خاص : كتبت- د. هناء خليف غني
لا تخلو حياة البشر من صدمات وحوادث مؤسفة ومفجعة يقعون ضحايا لها فتؤثر فيهم وتشل حياتهم لوقتٍ قد يقصر أو يطول. وتتنوع هذه الحوادث ما بين الكوارث الطبيعية والحروب، وأنواع الاستلاب والقهر والفقد المباشر وغير المباشر، وحوادث الموت، وأشكال العنف والاعتداء المختلفة، سواء كانت لفظية، أو جسدية، أو جنسية أو التعرض للتهديد أو الإصابة بمرض خطير، أو الشعور بالعجز الدائم. والتعرض لهذه الأحداث الصادمة يمكن أن يؤدي إلى حدوث مشكلات نفسية تتباين في شدتها، وتختلف استجابة الأفراد لها وفقا لعدة عوامل، منها شدة الحدث نفسه وحجم الفقد، والمتانة النفسية للمصاب، وكذلك حجم الدعم الذي يتلقاه الفرد سواء من المحيطين به أو من المتخصصين، ونوع التجارب السابقة التي تعرض لها في حياته،وقدرته على التحمل.
ويُعد “وليم هيلز ريفرز”، عالم النفس والانثروبولوجيا والأعصاب الانكليزي، واحداً من أهم الذين بحثوا في مسببات الإصابة باضطراب ما بعد الصدمة وطرائق معالجتها. يرى “ريفرز” أن سعي الشخص المصاب الدائم إلى طمس الذكريات المؤلمة وخنقها يؤدي إلى تأثيرات مدمرة في صحته النفسية والعقلية والعضوية، ولهذا نلحظ توكيده على ضرورة مساعدة المريض على مواجهة الوضع الذي أفرزه الحدث الصادم، وإقناعه باستحالة التخلص من تأثير هذه التجارب ما لم يعمل على مواجهتها والتكيف معها بدلاً من الاكتفاء بمحاولات الالتفاف عليها وتجاهلها بحيث تبدو كما لو أنها قد اختفت. ما يود “ريفرز” قوله هو ضرورة أن يتحدث هذا الشخص عن تجربته المؤلمة ويكشف عن تفاصيلها كي يتمكن من تجاوزها ومعالجة تأثيراتها السلبية، وبداهة ليس شرطاً توفر أعراض اضطراب ما بعد الصدمة جميعاً كي تُشخص الإصابة بها، إنما قد تبرز مجموعة من هذه الأعراض دون غيرها بحسب عوامل تتصل بظروف الحادثة ذاتها ومتانة المصاب النفسية، وغيرها.
بعض من أعراض اضطراب ما بعد الصدمة هو المحور الذي تدور حوله قصة (ممشى الكاليبتوس) للكاتب والمترجم العراقي “جودت جالي” من مجموعته القصصية (ما رواه العجوز حكمان عن الفتى الجميل جوهر) الصادرة عن دار ضفاف في 2018. مجيب، بطل القصة، مصاب ببعض أعراض اضطراب الكرب التي لم يتمكن من التخلص منها طوال ثلاثين عاماً. إنه يحاول على نحوٍ غير واعٍ كبح الذكريات المتعلقة بحادثة صادمة لم تعد حياته بعدها-خصوصاً حياته الشخصية- كما كانت، ولأنها قصة تتحدث عن شيء حدث في الماضي، نلحظ تحرك الأحداث بتقنية الفلاش باك جيئة وذهاباً بين الحاضر والماضي.
تبدأ القصة بحوارٍ بسيط تقليدي بين زوجٍ وزوجته يشي، برغم بعض مظاهر الارتباك والتوجس، بمقدار الحب والإعجاب الذي يجمعهما. ما تزال الزوجة تحتفظ بجمالها وجاذبيتها. يبدو ذلك جلياً في نظرة الزوج المشوقة إلى تقاطيع جسمها الممتد باستقامة والممتلئ بأناقة وهي تغسل الصحون في المطبخ. ما يزال جمالها لا يقاوم كما كانت قبل ثلاثين عاماً. كانت، من فرط جمالها، مثار إعجاب الجميع. كان بعضهم يعتقد أنها ((أجمل من أن تكون لأحد، أجمل من أن يمتلكها مجيب أو غيره)). وفي الواقع، لطالما كان مجيب محسوداً عليها من أصدقائه ومعارفه. ومع أنه كان يشعر في بادئ الأمر بالانتشاء لهذا الإعجاب، إلا أن سكاكين الغيرة والضيق كانت تنهشه سريعا، فيصرح مدافعاً عما يعدّه ملكاً خالصاً له ومؤكداً قوة العرف: ((هي حبيبتي…وخطيبتي، أهلنا اتفقوا على ذلك)).
