البصرة: نخلة ٌ ظلالها ملونة ٌ في اليابان
عبد الكريم طعمة وروايته ُ( السيدة آكي)
مقداد مسعود
يمكن تنضيد هذه الرواية ضمن الروايات التي تناولت العلاقة بين الشرق والغرب : (عصفور من الشرق) توفيق الحكيم. (موسم الهجرة إلى الشمال) الطيب صالح.(الحي اللاتيني) سهيل ادريس .(الأشجار واغتيال مرزوق) عبد الرحمن منيف. لكن (حكاية السيدة آكي) لعبد الكريم طعمة تختلف عن هذه الروايات بنوعية العلاقة بين الرجل العراقي البصري والمرأة اليابانية
(*)
لمست قراءتي أن الرجل العراقي القادم من مدينة البصرة يستحيل أن نحشرهُ أخلاقيا مع أبطال الروايات الآنفة الذكر. فقد تميز ابن البصرة بسلوكية طهرانية نابعة من طيبة البصرة وعمقها الحضاري العريق. والبينة على ذلك شهادة الفتاة اليابانية عنه وها أنا أثبّت أقوالها:
(علّمني الكثير كان يوصيني : لا تفعلي شيئا بتسرع، وعليك أن تفكري بالآخرين، وتراعيهم في أفعالك وأقوالك، كان يرشدني بقوله : كوني قوية وعيشي قوية، وأملكي الإرادة. كوني نزيهة وأمينة مع نفسك، ومع الآخرين. ابذلي أقصى جهودك في تنفيذ ما تتكلفين به من مهّمات ../ 60)
نقلا عن آكي يخبرنا السارد المشارك وجيز قولها عن العراقي ابن البصرة(كان لها معلماً وأستاذاً حكيما، وقد بنى شخصيتها، وعلّمها كيف تحيا، وكيف تعمل، أن فضله عليها كما تقول عظيم/ 128)
هنا نصغي لشهادة متأخرة يدلي بها العراقي البصري ع. الغريب
في 2022 حين يحل ضيفا عليه السفير العراقي في اليابان عبد الكريم طعمة ويسأله عن كيف التقى عائلة الفتاة آيكي. سيكون جواب ع. الغريب ملتبسا على سعادة السفير( إنهم أعجبوا بي جدا/ 178 ) هنا يقاطعه السفير (كيف أُعجبوا بك وأنت لم تلتق بهم؟) سنعرف من جواب ع. الغريب أن عبق كلامه الحريص مع ابنتهم آكي قد تأرج نحوهما وصار شهيقا طيبا وحتى تنال أسرتها حصتها من عبق الغريب البصري (طلبوا لقائي) بشهادة ع الغريب وهكذا نشأت علاقة قوية بين ابن البصرة وعائلة يابانية في أقاصي أرض الله الكبيرة. هكذا علاقة سيتسع الفضاء لها من حيز العائلة اليابانية إلى المديات الأوسع، المجتمع الياباني ثم الأوربي، كما ورد ذلك في الرواية.
(*)
هذا الرجل العفيف هو كل المرايا الصافية المبثوثة من بصرة الطيبة والحضارة والسمو الأخلاقي. إلى أقاصي أرض الله الكبيرة. وستواصل البصرة بثها لهذا التميّز في 2022 أن (جامعة البصرة قد فازت على جامعات اليابان والصين وكوريا وسنغافورة وإيران ودول الخليج والسعودية والهند وكل الأمم العظيمة. فازوا بمشروعين في حقلين من حقول التنافس بين الجامعات الآسيوية فوُجهت لهم دعوة للمشاركة في حفل إعلان النتائج وتسلّم الجوائز/ 77)
(*)
الشاب العراقي البصري : لم يغادر مدينته ويقصد الآخر
ويتفوق في جامعات لندن ثم يرتكب جرائم قتل النساء ليقتل الغرب بالاستعارة كما فعل مصطفى سعيد في(موسم الهجرة إلى الشمال) الروائي الطيب صالح. ولم يفعل فعلة بطل رواية (الحي اللاتيني) مع الشابة الفرنسية جانين .هذه الرواية التي صدرت في 1954 كان لها دويا وقال عنها نجيب محفوظ أن رواية الحي اللاتيني مَعلم من معالم الرواية العربية الحديثة وتعتبر أنموذجا للرواية العربية التي تبأر العلاقة بين الشرق والغرب من خلال سرير يجمع الرجل اللبناني والمرأة الباريسية. وبطل الحي اللاتيني يرى باريس امرأة ً وقد جاء لمراودتها من خلال نساء أمثال ليليان .. مارغريت.. جانين مونترو. وقد غلبته ليليان وهزمته مارغريت. لكن الشعور بالدونية لديه جعله يستذأب مع جانين ميترو لسبب دونيته في ذاته هو، فهي امرأة فرنسية بمقومات روحية عميقة فقد دعت لزيارة متحف رودان وهنا سيشعر أن جانين بثت إشراقات الروح في كيانه
لكنه لا يستحق هذه الاشراقات فقد غمرها بدونيته ونذالته في نهاية الأمر. خلافا لذلك كانت شهامة ابن البصرة الشاب ع الغريب حين لا مست روحه النقية شفافية روح آكي فحصنّها بوصاياها وتعاليمه النورانية
(*)
مصطفى سعيد في (موسم الهجرة إلى الشمال) رواية الطيب صالح
المشترك بين ع. الغريب ومصطفى سعيد : قدراتهما العقلية. ع. الغريب طلب أن يمنحونه ثلاثة شهور ليتعلم اللغة اليابانية قبل الذهاب إلى اليابان. ومصطفى سعيد كانت له قدرات هائلة للتعلم السريع. وكان أول سوداني يرسل في بعثة إلى الخارج. وكذلك ابن البصرة فقد تم أرساله وحده في 1969 وهو في منتصف العقد الثاني من عمره. ما عدا ذلك فهما مختلفان. مصطفى سعيد يعشق الحضارة الغربية ويكرهها فالاستعمار البريطاني كان قاسيا مع السودانيين. في حين كانت بعثة ابن البصرة إلى دولة خارج المنظومة الاستعمارية .أن مصطفى سعيد تماما مثلما تصفه السيدة روبنسن في الرواية : (أنت إنسان خال تماما من المرح. ألا تستطيع أن تنسى عقلك أبدا/ 149) ويقول عنه البرفسور ماكسويل ملمحا إلى عسر هضمه الحضاري( مصطفى سعيد إنسان نبيل، أستوعب عقله حضارة الغرب، لكنها حطمت قلبه).. خلافا لذلك كان ابن البصرة يتعامل بروح سوية مع الحضارة اليابانية وكذلك مع أسرة السيدة آكي التي رأته مثالا أعلى في القيم الاخلاقية والحضارية لذا خلدت اسمه هندسيا من خلال (الفيلا العراقية) التي بناها والد آكي تخليداً لذكرى ع.الغريب وأطلق عليها هذا الاسم غير المألوف بل غير المطروق سابقا في هذه المدينة الصغيرة وفي اليابان كلها تخليدا لذكرى شخص غريب تعرّفوا عليه لمدة لا تزيد عن سنة! فأي شخص هذا الغريب؟ / 41)
(*)
ابن البصرة لم يردها خليلة ً بل حليلة فدخل البيت من بابه وطلبها زوجة ً لكن والدها رفض لأسباب لغوية قائلا (ابنتي لا تصلح لك أن أبنتي صغيرة ولا تتكلم اية لغة سوى اليابانية/ 44) اللغة سبب ذرائعي . لكن السبب الحقيقي هو ما يضيفه الأب مخاطباً ع. الغريب (ستأخذها معك وعندها ستكون آكّي حملا ثقيلا عليك. بسبب غربتها وصغر سنها، وستشغلك عن عملك. وربما تضطر إلى ترك عملك لأنك وقعت تعهدا أن لا تتزوج أجنبية طيلة مدة بعثتك في اليابان. لذلك ستطردك الحكومة العراقية إذا تزوجت من آكيّ فلا أوافق لأنه ليس زواجاً موفقاً) ثم يعود الأب للمانع اللغوي :(لأنك ستمضي حياتك تعتني بها فقط فهي غريبة وصغيرة ولا تتكلم العربية أو الأنكليزية)
(*)
