15 نوفمبر، 2024 10:33 م
Search
Close this search box.

التقارب بين الولايات المتحدة وأكراد العراق: شيك سياسي بلا رصيد

التقارب بين الولايات المتحدة وأكراد العراق: شيك سياسي بلا رصيد

إعداد/ د. محمد الشرقاوي
هل هناك سياسة أمريكية موحّدة بشأن قضية كردية واحدة، أم استراتيجيات أمريكية غير متجانسة مع ذاتها إزاء فروع أو أضلاع منفصلة من القضية الكردية الأمّ بالنظر إلى تعقيدات الخيارات الاستراتيجية وحرص واشنطن على عدم زعزعة ميزان القوة الراهن في المنطقة؟
تنبني هذه الورقة البحثية على مشاركتي في الندوة الدولية التي نظَّمها مركز الجزيرة للدراسات حول موضوع “المسألة الكردية: دينامياتها الجديدة وآفاقها المستقبلية”، أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 2017. وقد استهدفت الجلسة الثالثة “نفوذ اللاعبين الإقليميين والدوليين وتأثيراته في المسألة الكردية” تحديد مدى تأثير القوى الكبرى وأيضًا تلك المتنامية في المنطقة على وضع الأكراد ضمن أربعة أنساق متقاربة وليست متطابقة بالنظر إلى تحدياتهم في العراق وسوريا وتركيا وإيران. واستحضر عنوان الجلسة ضمنيًّا فكرة النفوذ وكأنه عملية تأثير في اتجاه واحد من مراكز القوى الإقليمية والدولية إزاء الأكراد دون استحضار أدوارهم وتطلعاتهم في الوجهة المقابلة. غير أن مكانة الأكراد، وخاصة أكراد العراق، في السياسة الخارجية الأميركية تستحضر بعض محطات التفاعل الاستراتيجي ومراحل المد والجزر ليس خلال إجراء الاستفتاء الأخير بشأن انفصال كردستان أو سيطرة القوات العراقية على كركوك فحسب، بل وأيضًا بالنظر إلى الأهمية التاريخية للأكراد في المعادلة الأميركية منذ غزو العراق عام 2003 ووصولًا إلى مسعى الزعيم الكردي، مصطفى بارزاني، للحصول على المساعدة الأميركية في مواجهة نظام البعث وزعيمه، صدام حسين، عقب التوقيع على مذكرة التفاهم على مشروع الحكم المحلي للأكراد عام 1970، ونهاية بانتفاضة عبد السلام بارزاني بداية القرن الماضي.

تركز هذه الدراسة على تحليل أربع نقاط رئيسية، أولها: كيف شكَّل الاستفتاء على استقلال كردستان اختبارًا عمليًّا لمدى جدية الموقف الإيجابي المعلن في واشنطن؟ ثانيها: الكسوف السياسي لطموحات الأكراد خلف أولوية القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية. ثالثًا: هل ينم التعامل الأميركي عن ميكيافيلية جديدة تسمح لترامب بالتراجع عن أخلاقيات الوفاء لأصدقاء أميركا أم أن الأكراد أساؤوا تقدير ديناميات الموقف في واشنطن؟ ورابعًا: هل ضاعت فرصة الأكراد مع التاريخ بسبب ما يعتبرونه خذلانًا أميركيًّا صارخًا أم أن هناك حتمية مرتقبة في المستقبل في تحقيق مطالبهم ليس كخيار لدى الولايات المتحدة وبقية المجتمع الدولي بل كضرورة سياسية بفعل المد الدولي الراهن نحو الانفصال في أوروبا (ومن ضمنه خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ومعركة انفصال كتالونيا عن التاج الإسباني)، وأيضًا سياسة الانعزالية التي يكرسها دونالد ترامب كفلسفة سياسية تضمن له تأييد اليمين في الولايات المتحدة.

