إعداد/ د. سهاد اسماعيل خليل
أسفرت تداعيات الاحداث والازمات المتعاقبة وتطور التفاعلات الجيوسياسية في المنطقة، الى اعادة النظر في الخريطة الجيوسياسية للسياسة الخارجية العراقية، بتبني نظام جيوبولتيكي قائم على اساس اتباع استراتيجية اقليمية جديدة ترتكز على نظام توازن المصالح وتوظيف الفرص، لتغير انماط التفاعلات الدولية وادواتها مما انعكس على تغير وتطور القضايا الاقليمية وحركة تفاعلاتها الجيوسياسية، مما ادى الى تفكيك العلاقات والتحالفات القديمة والعمل على اعادة تشكيل وبناء تحالفات دولية واقليمية جديدة يكون للقوى التعديلية دور في صياغتها. مما يتيح للعراق ومصر هامش من الحركة السياسية الخارجية بإيجاد مواطئ قدم في تحالفات وترتيبات وتنسيقات (امنية، اقتصادية، سياسية)، تلبي مطامح وتطلعات كلا الدولتين.
تعمل مصر بأتجاه استعادة المكانة المصرية في البيئة الاقليمية العربية والافريقية باعتبارها احد ركائز تدعيم بيئتها الداخلية التي تعاني من اختلالات منذ عام 2011 بعد (ثورة يناير). فأن علاقات التأثير والتأثر بين بيئتها الداخلية والاقليمية والدولية علاقة تكاملية، اذ كلما كان هناك دور اقليمي لمصر كلما كان له مردود ايجابي على بيئتها الداخلية والعكس صحيح. فهي على مرّ التأريخ تجد بالمحيط الاقليمي العربي مجالها الطبيعي لتحديد مكانتها في التفاعلات الاقليمية والدولية، بدءا من القضية الفلسطينية وتفاعلاتها، مرورا بالأحداث والتحولات الاقليمية في المنطقة منذ عام 1991 وحتى يومنا هذا.
تدرك مصر تماما وظيفتها الاقليمية في المنطقة العربية. وكيفية توظيف التفاعلات الاقليمية والدولية بما يعزز اهمية تلك الوظيفة التي تنعكس على تحقيق مصالحها. اذ مع تطورات الاحداث في المنطقة العربية وما رافقها من تطور في البيئة الداخلية المصرية متمثل بالحراك الشعبي في احداث التغيير الثاني في ثورة الشعب المصري في حزيران 2013 وعزل محمد مرسي واسقاط حكومة الاخوان المسلمين وتشكيل حكومة جديدة تدرك حقيقة التفاعلات الاقليمية والدولية ومتطلبات الواقع والطموح المصري، فكانت سياساتها مؤاتية لاستثمار الفرص المتاحة في المحيط العربي عبر الاستجابة السريعة لمتغيرات ومتطلبات المرحلة الحالية في علاقات الدول العربية مع بعضها البعض، وعلاقاتها الدولية والاقليمية من جهة، والحرب على الارهاب والازمة السورية من جهة اخرى. اذ بدت هذه الاستجابة السريعة والمرنة في التعاطي مع هذه المتغيرات في الخريطة السياسية العربية – العربية والعربية – الاقليمية والعربية – الدولية بمنطلق وظيفي يربط بين البيئة المصرية ومتطلباتها في الحفاظ على الذات المصرية من جهة وتحقيق متطلبات الامن القومي المصري من جهة اخرى، وبين ضرورة الحفاظ على وظيفتها الاقليمية في المحيط العربي والافريقي في ظل صياغة الخريطة الجيوبولتيكية السياسية الجديدة للمنطقة.
وبذلك يشكل التقارب العراقي–المصري، احد انماط التفاعلات الجديدة في المنطقة مما يشكل تحدياً اقليمياً مؤثراً في التفاعلات الجيوسياسية القديمة في المنطقة ذات الارث التأريخي المؤثر والكبير في توزيع الادوار والتوازنات في منطقة الشرق الاوسط ودوره في التعاطي مع القضايا المطروحة في تحديد اولوياتها من عدمه، كما هو الحال في العلاقات المصرية – الخليجية بشكل عام والعلاقات المصرية – السعودية بشكل خاص. ويعد موقف مصر من الازمة السورية احد الفرص الاستراتيجية التي ممكن ان تتيح لمصر الحفاظ على مكانتها الاقليمية او تعزيزها، لاسيما بعد التحول الكبير في ادارة الموقف بين الرئيس المعزول محمد مرسي والرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي. فضلا عن دورها في الحرب على الارهاب ومواجهة الجماعات الاسلامية المتطرفة في ليبيا، كما هو دور العراق ومركزه في الحرب على الارهاب المتمثل في مواجهة تنظيم داعش الارهابي.
