كتب: د. هاني إسماعيل أبو رطيبة
عندما يمتلك الفنان رؤية حقيقية، تدفعه لقراءة التاريخ والحياة، ويوجه فنه لخدمة القضايا الفكرية داخل وطنه، بين أفراد أمته، يخلد التاريخ فنه، بل يدفع المنصتين لفنه إلى التفتيش في مغزى ما يقدمه، ومن ثم نستطيع إنتاج التاريخ الوطني للأمة من جديد؛ لنعيد فهمه.
كانت لبليغ رؤية فنية عميقة، فبليغ حمدي ليس موسيقيًا عاديًا، يكتفي فقط بالتلحين، والتكسب من عبقريته الفنية، لكنه امتلك قضية حقيقية سعى في تحقيقها من خلال موسيقاها التي لا تزال باقية في أذهاننا.
في حقبة الستينيات وتحديًدا بعد الهزيمة المدوية لمصر عام 1967م بدأ مشروع بليغ الفني، الذي شاركته فيه المطربة المتميزة شادية، وهنا سأسقف أمام أغنية كثيرًا ما سمعتها لكنني لم أتوقف معها إلا منذ أيام قليلة، بعد أن لفت نظري لها صديقي د. أشرف عطية، وطلب مني أن نسمعها سويًا، ومن هنا توقفت أمام الجمل الموسيقية البديعة، الناطقة مع الكلمات التي تمثل صورة حية لتاريخ أمة، ولقهر امرأة غابت مع غياب التاريخ.
كم تمنيت أن أكون فاهمًا أو متخصصًا في الموسيقى؛ حتى أقوم بتشريح الجمل الموسيقية البليغة لموسيقى بليغ حمدى، لكنني سأجتهد في ربطها بالكلمات مع صوت شادية
تبدأ المقدمة الموسيقية بجمل موسيقية تستحضر التاريخ، بجمل قريبة من تلك النغمات المعروفة بأنها عربية قديمة، تعود إلى العصر العباسي، وهذا ما تشكل في ذاكرتنا من خلال الأفلام القديمة، وتقودنا هذه المقدمة لحالة تفاعلية مع النغمة العربية؛ حتى فجأة يسقط بليغ حمدي الحزن في وجداننا عبر جملة حزينة يتبعها كورال ينطق ” آاا آاااااه ” تعقبه افتتاحية كلمات الأغنية
” الحنه ياحنه ياحنه يا قطر الندا
يا شباك حبيبي ياعيني جلاب الهوا ”
بصوت الكورال الذي يرددها، وكأنه يمهد لاستدعاء التاريخ بصوت شادية وكلمات مرسي جميل عزيز، التي تبدأ في الغناء بتكرار المقدمة بصوتها، حتى تصل إلى كلمة فارقة في مسار الأغنية، ” لا لا لا ” تقوله شادية مستخدمة طبقات صوتية متنوعة، بين الحدة، واللين، والتفخيم، ومع كل هذا توظف شادية الدلال الأنثوي الحزين، فمع ترديدها ” لا لا لا ” لا تستطيع أن تميز بين ومضات الفرح، والانطلاقة، والحزن وانكسار النفس، والرفض لواقع مرير سطره التاريخ لفتاة بريئة، سيقت قربان علاقة سياسية، أو رشوة سياسية بين أب باع ابنته لخليفة يجلس في بغداد، فقط ينتظر الفريسة كي تضم إلى بقية فرائسه من النساء.
تعود ” لا لا لا ” إلى استدعاء التاريخ وإعادة سطره بصوت شادية وكلمات عزيز وموسيقى بليغ، وكأننا نقف أمام الفتاة الصغيرة التي – ربما – كانت ترفض تلك الزيجة، تلك الغربة، تلك النقلة التي ستقودها إلى الموت، حيث الغياب عن الأهل، عن الأحبة، لذلك تتردد جملة ” لا لا لا الصبر ده حاجة محاله ” فالصبر على الغياب أمر غاية في الصعوبة، خاصة عندما نرتحل إلى الغربة، والاغتراب في قصر بعيد، كله، غموض وصراعات.
بعد هذه المقدمة الحزينة أو الجنائزية التي تؤسس لرحلة الفتاة من مصر إلى بغداد، فهي لحظات العرس الحزين، فالكل يحسد الفتاة على هذه الزيجة العظيمة، لكنها لا ترى أي مجال لهذا الحسد، فهي بمثابة نقلة موت.