وحين تُسال آكي بعد أثنين وأربعين عاماً(هل ندمت على عدم الزواج من ع. الغريب؟ / 62) سيكون جوابها صادما بالنسبة لي كقارئ للرواية حين تجيب (كلا، أعتقد لأنني لم أكن أفهم العلاقة معه كعلاقة حب وعشق، بل رأيته كصديق، ومن جانب آخر أن زوجي الذي تزوجته رجلٌ طيب ٌ وجيد ٌ معي/ 62) جوابها يفنده ُالكلام التالي من ع الغريب( وصلتُ اليابان تعرّفت على آكي التي كانت بحدود 17 سنة وترتبط بعلاقة مع رجل بهذا العمر الصغير! لكن بعد السؤال والمعيشة مع اليابانيين اكتشفتُ أن ذلك العمر طبيعي بل أنه بعمر16 كان بإمكان الزواج في ذلك الوقت../ 177)
(*)
ع . الغريب عبقري ومحظوظ أيضا: فهو ذهب إلى بريطانيا في بعثة ٍ على حساب الحكومة البريطانية لدراسة وتعلّم الفنون البحرية وقيادة السفن ولمدة ثماني سنوات. وتخرج ضابط درجة ثانية أي ما يعادل ،،ملازم ثانٍ،، وسيعمل مباشرة في الموانئ وتم تسليمه حفارة في منطقة الفاو، والذي اقترح على الموانئ العراقية إرسال ع. الغريب إلى اليابان هو المهندس الياباني المسؤول عن تشغيل المسفن الياباني فقد رأى بابن البصرة النشاط والمقدرة في إدارة العمل في هذا الشاب الصغير. وسوف تتعزز مكان ابن البصرة مع عائلة الفتاة اليابانية آكي
(*)
شفاهيات عديدة ومطبوع واحد
في الجلسة التي أقامها قصر الثقافة والفنون لسعادة السفير العراقي في اليابان .وكانت الجلسة من التقديم الأستاذ الصحفي ماجد محمود البريكان. يوم السبت/ 2/ 9/ 2023 قرأ الجمهور وجيز الرواية من خلال الإصغاء للوجيز الروائي الذي قاله مؤلف الرواية عبد الكريم طعمة/ سعادة سفير العراق في اليابان. وكنت من الحاضرين. والمساهمين بمداخلة وجيزة وحين قرأتُ الرواية عرفت أن السفير استعمل هذه الطريقة الشفاهية في أكثر من محفل دبلوماسي. وبهذه الطريقة الأشهارية الجميلة تضوع أريج البصرة في كل مكان من المعمورة.
يخبرنا المؤلف عبد الكريم طعمة (ثم قصصتُ عليهم وباللغة الأنكليزية حاولتُ الاختصار. فكانت لمدة عشرين دقيقة والسادة السفراء والموظفون اليابانيون كانوا مشدوديّ الانتباه نحوي، ويتفاعلون مع ما أقصّه إلى أن انفجروا مبتهجين هاتفين بعد أن أخبرتهم أننا وجدنا السيد ع. الغريب / 115)
والعثور على الرجل البصري تم من خلال شخصين بصريين
الأستاذ الفاضل الدكتور ضرغام الأجودي نائب محافظ البصرة
الصحفي المخضرم الأستاذ سعدي علي السند
وبمؤثرية شفاهية الحكي يخبرنا السفير العراقي قائلا
(بعد قليل جاءني سفير الاتحاد الأوربي مقترحاً أن تتم كتابة القصة فهذه القصة فيها الكثير من المعاني الإنسانية بل، وحتى الحقائق التاريخية فيما ذكرته فيها عن معاناة البصرة على مدى خمسين سنة أمرٌ مهم جدا يستحق التسجيل فنادراً ما سمعنا بهذا/ 116).. نحن هنا قبل أن يطبع المخطوط ويتحول كتاباً وقد توفرت بفعل الشفاهية: عناصر تشويق القرّاء وهذا يعني أن القارئ يريد تكرار معايشة الحكاية بتنضيدها كتابا ليعاود القراءات وليست القراءة الواحدة . لا يمكن للمطبوع أن يصدر إلاّ بالموافقة الأخلاقية من قبل ع. الغريب والسيدة آكي وزوجها وقد تمت موافقة الطرفين/ ص127
(*)
الفتى البصري يبقى فتيا رغم تجاوز الثمانين يرفض النهايات السينمائية التي يتشوّق لها الجمهور. يختم الحب بميسم العطر ويقفله. وجماليات السوار الثمين الذي يهديه لمن ما تزال نبض قلبه. ويجمّد الزمن على ذلك الماضي الملوّن بزمرد الطهر بينه وبين آكي
————————————————————
عبد الكريم طعمة/ حكاية السيدة آكي/ منشورات الظل/ ط1/ 2023