دعونا نتساءل أولًا: كيف وضع استفتاء الاستقلال ومعركة كركوك الموقف الأميركي على المحك؟

واشنطن والمربع الكردي ضمن شطرنج الشرق الأوسط

السناتور الجمهوري الأمريكي جون مكين خلال زيارة لإربيل عام 2009 (الأناضول)
عند تأمل مسار التعامل الأميركي مع الأكراد قبل وبعد استفتاء الاستقلال، تبرز مفارقتان مثيرتان: أولهما التباين الشاسع بين موقف حكومة ترامب وموقف القيادات الرئيسية في الحزب الجمهوري أكثر من الحزب الديمقراطي، وسأتناول لاحقا رؤية السناتور الجمهوري جون مكين الذي يتمسك أكثر من غيره بالتعاون مع الأكراد باعتبارهم الفئة الأكثر مصداقية في المنطقة. المفارقة الثانية هي التوازي أو التقابل بين الحاجة لتفكيك تحديات الأكراد في الدول الأربع في المنطقة وتجميع أضلاع ما يمكن اعتباره نواة استراتيجية أميركية إزاءهم حتى لا نكرس رؤية تحليلية تبسيطية قد لا تلتقط ما يدور في الكواليس في ترتيب الملفات الكردية، وليس مجرد ملف كردي واحد، سواء في اجتماعات البيت الأبيض أو وزارتي الخارجية والدفاع أو الكونغرس.

لذلك، انطلقت من سؤال محوري: “هل هناك استراتيجية أميركية في التعامل مع القضية الكردية؟”؛ لعدة أسباب، منها: أن الموقف الأميركي لم يتحرك في مسار واحد وبشكل تصاعدي حسب تطور العلاقات الجيدة للأكراد مع الولايات المتحدة، ولم تنحلَّ بعد خيوط التشابك بينه وبين التعقيدات والتداخلات مع ملفات إيران وتركيا والطموحات الروسية في المنطقة ومضاعفات ما سُمِّي بالربيع العربي في تحديث الاستراتيجية الأميركية بين فترتي حكم أوباما وترامب. وإذا سلَّمنا بوجود سياسة أميركية عامة إزاء الأكراد وأنها متدرجة حسب تقلب المصالح الأميركية منذ غزو الكويت العراق عام 1990، نكون أمام سؤال أكثر دقة: هل هي سياسة أميركية موحدة بشأن قضية كردية واحدة، أم نحن أمام استراتيجيات أميركية غير متجانسة مع ذاتها إزاء فروع أو أضلاع منفصلة من القضية الكردية الأم بالنظر إلى التعقيدات التي تُلقي بظلالها على الخيارات الاستراتيجية لدى واشنطن بعدم زعزعة ميزان القوة الراهن المتأرجح أصلًا في العراق وبقية المنطقة؟ ومن أقوى تجليات هذه التعقيدات وما تثيره من حساسيات إقليمية: الموقف الإيراني الذي اعتبر المسعى الكردي للاستقلال بمثابة مشروع إمبريالي غربي (1). في الوقت ذاته، لم يهدأ القلق التركي من تزويد الأكراد السوريين بأسلحة أميركية، حيث أعلن الرئيس أردوغان رفضه “قيام دولة مستقطعة من العراق”، وهدَّد بفرض عقوبات على كردستان العراق(2).

استفتاء استقلال كردستان: ما وراء الخطاب السياسي الأميركي

شكَّل سبتمبر/أيلول وأكتوبر/تشرين الأول عام 2017، بالنسبة للأكراد، ساعة الحقيقة في معرفة الموقف الأميركي من قضيتهم وتطلعاتهم في ضوء اتِّكال الولايات المتحدة على قدراتهم القتالية ودورهم الريادي في تضييق الخناق على تنظيم الدولة الإسلامية. لكن واشنطن أبدت ردًّا سلبيًّا عندما سعى وزير الخارجية، ريكس تيلرسون، لثني الأكراد عن إجراء الاستفتاء أو حثهم على تأجيله على الأقل قبل رفضه قبول شرعية نتائج الاستفتاء. وفي الأسابيع اللاحقة، تعالى اللغط السياسي بين الكونغرس وحكومة ترامب بشأن الأكراد، وكشف السجال بينهما مفارقات مثيرة، منها دلالات لفظ “كردستان” في حدِّ ذاته ضمن الخطاب السياسي في كل من واشنطن وأربيل؛ فكردستان في المنحى الأميركي تعني منطقة في شمال العراق أغلبيتها من الأكراد وتتولى تسييرها الحكومة المحلية هناك، وهذا -حسب مصمِّمي السياسة الخارجية الأميركية- وضع مستقر بين أقلية كردية وأغلبية شيعية لا ينطوي على الحاجة لتعديل ميزان القوة في الوقت الراهن. لكنه يظل تقييمًا سياسيًّا يبتعد كل البعد عن المعاني الرمزية والقومية للاستفتاء لدى الأكراد الذي يتمسكون بمشروع أكبر جغرافية وأعمق تاريخًا ويشمل المناطق الآهلة بالأكراد في إيران وتركيا وسوريا أيضًا. وهذا المفهوم ينبني على النسق التاريخي منذ انتفاضة عبد السلام بارزاني مما يجعلهم يعتبرون الحدود القائمة مجرد حدود حديثة وغير طبيعية ويأملون أن تكون مؤقتة بانتظار استقلال كردستان الكبرى. ولا غرابة في أن يظل شمال سوريا في نظرهم مجرد Rojava، وشمال العراق Basur، وجنوب تركيا Bakur، وغرب إيران Rojhelat(3).

ومع تباين التفسيرات بين الجانبين، الكردي والأميركي، لمغزى الاستفتاء على استقلال الإقليم، نقترب مما يسميه الباحث: المعادلة الصعبة أو المعادلة الحرجة في بنية الموقف الأميركي الراهن بسبب محاولة واشنطن التوفيق بين ثلاثة خطوط استراتيجية لا يسهل الجمع بينها:

1. قناعة واشنطن بالاعتماد على الوحدات الكردية أكثر من غيرها ضمن قوات سوريا الديمقراطية في الحملة الكبرى على تنظيم الدولة كأولوية الأولويات لدى البيت الأبيض، وحرص ترامب على تقديم نفسه على أنه رجل المطرقة الحديدية ومخلِّص العالم من إرهاب التنظيم وإخوته في المنطقة. إذن، مشاركة الأكراد تظل في عين واشنطن ذات قيمة استراتيجية وعسكرية ميدانية، لكنها لم تتحول بالضرورة إلى شيك بقيمة الرأسمال السياسي الذي يعتقد الأكراد أنهم راكموه في البيت الأبيض ووزارة الخارجية الأميركية، أو أن الوقت قد حان لصرفه بدعم استقلال كردستان.

2. مسعى واشنطن لإدارة الأزمة العراقية وعدم زعزعة ميزان القوة الراهن والاحتراسُ من تنامي النفوذ الإيراني داخل العراق نالا من أهمية وتوقيت الاستفتاء على استقلال كردستان في الخامس والعشرين من سبتمبر/أيلول 2017. وهذا ما يفسِّر التهافت بين مسؤولي البيت الأبيض ووزارة الخارجية ووزارة الدفاع والسفارة الأميركية في بغداد على إصدار بيانات متلاحقة لثني الأكراد عن إجراء الاستفتاء أو تأجيله على الأقل. حيث أعلن وزير الخارجية، تيلرسون، وقتها أن “التصويت ونتائج الاستفتاء يفتقران للشرعية، ونحن نواصل تأييدنا لعراق موحد وديمقراطي وفيدرالي ومزدهر”(4). وقد ذكرت وزارة الخارجية الأميركية في بيان سابق أن مشروع استقلال كردستان “قضية داخلية عراقية”، لكنها تمسكت بمبدأ One Iraq Policy “سياسة عراق واحد”؛ وذلك ضمن استراتيجيتها للقضاء على تنظيم الدولة.

الزعيم التاريخي للأكراد مصطفي البرزاني في أحد تحركاته الميدانية (أسوشيتد برس)
في الثاني من يوليو/تموز 2017، أصدرت الوزارة بيانًا توضيحيًّا قالت فيه: “إن الولايات المتحدة تؤيد عراقًا ديمقراطيًّا ومستقرًّا وفيدراليًّا وموحدًا”. وأضافت أنها تتفهم وتقدِّر التطلعات المشروعة لشعب كردستان العراق. والملاحَظ أن موقف وزارة الخارجية يتماشى مع موقف وزارة الدفاع عندما شدَّد الجنرال جوزيف دانفورد، رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية، على أن “الهدف المحدد في هذه المرحلة يكمن في قيام عراق مستقر وآمن ويتمتع بسيادته، ونحن ندعم القوات العراقية في إلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة في العراق”. قد توحي مثل هذه التصريحات بأن واشنطن تتعامل مع قضية كردية أو مطالب كردية موحدة، لكنها في الواقع تضع مساهمات الأكراد وتطلعاتهم في تقاطعات سياسية وجغرافية متباينة وأحيانًا متناقضة. وتود واشنطن الاحتفاظ بالمرونة السياسية والتعامل مع تفريعات القضية الكردية حسب المقاس والظروف والشطرنج السياسي في المنطقة. ولا غرابة في أن تبدو في صفهم في حالة معينة وضد مصلحتهم في حالة أخرى في آن واحد، أو أنها قد تعزِّز وقد تُضْعف المطالب الكردية حسب كل حالة وحسب تدرج استراتيجيتها إزاء الدول الأربع: العراق وسوريا وتركيا وإيران.

