني لدول أمريكا الجنوبية، فقام بتحرير كولومبيا، وفنزويلا، والأكوادور، والبيرو، وبوليفيا… وعندما حاول بوليفار توحيد أمريكا الجنوبية كلها تحت سلطته في اتحاد فيدرالي، أصيب بعسر الهضم كمفارقة غريبة، إذ غضب التمثال مكتفيا بمواجهة القضايا الوطنية بصعوبة كبيرة وتراكم المشاكل السياسية… وهو ما يؤشر على أطماعه الكبيرة لاحتلال دول أمريكا الجنوبية” في بلاد اليانكي، أخذ تمثال جورج واشنطن منظارا.. ومن مكانه طفق يجول ببصره في بلاد الجنوب القصية.. فجأة تبدى له تمثال بوليفار بسحنته الإيبيرية، ومعطفه الطويل..

غضب التمثال.. رمى المنظار بعيدا، وأصيب بعسر في الهضم”

فالقصة واقعية والمكان حقيقي استطاع الكاتب أن يوجز الواقع الذي عرفته دول أمريكا، وأهم التغيرات التي طرأت تاريخيا، وترجمتها أدبيا بتشكيل بنية عالم ينمو بصراع بين الشخصيات في زمكان يضفي دينامية على القصة، ومنفتح على تعدد الأصوات، ساهم التناص في تكوينها ونموها في ظل تعالق ينبض بالجمال، فثمة علاقة بين الشخصيتين التاريخيتين، كليهما متمسكان بالوطنية والاستغلال والتوسع، مما جعل المنطقة تعرف توترات عديدة…

4ـ-2  التناص مع القرآن الكريم والحديث النبوي:

يحضر التناص الديني بقوة في المجموعة؛ إذ كثيراً ما يستدعي الكاتب لفظة من السياق القرآني ويضعها في غير سياقها، أو يَمْتص النص القرآني ويَعمد إلى تذويبه في نصه القصصي مع إبقاء كلمة أو أكثر من الكلمات الدالة على النص الغائب، حيث يصعب اكتشافه أحيانا ما لم تكن القارئ حصافة وقدرة ومعرفة دينية، ومن نماذج هذا النمط ندرج بعض القصص التي تناولته:

يصور القاص في قصة ” المطهر” جوانب الحياة البشرية في إفريقيا التي تحظى بواجهتي والبحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي والاستفادة من ثرواتها، ورغم مؤهلاتها المتنوعة تعاني المعاناة القاسية من الفقر والجوع والبطالة والحروب الأهلية…  كلها عوامل دفعت السارد إلى الهجرة نحو الضفة الأخرى، حيث جنة النعيم ورغد العيش، وأوحت له عرافة إفريقيا أن يطهر ذاته من هذه البراثن التي تتناسل يوما بعد يوم، وتفرز أفواجا عديدة لاختراق الحدود الإفريقية التي تنتشر فيها عدوى هذه الفيروسات التي تقتل إفريقيا من الداخل، وكذا يطهر ذاته من خطايا المحيط الأطلسي من خلال الغوص سبع مرات، وهو تناص مع العدد سبعة في القرآن الكريم، يقول: “كنت أغوص بجسدي المتعب في المياه الهادئة.. وبوحي من عرافة إفريقية، حرصت على أن يكون عدد الغوصات سبعا ..وكأنني بذلك أتطهر من خطايا المحيط الأطلسي” وهذا العدد له قدسية وأسرار في القرآن الكريم، وهو رقم فضَّل الله تعالى رقماً عن سائر الأرقام له خصوصية في عبادات المؤمن وفي أحاديث المصطفى عليه الصلاة والسلام، وفي الكون والتاريخ .. يملك دلالات كثيرة، حتى أن تكرار هذا الرقم في كتاب الله جاء بنظام محكم لأهميته، وأنه رقم يشهد على وحدانية الله تعالى، فعدد أيام الأسبوع سبعة وعدد العلامات الموسيقية سبعة وعدد ألوان الطيف الضوئي سبعة، وعدد السماوات سبعة وعدد الأرضين سبعة. يقول عزَّ وجلَّ: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً). كما أن هناك حضوراً ملحوظا في الأحاديث النبوية الشريفة الكثيرة التي نطق بها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. ذلك أن للرقم سبعة حظ وافر، وله أهمية كبيرة وأسراره كثيرة مبهمة التي لا تحصى…

كما نلفي تناصا دينيا في قصة ” الموت” فيه يحيل الكاتب إلى مصير الإنسان، (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَام) يقول السارد: ” لا، أبدا، إن لم يمت المرء اليوم، قطعا سيموت غدا” وهو تناص مع الآية الكريمة(وَما تَدْري نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَدًا وَما تَدْري نَفْسٌ بِأيِّ أرضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير”)، ذلك أن البطل الشاب يتحاور مع الموت الذي أتاه على هيئة رجل ويوحي إلى ملك الموت عزرائيل، تقدم نحو شاب ليقبض روحه، وقد أنكر خوفه من الموت حين سأله، وعندما تيقن من حضوره فرّ من قدره المحتوم مرعوبا ليلقى حتفه بعد أن دهسته سيارة…. وهنا يسجل تناص مع النص القرآني كما جاء في الآية الكريمة (وَلَن يُؤَخِّرَ ٱللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَآءَ أَجَلُهَا وَٱللَّهُ خَبِيرٌۢ بِمَا تَعْمَلُونَ)

وفي قصته (خداع)، نجد استحضارا لقصة آدم وحواء، كفردين متساويان في الحقوق والواجبات وهما ينعمان بنعيم الجنة ويقترفان وزرا مشتركا دون إحساس بالذنب، يقول السارد ” في رحاب الجنة كان آدم وحواء متثاقلين ينقلان خطواتهما بانتشاء يتمليان روعة المكان من حوليهما ” يجتر الكاتب قصتهما كما وردت في القرآن الكريم ذلك أن من يقرأ القصة يستحضر قصة آدم وحواء في ذاكرته مباشرة مع تغييب نصوص أخرى لما التأثير الديني على الذاكرة، لأن سياق القصة مفتوح على الغير المتمثل في نصوص سابقة له، وهذا ما عبر عنه بارت  بمفهوم ” الكتابة التي لا تنغلق على نفسها ، بل تنفتح على غيرها في تفاعلات نصية دائمة”، إذ نجد بعض المفردات التي جاءت في القصة مثل ( طفق، شيطان، التفاحة )، والقصة تجتر الآية الكريمة : (يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ). كما يتناص مع الآية في قوله تعالى: (فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ) ، فالكاتب تعامل مع الآيتين باحترام وتقديس، فأعادهما كرة أخرى كما وردتا في القرآن الكريم، فبنى النص المناص على النص الديني من حيث نفس المكان والشخصيات والحدث والنهاية، يقول:

“في رحاب الجنة، كان آدم وحواء، متثاقلين ينقلان خطواتهما…فجأة تبدى لهما رجل غريب الهيئة، لا يرى عليه أثر السفر.. ما لبث أن طفق يغريهما بتناول ثمار الشجرة المحرمة.. مليا نظر إليه آدم، ثم فكر.. أبدا، لا يمكن أن يكون هذا الرجل شيطانا.. فالشيطان مطرود من رحمة الله، ولا يستطيع مطلقا دخول الجنة اطمأن آدم إلى حجته، فالتهم هو زوجه التفاحتين دون إحساس بالذنب.”

يسجل في نفس القصة كذلك تناص الجملة من حيث الوصف “لا يرى عليه أثر السفر” مع حديث الرسول صلى الله عليه وسلم حول أركان الإسلام والإيمان والإحسان، عند وصفه لجبريل:

” … ذاتَ يومٍ إذ طلع علينا رجلٌ شديدُ بياضِ الثيابِ شديدُ سوادِ الشعرِ، لا نرَى عليه أثرَ السفرِ ولا نعرفُه…”رواه مسلم.

ونلمس في المجموعة القصصية تفنن الكاتب في نسج قصصه اعتماداً على تضمين عبارات ولغة قرآنية فصيحة تتمظهر في أسلوبه، وانتقاء تعابيره وهذا يدل على ثقافته الدينية الواسعة، فعند تأمل النص القصصي “أمل” نتذكر قوله تعالى:( وَعْدَ اللَّهِ  لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)، يقول السارد: “في حرب لبنان، تعرضت بلدة صغيرة لقصف إسرائلي وحشي، لم يوفر أحدا .. بعد لحظات أضحت البلدة أثرا بعد عين ..لم يبق هناك لا طير ولا بشر. وحدها امرأة عجوز ظلت هناك، تنتظر قدوم الربيع، موقنة أنه أبدا لن يخلف موعده”

في النص تكون محاورة بين آية من النص/المرجع وبين النص/ المنتج، فيه يعبّر السرد من خلال الوصف الظاهري والعميق للأشياء عن قيمة المأساة التي تعيشها لبنان وكل الدول العربية التي يستهدفها القصف الإسرائلي الوحشي، من تدمير المدن عن آخرها، وإبادة بشريتها، بقيت الأمة العربية والإسلامية العاجزة والعجوز مكتوفة الأيدي تحملق بعينيها دون رد فعل يذكر تجاه هذه الهجمات والمجازر، إذ يرفض الكاتب استسلامهم، ويدين سكوتهم، ويستنكر عدم تكتلهم للدفاع عن القضايا القومية والوطنية والمقدسات الإسلامية، مبرزا قوة إيمانهم المطلق بالطبيعة ومعجزاتها الخارقة في عودة الحياة من جديد من خلال انتظارهم لقدوم الربيع الذي لا يخلف وعده بالفتح ونصر المسلمين كنهاية مفتوحة باعثة على الأمل…والعبارة الأخيرة توحي إلى ذلك بقوة، إذ الجمل موحية والكلمات تحمل أبعاد المأساة العربية التي تدفع إلى الانفعال والتحرك بدافع القومية والغيرة، لكن كل العالم ينظر إلى مشاهدها الأليمة دون تدخل يخرجها من أنياب الحرب إلى رحى السلام، “وحدها امرأة عجوز ظلت هناك، تنتظر قدوم الربيع، موقنة أنه أبدا لن يخلف موعده”.