لم يعش مجيب أجمل من تلك الأيام بعد إعلان خطوبتهما رسمياً حيث الشعور بالزهو في سيرها برفقته وتحليقه عالياً بنوعٍ من الانتشاء يجده مختلفاً عن انتشاء ((الضم والتقبيل وإطلاق أصابع الوجد الساخنة)). كان إحساس مجيب بالتفرد لا يقاوم، في الواقع. سار كل شيء معهما كأحسن ما يكون ولم يكدر صفو عيشهما شيء. كانت أيامهما وساعات لقائهما فرحة، لذيذة، وواعدة بحياة سعيدة ودافئة لولا ما حدث في ذلك اليوم المشئوم.
كاد مجيب وحبيبته أن يصلا إلى خلوتهما لولا أن اعترض طريقهما رجال أمن بدئوا باستجوابهما عن سبب وجودهما: لسوء حظهما لم يكونا يعرفان أن التنزه ممنوع في هذا المكان تحديداً. لم يكد مجيب يفتح فمه حتى انهالت عليه ((التعليقات المهينة)) من رجال الأمن الذين طلبوا منه دفتر الخدمة العسكرية أو هوية الكلية. عندما ذكر لهم أنه طالب في كلية التربية، علق رجال الأمن بأسلوبٍ مستفزٍ: ((التربية!…يعني علموكم التربية)). حاولت خطيبته حثه على التجاوب معهم ((خشية أن يرد دفاعاً عن كرامته فينهالوا عليه بالضرب ويأخذوهما للتوقيف)). إلا أنَ نظرات رجال الأمن وتصرفاتهما وتلميحاتهما اللفظية مثل ((لخاطر الشباب الحلوين)) والجسدية كانت تشي بالرغبة في اقتناص فرص كهذه لممارسة السلطة والشعور بالنشوة والالتذاذ التي توفرها لهم هذه الممارسة، فاقتادوا الشابين المذهولين إلى المقر الأمني الذي لم يكن ((أكثر من غرفة خشبية فيها بعض الأثاث المكتبي…[تطل] على النهر وعلى المتنزه)).
بدا الإعجاب بالفتاة واضحاً على المسئول الأمني الذي يبدو أنه اعتاد التعامل مع حالات كهذه لأنه لم يكن متفاجئاً أو مستغرباً من اقتيادها إلى المقر. استجوبها عن منطقة سكنها وأهلها وعمل أبيها وأخيها وكانت تجيب ((دون تردد ولكن بإرادة مسلوبة…[وهي] شبه دائخة)). وبرغم توكيدها أن مجيباً هو خطيبها رسمياً، شعر الضابط وأدرك، من نبرة الاستسلام والذل والانكسار الذي غلب على صوتها، أنها لن ترفض إذا مد يده إلى صدرها، ربما تتمنع قليلاً!. فليجرب التمادي قليلاً ويرى!. بينما هو يعلق على ضيق قميصها، لمست أصابعه الزر وجذبه بلطف ثم أدخل يده من الفتحة. أحست الفتاة بالأرض تميد بها، وبصوتٍ واهنٍ لا يكاد يسمح، توسلت به: ((الله يخليك…)). و’الله يخليك‘، بالمعنى العامي الدارج، تعني ’أدام الله بقاءك‘، ولكلمة (أخلى)، عند الرجوع إلى أصلها، عدة معان منها ’جعله فارغا خالياً‘ في (أخلى المكان)، و ’وقع في موضعٍ خالٍ لا يُزاحم فيه‘ في (أخلى الرجل، و ’أطلق سراحه بعد حبس‘ في (أخلى سبيله)، والمعنى الأخير هو ما كانت الفتاة تقصده، فهي تريد من المسئول الأمني أن يطلق سراحها، وهو ما حصل لأسباب خمنتها من دون أن تكون متيقنة منها، وهو ((لو فعل ما كنت لتستطيع أن تقاوم أو تصرخ ومجيب في الخارج على مبعدة أمتار)).
لم ينبس الخطيبان ببنت شفه طوال المدة التي استغرقاها في الرجوع إلى البيت. وعلى الرغم من اتفاقهما ضمنا- من دون أن ينطقا بكلمةٍ واحدةٍ-((على نسيان ما جرى، أو تجاهله على الأقل)) وإتمام مشروع زواجهما، إلا إنها لطالما رأت، خلال السنوات الثلاثين، هي عمر زواجهما، تلك النظرة المعاتبة الحزينة من مجيب؛ نظرة تضج بتوسل ملتاع قاتل: ((دخيلك…لا تقولي لي أنهم…)). تمثل النقاط الثلاث هذه علامة الحذف أو علامة القطع وتُسمى أيضاً نقط الاختصار أو نقط الإضمار، وتدل على كلام مقصوص أو على وجود تتمة. وتخدم في الحوار السردي عدة أغراض منها تمثيل حالة التردد، أو تمثيل الألفاظ النابية التي لا يريد المؤلف ذكرها صراحةً، أو إشارة إلى وجود ضمني في الجملة السابقة، وتمثيل الصمت، وللإشارة إلى عدم وجود رد أو تعليق، أو ابتغاء التماس خيال القارئ، والمعاني الثلاثة الأخيرة هي المقصودة على الأغلب، فلربما حدث شيء ما لم تكن الفتاة ترغب في اطلاع خطيبها عليه حفاظاً على مشاعره، وربما آثرت الصمت لشعورها بالخزي والعار ولاعتقادها بعدم جدوى الحديث، فمهما كان ما ستقوله، فهو لن يمحو قط الشرخ الذي سببه الحادث في نفسيتهما. كم من الهواجس والظنون والصورة المتخيلة الحارقة تعكسها هذه النقاط المتتالية!. كان شعور مجيب بالانكسار طاغياً حين لم يلحظ على خطيبته ما يوحي بتكذيب ظنه: ((لم يسألها بعد ذلك عن تفاصيل ما حدث أبدا، ولم يسألها حتى عن مجرد تكذيبه أو تأكيده بالقول الصريح، لكنه انطبع إلى الأبد في روحيهما انطباع وسم العبودية)). غيرت الحادثة مجرى حياتهما وعلاقتهما تماماً، ولم يتمكنا من تجاوز تأثيراتها المدمرة ربما لإصرار مجيب على المراوغة والالتفاف، وخداع النفس بالتهوين من شأنها. في الواقع لم يكن عزوفه عن سؤال خطيبته ثم زوجته عن تفاصيل ما حدث في الدقائق المعدودة التي غابت فيها في داخل الغرفة ((إلا لكي تبقى التفاصيل في حيز الظن، أقل إيلاما وأقرب للنسيان، بل أقرب لأن يرى في جهله بها ما يجعل الحياة محتملة إذا عز النسيان)).
حاول مجيب طوال ثلاثين عاماً قمع ذلك الجزء من الذاكرة الذي خُزنت فيه تفاصيل هذه الحادثة المؤلمة نفسياً. ومثلما هو معروف، فالذاكرة لا تنسى الحادث بالمعنى التقليدي، بل تعمل على إزالته من العقل الواعي ونقله إلى العقل اللاواعي، فتظهر التأثيرات المترتبة عليه في صورة انفعالات مفاجئة وسلوكيات عنيفة أحيانا. تكرر حدوث ذلك في حياة الزوجين مرات لا تحصى. حدث ذلك بعدما جلبت لوحةً اشترتها من محل لبيع القرطاسية إلى البيت. كان كل ما في اللوحة وكأنه منقول حرفياً عن صورةٍ فوتوغرافية لهما كانا يحتفظان بها في البوم الصور العائلية؛ صورةً مزقها مجيب ((في لحظة تميل إلى تصورها لحظة ضعف. الفرق الوحيد بين اللوحة والصورة هو أنها ومجيبا غير موجودين في اللوحة. الممشى نفسه بأحجاره الرصاصية وأشجار الكالبتوس متدلية الأغصان من الجانبين والتي تنبئ العشاق بتشابك أغصانها بأن لهم خلفها خلوات ظليلة بعيدا عن أعين الفضوليين، حتى الفرجات ما بين الأغصان تكاد تكون هي نفسها)). إن السبب الذي جعل مجيبا يمزق الصورة لم يكن تعارضها مع الأخلاق السائدة اليوم، لأن خطيبته تظهر فيها ((ترتدي قميصا ضيقا وتنورة تصل إلى ما دون الركبتين بقليل)) مثلا. كلا، بل مزقها لسبب آخر، هي تعرفه، ولكنه لم يذكره بل تحجج بحجة أخرى: ((شكلي فيها غير لائق)).