3. تزامن الاستفتاء مع التصعيد الجديد و”حرب التأشيرات” بين واشنطن وأنقرة ضمن تداعيات عدم الارتياح الأميركي من تقارب أردوغان مما يبدو أنه “حلف وارسو جديد” ينبعث في الشرق بين موسكو وطهران وأنقرة بداية بتدبير الأزمة السورية ومرورًا إلى شرق أوسط جديد قد يرجح في ميزانه الكفة الروسية على الكفة الأميركية. ويمكن استعراض تلك التقاطعات بشكل مقتضب على النحو التالي:

واشنطن تدعم الحكومة المحلية في كردستان، ولكن لا تريدها أن تخرج من فلك الحكومة في بغداد.
واشنطن تؤيد القوات العراقية والميليشيات الشيعية التي تدعمها إيران في السيطرة على كركوك، ولا تكترث بأهمية المدينة ورمزيتها بالنسبة للأكراد.
واشنطن تدرب وتسلِّح المقاتلين الأكراد وبقية قوات سوريا الديمقراطية. وفي الوقت ذاته، تساند تركيا في حملتها ضد أعضاء وقيادات حزب العمال الكردستاني.
واشنطن تنظر إلى أكراد إيران، وهم في حدود ثمانية ملايين نسمة، بعين الريبة بسبب العداء التاريخي مع إيران منذ عام 1979(5). وتزداد المفارقة بوجود أكراد ضمن قوات البشمركة يقاتلون تنظيم الدولة وانضمام أكراد إيرانيين إلى تنظيم الدولة.
وتنعكس هذه التقاطعات الكردية، بين مكافحة تنظيم الدولة والحسابات الداخلية والإقليمية في العراق وسوريا وتركيا وإيران، على السجال بين حكومة ترامب وأعضاء الكونغرس، كما سيتضح لاحقًا. فهل هناك تناقض في الموقف الأميركي من الأكراد أم أن هذه التقاطعات منطقية حسب قواعد الواقعية السياسية وحماية المصالح الاستراتيجية الأميركية؟ يقول ستيوارت جونز، السفير الأميركي السابق في العراق: “ليس هناك غموض في الموقف الأميركي بشأن هذه القضية. كانت الولايات المتحدة تحث الأكراد ومسعود بارزاني، ووريثه المحتمل، مسرور بارزاني، منذ الربيع الماضي على عدم المضي قدمًا في الاستفتاء لأنه لن يكون في صالح لا كردستان ولا العراق وإنما يخدم مصلحة المتشددين والإيرانيين”(6). ويقدم السفير جونز مجموعة تبريرات لمعارضة مشروع الاستفتاء، قائلًا: “أولًا: حكومة إقليم كردستان ليست مجدية من الناحية الاقتصادية. ثانيًا: لم تكن الظروف السياسية ملائمة، وهناك رد فعل حادّ جدًّا من إيران ومن تركيا وأيضًا من بغداد. لم يكن الجيران مستعدين لذلك ولا للمضي قدمًا مع فكرة الاستفتاء. كان هناك الكثير من القضايا التي لم يتم حلها”(7).

