كتب: حواس محمود
يعد موضوع الالتباس بين التاريخ والفن أو بين المؤرخ والفنان المبدع من الموضوعات المثيرة للجدل والنقاش وبخاصة بين النقاد والمبدعين.
إذ أن قسما من الدراما التلفزيونية العربية يتوجه نحو معالجة قضايا ذات طابع تاريخي بأن يتم انتقاء شخصيات محورية أو سيرا شعبية أو حقبا حافلة بالأحداث في التاريخ العربي القديم والحديث وفي هذا السياق لا بد لنا هنا من توضيح الفارق بين التاريخ والدراما ، فالتاريخ هو علم يحاول تسجيل ما حدث من وقائع الزمان ، ويحاول أن يكون دقيقا في ذلك بإتباعه الأساليب العلمية في الوصول إلى المعلومة الصحيحة شأنه في ذلك شأن أي علم ، في حين أن التاريخ بالنسبة للفنان هو مصدر إلهام أو مادة يمكن أن تكون خلفية لإبداعه الذي يمكن أن يتجاوز الأحداث التاريخية المحددة إلى رؤية فنية شاملة تتوافق مع كل زمان ومكان ، يبدأ الفنان من حيث ينتهي المؤرخ وفي الوقت الذي يهتم فيه المؤرخ بالحقيقة التاريخية فإن الفنان يهتم بالحقيقة الفنية ، وفي حين أن الحقيقة التاريخية لا تتعدى نطاق مدلولها الخبري ، ولذلك فهي حقيقة خاصة بزمان معين ومكان معين ، فإننا نجد أن الحقيقة الفنية ذات مدلول واسع وشامل ، فالفنان بإمكانه أن يبدل في المادة التاريخية بالحذف والإضافة والتعديل والتغيير في العديد من التفاصيل والجزئيات ، وذلك ليخرجها من مجرد كونها أحداثا يتفق عليها معظم المؤرخين وفقا للدليل العلمي إلى عمل فني يتجاوز الزمان والمكان
وأول مهمة لتعامل الدراما مع التاريخ هي بالنسبة إلى ” بليك” كما أورد أو كتافيوباث عنه، مهمة تحويل (أبناء الذاكرة) إلى ( أبناء الإلهام ) أي إخضاع المعلومة المحفوظة لشروط العمل الإبداعي ، يقول الشاعر والكاتب المسرحي السوري الراحل ممدوح عدوان : السيرة والتاريخ معنيان بالحياة الخارجية للشخصيات، بالأحداث والأشخاص والوقائع ، بينما الدراما تنشغل بالحياة الداخلية لهذه الشخصيات تتساءل الدراما : لماذا فعل فلان ذلك، وما هي ردود فعل الآخرين على فعله ؟ وكيف يمكن أن يؤثر ذلك على أفعاله التالية ؟ وهذا ما يميز بين عمل درامي وآخر : عمق الحياة الداخلية للشخصيات ، تقوم الدراما أساسا على ( الفعل ) و( الصراع) وهناك فهم سطحي لهاتين الكلمتين ساعد على تعميمه انتشار أفلام المغامرات والأعمال الدرامية المعاصرة الرديئة ، حيث المغامرة أو ( الأكشن) بديل عن الفعل ، وحيث المعركة بديل عن الصراع الدرامي
إن مجرد تفكير الكاتب المعاصر بتناول مادة من الماضي يعني أن لديه شيئا معاصرا يريد أن يتطرق إليه من خلال المادة التاريخية أو الشعبية ، وجود أكثر من عمل أدبي أو فني إلى مادة تراثية واحدة ، لا يمكن أن يفهم إلا من هذه الزاوية : وجود أكثر من موقف معاصر ، مما يستدعي أكثر من تناول ومن أكثر من زاوية ، وتعدد الأعمال الفنية التي ترتكز إلى شخصية دون كيشوت أو دون جوان أو فاوست أو أوديب وحتى الزير سالم ( يشار إلى أن ممدوح عدوان قد أنتج مع المخرج حاتم علي في بداية الألفية الثالثة مسلسلا ضخما بعنوان الزير سالم أثار جدلا واسعا في الوسطين الفني والثقافي ) أو عنترة أو صلاح الدين دليل على تعدد الأفكار المعاصرة، التي تطرح في هذه الأعمال ومن خلالها .
ويشير كاتب السيناريو المصري المعروف أسامة أنور عكاشة ( صاحب الأعمال الدرامية التي سلطت الأضواء على مراحل تاريخية مهمة في التاريخين المصري والعربي في معرض رده على اتهامات وجهت إلى أعماله بأنها تشوه التاريخ ، أو لا تقدم التاريخ كوقائع مجردة حدثت ) إلى أنه ليس مؤرخا وليس معنيا بكتابة التاريخ ، فالروائي برأيه يستخدم التاريخ كإطار للحكاية التي يكتبها كي يمنحها الواقعية ويجعلها قابلة للتصديق
إنَ المعالجة الفنية لأحداث وأساطير وسير التاريخ تعني – من ضمن ما تعنيه – تطوير هذه الأحداث والأساطير والسير لتتلاءم مع عصرنا الحالي وتكييف تلك الأحداث فنيا وتوظيفها لتخدم الحاضر أو ما يمكن تسميته بعمل ” الاستعارة التاريخية” إلى الحاضر الفني وهذا ما شخصه “امبرتو إيكو ” في قوله ” إن العمل على تطوير الفكر لا يعني رفض الماضي بالضرورة ، إننا نعيد فحصه ليس فقط بهدف معرفة ما قيل فعلا ، ولكن أيضا بهدف معرفة ما كان يمكن أن يقال ، أو على الأقل ما يمكننا قوله بناء على ما قيل سابقا “.
وختاما يمكن القول بأن قيمة العمل الدرامي الحقيقية لا تكمن فيما يقدمه لنا من حقائق تاريخية ، لأنَ هذا قد لا يلفت نظر القارئ أو المشاهد ، وإنما الذي يثير الاهتمام هو البناء الفني للعمل ورسم الشخصيات وما يريد أن يصل إليه المؤلف المبدع ، وكيف وصل إليه وهل هذا يؤدي إلى إثارة عواطف معينة تختلف عما تحدثه قراءة التاريخ من تأثير ؟ إذ الغرض هو ليس المعرفة الجزئية لأحداث التاريخ ، ولكن الغرض أكبر من ذلك بكثير، وهو الوصول إلى الحقيقة الشاملة أي الحقيقة الفنية ، ولذلك فالفن أفضل من التاريخ كما قال أرسطو ، باعتباره يعالج الكلي ، ولهذا السبب وضع الفن والفلسفة في مرتبة واحدة أعلى من مرتبة التاريخ .
المراجع:
1- ممدوح عدوان كتاب : ” الزير سالم .. البطل بين السيرة والتاريخ والبناء الدرامي” دار قد مس للنشر والتوزيع 2002 ط1 دمشق ص 21، ص 45
2- مصطفى محرم ” الدراما والتاريخ ” مجلة دبي الثقافية عدد 42 – نوفمبر2008 ص 122
3- حواس محمود ” مسلسل الزير سالم .. الدراما التاريخية ليست التاريخ نفسه” صحيفة تشرين 12 فبراير 2001 ص 9
4- حسن مدن “بين الدراما والتاريخ ” موقع الحوار المتمدن – عدد 2070 16 /10/ 2007