لحظت الزوجة تعكر ملامح مجيب حالما وقع نظره على الصورة. لحظت كيف تحركت أصابعه نحوها، وكيف سحبها من الحافظة الشفافة ليشرع بتمزيقها إلى قطع صغيرةٍ متجاهلاً وجودها إلى جواره في الأريكة. كان صعباً عليها ان تفهم لم احتفظ بشيء/صورة تنطوي على ذكرى مؤلمة كل هذه السنوات وفجأة يثور ويحطمه. إنه قمع الذاكرة الذي يفعل فعله هنا فيترجم إلى انفعالات وهيجانات نفسية لا يمكن التنبؤ بأبعادها. وقد عبر المؤلف/الراوي عن هذا الجانب خير تعبير بقوله: ((من الصعب توقع اللحظة التي ينفتح فيها صدع ما طال تحمله وينفلت بعض ما كان محصورا خلفه من ألم مدمر تدميرا بطيئا فيصيب شيئا ما)).
اللوحة التي كانت الزوجة تنظر لها بشرود أعادتها ثلاثين عاما إلى الوراء. مر شريط الأحداث في ذلك اليوم المشئوم أمام عينيها برتابة وتثاقل. ارتجفت شفتاها وعصفت بها ذات المشاعر التي تعصف بها كلما خطرت على بالها العذابات التي تلته. استغرقها التفكير في اللوحة فباءت بالفشل كل ((محاولاتها لشغل بالها بشيء آخر غير ما أعادته اللوحة إلى ذاكرتها)).
لم تعد الزوجة قادرة على تحمل فكرة أن تبقى نهباً لمشاعر الألم والإحساس بالعار كلما تذكرت ما جرى في ذلك اليوم: ((ذكرى عيني مجيب الطافحتين بالمهانة والمرارة وهو ينظر إلى صدرها، إلى قميصها الذي نسيت، عندما عادت إليه، أن تعدله وتزرر أعلاه لارتباكها وذهولها)). لكنها كانت ترى هذه النظرة الذليلة ترتسم في عينيه كلما حدث شيء أو قيل كلام عابر يفتح بعنفٍ باب الذكرى الصادمة على مصراعيه. حدث ذلك مرةً عندما كان يشاهدان فلماً مع ولديهما. لقطة واحدة كانت كفيلة أن يسود الغرفة صمت رهيب كانت فيه ((عيونهما تلتمع بحرج وهما يراقبان رجلا ذا ملامح ملتهبة يمد يديه المرتجفتين شبقا نحو أزرار قميص فتاة مقيدة، ويفتحها زرا زرا، ثم ينزعه إلى الخلف بحركة مثيرة)). فجأة، في حالات كهذه، يهب مجيب مسرعاً إلى إطفاء التلفزيون أو تحويله إلى قناة أخرى متذمراً من سخافة اللقطة وعدم حاجة الفلم إليها! كانت الزوجة تعرف السبب الحقيقي لهذا السلوك الانفعالي المفاجئ. لم يكن السبب ميله إلى الحشمة وتجنيب الأبناء رؤية مشاهد كهذه، بل ذكرى ما حدث في ذلك اليوم اللعين.
لا بد لهذا الأمر من نهاية، هذا ما قررته الزوجة. لم تخبر زوجها عن ابتياعها اللوحة، وأخفتها في خزانة الملابس تماماً كما اعتادت ان تخفي تفاصيل الحادث وتقمعها في ذاكرتها. فكرت أنه من الأفضل لها أن تكون النهاية بإرادتها، فهي من تعرضت إلى الانتهاك الجسدي، وهي من أُجبرت على الشعور بالخزي والعار لذنب لم تقترفه. رأت في عثورها على هذه الصورة ((إشارة ملهمة)) بعثت بها السماء تنبؤها بضرورة حسم الأمر بالتصدي له ومواجهته بدلاً من التهرب منه والالتفاف حوله. في عصر ذلك اليوم الذي التقطا فيه الصورة في ممشى الكاليبتوس، كانا يريدان تجنب ((الأماكن التي يتوقعان أن يصادفا فيها مفرزة شرطة الآداب…[ثم] الوصول بسلام إلى المكان المنعزل على شاطئ دجلة دون أن يمزق أفراد المفرزة بنطال مجيب بالمقص ويلطخوا تنورتها وساقيها بالأصباغ، لكنهما وقعا في قبضة رجال الحراسة الأمنية)). هرب الخطيبان من قبضة ممارسة سلطوية ليقعا في قبضة ممارسة سلطوية أبشع وأعتى.
ثمة جانبان على قدر كبير من الأهمية ينبغي الحديث عنهما هنا هما العنوان والممارسات السلطوية. فـ ’الكاليبتوس‘ أو ’قلم طوز‘ باللهجة العراقية هي نوع من أنواع الأشجار الطويلة ذات الأخشاب الصلبة التي يتباين شكلها ما بين أشجار مستقيمة عالية توجد في الغابات وبين أشجار الصمغ الثلجي الملتوية التي تنتشر على قمم الجبال المكشوفة. الأهم من أنواع ’الكاليبتوس‘ وتوزيعها الجغرافي واستعمالاتها الطبية هو المعاني المقترنة بها، فالاسم مشتق من كلمة يونانية هي(يوكالبتوس) (eucalyptos) وتعني مغطاة تماماً إشارةً إلى شكل الثمرة أو الغشاء الحامي الذي يغطي أزهار الشجرة المتبرعمة. أراد الخطيبان الاحتماء من أعين الناس الفضولية وقضاء وقت ممتع في مكانٍ ظنا أنه يوفر الحماية لهما. ولكن بدلاً من الحماية والمتعة الموعودة، أدى وجودهما في ظل هذه الشجرة إلى انتهاكٍ مهينٍ لخصوصيتهما وتماسكهما النفسي. وزيادة على ذلك، تُعد الكاليبتوس، بين سكان استراليا الأصليين، شجرةً مقدسة لأنها تمثل الحد الفاصل بين العالم السفلي والأرض والسماء. وفي المستوى الروحي، تحوز الكاليبتوس أثرا مطهراً، إذ تختفي الطاقة السلبية في المكان الذي تُحرق فيه أوراق هذه الشجرة. وما جرى في الممشى جاء مناقضا لكل هذه المعاني. إذ انتُهِكت العلاقة المقدسة بين الخطيبين بأسلوبٍ عنيف ومُستفِز، وأضحى ما حدث في المقر الأمني حداً فاصلاً قلب حياتهما رأساً على عقب بين حياة رغيدة آمنة كانا يحلمان بها بعد زواجهما وحياة أضحت جحيماً ذاقا فيها صنوف الذل والهوان، فكان أن هيمنت الطاقة السلبية لا الايجابية على تفاصيل أيامهما.
وتستعمل كلمة ’الكاليبتوس‘ كذلك في لعبة الورق حيث تكون الكلمة الأخيرة التي ينطق بها الفائزون للتعبير عن نشوة الفوز. وهي بهذه المعنى تشير إلى الفرح الغامر الذي قد يؤدي إلى دخول اللاعبين الفائزين في نوبة من الضحك المتواصل. ومرة أخرى، نلحظ ارتباط ذكرى ’ ممشى الكاليبتوس‘ المؤلمة والصادمة لا بالفرح المأمول، بل بالوجوم والذهول والتحسر والعيش تحت وطأة توتر نفسي دائم.
أما الجانب الآخر الذي لا يقل أهمية عن الدلالات المقترنة بـ ’الكاليبتوس‘، فهو الإجراءات التعسفية التي كانت السلطات تمارسها بحق المواطنين من انتهاك لحقوقهم، ومصادرة لحرياتهم الشخصية، وإبقائهم في حالة من الخوف والتوجس الدائمين. وتدل القصة دلالة واضحةً إلى واحدة من هذه الممارسات التي شاعت في نهاية ستينيات القرن العشرين وبداية سبعينياته عندما غزت موضة التنورات القصيرة، او ما يُعرف بـ (الميني جوب والميكروجوب) العالم كله بوصفها أحدث تقليعة في عالم الأزياء. إلا أن تلك التقليعة لم ترق، على ما يبدو، لوزير الداخلية آنذاك، (صالح مهدي عماش)، فما كان منه إلى أن يصدر قراراً بصبغ سيقان كل فتاة ترتدي الميني جوب وتمزيق بناطيل الشباب المخالفة لرؤيته المتزمتة، وذلك بالتعاون مع أمانة العاصمة وشرطة الآداب التي اشرف عماش بنفسه على تأسيسها. وقد أدت هذه الإجراءات اللاإنسانية وغير المتحضرة إلى مشكلات ومواقف محرجة للكثير من النساء والعوائل العراقية، وأثارت جدلاً واسعاً بين الرأي العام دفع الشاعر محمد مهدي الجواهري إلى كتابة قصيدة احتجاجية عُرفت على نطاقٍ واسعٍ بـ (قصيدة الميني جوب) تذكر بعض أبياتها: ((أترى العفاف مقاس أردية…ظلمت إذاً عفافا/ومن لم يخف عقب الضمير…فمن سواه لن يخافا)).وفي هذه الحادثة وهذا التوجس إشارة ضمنية دالة إلى طبيعة العلاقة بين المواطن والسلطة المبنية على الخوف والفرض التعسفي لا على التفاهم واحترام القانون.
يذكر المختصون في العلاج النفسي أن الأسلوب الأمثل لمعالجة اضطراب ما بعد الصدمة هو مساعدة المصاب على تذكر أحداث الماضي الصادم ومواجهته. فعل التذكر هذا سوف يساعد المصاب على إعادة ترتيب أجزاء ذاكرته المنهكة المشتتة التي لطالما حاول قمعها والتهرب منها أولاً، وعلى ملء ’الفجوات‘ التي أحدثتها الحادثة الصادمة في ذاكرته. وبناءً على ذلك، تُسهم أفعال التذكر، والمواجهة ثم إعادة بناء أجزاء الذاكرة المتصدعة ثانيةً، من وجهة النظر النفسية، في علاج الجروح النفسية لضحايا اضطراب ما بعد الصدمة، وهو تحديداً ما عزمت الزوجة على القيام به، إذ ((قررت أن تشتري اللوحة وتعلقها في البيت، تكون أمام عينيها دائما، قررت أن تنتصر على ضعفها، وتواجه الأمر بشجاعة فتكون هذه اللوحة هي الإعلان المجسم الملموس لهذه المواجهة)). لم تعد تحتمل فكرة ((أن يأتي اليوم الذي تموت فيه وهي لا تزال تشعر بالعار الذي يجعلها تطرق غير قادرة على النظر في عيني مجيب، أو تبكي حين تتذكر وهي جالسة لوحدها)). وعلى الرغم من إدراكها أن مجيباً ما يزال يعاني الصدمة مثلها، إلاَ أن من حقهما هي ومجيب أن يستعيدا السعادة التي كانا يأملان أن يعيشاها ذلك اليوم وصارت الصورة رمزا لضياعها وفقدها. اللوحة التي كانت رمزاً للكرامة المهدرة ستتحول إلى رمزٍ لاستعادتها.
أصبح الزوجان وحيدين بعد زواج ابنتهما وانتقال ابنهما مع زوجته للسكن في بيت مستقل. أضحت الزوجة تخشى الفراغ الذي قطعاً ستجد فيه الذكريات المؤلمة مكاناً مناسباً تنمو فيه وتكبر وتزداد سطوةً بفعل الاستغراق فيها والتزام الصمت حيالها، وعزمت أن لا تدع ذلك يحدث فعلقت اللوحة في الحائط واستدارت لتواجه زوجها. لم يقل مجيب شيئاً، لم تصدر عنه نأمة، لم ينتفض، لم يوبخها، لم يستنكر، لم ينتزع اللوحة أو يمزقها. لم يفعل شيئاً. بقي متسمراً في مكانه، مذهولاً، جامد العينين متخشب الجسم من شدة الانفعال المكبوت. لم يشعر بها وهي تقترب منه، وتركع أمامه، ولم يسمعها وهي تستعطفه مبينةً أن أياً منهما لم يكن السبب في ما حدث، وأنها لم تفعل شيئاً سوى سماحها للضابط (( أن يرضي غروره قليلا))، لأنها لو لم تفعل ذلك ((لكانوا ضربوا مجيباً واقتادوهما إلى مركز الشرطة)). كانت ستكون فضيحة مدوية يتحدث بها الناس طويلا.
ولكن ما أن سمع مجيب زوجته تقول ذلك ((حتى حول نظره عنها جانبا دون أن يحرك رأسه، مغمضا عينيه)). تيقنت الزوجة، والأسى يفتك بها، أنه لا طائل مما تفعله لأن ما حدث في ذلك اليوم لم يعد هو المشكلة، بل تكمن المشكلة في الأثر الذي تركه غيابها هذه الدقائق المعدودات في نفس مجيب ووجدانه، وهوسه المرضي بتخيل ما دار أو ما فعله بها الضابط خلف باب الغرفة الموصدة. وبسبب عجز مجيب عن المواجهة وشعوره بالهلع منها، أضحى هذا الأثر ((يزداد وطأة وعمقا بمرور الزمن، وصارت الآلام المكبوتة نسيج هذا الندب، أي مس لها يطلق ألما لا يطاق)).