تأجيل طموحات الأكراد باسم مكافحة الإرهاب

هل هناك دوافع أخرى خلف معارضة واشنطن لمشروع الاستقلال؟ سؤال يحيلنا إلى النقطة الثانية بشأن تأجيل طموحات الأكراد مجددًا وكأنهم ما أن تحلَّلوا من حكم حزب البعث العراقي حتى وجدوا أنفسهم في دوامة الحرب على تنظيم الدولة. وقد أصبحت حكومة ترامب تستخدم مكافحة الإرهاب بمثابة شماعة لتجاهل أو تأجيل التعامل مع عدة قضايا حيوية في الشرق الأوسط. ويبدو أن طموحات الأكراد في الوقت الراهن تعاني كسوفًا سياسيًّا في واشنطن بفعل الحاجة لإلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة كأولوية قصوى. وواشنطن تتفادى زعزعة ميزان القوة الراهن في العراق بدواعي سياسة الانعزالية التي يكرسها ترامب لصالح التركيز على مصلحة أميركا أولًا وأخيرًا. ويزداد الأمر تعقيدا عندما يتوافق موقف الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، مع واشنطن عندما قال: إن الاستفتاء سيصرف الأنظار عن الحاجة لهزيمة تنظيم الدولة وإعادة بناء المناطق التي تم نزعها من قبضة التنظيم (8).

عقب سيطرة القوات العراقية والميليشيات الشيعية الموالية لها على كركوك، أصدرت السفارة الأميركية في بغداد بيانًا قالت فيه: إن “تنظيم الدولة يظل العدو الحقيقي للعراق، ونحن نحث جميع الأطراف على أن يواصلوا تركيزهم على استكمال تحرير بلادهم من هذا التهديد”(9). وصرَّح الجنرال الأميركي، روبرت وايت، قائد العمليات الميدانية في العراق، بأن “الولايات المتحدة ستواصل تشجيع الحوار بين السلطات العراقية والكردية، وأن على الجميع التركيز على دحر العدو المشترك في العراق في إشارة إلى تنظيم الدولة”(10). وإذا حاولنا ترجمة أو تفسير هذا الموقف الأميركي، فإنه يعني ضمنيًّا، كما قال أحد المعلقين الأميركيين، “أننا لم نتوصل بأية استراتيجية سياسية من واشنطن، ونرجو منكم جميعًا أن تلتزموا بخطتنا العسكرية حتى نبلور خطة بديلة”(11).

لا غرابة في أن يبدو موقف واشنطن متذبذبًا بشأن الأكراد ليس لكونهم أقلية متجانسة ومشتتة بين أربع دول في المنطقة فحسب، بل لأنهم يشكِّلون في أعينها عقدة مستعصية ذات أضلاع أربعة في أبعادها العراقية والسورية والتركية والإيرانية؛ مما يزيد في تعقيدها والخشية من أن يصبح لمشروع استقلال كردستان مفعول الدومينو، فيما تحتفظ واشنطن بالضلعين الثالث والرابع ضمن مربع المناورة إزاء أنقرة وطهران. كما لاحظنا، استبشرت واشنطن خيرًا بدور المقاتلين الأكراد في طليعة الجنود الخمسين ألفًا من قوات سوريا الديمقراطية في الحملة العسكرية ضد تنظيم الدولة في الأشهر العشرة الماضية، وكثيرًا ما أثنت على حُسن أدائهم في العمليات القتالية وتفانيهم في الوقوف في الصف الأميركي. لكن شهر سبتمبر/أيلول 2017 أظهر خيبة أمل عارمة أو ما عبَّر عنه أحد المحللين قائلًا: “إن السردية الغربية تُخفي خلفها شقوقًا عميقة لا تزال تعصف بالسياسة الداخلية الكردية”(12).

هل أساء الأكراد تقدير ديناميات الموقف الأميركي؟

بالنظر إلى هذه الأمور المتداخلة، يصعب الحسم في تقييم استراتيجية واشنطن إزاء الأكراد وهل تستند إلى براغماتية محسوبة حسب وتيرة الأحداث، أم إلى مزاجية ترامب وعدم اطِّلاعه بشكل كاف على تعقيدات ملفات الشرق الأوسط، أم أن الأزمات الطارئة في سوريا واليمن والسعودية ولبنان تطغى على اهتمامات واشنطن ولم تجعلها تبتكر منطلقًا جديدًا للتعامل مع قضية استقلال الأكراد. وبالنظر إلى ما يدور بين النخبة السياسية في واشنطن، تحول موقف حكومة ترامب من مشروع استقلال الأكراد إلى محاكمة أخلاقية للسياسة الخارجية الأميركية بين فريقين أحدهما يعتد بسياسة القيم Moral politics وضرورة مكافأة الأكراد، وآخر يلومهم على سوء فهم الموقف الأميركي. إذن، هل أساء الأكراد تقدير ديناميات الموقف الأميركي؟