تأتي الموسيقى العاطفية السعيدة، التي تنقلنا إلى حالة استدعاء تاريخي مرة أخرى، فنتخيل حياة الفتاة الطولونية ” قطر الندى ” وهي تدلل في حجر أبيها، والمعجبون بها من شباب مصر يسعون للزواج منها، ويقع قلبها على أحدهم فتحدثه بصوت ” شادية ” وكلمات عزيز ” وموسيقى بليغ ”
يا أروح له يا أقوله تعالا
لو يطلب مني العين
راح أقوله خد الاتنين
الفتاة الخمارويّة يداعب قلبها ذلك الحبيب المجهول أو المعلوم لها قبيل كارثة الزواج، تناجيه كي يأتي يخطفها، كما خطف قلبها، تناديه أن يلحق قطارها قبل أن يرتحل إلى المجهول، بل إنها تقدم له قربان حياتها، ” لو يطلب مني العين، راح أقوله خد الاتنين ” إنها لن تمنح عينيها إلا لحبيبها، فقط، فهو الذي يستحق ذلك، لكن هذه العبارة العاطفية، تقع بين جملتين تؤسسان للواقع المرير لحياة الفتاة فبين عبارة لا لا لا الصبر حاجة محالة، وتحني الليالي فرحتنا سوا “يقبع الأمل الضائع، الذي لن يتحقق فلن يتوفر الصبر، ولن تسعدها ليلة الحنة، لأن سواد الليل هو الذي سيحني قلب الفتاة.
فسواد الليل كان صديقها طيلة رحلتها من القطائع إلى بغداد عاصمة الدولة العباسية.
ترفض كلمات مرسي جميل عزيز اليأس، بل تؤكد أنها ستظل تقاوم من أجل الحياة، وهنا تحدث حالة استدعاء جديدة للتاريخ، لكن ليس التاريخ القديم هذه المرأة، إنما للتاريخ المعاصر، فالحديث يعود إلى مصر التي سقطت في فخ الهزيمة كما سقطت قطر الندى في قطر التغييب، فكما بيعت قطر الندى من أجل توطيد سلطان أبيها، بيعت مصر من أجل طموحات الزعامة الواهية لضباط يوليو، وكما فشلت قطر الندى في حماية دولة جدها، فشلت محاولات الزعامة الزائفة، وانتهى الحال إلى هزيمتين، أفلست دولة بني طولون بعد الزفاف الأسطوري الحديث، الذي كان جنائزيًا باقتدار، وهزمت مصر في عام 1967م بعد محاولات زائفة لأسطرة واقع مرير، وخلق زعامة لم تفهم حجم مصر وقدرها.
وأفرش له ضفايري ياعيني على شط الهوا
يا قمرنا ياهاجرنا الحب يا جارنا امرنا
تخاصمنا ونصالحك ونكمل سوا مشوارنا
وان بعدت بينا بلاد نخلق للحب معاد
في تلك العبارات تؤكد قطر الندى إنها تريد جوار وطنها، تبقى فيه، في مجده، في حضن ذلك الحبيب الحاضر الغائب، فالحبيب لا يشترط أن يكون رجلًا تحب وتهواه، بل في حقيقته هو الوطن الذي خلق بداخلها تلك الصورة العاطفية الإنسانية الجميلة.
أستنى وأستنى لما تفوت على بستاننا
وتصبح و تمسي تطلب مفتاح الجنة
تظل موسيقى بليغ حمدي في صناعة الجو المثالي للحالة الحزينة لواقع مرير، لفتاة مصرية سيقت للذبح فوق ساحات المجد الكاذبة؛ فانتهت حياتها بعد أشهر قليلة من زفافها، فمات العروس قهرًا، أو مسمومة، أو بكليهما معًا.
المبدع في نهاية الاغنية وبخلاف أغاني بليغ التي تنتهي بجمل موسيقية عقب انتهاء الغناء، انتهت سريعًا، ولم يؤسس لنهايته موسيقيًا بجملة أو جملتين، بل أنهى الأغنية بومضة موسيقية خاطفة، وكأنه أبى أن يطيل أمد الحزن، والوجع، ومرارتهما، ليقول إننا نملك السعادة، وسنتخلص من العرس الجنائزي سريعًا، بفرحة تطول.