باتت الزوجة ليلتها عند ابنتها لتتيح لزوجها فرصة التفكير ملياً في ما حدث في الماضي وما يتوقع أن تسفر عنه هذه المواجهة والحديث الصريح. خيم الصمت ثقيلاً على مجيب. فكر في الخروج للترويح عن نفسه ولكن لم تكن به رغبة لشيء. كان حائراً يبحث عن مكان له في البيت لا يضيق به. تغلغلت الحادثة المؤلمة بتفاصيلها إلى مسامات حياته جميعاً فأمسكت بها بقبضة حديدية لا يستطيع فكاكاً منها. وجد نفسه فجأةً أمام اللوحة. نظر إليها والحزن يعتصر قلبه، وود لو تكون زوجته أمامه ليتحدث إليها بما يعتمل في داخله.
تذكر نظرتها المعاتبة حينما اقتادوها بعيداً كأنما تقول له ((هل ارتحت الآن؟ ألم أقل لك دعنا لا نذهب إلى المسبح بل إلى الزوراء؟)). فكر في فعل أشياء كثيرة ولكنه لم يكن واثقاً من فائدة ذلك. شعر بالهوان والمذلة ينسابان في صدره كسيل بطيء موجع لافح ولم يكن بقدرته فعل شيء، فاختار الابتعاد قليلاً عن رجليَ الأمن والجلوس على مسطبة خشبية في مواجهة نهر دجلة. غاب مجيب عن الوجود. لم يعد يهمه النهر ولا برد نسيمه الذي خبره في الماضي وهما يتبادلان الهمسات والقبل. كل ما يفكر فيه هو أن يراها تخرج قبل أن تفتك به الظنون وتقتاده إلى حيث لا يحب. أدرك مجيب، بعد كل هذه السنين التي قضاها مع زوجته أن إساءته إليها لا تقل عن إساءتهم، بل ربما تفوقها وجعاً وإيلاما. ربما اعتدوا عليها بشكل من الأشكال في هذه الدقائق، ولكن ماذا عنه هو الذي أمضى ثلاثين عاماً في اغتصابها والاعتداء عليها في كل مرةٍ كان السرير يضمهما معاً. كم كان أنانياً وحقيراً! طمع في الاستحواذ على جمالها والاحتفاظ بها على الرغم من انه يعرف جيداً أنه لن يتمكن من أن ينسى ما حصل. كان قاسياً ولئيما معها. شعر مجيب انه كان عليه أن يعاقب نفسه بطريقة يحفظ فيها لها كرامتها وله مروءته كرجل. هذه لحظة مكاشفة لطالما حاول التهرب منها. لم يكن ’يستحق‘ زوجته، هذا ما كان يشعر به في أعماق نفسه. لقد أدت الحادثة إلى فقد مجيب احترامه لنفسه كرجل وخسارته تقديره الايجابي لها والسبب هو فشله في حماية خطيبته من الاعتداء عليها وانتهاك كرامتها.
لم يعد قلب مجيب يحتمل. أنهكته الظنون والوساوس والارتياب. وكغيرها من القصص القصيرة، ليس ثمة نهاية محددة، إذ تنتهي (ممشى الكاليبتوس)، بسبب مبناها الدائري، مثلما بدأت بمشهد لا يعد سوى بالفرح والسعادة والبهجة ولكنه خادع في آن معاً لأنه يخفى أدنى سطحه الهادئ تيارات هائجة من الشعور بالذنب والقهر والعجز والاستلاب. إذ يمني مجيب نفسه، وهو لما يزال مغمض العينين، بعودة زوجته؛ زوجته كما كان يعرفها قبل تلك الحادثة الصادمة. يحلم بها وهي تقبل عليه بثيابها زاهية الألوان المفصلة على جسدها كالمحبس في المكان الذي تعود أن ينتظرها فيه في (ممشى الكاليبتوس). إنها أجمل من أن يمتلكها هو أو غيره. إنه يسمعها وهي تضحك تلك الضحكة الجذلى المحببة إلى نفسه، التي تزيده رغبةً في أن يصرخ معلناً ((إنها حبيبتي…خطيبتي)).
تُعدَ هذه القصة بمنزلة شهادة على عمق التأثيرات النفسية الذي تخلفه الأحداث الصادمة في حياة الضحايا. وخلافاً للتأثيرات الجسدية/العضوية التي يمكن، بسهولة نسبية، تشخصيها والتعامل معها طبياً، تبين (ممشى الكاليبتوس) بنحوٍ واضح وصريح صعوبة تشخيص التأثيرات النفسية، وبالتالي صعوبة التعامل معها وتحديد العلاجات المناسبة لها، خصوصاً تلك التأثيرات الناجمة عن الانتهاك النفسي وممارسة العنف الجسدي والتعسف العاطفي.
تبدو الأعراض الأربعة المميزة لاضطراب ما بعد الصدمة واضحة جلية في شخصية مجيب، إذ يظهر العارض الأول، ’الذكريات الاقتحامية‘، في الذكريات المؤلمة والضاغطة التي كانت تجتاحه بين حين وآخر فتجبره على عيش تفاصيل التجربة الصادمة من جديد؛ ويمكن تلخيص أهم انعكاسات العارض الثاني، ’التجنب‘، في محاولته ’تجنب‘ التفكير أو التحدث عن الحدث الصادم، وكذلك تجنب الأماكن أو الأشياء التي تجعله يستعيد ذكراه مثل الصورة في الألبوم أو لقطة الاعتداء الجسدي على الفتاة في الفلم. ترافق ذلك مع بروز مشاعر سلبية لديه منها الاحتقار الذاتي والشعور الدائم بالذنب والضعة، والسعي إلى طمس ذكرى الحادث في الذاكرة، الأمر الذي فاقم من صعوبة الحفاظ على حياة زوجية صحية ومثمرة، وتندرج هذه الجوانب جميعاً تحت العارض الثالث من اعراض اضطراب ما بعد الصدمة، أي ’تغيرات سلبية في التفكير والمزاج‘. أما ’التغيرات في ردود الفعل الانفعالية‘، وهو العارض الرابع، فظهرت في عددٍ من سلوكات مجيب المنفعلة من مثل الهياج ونوبات الغضب غير المبرر والقلوق والتوتر، وربما اضطراب النوم.
(الحلو لم يعد حلواً) في (ممشى الكاليبتوس)، بل تشوه وتصدع وانهار بفعل حدثٍ صادمٍ لم يكن وحيداً او فريداً من نوعه، إذ تكررت هذه الحوادث مرات ومرات، كما يدل على ذلك عدم تفاجؤ الضابط وسلوكه المسترخي والمتحكم في أثناء استجوابه الفتاة. في القصة إدانة غير مباشرة لسوء استغلال السلطة في حوادث تمس مساً مباشراً كرامة الإنسان وشرفه وسمعته. الخوف من الفضيحة والعار وتشويه السمعة وحساسية الموضوع برمته دفع مجيب وخطيبته إلى التزام الصمت ومحاولة إنكاره. لم يتعرض الخطيبان إلى عنف جسدي كبير، إلا أن العنف العاطفي والنفسي الذي تعرضا له فاق في تأثيراته وعمقه النوع الأول من العنف، فأدى ذلك إلى دخولهما في حلقة مفرغة من الشعور بالتوتر والقلق الناجم عن محاولتهما قمع الذكريات المقترنة بالحادثة. كان العنف النفسي والعاطفي أشد وطأة على الزوجة كونها، في الأعم الأغلب، الحلقة الأضعف التي تٌستغل في مواقف كهذه للتنكيل بالرجل وهدر كرامته. وبرغم شعورها العميق بالذل والإنهاك العاطفي الذي جثم على صدرها هذه السنوات الثلاثين، إلا انها تمكنت أخيراً من الوقوف بوجه الحادث الصادم ومعالجة تأثيراته. ويتعين على مجيب أن يحذو حذوها إذا أراد أن يعيد ترميم ما تصدع في حياته وينقذ البقية الباقية من أيامهما معاً. وختاماً، وبينما اختار القاص عدم تسمية الزوجة ربما في إشارة منه إلى تمثيل النساء الأكثرية بين ضحايا الانتهاكات الجسدية، كان اختياره اسم (مُجيب) موفقاً بدلالاته البالغة، فهو أسم الفاعل من الفعل (أجاب على أو عن)، وعليه، قد يتعلق المعنى هنا باستجابته السلبية والمنفعلة للحدث الصادم، وربما بمساءلة قدرته على الإجابة أو الاستجابة لدعوة زوجته إلى التصدي له ومواجهته.