الوضع السياسي والديمغرافي قبل تنظيم تنظيم الاستفتاء في إقليم كردستان العراق (الجزيرة)
هناك إجماع في مقر الكونغرس بين قادة الحزبين الجمهوري والديمقراطي على أن التحالف الكردي-الأميركي منذ عقود ساعد في حماية الأكراد داخل العراق وخارجه وأيضًا المصالح القومية الأميركية في المنطقة. واستنكر عدد من أعضاء الكونغرس الرد الأميركي على مسعى استقلال كردستان، إذ قال النائب الجمهوري عن ولاية فلوريدا، رون دوسنتوس: “لديكم الآن حليف مخلص هو الأكراد الذين واظبوا على خدمة مصالح الولايات المتحدة لوقت طويل، وقاتَلُوا في صفها وتعرضوا لهجمات القوات التي تدعمها إيران والتي تلطخت أياديها بدماء أميركية”.

أما السيناتور الجمهوري والمرشح السابق في انتخابات الرئاسة، جون ماكين، وهو من أقوى المتحدثين باسم المؤسسة الجمهورية في الكونغرس، فقد عارض في مقال شديد اللهجة في نيويورك تايمز ما اعتبره تجاهل وضع الأكراد من قبل الرئيس ترامب ضمن تدبير حملته المعادية لإيران. ويقول ماكين: “هذا أمر غير مقبول. لقد قدمت الولايات المتحدة السلاح والتدريب إلى الحكومة العراقية لمحاربة الدولة الإسلامية وحماية العراق من التهديدات الخارجية، وليس لمهاجمة أكراد العراق الذين هم من بين شركاء أميركا الأكثر ثقة والأكثر قدرة في المنطقة”(13). ويضيف السيناتور ماكين أنه “إذا لم تتمكن بغداد من ضمان الأمن والحرية الذين يرغب فيهما الشعب الكردي في العراق، وإذا كانت الولايات المتحدة مرغمة على الاختيار بين الميليشيات التي تؤيدها إيران والأكراد شركائنا منذ وقت وقت طويل، فإني سأختار الأكراد”(14).

لكن الفريق الثاني يلوح بأنه على الرغم من الاختلافات الحزبية، من غير المرجح أن حكومة هيلاري كلينتون كانت ستتبنَّى سياسة مختلفة عن سياسة حكومة ترامب. ولكي نفهم ما يعتبرونه فشل التقييم الكردي للسياسة الأميركية، من الضروري أن يكون الأكراد منفتحين على الطريقة التي يقتربون من خلالها من الأميركيين وأن يمارسوا مزيدا من الدبلوماسية (15). يقول مايكل روبن من معهد إنتربرايز في واشنطن: “لندعْ جانبًا النقاش حول تعليق الرحلات الجوية الدولية إلى كردستان العراق، والسيطرة على المراكز الحدودية العراقية، واحتمال أن تعوق تركيا صادرات النفط الكردية، أو أن فيلق القدس الإيراني قد يتصرف بشكل أكثر عنفًا. السؤال الأوسع الذي يجب أن يواجهه الاكراد في هذا الوقت من الأزمة الدبلوماسية، هو: كيف قامت حكومة إقليم كردستان والأكراد العراقيون على نحو خاطئ بقياس الحالة المزاجية في واشنطن العاصمة؟”(16).

يعزو البعض سوء فهم الأكراد للموقف الأميركي إلى عدة أسباب، منها: أن الثقافة السياسية لدى الحكومة المحلية في كردستان تكرِّس ميول التشكيك والتخوين إزاء الأصوات التي تنتقد السياسات القائمة وقد تتهمها بالعمالة لدى الخصوم، وأن كردستان ليست كردستان بارزاني بل كردستان الأكراد، في إشارة إلى وجود كتلة من الأكراد عارضت إجراء الاستفتاء. ويشدِّد بعض المحللين على أن من تعتمد عليهم الحكومة المحلية في كردستان في بلورة خطابها وخدمة مصالحها في واشنطن يُسمعونها ما تريد سماعه، وأن بعض مراكز الأبحاث الأميركية التي تستفيد ماديًّا من الحكومة المحلية في كردستان ذهبت إلى تفادي حضور من قد يوجِّه أسئلة انتقادية إلى مسعود بارزاني. وهذا يساعد في فهم تعثر العلاقات العامة أو جماعات الضغط التي يُتَّكَل عليها في واشنطن.

بيد أن مايكل روبن، من مؤسسة إنتربرايز، يشير إلى معضلة أخرى في التواصل بين المسؤولين الأكراد وبعض الدبلوماسيين أو من يُحسبون على الحكومة الأميركية، إذ يقول: إن “أيدي أميركا -أو بشكل أدق الأميركيين- ليست نظيفة تمامًا. وفي الأسابيع التي سبقت الاستفتاء، أشار الأكراد الذين تحدثت إليهم إلى أنه على الرغم من جميع البيانات الرسمية الواردة من واشنطن، فقد أكد لهم الأميركيون الآخرون أن الولايات المتحدة ستقبل الاستفتاء. فمن هم هؤلاء الأميركيون الذين أعطوا الأكراد هذه التأكيدات الكاذبة؟ لقد حان الوقت لكي يفصح الأكراد عن هويات هؤلاء”(17). وبغضِّ النظر عن شتى التبريرات الأميركية لمعارضة استقلال كردستان، يبقى العامل الرئيسي في بلورة موقف واشنطن هو الحفاظ على ما تبقى من حالة الاستقرار في المنطقة وتسخير قدراتها في مكافحة تنظيم الدولة. لكن هل سينال هذا الخيار الاستراتيجي الأميركي من حتمية مطالب الأكراد كضرورة سياسية في المستقبل؟

مطالب الأكراد: حتمية سياسية مفتوحة باتجاه المستقبل

لا شك في أن خيبة الأمل الراهنة من طبيعة الموقف الأميركي ستجعل الأكراد يعيدون حساباتهم الاستراتيجية، وستتعزز لديهم الإرادة لإيجاد طريق آخر نحو استقلال كردستان ولو خارج التأييد الأميركي. ومن شأن مشروع الاستفتاء ووضع كركوك حاليًّا أن يُبلورا القومية الكردية بشكل متأجج أكثر من السابق، وهو احتمال لم تنتبه إليه واشنطن منذ امتعاضها قبل أشهر من فكرة تنظيم الاستفتاء. يعتقد ريان كروكر، السفير الأميركي الأسبق في العراق، “أن الولايات المتحدة أضعفت موقفها بالوقوف في صف بغداد فى نزاعها مع الأكراد، وأنه كان من الأجدى لها عدم اتخاذ أي موقف بشكل أو بآخر حول قيام دولة كردية في شمال العراق، كان من الأَوْلى ترك المسألة إلى الأكراد والعراقيين للتوصل إلى اتفاق حولها”. وأضاف: “بعدما حشرنا أنفسنا مع جانب واحد، فإن القلق هو أن النظرة إلينا لن تكون نظرة وسيط نزيه في المستقبل”(18).

من منطلق التعامل مع النزاعات، ستدخل العلاقات الكردية-الأميركية مرحلة جديدة من المد والجزر لكن خارج منطق الاتكالية أو أولوية التأييد الأميركي بعد الآن مما يفتح الطريق أمام الأكراد لدراسة خيار موازنة علاقاتهم مع الولايات المتحدة مع دول مثل روسيا التي تتزعم تشكيل حلف وارسو جديد ليس في شرق أوروبا بل في الشرق الأوسط هذه المرة. وكما يقول السناتور ماكين: “إذا واصلنا النوم على مسارنا الحالي، يمكننا أن نستيقظ في المستقبل القريب، ونكتشف أن النفوذ الأميركي قد تم دفعه خارج واحد من أهم أجزاء العالم. وهذا هو السبب في أن الأميركيين بحاجة إلى الاهتمام بما يجري في الشرق الأوسط الآن. وهذا هو السبب في أننا بحاجة إلى التمسك بأصدقائنا الحقيقيين مثل الأكراد. ولهذا، نحن الآن بحاجة أكثر من أي وقت مضى لاستراتيجية ترفع نظرنا فوق المستوى التكتيكي، وتفصل بين الأمر الملحِّ من الأمر المهم حقا”(19).

لا يمكن التقليل من مضاعفات خيبة الأمل الكردية من وعد قائم منذ قرن من الزمان، كما جاء في النقاط الأربع عشرة للرئيس الأميركي وودرو ويلسون، في بداية القرن الماضي، عندما قدم رؤيته لعالم ما بعد الحرب العالمية الأولى بشأن تأييد أميركا لحق تقرير المصير لجميع الشعوب والتي انبنت عليها اتفاقية سيفر Treaty of Sevres التي وعدت بمنح الأكراد وطنًا لهم بعد عيشهم في كنف الإمبراطورية العثمانية (20). وما دامت واشنطن تختزل مصالحها الراهنة في القضاء على تنظيم الدولة وتعارض المطالب الكردية في سبيل تعزيز سلطة بغداد، فإنها بذلك تتغاضى عن التحديات التي يواجهها العراق كدولة هشة تظل عرضة للفساد والطائفية والحزبية. وهي بذلك دفعت المارد الكردي للخروج من القمقم، ولن تستطيع كبح جماحه بعد الآن.

_____________________________________

د. محمد الشرقاوي، أستاذ تسوية النزاعات الدولية في جامعة جورج ميسن، وعضو لجنة الخبراء في الأمم المتحدة سابقًا.

مراجع

1. http://www.defenddemocracy.org/media-hit/behnam-ben-taleblu-kurd-your-enthusiasm/

2. http://www.aljazeera.net/encyclopedia/events/2017/6/10/%D8%A3%D9%83%D8%B1%D8%A7%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%83%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D8%A7%D8%AA%D9%8A-%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D9%81%D8%AA%D8%A7%D8%A1-%D8%AA%D9%82%D8%B1%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B5%D9%8A%D8%B1

3. http://www.defenddemocracy.org/media-hit/behnam-ben-taleblu-kurd-your-enthusiasm/

4. http://edition.cnn.com/2017/09/30/middleeast/kurdistan-independence-tillerson-us/index.html

5. https://www.foreignaffairs.com/articles/iran/2017-09-26/iran-and-kurds

6. https://www.theatlantic.com/international/archive/2017/10/us-kurdish-independence/543540/

7. https://www.theatlantic.com/international/archive/2017/10/us-kurdish-independence/543540/

8. http://www.aljazeera.net/encyclopedia/events/2017/6/10/%D8%A3%D9%83%D8%B1%D8%A7%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%83%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D8%A7%D8%AA%D9%8A-%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D9%81%D8%AA%D8%A7%D8%A1-%D8%AA%D9%82%D8%B1%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B5%D9%8A%D8%B1

9. Emile Simpson, “America Is in Denial about Iraq”, Foreign Policy, Oct. 18, 2017 http://foreignpolicy.com/2017/10/18/america-is-in-denial-about-iraq/

10. Emile Simpson, “America Is in Denial about Iraq”, Foreign Policy, Oct. 18, 2017 http://foreignpolicy.com/2017/10/18/america-is-in-denial-about-iraq/

11. Emile Simpson, “America Is in Denial about Iraq”, Foreign Policy, Oct. 18, 2017 http://foreignpolicy.com/2017/10/18/america-is-in-denial-about-iraq/

12. http://www.defenddemocracy.org/media-hit/behnam-ben-taleblu-kurd-your-enthusiasm/

13. https://www.nytimes.com/2017/10/24/opinion/john-mccain-kurds-iraq.html

14. https://www.nytimes.com/2017/10/24/opinion/john-mccain-kurds-iraq.html

15. http://www.aei.org/publication/how-did-the-kurds-get-washington-so-wrong/

16. http://www.aei.org/publication/how-did-the-kurds-get-washington-so-wrong/

17. Michael Rubin, “What is American policy toward Kurdistan?” Oct 19. 2017 http://www.aei.org/publication/what-is-american-policy-toward-kurdistan/

18. https://www.theatlantic.com/international/archive/2017/10/us-kurdish-independence/543540/

19. https://www.nytimes.com/2017/10/24/opinion/john-mccain-kurds-iraq.html

20. http://thefederalist.com/2017/09/04/u-s-support-kurds-bid-independence-iraq/

المصدر/ الجزيرة للدراسات

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة