بقلم: أمين الساطي
أهز رأسي باستمرار لكي أعطيه الانطباع، بأني أتابع حديثه باهتمام، وهو يشرح لي بأن الفيزياء الحديثة تعتمد على ميكانيك الكم، ومبدؤها أن الجسيمات الصغيرة دون الذرية التي يتكون منها الكون، لا تختار الحالة التي هي فيها.
إن وعينا المتمثل في إدراكنا لذاتنا ولمحيطنا، له دور رئيسي بالتأثير في هذه الجسيمات الصغيرة، لأنه يفرض عليها أن تأخذ مسارات معينة، ما يجعل خيالاتنا تتحول إلى شيء حقيقي بالفعل.
عندما انتهى من حديثه، شعرت في أعماقي، بأن هذا الكلام خطير جداً، على الرغم من أنني لم أستطع أن أستوعبه، لكن لما كان ابن عمتي، قد تخرَّج في كلية الفيزياء بالجامعة اللبنانية في بيروت، وأنا رسبت مرتين في شهادة البكالوريا، لم أجد بداً من التظاهر، بأني موافق على كلامه.
لما تمددت على فراشي في تلك الليلة، بدأت أستعيد حديثه، والذي ذكرني بفيلم كنت قد شاهدته منذ فترة بالسينما، وفيه يعيش أبطال الفيلم الحياة وفقاً لتخيلاتهم. إن كل ما نشاهده حولنا هو مجرد حلم نراه في أثناء النوم، ونحن من خلال تفكيرنا قد نتحكم في تغيير الأحداث التي تجري في هذا الفيلم.
الفكرة تبدو جنونية، ولو أني قد عرضتها على أشخاص عاديين لنصحوني بزيارة طبيب نفساني، لكنها أغرتني بالوقت نفسه لأقوم بتجربتها، فأنا شخص فاشل وموظف صغير في شركة لاستيراد الأدوية، وكنت منذ صغري مهووساً بأن أتزوج من بنت جيراننا الجميلة ناديا، التي تقطن في منطقة الأشرفية التي أعيش فيها في بيروت، لقد انتقلت من حيِّنا منذ أكثر من أربع سنوات، ولم أعد أراها أو أسمع عنها منذ ذلك الحين، أدركت أن تطبيق هذه النظرية هي فرصتي الأخيرة للحصول على ناديا.
وضعت صورة قديمة لها أمامي، وبدأت أركز عيني على عينيها، فالصورة لها وضع خاص، لأنها تجمد الزمن في لحظة التقاطها، إضافة إلى أن استرسالي بالنظر في عينيها أعطاني شعوراً بالنشوة، وفقدت الإحساس بالوقت وعدم قدرتي على تمييز الأشياء المحيطة بي، إنها ستارة بيضاء تحيط بي، وتمنعني من الاتصال بالعالم الخارجي، وبدأت أتخيل الأحداث.
أوقفت سيارتي الفيراري الحمراء أمام البناية التي تقطنها، ونزلت منها، وصعدت درج البناء إلى الطابق الثاني، حيث تعيش مع عائلتها، قرعت الجرس، ففتحت ناديا الباب، فأعطيتها باقة زهور الأوركيد، والتي أعرف أنها تعشقها، أطلت النظر إلى وجهها الذي يثير جنوني، وتحديداً أنفها الصغير المرفوع إلى الأعلى، الذي يمنحها لمسة من الجاذبية الجنسية التي لا أستطيع مقاومتها، والذي يتناسب مع ملامح وجهها الناعم وفمها الصغير وشفتيها الدقيقتين. على الرغم من قصر قامَتِها، فلقد كنت أتصور بأنه زاد من روعتها، وجعلها أكثر أنوثة وإغواء، فانحنيت على وجهها وطبعت على شفتيها قبلة قصيرة، فهي خطيبتي، ومن المتوقع أن نقيم حفل زفافنا في فندق “الهوليدي إن” في مطلع الشهر القادم.
جلست معها في البيت لأكثر من ساعتين ونحن نتحدث في الأمور المتعلقة بفرش البيت، وعن الحجوزات والترتيبات التي قمت بها من أجل سفرنا إلى جزر السيشل لتمضية شهر العسل، وشعرت أنها مرت كدقيقة، ثم غادرت منزلها على أساس أنني سأحضر غداً لاصطحابها إلى السوق من أجل إنهاء شراء أثاث البيت.. وقبل مغادرتي أعطتني صورة صغيرة ملونة لمنتجع في جزيرة كورين على شاطئ البحر، وقالت لي إنه واحد من أرقى الفنادق في السيشل وهو خيار مثالي لقضاء شهر العسل، وكانت قد شاهدت صورته في إحدى المجلات، فقامت باقتطاعه من صفحتها، واحتفظت به لتعطيني إياه، فوضعته في محفظتي، لكي أتابع موضوع الحجوزات.
في اليوم التالي، بعد أن قمت بإنهاء جميع الحجوزات للسفر إلى جزر السيشل لقضاء شهر العسل، ذهبت فرحاً للقاء ناديا، لكنها لما فتحت الباب، دهشتُ من الطريقة التي استقبلتني بها، كان وجههاً فاتراً، وضاعت تلك الابتسامة المشرقة من وجهها البريء، فتجاهلت ذلك ورددته إلى أنها ربما جاءت متعبة من عملها في محطة التلفزيون. وبعد أن جلسنا لعدة دقائق، خيَّم علينا صمت قاتل، خرجت من الغرفة، وعادت بعد قليل وهي تحمل في يدها كيساً قماشياً، لما فتحته فوجئت بمنظر العلبة المخملية الزرقاء التي تحتوي على خاتم السوليتير، وبجانبها ساعة الروليكس الذهبية اللتين كنت قد أهديتهما لها بمناسبة الخطبة، فأدركت بلحظتها أنها تعيد إليَّ الهدايا إيذاناً بانتهاء فكرة زواجنا.
حاولت أن تشرح لي بأنها فكّرت كثيراً بالموضوع، قبل أن تتخذ قرارها النهائي بإنهاء خطبتنا، إذ إنه في الواقع لا توجد قواسم كثيرة مشتركة بيننا، وبكل وقاحة تابعت حديثها، بأنها قررت الزواج من صديقها الذي يعمل معها مقدماً للبرامج في التلفزيون، نظرتُ إلى وجه أمها الجالسة إلى جانبها، فكان كالحجر خالياً من أي تعابير للخجل، من جراء تصرف ابنتها.
أحسستُ بالقرف من حديثها، وانتابني حقدٌ عنيف، وشعرت برغبة في الغثيان، لكني تمالكت نفسي، وغادرت بيتها على عجل، قبل أن أفقد السيطرة على أعصابي، ورافقتني أمها حتى باب البيت، من دون أن تنبس بأي كلمة، لقد راودتني فكرة قوية استحوذت على عقلي، بأن أفتح باب البلكونة وألقي ناديا من الطابق الثالث، لكني تابعت طريقي نازلاً درج البناء، وأنا أكتم نوبة الغضب العارمة، الناتجة عن شعوري بالإحباط والفشل.
عندما خرجت من باب العمارة، شاهدت شخصين مجتمعين حول جسم ممدد على إسفلت الشارع، فاقتربت منهما بدافع الفضول، لأكتشف أن الجثة هي ناديا نفسها، فابتعدت بسرعة عن المكان، حتى لا أجلب انتباه الشرطة إلى شخصي.