كتب: مصطفى لغتيري
رغم تجربتها الحديثة نسبيا في مجال الشعر، فقد أصدرت الشاعرة المغربية ليلى التجري مجموعتين شعريتين، حاولت من خلالهما رسم مسارها الإبداعي، الذي يتميز عموما بحضور الذات، وتوظيف تفاصيل العالم، الذي يحيط بها من أجل تعميق الحفر في مكنونات النفس البشرية، بحثا عن مكامن الجمال فيها، ويتعلق الأمر بديوان اول يحمل عنوان “شظايا ذاكرة”، بينما اختارت الشاعرة أن تعنون ديوانها الثاني ب”سمفونية الزهور” .
والمطلع على قصائد الديوان الأول يلاحظ طغيان البوح الرومانسي على القصائد الشعرية، مما يجعلها كما جاء في تقديم الديوان خفيفة، رشيقة، شفافة، هشة كجناحي فراشة، أغواها الصباح بنسيمه العليل، فتهادت معه بدون تردد، وحلقت في الأجواء الناعمة، تداعب الهواء بخفقات غضة طرية، ثم ما تلبث أن تلامس بدلال وخنج بتلات أزهار برية، توشك أن تبتسم لأشعة الشمس المتسللة على استحياء، فيحفزها الدفء لتنشر عبيرها في الأنحاء.
إنه البوح التلقائي هو أقصى ما يهم الشاعرة في هذه المجموعة الشعرية. البوح بما وقر في القلب وصدقه الإحساس. إنها بمعنى آخر تمنح لنفسها فرصة، لتعبر عن دواخلها، وما يمور فيها من عواطف جياشة وأحاسيس قوية، تختزل كل المضامين التي هيمنت على النصوص كالحب والوفاء والإخلاص.
وكأن كل قصيدة في الديوان ترسم لوحة باطنية، تكشف لنا عن كمياء ذات أتعبها السهاد، وأحاط بها الحلم من كل جانب، فيضاعف بذلك التوق المتجدد لغد أفضل، غد يكون فيه العالم انعكاسا صادقا لما تؤثث به الشاعرة دواخلها، وكأن العبارات والكلمات هنا مرآة صقيلة، تعبر بصدق عن نفس لا ترى في العالم إلا جانبه الرومانسي الحالم، مكتفية بدفقاته المنعشة، تلك التي تحجب عن العين والقلب كل الشرور المتناسلة كالفطر في عالم، ليس بالضرورة وليد أحلامنا البريئة.
أما في ما يخص ديوانها الثاني “سمفونية الزهور ” فقد آثرت الشاعرة ليلى التجري خوض غمار تجربية إبداعية جديدة، تراهن من خلالها على الجدة والاختلاف، على مستوى الشكل ومضمون، حتى تضمن لنفسها موطئ قدم في المشهد الإبداعي، الذي يضج بالأسماء الشعرية الجديدة، والتي تكاد نصوصها تتشابه في الصوغ الشعري، ذلك الذي غالبا ما يتكئ في التجارب الأولى على البوح التلقائي كآلية لإنتاج القول الشعري.
ولعل التأمل الجيد في ما تحبل به الساحة الشعرية في المغرب من نصوص هو ما حفز الشاعرة ليلى التجري على ركوب سفينة التجريب، بما يعني ذلك الانخراط في تجربة جديدة ومغايرة، ويتعلق الأمر تحديدا بإنتاج ديوان شعري يستحق اسمه، إذ أنه ليس مجرد تجميع لقصائد متناثرة هنا وهناك، وإنما هو ديوان مخطط له مسبقا، يحتوي على قصائد ذات ثيمة موحدة في مجملها، متنوعة في تفاصيلها.
في هذا الديوان اختارت الشاعرة عن وعي وسبق إصرار أن تجعل من الزهور بشتى أنواعها موضوعات أثيرة لقصائدها، وقد تطلب منها ذلك-بلا شك- بذل جهد مضني للتعرف بعمق ودقة على أنواع الزهور، وأسمائها وخصائصها ومواطنها ورمزيتها في ثقافات عدة، قامت بكل ذلك بصبر وأناة حتى يتسنى لها صوغ قصائد مميزة، متكئة في سبيل تحقيق ذلك على الاشتغال والخلق بدل الاكتفاء بالبوح التلقائي والتعبير العفوي، ولعل ذلك ما سيضمن لها ولقارئها كثيرا من المتعة والفائدة.
في هذه القصائد سيلامس المتلقي بتلات الكاميليا، وسيصغي لهمس الغاردينيا، ويكون شاهدا على تمرد النرجس البري، ويداعب بلطف رقة السوسنة، ويستمتع بدفء شقائق النعمان وهلم جمال، تصنعه نضارة الزهور وسلاسة ورقة الكلمات.
من خلال التجوال في جنبات هذا الرياض العامر، سيشعر القارئ -لا محالة- بتنوع الأساليب، ودقة المعلومات، ولا يمكنه، نتيجة لذلك، إلا أن يلامس قلبه قبس من جمال، وتضمخه دفقة من عطر، يتضوع شذاها من عبق العبارة، وأريج الأزهار، التي تحتفي بها الشاعرة على امتداد صفحات الديوان.