ان عملية التبدل والتحول في المواقف المصرية ازاء العراق وزيادة وتيرة الفاعلية السياسية بين البلدين، يعدها البعض بمثابة تكتيك (مناورة استراتيجية) تعتمدها مصر للضغط على المملكة السعودية بعد التوتر في العلاقات المصرية– السعودية نتيجة عدم التوافق في الرؤى والاهداف بين المملكة السعودية بقيادة الملك سلمان بن عبد العزيز ومصر برئاسة عبد الفتاح السيسي، اذ برهنت العديد من التوجهات السعودية والمصرية على عدم الانسجام فيما بينها بدأت بالحرب التي تخوضها السعودية ضد اليمن وموقف مصر منها وانتهاءا بالموقف المصري المعارض للموقف السعودي تجاه الازمة السورية. الا ان تطور الاحداث والمواقف يؤكد بأن ما تنتهجه مصر هو ضمن قراءة استراتيجية تهدف الى ان يكون لها دور مهم في اعادة هيكلة المنطقة مما يؤدي الى بروز انماط جديدة في العلاقات الاقليمية والدولية في المنطقة، بما يستدعي تفكيك ادوار اقليمية وانشاء ادوار وقوى جديدة تهدف الى تحقيق المصاح المشتركة. وتسعى مصر لإحياء دورها ووظيفتها الاقليمية بتبني سياسة خارجية تستهدف العراق ومناطق التوتر والازمات في المنطقة باعتبارها مركز التغير والتغيير في المنطقة.
تبنت مصر مبادرة تحسين العلاقات مع العراق عبر العديد من القنوات السياسية والدبلوماسية والعسكرية والتجارية وعلى مستويات مختلفة ومتنوعة، واجتهدت بأن تضفي المصداقية على هذا التوجه الجديد عبر الاعلان عن مواقف رسمية داعمة للموقف العراقي ولاسيما في الحفاظ على وحدته وسيادته وحربه ضد الارهاب، حيث دعمت الحكومة المصرية تشكيل الحكومة العراقية برئاسة حيدر العبادي. كما رفضت مقترح الكونغرس الامريكي في نيسان 2015 بتقسيم العراق الى ثلاثة اقاليم. في المقابل كانت الاستجابة العراقية نحو الانفتاح تجاه مصر ايجابية بنحو يدفع باتجاه تعزيز وتطوير العلاقات بشكل يضمن تحقيق مصالح البلدين، اذ اقدم العراق على عقد العديد من اللقاءات وفي مختلف المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية، اخرها كان الاتفاق على دعم مصر بـ(مليوني برميل نفط) شهريا والغاء التأشيرة لدخول المصريين.
ان هذا التطور السريع في العلاقة بين البلدين باتجاه حسم الخلافات وتقريب المشتركات الداعمة بتوطيد العلاقة، يؤكد بأن البيئة الاقليمية بحاجة ماسة الى اعادة صياغة التحالفات الاقليمية وفق رؤية استراتيجية جديدة تكون روسيا الاتحادية احد اطرافها من جهة، وادارة امريكية جديدة تسعى الى اعادة تشكيل منطقة الشرق الاوسط بما يتوافق وتوجهاتها الاستراتيجية الجديدة بالإحاطة بالقوى التعديلية الراغبة في الدخول الى منطقة الشرق كمنافس للولايات المتحدة الاميركية، الامر الذي يمكن العراق ومصر من امتلاك ادوات ضاغطة باتجاه التعامل مع الولايات المتحدة الاميركية. وتعد التحالفات والترتيبات الامنية الناشئة لمكافحة الارهاب عموما وتنظيم داعش الارهابي خصوصاً، احد تلك الفرص الاستراتيجية للمناورة مع الولايات المتحدة الاميركية، لذا يعد هذا التقارب بمثابة الفرصة الاستراتيجية لكلا الدولتين لتعزيز مكانتهم ودورهم الاقليمي.
* المصدر: مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية