إعداد/ كرم سعيد
مع بداية عمليات التحالف الدولي، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، على مدينة الموصل العراقية في 17 أكتوبر 2016، كشف سير المعارك عن حجم التناقض بين تركيا وإيران.
فبينما تعّد إيران معركة الموصل المعركة الكبرى لتمدد النفوذ الشيعي في المنطقة، وإعادة تركيبة الديموغرافيا العراقية بتقليص الوجود السني شمال العراق، تري تركيا أن معركة الموصل تعني قيمة استراتيجية لأمنها القومي. ولهذه الغاية، ضغطت على واشنطن بهدف المشاركة، واتخذت إجراءات أمنية وعسكرية على الحدود استعدادا لها.
وفي الوقت الذي رفضت فيه حكومة بغداد، المدعومة إيرانيا، مشاركة تركيا، تري أنقرة أن لديها مسوغات قانونية لمشاركتها، فهي طرف في التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة، ويخولها ذلك حق نشر قواتها في العراق لمحاربته، من دون الحصول على موافقة حكومة بغداد، كما تستند إلى قرار مجلس الأمن الدولي 2249 عام 2015، بوصفها إحدي الدول المتضررة من هجمات “داعش” الذي استهدف مدنها وحدودها الجنوبية خلال العامين الماضيين، إضافة إلى أن اتفاقية أنقرة 1926، ومعاهدة لوزان 1923، تعطيان الحق لتركيا في تأمين حدودها بالتدخل العسكري في العراق أو سوريا.
توترت أجواء العلاقة بين أنقرة وطهران، عشية إطلاق عملية تحرير الموصل، واستدعت إيران السفير التركي لديها في 25 أكتوبر 2016، بعد تصريحات نائب رئيس الوزراء التركي نعمان كورتلموش، التي قال فيها إن “السياسة المذهبية” لإيران هي سبب التوتر في العراق.
والأرجح أن الخلاف بين البلدين حول الموصل واحد من ميادين كثيرة تتقاطع فيها علاقاتهما بين الاتفاق والاختلاف، لكن المصالح الاقتصادية للبلدين ظلت تلطف الأجواء بينهما، وتحد من حالة الاحتقان، إذ يصل حجم التبادل التجاري إلى ما يقرب من 30 مليار دولار.
غير أن تعاظم الخلاف حول معركة الموصل، وتداعياتها على الدور الإقليمي للبلدين، إضافة إلى الخلاف حول ملفات سياسية شائكة، تضع العلاقة بينهما في مفترق طرق.
دوافع التوتر بين أنقرة وطهران:
ثمة دوافع تغذي التوتر بين البلدين، أولها معارضة أنقرة مشروع إيران الذي يعتمد على توظيف الطائفية في دول الجوار كذراع عسكرية وسياسية لبناء مشروعها التوسعي القومي في دول الإقليم. وتري إيران أن الوجود الشيعي في المنطقة العربية يشكل أقلية متناثرة وسط أكثرية سنية متصلة جغرافيا. ولاختراق الجغرافية السنية، لابد من إحداث تغييرات ديموغرافية في الكتلة البشرية للجغرافية التي يشكل العرب السنة غالبيتها العظمي، والتي تمتد من الموصل إلى حلب، مرورا بمدن عراقية، مثل تلعفر، وسنجار، بموازاة الحدود مع تركيا في سوريا والعراق.
وعلى امتداد الجغرافيا التي تستهدفها إيران، فهي تعمل على تعزيز، ودعم، وإحداث وجود لمراكز قوي موالية لها على امتداد هذه الجغرافيا، من بينها عناصر “الحشد الشعبي” الطائفية بامتياز. وضغطت إيران من وراء ستار لإشراكها في معركة الموصل، وتحييد أنقرة عن المشاركة. وتهدف إيران بالأساس إلى السيطرة على الموصل عبر ميليشيا “الحشد الشعبي”، لتفتح ممرا عبر الأراضي العراقية إلى سوريا، ومنها إلى شواطئ البحر المتوسط، الأمر الذي يهدد مصالح تركيا الحيوية في مشاريع تصدير وتسويق الطاقة.
يتمثل ثاني الدوافع في دعم إيران انتهاكات قوات “الحشد الشعبي” في معارك الموصل، والتي تصاعدت ضد الأقلية التركمانية، بعد سيطرة عناصر الحشد على القاعدة الجوية في تلعفر، ذات الأغلبية التركمانية الموالية للأتراك، وهو ما يعني تغييرات ديموغرافية، وسكانية، وعمليات تهجير قسري، تتحمل تركيا تبعاتها الإنسانية والاقتصادية.
الوجود التركي عبر عملية “درع الفرات” في شمال سوريا يزعج إيران، فضلا عن الانفتاح المتبادل بين تركيا وحكومة إقليم كردستان، بقيادة مسعود بارزاني. كما تنزعج إيران من الوجود العسكري التركي في العراق. وفي تصريح له في أكتوبر 2016، رأي مساعد وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبداللهيان، دخول القوات التركية إلى الأراضي العراقية أنه “إجراء خاطئ”.
وتوجد تركيا عسكريا في العراق منذ عام 1994 بموافقة حكومات البعث، زمن صدام حسين، لمطاردة عناصر حزب العمال الكردستاني، والإسهام آنذاك في فك النزاع الداخلي الكردي- الكردي الذي حصل بين الحزب الديمقراطي الكردستاني، بزعامة مسعود بارزاني، والاتحاد الوطني الكردستاني، بزعامة جلال طالباني في الفترة من 1994 وحتي عام .1998 وحصلت القوات التركية على موافقة برلمان إقليم كردستان، بعد إسقاط نظام صدام حسين في عام 2003، بهدف إضفاء شرعية قانونية وسياسية على الوجود التركي في العراق. كما توجد تركيا استخباراتيا منذ الثمانينيات ومطلع التسعينيات، عبر بعض التنظيمات التركمانية (الجبهة التركمانية)، التي تتبع الاستخبارات التركية في شكل مباشر. ويقدر حجم القوات التركية في كردستان العراق ومناطق أخري داخل البلاد بنحو ثلاثة آلاف جندي، وذلك وفقا لتقرير صادر عن البرلمان العراقي عام .2007 أما قاعدة بعشيقة، شمال شرق الموصل، والتي تأسست في مارس 2015، بهدف تدريب مقاتلين عرب، وتركمان سنة، تحت مسمي “الحشد الوطني”، بزعامة أثيل النجيفي، محافظ نينوي السابق، وبحجة التحضير لمحاربة “داعش”، فتعدّه حكومة بغداد “قوة احتلال”. وتختلف التقديرات حول حجم القوة العسكرية التركية المرابطة فيه. فبينما يري البعض أنها لا تتجاوز 200 جندي، أكد رئيس لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي حاكم الزاملي، أنها تصل إلى نحو 1200 جندي، فيما يقدرها البعض بنحو ألفي جندي، مدعومين بمدرعات، ودبابات، وكاسحات ألغام.
وتعتقد أنقرة أن الموقف الإيراني المناهض للأدوار التركية يعكس مصالحها الجيوبوليتيكية والطائفية. وتخشي تركيا، التي تشترك مع العراق بحدود تقدر بـ 350 كم، وتتمثل في حدود محافظتي أربيل، ودهوك الكرديتين، ومحافظة نينوي العربية، من تمدد النفوذ الإيراني، ليس في الموصل، بل في المناطق الحدودية مع تركيا، والسيطرة عليها، خاصة أن إيران تري في بسط سيادتها على الموصل أمرا حيويا لخدمة النظام السوري، فضلا عن التضييق على حكومة إقليم كردستان العراق من جهة أخري.
أما الدافع الثالث للتوتر، فيرتبط بتراجع التنسيق في الملف الكردي، فقد تخلخل هذا التوافق عندما قام الجنرال سليماني بمساعدة “العمال الكردستاني” الذي تصنفه أنقرة إرهابيا في تحرير عين العرب من تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”.
وقد اتسعت الهوة بين موقف البلدين من حزب العمال الكردستاني قبيل انطلاق معركة الموصل. فبينما تسعي أنقرة إلى الحيلولة دون توسع الكردستاني في شمال العراق، لاسيما بعد انتشار قواعده في سنجار، والذي أسهم في عام 2014 في تحريرها من قبضة “داعش”، وتحذير الرئيس التركي في 27 أكتوبر 2016 بأن “سنجار تتحول إلى قنديل جديدة” في إشارة إلى جبال قنديل (المثلث الحدودي العراقي – التركي – الإيراني) في شمال العراق التي تشكل قاعدة خلفية لحزب العمال الكردستاني، عملت طهران -في المقابل- على تعزيز وجود الـ ”PKK” من خلال الاتحاد الوطني الكردستاني، بقيادة جلال طالباني، الذي يرحب بوجود الكردستاني. كما دعا قائد فيلق القدس الإيراني، قاسم سليماني، حزب العمال الكردستاني للمشاركة بمعركة الموصل، وتعهد بزيادة الدعم العسكري والمادي له، على الرغم من رفض رئاسة إقليم كردستان وتركيا لهذه المشاركة. وتهدف إيران من وراء تعزيز وجود ”PKK” في شمال العراق ليكون ورقة ضغط ضد تركيا، وفي الوقت نفسه ضد الحزب الديمقراطي الكردستاني، بقيادة بارزاني، الذي يتمتع بعلاقة واسعة مع تركيا.
التطهير العرقي .. يشعل التوتر:
تشترك في عملية تحرير الموصل جهات كثيرة، منها قوات التحالف الدولي، ويضم نحو ثلاثين دولة، ومعه نحو مئة ألف مقاتل من قوات حكومة العراق من جيش، وشرطة، وقوات مكافحة الإرهاب، فضلا عن مقاتلي قوات البشمركة الكردية، وميليشيا الحشد الوطني، ذات الطابع السني، وعناصر من الميليشيات العشائرية السنية الموصلية، بقيادة نوفل السلطان، والمدعومة من حكومة بغداد.
غير أن وضعية قوات “الحشد الشعبي” الشيعية، التي تضم نحو 31 ألف مقاتل عراقي وإيراني، تثير جدلا واسعا لدي أنقرة التي تخشي من دور لها في إحداث تغيير سكاني يضطر العرب السنة، والتركمان السنة إلى النزوح من محيط الموصل.
وتصاعد القلق التركي من الضغط الإيراني على حكومة العبادي بإشراك الميليشيات الشيعية في عملية تحرير الموصل. وبالفعل، أصدرت حكومة بغداد تعليمات بليل إلى الميليشيا الطائفية بتحرك قواتها للمشاركة في معركة تحرير المدينة من “داعش”.
فظائع “الحشد الشعبي” الطائفية المدعومة إيرانيا ضد السنة العراقيين دفعت الولايات المتحدة إلى تحذير حكومة بغداد من مشاركتها في مهاجمة الموصل السنية. غير أن المساعي الأمريكية لم تحقق المرجو منها، حيث كشفت العمليات العسكرية للحشد الشعبي جنوب غرب الموصل عن استمرارها في سياسة التطهير العرقي ضد المسلمين السنة. وظهر ذلك في نشر ناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي صورا ومقاطع فيديو تظهر تعذيبها أطفالا في الموصل بشكل وحشي، إضافة إلى تفجير مساجد سنية، وهدم المنازل، وعمليات إعدام جماعي، وهو ما دفع منظمات حقوقية دولية في منتصف نوفمبر 2016 إلى مطالبة حكومة بغداد بالتحقيق في تجاوزات الحشد الشعبي في الموصل، بعدّها ترقي إلى جرائم حرب.
وتمثل مشاركة قوات الحشد الشعبي خطورة كبيرة على توازنات المشهد العرقي والديموجرافي في منطقة الموصل، خاصة أنها ترفض الوجود القاطع للسنة في العراق. ودلل على ذلك ممارساتها الطائفية في عام 2014، خلال معارك تحرير الأنبار، والفلوجة، والرمادي، والمقدادية من “داعش”.
على صعيد ذي شأن، تخطت ميليشيا “الحشد الشعبي” حدود الدور المقرر لها في المشاركة ضمن عملية تحرير الموصل الذي يقتصر على المهام اللوجيستية، حيت انخرطت في عمليات القتال الرئيسية، كما كشفت عن احتمال توسيع نطاق حدود عملياتها من العراق إلى سوريا. وفي هذا السياق، قال نائب رئيس هيئة “الحشد الشعبي”، أبو مهدي المهندس، في تصريحات لبعض وسائل الإعلام، إن “دور الحشد هو الأكثر مساحة، والأكثر صعوبة، والأهم استراتيجيا”. وأضاف أن “هذه المعركة لا تستهدف فقط مركز مدينة الموصل، بل مناطق شاسعة محيطة بالمدينة، وهي عبارة عن أوكار ومراكز قيادة لـ “داعش”، فضلا عن خطوط إمداد تربط المدينة بمحافظتي صلاح الدين والأنبار، والأهم من ذلك الحدود السورية”.
والأرجح أن التحريض المذهبي في العراق، بدعم إيراني، يجري بوتيرة غير مسبوقة، ووصل إلى الذروة مع صعود رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي إلى سدة المشهد، والذي كان يضع عنوانا لحكمه، يتمثل في استعادة الصراع التاريخي على السلطة بين أنصار الإمام على بن أبي طالب ومعاوية. ولم يخجل المالكي من القول إنه آن الأوان لحسم هذه المعركة التاريخية من قبل المكونات الشيعية. ولذا، أسهم في عملية بناء ميليشيات طائفية خالصة، تهدف إلى تغيير الوقائع القائمة بهدف تخليق مناطق جغرافية للكيانات الشيعية.
وتتمتع ميليشيا الحشد الشعبي، التي تسعي لأن يكون لها دور في رسم مستقبل الموصل، بقدرات عسكرية لا بأس بها، فهي إضافة إلى كونها تحظي بدعم إيران، تمثل تهديدا للوجود التركماني في منطقة تلعفر التي تعد هدفا استراتيجيا لإيران، في ضوء سعيها إلى تأمين طريق بري سريع إلى سوريا. في المقابل، فإن عناصر “الحشد الشعبي” وعدت بالتوجه إلى سوريا للقتال مع قوات الأسد، وهو ما قد يمثل عبئا إضافيا على الفصائل المسلحة المدعومة من تركيا، والتي تسعي لإسقاط الأسد.
والواقع أن ثمة مخاوف تركية من أن يؤدي دعم إيران لعناصر الحشد الشعبي في العراق إلى تصاعد رقعة الصراع الطائفي، خاصة في منطقة تلعفر التي يقطنها عدد كبير من المنحدرين من أصل تركماني، والذين تربطهم علاقات تاريخية وثقافية بتركيا.
تداعيات معركة الموصل:
مع دخول عملية “الموصل”، التي أطلقتها الحكومة العراقية في 17 أكتوبر 2016، والرامية إلى طرد “داعش” منها، تتبادر أسئلة عن حدود تداعيات ما بعد الموصل على دول الإقليم، وفي الصدارة منها تركيا، وإيران، والعراق، والمدي الذي يمكن أن تفرزه هذه التداعيات، خصوصا أن نجاح عملية الموصل يفرض معطيات جديدة في المشهد الإقليمي، من بينها التمدد الإيراني، مقابل تراجع الحضور التركي، إضافة إلى احتمالات تقسيم المنطقة، وإقامة كيان كردي مستقل.
انحسار تركي:
حددت أنقرة أهدافها من المشاركة في عملية الموصل في إبعاد خطر “داعش” عن حدود تركيا مع العراق، ومنع حزب العمال الكردستاني من تشكيل قواعد جديدة في سنجار وقنديل في الشمال العراقي. كما انطلقت تركيا في اهتمامها المتزايد بمعركة الموصل من رؤيتها في العمل على ضرورة حماية السكان، والحفاظ على التركيبة الاجتماعية السنية والتركمانية في العراق.
غير أن ثمة تداعيات سلبية مرشحة للانعكاس على تركيا، بعد إنجاز عملية الموصل، أولها أن غياب تركيا عن معركة الموصل يشكل ضربة كبيرة للمصالح التركية في المنطقة، ولأمنها القومي. ثانيها زيادة رقعة الخوف من تغلغل “الكردستاني” في العراق، في ظل اتساع مساحة التفاهم والتنسيق بينه وبين إيران، التي تمسك بمفاصل المشهد العراقي، وتعيد صياغة المشهد على مقاس طموحاتها الإقليمية.
والأرجح أن تمدد حزب العمال الكردستاني في العراق، إضافة إلى الانخراط العسكري الكردي المتزايد في سوريا، عبر عملية “غضب الفرات”، لعزل مدينة الرقة، وبمقتضي تفاهمات إقليمية ودولية واضحة، ووسط تحييد تركي، قد يحدث كل ذلك عواقب وخيمة، ستكون لها ارتدادات تطول حتما مناطق جنوب شرقي تركيا المحاذية للعراق.
خلف ما سبق، ثمة قلق تركي من تصاعد دعاوي تقسيم المنطقة برعاية أمريكية، والتي جاءت معركة الموصل كاشفة لها. وكان بارزا، هنا، إعلان مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، أنه اتفق مع واشنطن على عدم انسحاب قوات البشمركة من المناطق التي تحررها بالموصل. وكان نيجيرفان بارزاني، رئيس وزراء إقليم كردستان العراق، قال إنه “بعد عملية تحرير الموصل، سنبدأ بإجراء مباحثات استقلال كردستان مع بغداد”.
ويسعي إقليم كردستان، بعد نجاحاته في الموصل، إلى توسيع هامش الخيارات المتاحة أمامه على الساحتين الإقليمية الدولية، فضلا عن أن واشنطن لا تبدي ردا واضحا على مسألة الانفصال بعد، حيث تربط واشنطن وأربيل (عاصمة إقليم كردستان العراق) علاقات عسكرية متينة. وكان للولايات المتحدة الدور الأكبر فيما وصل إليه الإقليم من رخاء، بينما لا يتواني التحالف الدولي عن امتداح القوات الكردية، عادّة إياها “الأكثر قدرة على مواجهة داعش في العراق وسوريا”، مما قد يؤدي إلى استغلال الأكراد هذا التفاهم للمطالبة بالانفصال.
وقد يقود توثيق العلاقة بين إقليم كردستان، وواشنطن، والقوي الغربية إلى التأثير في طموح تركيا الإقليمي من جهة، ويربك العلاقة المميزة التي تربطها بإقليم كردستان، لاسيما أنها تعارض توجه بارزاني لإجراء استفتاء للانفصال، وإقامة دولة كردية في شمال العراق، خوفا من انعكاساته على الداخل الكردي التركي.
على صعيد ذي شأن، فإن تركيا يقلقها أزمة اللاجئين الذين سيتدفقون إليها، خاصة في ظل وقوع ممارسات تطهير عرقي من ميليشيات “الحشد الشعبي” الشيعية بحق أبناء الموصل السنة، الأمر الذي سيفاقم من العبء الذي تتحمله تركيا بفعل استضافتها نحو ثلاثة ملايين لاجئ سوري.
لم يقتصر تداعيات ما بعد الموصل على أنقرة على ما سبق، فتركيا باتت مستهدفة من قبل تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، بعد أن طالب البغدادي -في آخر رسالة صوتية له في 3 نوفمبر 2016- عناصر “داعش” بأن يطلقوا “نار غضبهم” على القوات التركية التي تقاتلهم في سوريا، ولا تناصرهم في العراق، ونقل المعركة إلى تركيا.
لذلك، فإن الناظر في الوضع التركي، هذه الأيام، يجد أن القيادة التركية في وضع لا تحسد عليه، إذ تواجه وضعا صعبا في علاقاتها مع بغداد وطهران بفعل منعهما أنقرة من المشاركة في معركة “الموصل”، ودعمها لحزب العمال الكردستاني. كما تبدو علاقاتها مرشحة للتراجع مع إقليم كردستان، الساعي إلى تأسيس كيان كردي مستقل. لكن الأهم هو أن استبعاد تركيا من معركة الموصل، وتحييدها في معركة “الرقة” السورية سيعمقان الهوة بينها وبين حلف الناتو، والولايات المتحدة، وقد يدفع تركيا لتحالف استراتيجي مع روسيا.
تمدد إيراني:
في الوقت الذي تبدو فيه السياسة التركية أكثر ارتباكا في القراءة، والتعامل مع مستجدات المشهد الإقليمي -حيث تحارب على عدة جبهات في الوقت نفسه، تقاتل الأكراد في سوريا والعراق، وتعادي النظامين السوري والعراقي، وتكافح لطرد “داعش” من على حدودها مع سوريا- تبدو إيران أكثر أريحية واستفادة من المشهد الإقليمي، خاصة في الموصل.
وتبدو مصالح إيران في المنطقة، ما بعد حسم معركة الموصل، مرشحة للتعاظم. فثمة مكاسب لا بأس بها لطهران، أولها مأسسة النفوذ الإيراني في العراق، بعد تمرير البرلمان العراقي في 26 نوفمبر 2016 قانون “الحشد الشعبي”. ويعد القانون بمنزلة تقنين غير مباشر للنفوذ الإيراني في العراق. والشاهد على ذلك الضغوط الإيرانية من أجل إقراره، بالإضافة إلى الدعم الإيراني المكثف لتلك الميليشيا، سواء كان ماليا أو عسكريا، وإشراف قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني، قاسمي سليماني، شخصيا على عملها، فضلا عن ولاء معظم ميليشيات وفصائل الحشد لمبدأ ولاية الفقيه.
وبموجب هذا القانون، تعد فصائل وتشكيلات “الحشد الشعبي” كيانات قانونية تتمتع بالحقوق، وتلتزم بالواجبات، بعدّها قوة رديفا، وساندة للقوات الأمنية، ولها الحق في الحفاظ على هويتها وخصوصيتها.
أما ثاني المكاسب، فهو أن عناصر “الحشد الشعبي”، بعد إدماجها رسميا في الجيش العراقي، يمكنها الانتقال إلى الأراضي السورية بحجة ملاحقة عناصر “داعش”، وهو ما قد يخفف الضغط من على كاهل القوات الإيرانية في سوريا. غير أن تنامي نفوذ “الحشد الشعبي” إقليميا قد يدفع أطرافا إقليمية عدة، ومنها تركيا، إلى عدّها ميليشيا عابرة للحدود تخوض حروبا بالوكالة لمصلحة طهران، وهو ما سيسهم في تصاعد الطائفية في المنطقة، كما سيعقد من جهود حل الأزمة السورية. إضافة لما سبق، فإن التنافس الإيراني – التركي في العراق قد يكون على أشده، حيث يدفع إقرار القانون أنقرة إلى البحث عن خيارات جديدة لمحاولة موازنة النفوذ الإيراني المتصاعد، ومن ذلك تعزيز الحضور التركي في شمال العراق، وتكثيف دعمها لقوات الحشد الوطني الموجودة في معسكر بعشيقة.
وراء ذلك، فان صعود إيران في المشهد العراقي دفعها بقوة الآن إلى التفكير في بناء قاعدة عسكرية إيرانية في القيارة جنوب الموصل، إضافة إلى إمكانية بناء قواعد بحرية في كل من سوريا واليمن في المدي البعيد، وهو الأمر الذي قد تنعكس تداعياته المحتملة على دول المنطقة، خاصة تركيا، منافس طهران الإقليمي.
على صعيد ذي شأن، فإن نجاح عملية الموصل يسهل هدف إيران في إعادة التركيبة الديموغرافية للمناطق السنية في العراق لمصلحة الكيانات الشيعية. برز ذلك في التجاوزات الطائفية ضد السنة في الموصل، وعمليات الإعدام الجماعي التي تمارسها ميليشيا الحشد الشعبي.
في المقابل، فإن حضور إيران في مفاصل المشهدين العراقي والسوري، إضافة إلى كونها ضمن مكونات المشهدين اليمني واللبناني على حساب تركيا، قد يمنحانها زخما في علاقاتها المرشحة للتراجع مع الولايات المتحدة، بعد صعود ترامب إلى سدة البيت الأبيض، وتهديده بإلغاء الاتفاق النووي مع إيران، الذي أنجزته إدارة سلفه أوباما.
صحيح أن التصريحات الانتخابية قد لا تترجم إلى مواقف سياسية، بعد تسلم ترامب منصب الرئاسة، لكنها تعطي بعض الملامح للتوجهات السياسية العامة. ففي الوقت الذي أقر فيه الكونجرس تمديد العقوبات على إيران عشر سنوات أخري، يبحث مجلس الشوري الإيراني وقف استيراد البضائع الأمريكية، والعودة إلى استئناف الأنشطة النووية.
مستقبل العلاقة بين أنقرة وطهران:
ثمة تداعيات مختلفة على الفاعلين الإقليميين في المنطقة ما بعد الموصل، وفي الصدارة إيران وتركيا. فالأولي تتحكم في جزء لا بأس به من التطورات الحادثة في سوريا والعراق، كما يُنظر إلى قوات تركيا في العراق على أنها “عناصر غير شرعية”. وكان بارزا، هنا، وصف الرئيس الإيراني حسن روحاني وجود كتيبة تابعة لجيش البر التركي في مدينة بعشيقة العراقية بأنه “خطير جدا”.
في المقابل، ثمة قلق لدي أنقرة من التمدد الإيراني على حدودها، والدعم المباشر لقواعد حزب العمال الكردستاني في مناطق سنجار العراقية، إضافة إلى غض الطرف عن التجاوزات الطائفية التي ارتكبتها عناصر”الحشد الشعبي” ضد السنة في الموصل ومحيطها، خاصة تلعفر، ذات الأغلبية التركمانية الموالية لتركيا.
لكن فرص القطيعة غير مرشحة، وإنما يتوقع تجميد العلاقة بين البلدين عند وضعها الراهن، وبما يمنع تدهورها، أو تفاقمها في المستقبل. ويبدو هذا التوجه هو الأقرب لعدة أسباب، من بينها تصاعد التجارة البينية، والاستثمارات التركية في إيران. فبعد انطلاق عملية تحرير الموصل بـ 10 أيام، أعلنت الغرفة التجارية بمدينة إسطنبول في 27 أكتوبر 2016 عن خطة جديدة لإنشاء منطقة صناعية، تعد الأولي من نوعها، بعد رفع العقوبات عن إيران، ضمن مشروع تبلغ قيمته 10 مليارات دولار. أنقرة أيضا تمثل منفذا مهما لمرور النفط الإيراني عبر خطوطها إلى الأسواق العالمية، وبوابة تطل منها طهران على أوروبا. أما طهران، فهي تمثل سوقا رابحة للصادرات التركية.
ويرتبط السبب الثاني بتقارب أنقرة مع محور موسكو – طهران في الأزمة السورية، وكشف عن ذلك زيارة وزير الخارجية التركي لطهران في 26 نوفمبر 2016 لطهران، إذ اتفق البلدان على الإطار العام بشأن الأوضاع في سوريا والعراق.
على جانب آخر، فإن أنقرة تسعي إلى إعادة هندسة سياستها الخارجية، عبر تقليل الخصوم في الإقليم، خاصة مع تصاعد التوتر مع أوروبا، وتهديد أردوغان بإغراق دول الاتحاد باللاجئين.
في المقابل، ربما تسعي إيران إلى تجميد الخلاف مع أنقرة، أو منع اتساعها، فهي تعي أن تركيا هي الرئة الاقتصادية لها، بعد قرار الكونجرس، في نوفمبر 2016، بتمديد العقوبات على إيران لمدة عشر سنوات جديدة.
خلاصة القول إن التداعيات المتوقعة فيما بعد معركة الموصل على طبيعة وحدود الدور الإقليمي لتركيا وإيران، ستؤثر مجرياتها في مستقبل العلاقة بين الدولتين، لكنها لن تصل إلى حد القطيعة، رغم تكاثر الملفات الخلافية، وتراجع التنسيق في عدد كبير من الملفات الشائكة، وفي الصدارة منها الملف الكردي.
أيضا، ستنعكس تداعيات المعركة على طبيعة المشهد في الإقليم ككل. فتحرير الموصل لا يعني استقرار العلاقات بين دول الإقليم، فقد تكون عملية التحرير بداية تغيير في معادلة التنافس الإقليمي، مع بروز قوي جديدة، منها عناصر “الحشد الشعبي”، وتبدل العلاقات السياسية بين قوي وعناصر داخلية/ إقليمية، من بينها طبيعة العلاقة بين بغداد وإقليم كردستان، بعد أن أظهر الأخير رغبة في الانفصال عن بغداد، وبين الإقليم وأنقرة، بعد التوافق النسبي الذي ظهر أخيرا بين طهران وأربيل.
تعريف الكاتب:
باحث في مجلة الديمقراطية الأهرام.
المصدر/ مجلة السياسة الدولية