وتلجأ بعض النصوص الأخرى إلى آلية التناص من خلال توظيف المفردات التي يتوفر عليها النص القرآني؛ مثل كلمة: “فاقع لونه” التي جاءت في قوله تعالى:( قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا ۚ قَالَ إِنَّهُۥ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ ٱلنَّٰظِرِينَ)، ونلفي لفظة “الكسوف” كعنوان القصة التي استضمرت تناصا مع قوله تعالى: (فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9)

كذلك نلفي لفظة(اقترفت) في قصة “الشاعر” يقول السارد :”أبدا لم يصدق ما اقترفت يداه” وهو تناص استضماري على مستوى المعنى مع الآية الكريمة: (ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّٰمٍۢ لِّلْعَبِيدِ)…

وردت في المجموعة أيضا بصمة للفظة قرآنية، وهي” يقضي منها وطره” في القصة القصيرة جدا “قرار” وهي من القصص التي اهتم فيها الكاتب بالمواضيع الاجتماعية والفردية؛ عالجت مشكلة الخيانة والانتقام بأسلوب رمزي ساخر، بطلها كلب معتز بذاته أُغرِم بكلبة سرقت فؤاده، لم ينل منها شيئا ولم يتمكن من تحقيق رغباته بعد مطاردة عاصفة، وفي مساء أسود حزين قرر التحول إلى ناسك زاهد متعبّد، بعد لمحها في حضن عاشق منافس له، وهو سلوك يشي بضعف شخصية العاشق وجرحه العميق وتأزم نفسيته. وهو تناص مع الآية الكريمة: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا) مع الاختلاف في القصة من عدم تحقيق الغاية، يقول الكاتب: “كان كلبا أنيقا معتزا بذاته ..لمح ذات صباح كلبة جميلة، فوقع في حبها.. طاردها مدة طويلة، دون أن يقضي منها وطره.

ذات مساء رأى الكلبة تجامع كلبا بشكل فاضح.. اغتم، فقرر، منذ ذلك الحين، أن يصبح ناسكا”، فالكاتب أثار ظاهرة من الظواهر التي تشهر وتعلن عن نفسها لتكون حاضرة ومشهدية لا يمكن غض الطرف عنها في مجتمعات مهترئة تعلن عن انحراف غرائز النفس البشرية، وهي مشهدية بصورة قاتمة وقائمة تشرّبَها المجتمع، حيث كل يتم رصد حالات الخيانة من كلا الطرفين، تحولت فيه المرأة إلى سلعة استهلاكية وجسدا مغريا يشتهيه كل ناظر مكبوت… فالقصة تلقي الضوء على الواقع المهين لبعض شرائح المجتمع، وتجسد حالة من الانحراف وضياع القيم بين الانفتاح على تطورات العصر وخروج المرأة إلى العمل…وبالتالي ضياع حياة الإنسان…

إن الكاتب وظف مفردات وألفاظ قرآنية وتفاعل معها، ليشكل منها قصصه القصيرة جدا بشكل مكثف وممطط، إذ أن النص المرجعي ) القرآن الكريم والحديث) ليس نصا مهيمنا ، بل انتزعت القصة القصيرة جدا(النص الجديد) من هيمنته، وخرجت من إطاره وعادت إلى واقع جديد مؤثث بفضاء مختلف وشخصيات جديدة وزمن مغاير… وهو تناص جاء ليغني التجربة القصصية لدى القاص، وليكثف من  الرؤية لديه من أجل تحقيق ذائقة جديدة في إبداع القصة القصيرة جدا.

4ـ3ـ التناص مع الشعر

حفلت المجموعة كذلك بالتناص الأدبي الذي لجأ إليه الكاتب من أجل تكثيف الحدث والموضوع. وتظهر هذه الآلية جلياً في قصة “غزل” إذ استقى مطلع القصيدة الغزلية لبشار بن برد، تحمل دلالات وإيحاءات معينة  في النص صاغها صياغة تخدم غرضه:

يا ليتي تزداد نكرا       من حب من أحببت بكرا

يستهل النص الذي يتسم بشعرية الوصف الحركي بأفعاله وإيقاعاته وتعبيراته الجمالية ، ويتجلى ذلك في شرح الأستاذ للقصيدة وما صاحب ذلك من حركات وسلوكات في الفصل يصورها القاص في مشهد بانورامي”.. أخذت تلميذة قلما.. رسمت قلبا يخترقه سهم.. شردت الفتاة برهة، ثم استفاقت على عبارة نطقها الأستاذ بصوته الجهوري العميق “الحب عاطفة نبيلة”

وفي أغلب قصص المجموعة يلتزم الكاتب بعلامات الترقيم؛ حيث يضع النقطة، والفاصلة.. ونقط الحذف والنقط المتتالية الدالة على حذف منطوق كلامي، إذ يستعمل الكاتب تقنية الحذف والإضمار لتحقيق التكثيف اللغوي، والغموض الفني متحاشيا التصريح والوضوح، ليدفع المتلقي إلى تشغيل مخيلته وعقله لملء الفراغات البيضاء، ويساهم في بناء النص بالتأويل من خلال ملء الفراغات والبياضات التي يتركها القاص عمداً…”ويستعين الكاتب غالباً بالإيجاز والحذف لدواع سياسية واجتماعية وأخلاقية ولعبية وفنية، كما أن ذكر بعض التفاصيل الزائدة، التي يعرفها القارئ، تجعل من العمل الأدبي حشواً وإطناباً. لذلك، يبتعد الكاتب عن الوصف، ويستغني في الكثير من النصوص عن الوقفات الوصفية والمشهدية التي قد نجدها حاضرة في القصة القصيرة العادية أو النصوص الروائية”

وتعد هذه القصة من القصص التي يتجلى فيها الحذف والإضمار، والتي استعمل القاص فيها نقط الحذف الثلاث التي تحيل على غياب المنطوق اللغوي الذي يفرض على المتلقي كشفه عبر لغة التخييل والتوهيم، يقول في نفس القصة:”فجأة حانت منه التفاتة يقظة نحو الفتاة.. لمح القلم بين أناملها يداعب الورقة.. غاضبا وضع الأستاذ الكتاب…مرتبكة أخفت الفتاة الورقة.. ثم ناولته الورقة.. تأملها لحظة.. استفزه القلب والسهم يخترقه.. جلد الفتاة بنظرة حانقة …”

في قصة “تفوكت” يتم استدعاء ملفوظة تفوكت من اللسان الأمازيغي  إلى اللسان العربي  تذكيرا بلغة وثقافة وهوية شعب حيوي له مكانته في الأدب المغربي الحديث، وهي في تناص مع معنى من معاني الشعر الأمازيغي في فن الغزل، كرمز مستوحى من كوكب الشمس لما يحمله من نور وضياء وبريق، يستقيها الشاعر من الطبيعة ويوظفها في شعره للتعبير عن أحاسيسه والتصريح بمشاعره الملتهبة حول الحسن والجمال والدلال…وقد وظفها القاص في حوار مع التلميذ والأستاذ الذي طلب من التلاميذ ذكر الشمس بعد بزوغها “رفع تلميذ أصبعه، فأجاب “تفوكت” ..غضب المدرس، فعقب قائلا ” إنها الشمس”… أوقفه أمام الباب.. أشار بأصبعه نحو الشمس، ثم سأله.. “ماهذه؟” دون تردد أجاب الطفل :”في المدرسة اسمها الشمس، وفي البيت اسمها تفوكت”

من خلال السرد استدعى الكاتب المبدع الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس كشخصية أدبية، ووصفه بالعجوز في قصة “الآخر”، يلتقي الشاب بورخيس نسخة منه في إحدى الحدائق، يقول السارد: “التقى بورخيس العجوز ،على كرسي في إحدى الحدائق، ببورخيس الشاب.. دار بينهما حوار حقيقي، تعرف من خلاله كل منهما على الآخر المطابق له.. مندهشا ظن بورخيس أنه يحلم.. شيء واحد أبدا لم يخطر على باله، أن يكون قد تعرض –في غفلة منه- لعملية استنساخ ماكرة”

4ـ4ـ التناص مع المثل الشعبي

يتجلى التناص مع التراث الأدبي (المثل) في قصة “السكوت من ذهب” وهي أقصر ققج في المجموعة تتكون من جملتين، حيث اقتبس من التراث الشعبي العربي حكمة تقول: “إذا كان الكلام من فضة، فالسكوت من ذهب”، وفي الحديث “من صمت نجا”، وهو مثل يُضرب لمن يثرثر ويجني عليه المصائب والنكد بلسانه الطويل، يقول السارد: “لكي يصبح الرجل ثريا، قرر أن يصمت إلى الأبد”، إذ بعد معاناة الرجل في كل خطواته ومبادراته من أجل تحسين ظروف عيشه، يجد كل شيء له بالمرصاد، وقرر أن يصبح ثريا لكن يلزمه أن يصمت للأبد، والقصة تحيلنا على حديث الرسول صلى الله عليه و سلم:: (عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود” رواه ” فالكاتب يبرز أهمية الصمت باعتباره أسلوب أو ردّة فعل يقوم بها الإنسان عند رصد من يحسده أو يحقد عليه من أقاربه أو أعدائه، أو عند تعرّضه لموقف ضغط يفوق قدراته على التحمّل، لكنهُ غالباً ما يؤدّي لنتائج سلبية، وآثار نفسية سيّئة أكثر من إيجابية، لذلك يجب الحرص متى يلزم السكوت…

وفي المجال الاجتماعي، ينتقد الكاتب بعض الظواهر المجتمعية التي يندى لها الجبين، ولا تزال مترسخة في ثقافتنا الشعبية وتترسخ أكثر لابتعاد المجتمع عن الوازع الديني، والإيمان بالمعتقدات الشعبية، وتصديق الكهنة والعرافة.. وإذ يرصد تلك التناقضات والمفارقات التي حفلت بها حياة كثير من الناس في مجتمعه، وخير مثال على ذلك قصة”العرافة” التي يتحدث الكاتب فيها عن المولعين بارتياد ممارسات قراءة الطالع بساحة جامع الفنا في مراكش لاستطلاع ما يجول في خاطرهم، سواء الذين قصدوا العرافات برغبة صادقة لاستطلاع حظهم ومعرفة الغيب، أو بدافع الفضول مقابل مبلغ مالي الذي من أجله تعتاد العرافات (زوجات، أرامل، عازبات) هذا الفضاء التراثي السياحي لكسب القوت اليومي. يقول السارد يصف العرافة : “في ساحة “جامع الفنا” بمراكش.. تحت مظلة شاحبة، كانت العرافة جالسة، تلفها غلالة من العتاقة، وكأنها خرجت لتوها من بوابة الزمن العتيق.” وهذا الوصف يحاور قصيدة “عرافة” لأدونيس ويشاركها في الفكرة عندما يصفها قائلا:

” حاجبُها كجرسٍ يَرِنُّ/ ملانَةٌ بغيْبي/ بواقعي وريبي/ بكلِّ ما أُكِنُّ… تنظرُ ، فالأحاجي/ تُضيء كالسّراجِ؛ كأنها تعلّقتْ/ بِهدُبِ الزمانِ/ فَهْيَ مع الصباحِ/ والغيم والرّياحِ/ والصّعبِ والمتاحِ، عُقدةُ كلِّ آنِ”

وثمة علاقة بين القصة والقصيدة، تبدو جلية عند البعض وخفية عند الآخر، وهذا ما يعرف بالتعالي النصي على حد تعبير جيرار جينيت: “أي أرى أن أعرف كل ما يجعله في علاقة خفية أم جلية مع غيره من النصوص، وهذا ما أطلق عليه التعالي النصي، وأضمنه التداخل النصي بالمعنى الدقيق والكلاسيكي…وأقصد بالتداخل النصي: التواجد اللغوي سواء أكان نسبيا أم كاملا أم ناقصا لنص في نص آخر”

يجلس السارد القرفصاء لتستطلع ما يجول بخاطر السارد الزبون للتفاؤل والأمل، بمهارة تمدد ورق اللعب الذي يمنحها قدرة للتواطؤ مع الشيطان، وتقرأ ما يمليه عليها شيطانها لكشف طالعه الذي تحذره من النساء وكيدهن: “دون تردد قرفصت بجانبها.. تناولت المرأة أوراقها.. بدربة حركتها.. مددتها أمامها.. نظرت إليها مليا، ثم قالت :

– أنت رجل محظوظ.. ستفتح لك الدنيا أحضانها.. لكن احذر من النساء”

وهذا الجزء من القصة يحاور المقطع الثاني من قصيدة أدونيس يقول فيه:

“تُمسك لي أصابعي وتُحدِقُ/ وتُطرقُ/ وتلجُ الكهوفا/ وتنبشُ الحروفا/ ألا اضْحكي، ألا انْبُسي/ ألا اهْمُسي،/ هذي يدي – خذي يَدي/ خُذي غدي/ وفَسّري واجْتهدي،/ وَوَشْوشيني واحْذَري/أن تجْهري…”

يشير التناص هنا إلى تطلع المرء إلى معرفة المستقبل لكن لا يعلم الغيب إلا الله، في زمن أقبل فيه المجتمع على الشعوذة وأخذ المواعيد لدى الرقاة و العرافة…في انتظار رشيد يوقف هذه الموجة المنذرة بالسوء…هنا يتجسد هدف الكاتب في إيقاظ الغافلين وتنبيه الجاهلين بالدين والمتشبثين بالأعراف والمعتقدات الضالة للتراجع عن ضلالهم وتقوية إيمانهم……

4ـ5ـ التناص مع المسرح:

يتحاور نص” مسرحية ” مع المسرح وقوالبه ليتناص الواقع مع التمثيل، خاصة على مستوى المكان والممثلة والأحداث، حيث وظف قوالب المسرح وتشكيلها الفضائي في القصة (قاعة، الصف الأمامي، أحداث، ممثلة، تصفيق…) ليضفي مسحة جمالية على الققج، تتابع البطلة أحداثها باسترسال يصف السارد كاتبة المسرحية وهي تجلس في الصف الأمامي تتابع أحداث المسرحية التي تعد جزءا من أحداثها الشخصية، ويبرز بشكل عجيب مفارقة غريبة أثارت انتباه الحضور وهي استمرار الكاتبة بطلة المسرحية في التصفيق لوحدها إعجابا بالبطلة:

” في الصف الأمامي، كانت المرأة تتابع بشغف أحداث المسرحية. أعجبها رد فعل الممثلة حينما اكتشفت خيانة عشيقها. حين انتهت المسرحية لم تتوقف عن التصفيق إعجابا بالممثلة، المرأة المصفّقة هي كاتبة المسرحية، وأحداثها مستوحاة من حياتها”

يطرح الكاتب علاقة المؤلف بإنتاجاته التي يستقيها من تجربته الذاتية كتجربة شخصية إنسانية، قبل نقل تجارب الآخرين، يتفاعل معها شخصيا أولا قبل الآخر لأخذ العبر والدروس في الحياة، كما يصور حالة من تستهويه الكتابة وبصمات ألق الكتابة وتوهجها عند انتصارها، كما يعري عن الطبيعة الجنونية لبعض المبدعين…

كذلك نص “عرائس” الذي يتعالق مع مسرح الطفل لما له من غايات تربوية وتعليمية، من خلال ذكر مقوماته من منصة وعرائس والرجل الخفي المحرك للعرائس، وينقل الحدث المسرحي من خلاله يتابع الصغار لوحات المسرحية المرحة، التي تنتهي بمفارقة غريبة وهي وقوف طفل على المنصة و مراقبة تقنيات المسرح وحركات الرجل المخفي لتختل فيها حركات العرائس على إثرها يصرخ الأطفال احتجاجا:

“فجأة تسلل طفل صغير.. في غفلة من الجميع مضى نحو المنصة، ليطل على الرجل الخفي، محرك العرائس.

حين أشرف عليه، مكث لفترة من الزمن يحملق فيه.. حانت من الرجل التفاتة نحو الصبي المتسلل.. اندهش.. فقد تركيزه، فاختلت حركات العرائس..

لحظتها لعلع في الأجواء صوت احتجاج الصغار”

4 ـ6 ـ التناص مع الفن

استدعى القاص الفنان شخصية فان غوغ الذي تملكته حالة عشق أوحت إليه أن يقدم قلبه هدية لمعشوقته، لكن المفارقة قوية هنا حيث اجثت الفنان إحدى أذنيه وقدمها لها، وهو إسقاط يعكس القاص الفانطازيا من خلال هموم الفنان ومتعته العجائبية، وهذا ما أكد عليه رولان بارث في لذة النص: “وما لم يجتمع النص بنص متعة آخر فإنه يقع خارج النص أو خارج النقد” يقول السارد في قصة “فنان”: “وبوحي من مصارعي الثيران، عمد فان غوغ إلى إحدى أذنيه، اجثتها بعنف، وقدمها هدية لحبيبته”.

4 ـ7ـ التناص مع الفلسفة

وفي قصة “تناص” يوظف الكاتب نوع الامتصاص كمرحلة أعلى في قراءة النص الغائب نظرا لأهمية هذا النص وقداسته، “فيتعامل وإياه تعاملا حركيا تحويليا لا ينفي الأصل بل يسهم في استمراره جوهرا قابلا للتجديد، ومعنى هذا أن الامتصاص لا يجمد النص الغائب ولا ينقده إنه يعيد صوغه  فحسب على وفق متطلبات تاريخية لم يكن يعيشها في المرحلة التي كتب فيها، وبذلك يستمر النص غائبا غير ممحو ويحيا بدل أن يموت” . يقول القاص: ” ـ ترى هل اطلع صاحب “الكوميديا الإلهية ” على” رسالة الغفران”، يتساءل من خلال هذا التناص عن كون دانتي اقتبس أفكار كتابه وموضوعه من “رسالة الغفران”، إذ يقارن بين أبو العلاء في تفكره وتمعنه الشديد” في الجنة والجحيم” وبين دانتي الذي كشف التناص عن سرقته الأدبية، يمتص النص الفكر الغربي المقلد للفكر العربي مجسدا في فلسفة المعري حول موضوع الجنة والجحيم…

وتحيلنا القصة “عقبان” على نص تناص في بنائه مع شخصيتين زرادشت، ونيتشه الذي أحيا أفكار زرادشت الفلسفية التي سلمها له (حصان) بعد أن “..أيقظه ، أخرجه من قبره .. سلمه حصانا.. امتطاه فانطلق به نحو البراري البعيدة”، لكن القفلة أتت مأساوية يقول السارد: “هناك لمح زرادشت نهرا هادرا عب منه جرعات، فحلقت فوق رأسه عقبان، سرعان ما التهمت حمائمه الوديعة” حيث يطرح الكاتب إرجاع الحقوق الفكرية إلى أصولها بدل استغلالها بأسماء ناهبة سالبة أو مستعارة…

ويلاحظ تداخل في قصة “نكاية” بدورها مع شخصية سارتر وسيمون دي بوفوار، إذ يصف السارد شخصية سارتر قائلا ” كان يمضي حثيثا ، شابكا يديه وراءه ، وهو يردد – بكل ملل- لازمته الأثير: الوجود أولا.. الوجود أولا” نكاية فيه كانت” سيمون دي بوفوار”، عن كثب، تقتفي خطواته، بعبوس وتحد ظاهرين، وهي تردد بإصرار : المرأة أولا.. المرأة أولا”..  في هذه القصة تقوم آلية التكرار “على مستوى الأصوات والكلمات والصيغ متجلية في التراكم والتباين ، فالتكرار هنا جاء على مستوى الصيغ اللغوية ليكون تكرارا في الملفوظات وفي المعاني لكن بصيغ مختلفة(الوجود/المرأة)، مساهما في انسجام النص صوتيا ودلاليا، يسوق الكاتب فكرية الوجود في تناص مع مفهوم الوجود لدى فيلسوف الوجودية بول سارتر الذي حصره في وجود الإنسان متقدم على ماهيته، وأن الإنسان مطلق في حريته، “الوجود في ذاته ليس أبدا ممكنا ولا مستحيلا، إنه موجود وهذا ما يعبر عنه الشعور بألفاظ… إن الوجود في ذاته غير مخلوق، وليس له علة وليست له علاقة بوجود آخر”، أي ان الوجود لا يمكن أن نشتقه من موجود آخر، لأنه موجود فحسب، تعارضه المفكرة الفرنسية سيمون دي بوفوار وتتحداه بعد اضطهاد المرأة وتدني مكانتها وتعمق دونيتها وواقعها، لتنادي بوجود المرأة ليس حقيقة طبيعية، بل هو إفراز لتاريخ معين لحياتها، بعد ولادتها كطفلة تصنع منها المرأة، إذ لا يولد الإنسان امرأة بل يصبح كذلك بفعل التأثيرات الاجتماعية، لذلك تطالب بتحريرها من الرجل…

4 ـ 8ـ التناص مع هوس الكتابة:

في القصة القصيرة جدا “قصة” تحاور التناص في لفظة (القلم) سورة القلم، (ن، والقلم وما يسطرون)، إذ تسوق الققج طقوس الكتابة لدى الكاتب وتوغل في جراحاته الموجوعة أثناء معاناته مخاض الكتابة، كما تسوق هزيمة الكاتب المصر على الكتابة بدون موهبة وصقلها وإلهام وحظوته بملكة الإبداع، بعد اعتماده على “التكتيك” واستراتيجيات مدروسة وممنهجة، وبعد أن ” اكتسحه سيل من الأفكار المتناقضة.. بصعوبة أبعدها عن ذهنه.. مرة أخرى تردد في دواخله” الخلق أم التعبير”.. لاشيء منهما يضمن جودة القصة.. الأحاسيس والعواطف بائسة لا يمكنه الاعتماد عليها.. “، تضاربت الأحاسيس البائسة وطغت داخله وجعلته يقر بالهزيمة، يقول السارد ” بعد محاولات عدة أحس بالفشل( جال في خاطره) “جميع القصص تافهة لا تستحق كل هذا العناء”… حينذاك وضع القلم وانسحب”

نفس النهاية تعلن عنها قصة “الشاعر” التي يصف فيها طقوس الكتابة الذي الشاعر عند ولادة القصيدة، وما ينتابه من توتر وجنون ووجع ولا يعرف هذه الآلام إلا من يكتب، وما يكتسحه من تردد وعدم اقتناع بما تمليه دواخله، وصراعه اليومي بين القلم والورقة ليصدمه ما اقترفت يداه، لكن تتملكه حالة غريبة ليمزق القصيدة: “صباحا قرأ القصيدة، فانبهر.. أبدا لم يصدق ما اقترفت يداه.. بعد لحظات اخترقه غم ثقيل، لا قبل له بتحمله.. في نفسه قال “أبدا لا يستحق العالم هذه القصيدة”.. دون تردد أحكم قبضته على الورقة.. حملق فيها جيدا.. تملكته حالة غريبة.. فمزق القصيدة”.

ذلك أن الإبداع له شيطانه وخصوصياته ووحيه وأصالته، بعيدا عن الصناعة والتصنع التي تنزع عن الإبداع روحه وانسيابه وجماليته… وما قدمه القاص في القصتين يعدّ من أعلى صور الصراع وأقسى معاناة الكاتب، أضفى عليه نوعا من الإبهام والإيحاء، وهذا يعكس شخصية القاص السيكولوجية، كما يبرز قدرته الإبداعية والفنية واللغوية على إثارة القارئ، حيث يترجم واقعا آخر غير مرئي، وينسخ الغموض الذي يعتري بعض حاملي الأقلام المنسابة ليعكس سلوكاتهم الغريبة…

4ـ9ـ التناص مع الأسطورة

يلاحظ تناص مع أسطورة نرجس الشاب يرى انعكاس نفسه وصورة وجهه في النهر عندما أراد أن يشرب فوقع في غرامها وراح ضحية حبه لنفسه بعد أن ألقى نفسه في النهر بحثا عن صورته التي أخفتها تموجات المياه.. حيث تشترك القصة مع الأسطورة في الحزن والمأساة والضنك.. ويستغنى الكاتب عن ذكر بعض التفاصيل والشروحات، وعَوضها بنقط الحذف الدالة على المنطوق الكلامي المتجاوز، وهذا يستدعي موهبة القارئ وذكائه في بناء النص؛ لأنه مطالب بأن يقول في بنائه للنص أكثر مما قاله النص نفسه، عند تأمل مثلاً قصة “اكتئاب” يقول السارد:

“أطلت نجمة من عل ..رأت صورتها مشعة على صفحة البحيرة الهادئة، فابتهجت.

دارت الأرض دورتها .. تفقدت النجمة البحيرة، فلم تجدها.

مرتبكة بحثت يمينا ..بحثت شمالا.. ليس هناك سوى فراغ مقيت..

انطوت النجمة على ذاتها فأصابها اكتئاب مزمن”

نجد أن النجمة تراقب صورتها بفرح في صفحة البحيرة الهادئة، وبعد دوران الأرض، يعم الظلام، فيصيبها الاكتئاب، وهكذا الأيام تتداول بين الناس بين الفرح والحزن، بين الضياء والظلام، بين الحرب والسلام…

5 ـ خاتمة:

قامت هذه الدراسة بتوضيح مفهوم “القصة القصيرة جداً” عند بعض النقاد والدارسين العرب، واختلافهم في وضع تعريف نهائي للقصة القصيرة جداً؛ والإشارة إلى تاريخ نشأة القصة القصيرة جداً وتطورها في العالم العربي عموماً، وفي المغرب خاصة، واستقطابها لمجموعة من الكاتبات والكتاب، واعتلاء صدارة لائحة الإصدارات المغربية في مجال المجموعات القصصية القصيرة جدا.. كما ركزت الدراسة على استخراج أبرز الخصائص والجماليات الفنية التي حفلت بها مجموعة “تسونامي” للقاص مصطفى لغتيري، ومن أهم النتائج التي توصلت إليها ما يلي:

1 ـ تسجيل عمق الثقافة الواسعة للكاتب من خلال توظيفه للتاريخ والأدب والفلسفة والأشعار العربية والأمثال والتراث الشعبي والشخصيات التراثية… في مجموعة “تسونامي” التي تسوق وتبعث رسائل هادفة ترسم شخصية الفرد المغربي ومرجعياته الثقافية والمعرفية والتاريخية…مما جعل الققج متنوعة المصادر تتدفق سخرية ومفارقة صادمة…

2 – استخدام القاص معايير الكتابة المتعددة كالغموض الفني والكثافة اللغوية والترميز والتناص للتعبير عن المعاني الكثيرة بإيجاز وبإيحاء وبأسلوب سلس، ساهم في إثراء النص دلاليا ورفع قيمة النص الفنية وميّزه عن باقي الأقلام المهتمة بهذا الجنس الأدبي، من خلال غوصه في أعماق وجدان الشخصيات وترجمة مواقفها الواقعية والمعيشة نسجت بإبداع حقيقي وجمالية متميزة تكون موضوع استقطاب ذائقة النقاد لدراستها وسبر أغوار عوالمها، والبحث عن أجوبة للأسئلة المؤرقة المطروحة في المتن القصصي…

3- اعتماد الكاتب في معظم نصوصه الحذف والإضمار؛ لممارسة المتلقي عملية التأويل، ومشاركة السارد في بناء عوالم النص.

4 – حضور التناص المتوازي السردي، إذ كل نص يأخذ شكل مسار متوازي بين القصة ونص غائب (نص ديني وأدبي وتراثي..) يستدعي قراءة جديدة لبناء دلالة وعوالم فريدة تسعى إلى معالجة مواضيع ومحاور مختلفة تم إثارتها في المجموعة وتروم إلى التغيير نحو الأفضل.

5 ـ رصد قضايا وتناقضات المجتمع في المجموعة الققج، والسخرية من المظاهر المجتمعية المعيشة التي تترجم التصدع الاجتماعي والآلام الإنسانية، وتبعث على الأسف والحزن والأسى.

6 ـ في كل قصة قصيرة جدا تتموضع نصوص متفردة جديدة على أنقاض نصوص سابقة ذات مرجعيات مختلفة بتنوع التناصات منها التناص الديني والأدبي والشعبي والأسطوري.

7ـ  تعدد زمكان الحكي وضمائر السرد خول تنوع تقنيات البناء وتشكيل فضاءات متباينة وهندسة مغايرة، كلها ساهمت في تأثيث المشاهد وتسريع دينامية السرد بتنوع الأفعال التي أضفت على القصص تميزا ساحقا ومسحة مستفزة للمتلقي لاستنطاقها وكشف النقاب عن أسئلتها.

8ـ توظيف الفانطاستيك (العجائبي) في بعض ققج المجموعة، لخرق المألوف خاصة في القفلة لضمن عنصر التشويق والإمتاع.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة