خاص: قراءة- سماح عادل
يعتبر الاكتئاب، وفق منظمة الصحة العالمية، من العلل الشائعة على مستوى العالم برمته، حيث يؤثر على أكثر من 300 مليون شخص. ويختلف الاكتئاب عن التقلبات المزاجية العادية والانفعالات العاطفية التي لا تدوم طويلاً، كاستجابة لتحديات الحياة اليومية. وقد يصبح الاكتئاب حالة صحية خطيرة، لاسيما عندما يكون طويل الأمد وبكثافة معتدلة أو شديدة. ويمكن للاكتئاب أن يسبب معاناة كبيرة للشخص المصاب به، وتردي أدائه في العمل أو في المدرسة أو في الأسرة. ويمكنه أن يفضي في أسوأ حالاته إلى الانتحار. وفي كل عام يموت ما يقارب 800 ألف شخص من جراء الانتحار الذي يمثل ثاني سبب رئيسي للوفيات بين الفئة العمرية 15-29 عاماً.
وعلى الرغم من وجود طرق علاج معروفة وفعالة لعلاج الاكتئاب، نجد أن أقل من نصف عدد المتضررين في العالم (أقل من 10% في كثير من البلدان) يتلقون مثل هذا العلاج. وتشمل العوائق التي تقف حائلاً أمام الحصول على الرعاية الفعالة نقص الموارد، وعدم كفاية مقدمي الرعاية الصحية المدربين، والوصمة الاجتماعية المرتبطة بالاضطرابات النفسية. وهناك عائق آخر يقف أمام تقديم الرعاية الفعالة يتمثل في عدم دقة التقدير. ففي البلدان من جميع مستويات الدخل، لا يتم في كثير من الأحيان تشخيص حالة من يعانون من الاكتئاب بشكل صحيح، ويتم تشخيص حالة الآخرين ممن لا يعانون من هذا الاضطراب في كثير من الأحيان بشكل خاطئ مع وصف مضادات الاكتئاب لهم.
إن عبء الاكتئاب وحالات الصحة النفسية الأخرى آخذ في الارتفاع عالمياً. ودعا قرار جمعية الصحة العالمية الذي تم تمريره في مايو 2013 إلى اتخاذ استجابة شاملة ومنسقة بشأن الاضطرابات النفسية على الصعيد القطري.
أنواع الاكتئاب..
بناء على عدد الأعراض وشدتها، يتم تصنيف حالات الاكتئاب باعتبارها طفيفة، أو متوسطة، أو حادة. وثمة فرق أساسي أيضاً بين الاكتئاب لدى الأشخاص الذين سبق لهم أن عانوا من نوبات الهوس أو لم يسبق لهم أن عانوا منها. ويمكن أن يكون نوعا الاكتئاب من الأنواع المزمنة (أي على مدى فترة طويلة من الزمن) مع حدوث انتكاسات، ولاسيما في حالة ترك الاكتئاب دون علاج.
اضطراب الاكتئاب المتكرر: ينطوي هذا الاضطراب على نوبات اكتئاب متكررة. وخلال هذه النوبات، يعاني الشخص من اعتلال الحالة المزاجية، وعدم الاهتمام والتمتع بالأشياء، وتدني الطاقة مما يؤدي إلى قلة النشاط لمدة أسبوعين على الأقل. ويعاني كثير ممن يمرون بحالات اكتئاب كذلك من أعراض القلق، واضطراب النوم والشهية، وقد يكون لديهم شعور بالذنب أو قلة تقدير الذات وضعف التركيز، بل وحتى أعراض بدون تفسير طبي.
وبناء على عدد الأعراض وشدتها، يمكن تصنيف نوبة الاكتئاب بأنها طفيفة، أو متوسطة، أو حادة. وقد يجد من يعاني من نوبات اكتئاب طفيفة بعض الصعوبة في الاستمرار في العمل العادي والأنشطة الاجتماعية، ولكنه قد لا يتوقف عن العمل تماما. وخلال نوبة الاكتئاب الحادة، فمن غير المرجح تماماً أن يتمكن من يعانون الاكتئاب من مواصلة الأنشطة الاجتماعية، أو العمل، أو الأنشطة المنزلية، إلا بقدر محدود للغاية.
الاضطراب الوجداني الثنائي القُطب: وعادةً ما يتألف هذا النوع من الاكتئاب من نوبات هوس واكتئاب تفصلها فترات من المزاج الطبيعي. وتنطوي نوبات الهوس على الروح المعنوية العالية أو المزاج العصبي، والنشاط الزائد، والتحدث بسرعة، وتضخم تقدير الذات، وقلة الحاجة إلى النوم.
أحداث حياتية..
ينجم الاكتئاب عن نوع من التفاعل المعقد بين العوامل الاجتماعية والنفسية والبيولوجية. ويكون من عانوا من أحداث حياتية صعبة (البطالة، الفجيعة، الصدمات النفسية) أكثر تعرضاً للاكتئاب. ويمكن أن يؤدي الاكتئاب بدوره إلى مزيد من التوتر وعدم القدرة على أداء الوظائف وتردي حياة الشخص المصاب والاكتئاب ذاته.
وهناك علاقة متبادلة بين الاكتئاب والصحة البدنية. فعلى سبيل المثال، يمكن أن تؤدي الأمراض القلبية الوعائية إلى الاكتئاب، والعكس صحيح.
وقد ثبت أن برامج الوقاية تحد من الاكتئاب. وتشمل النهج المجتمعية الفعالة للوقاية من الاكتئاب، البرامج المدرسية لتعزيز نمط التفكير الإيجابي لدى الأطفال والمراهقين. إن تقديم تدخلات لآباء وأمهات الأطفال الذين يعانون من مشاكل سلوكية قد يحد من أعراض الاكتئاب لدى الوالدين ويحسن النتائج بالنسبة لأطفالهم. ويمكن أن تكون برامج التدريب لكبار السن فعالة كذلك في الوقاية من الاكتئاب.
علاج الاكتئاب..
هناك طرق علاج فعالة للاكتئاب المعتدل والحاد. وقد يوفر مقدمو الرعاية الصحية طرق العلاج النفسي (مثل التحفيز السلوكي، والعلاج السلوكي المعرفي، والعلاج النفسي بين الأشخاص، أو الأدوية المضادة للاكتئاب (مثل مثبطات امتصاص السيروتونين الانتقائية ومضادات الاكتئاب ثلاثية الحلقات. ويجب على مقدمي الرعاية الصحية أن يأخذوا بعين الاعتبار الآثار السلبية المحتملة المرتبطة بالأدوية المضادة للاكتئاب، والقدرة على تقديم أي تدخل، والتفضيلات الفردية. وتشمل مختلف أشكال العلاج النفسي محل الدراسة العلاج النفسي الفردي أو الجماعي وجها لوجه أو كليهما، والتي يقدمها المهنيون ويشرف عليها المعالجون.
وتكون العلاجات النفسية فعالة كذلك في علاج حالات الاكتئاب الطفيفة. ويمكن أن تكون مضادات الاكتئاب شكلاً فعالاً لعلاج الاكتئاب المعتدل-الحاد، ولكنها لا تمثل الخط الأول من العلاج لحالات الاكتئاب الطفيف. وينبغي ألا تستخدم لعلاج الاكتئاب لدى الأطفال، كما أنها لا تعتبر خط العلاج الأول لدى المراهقين، حيث ينبغي توخي الحذر في استخدامها معهم.
الاكتئاب لدى النساء..
هناك دراسة لل “أ. د سامر جميل رضوان” بعنوان “الاكتئاب لدى النساء” تبين أن الاكتئاب يعد، بمختلف أنواعه، من أكثر الاضطرابات النفسية انتشارًا وشدة، ومن أعراضه افتقاد المكتئبين لمعنى الحياة وتعكر مزاجهم والشعور باليأس والتعاسة والمعاناة والأرق وفقدان الأمل بالحياة من كل شيء، وقد ينتهي الاكتئاب بالانتحار في كثير من الحالات “15 % وفقاً لبعض الدراسات والإحصائيات”.
وتؤكد الدراسة أن النساء من أكثر الفئات تعرضاً للاكتئاب لأسباب معقدة وكثيرة منها: “حيوية، هرمونية، ووظيفية، كما هو الحال بعد الولادة على سبيل المثال، أو اجتماعية” إلخ. وفي أمريكا هناك دعوات متزايدة إلى ضرورة التكيف مع الاكتئاب كمرض، لتوفير الطاقة النفسية.
الاكتئاب مفيد..
وتتساءل الدراسة هل الاكتئاب ردة فعل طبيعية على ظروف الحياة القاسية أم أنه مرض ليس له وظيفة أو أسباب واضحة؟. تختلف الآراء فبعض الخبراء يرى أن للحالات الاكتئابية معنى، بينما يرى آخرون أن هذه الرؤية لا تمثل سوى تجميلاً غير مبرر لحالة المعنيين. ويرى البروفيسور “راندولف نيس” من جامعة “ميشيغان” أن لبعض أشكال الاكتئاب الخفيف معنى ووظيفة، ويمكن أن يكون مفيداً، عندما تكون المشاعر الاكتئابية رد فعل على مواقف خطيرة وغير مرغوبة. ويسوق “نيس” المثال التالي: عندما يعيش شخص ما في علاقة غير مرضية مع شريكه، تؤدي إلى ظهور بعض أعراض الاكتئاب، ولكن بمجرد أن تنتهي العلاقة فإن المزاج الاكتئابي قد يختفي بزوال السبب. ويعتقد “نيس” أن هذا المثال يوضح أننا لا نبدد طاقتنا على الأشياء التي لا تهمنا والتي تبدو بالنسبة لنا عديمة المعنى. فالأعراض الاكتئابية المتمثلة في فقدان الدافعية والسلبية يمكن أن تكون مفيدة في بعض المواقف، التي يكون فيها التصرف غير نافع، بل وحتى خطيرًا.
ويستشهد “نيس” على ذلك بأمثلة من عالم الحيوان. فعندما تتكاثر الثلوج وتنخفض درجة الحرارة وتقل الموارد، فإن البحث عن الطعام لدى كثير من الحيوانات يصبح شاقاً ومبدداً للطاقة. ومن أجل عدم استهلاك المزيد من الطاقة، بلا طائل، فإن الحيوانات تتوقف عن النشاط وتصبح ساكنة، حتى لو كانت جائعة. فحتى في الحياة الإنسانية، هناك مواقف يكون من الحكمة فيها الانتظار السلبي أو الخامد، وعدم القيام بأي فعل، كما هو الحال عندما يخفق مخططا مهماً من مخططات الحياة. فعندما يفشل مخطط ما من مخططاتنا بشكل غير متوقع، نكون قد بذلنا الكثير من الوقت والجهد، الأمر الذي يجعلنا غير مقتنعين بالتخلي عن الأمل والاستسلام. وغالباً ما نشعر هنا بضغط شديد يدفعنا للتصرف، والبدء بمهمة جديدة بأي ثمن وأي شكل، من أجل أن نلهي أنفسنا عن الفشل وننساه ونقنع أنفسنا بأننا مازلنا قادرين. غير أن الخطر من أن نكون قد تعجلنا التصرف ودخلنا في مشروع جديد فاشل، يكون كبيرا . وفي مثل هذه المواقف، قد يكون كبح نشاطاتنا أكثر فائدة. فالسلبية والتشاؤم وفقدان الثقة بالنفس يمكنها أن تساعدنا على تجنب حدوث الأضرار. ومثلما هو الخوف إشارة إنذار لوجود خطر يهددنا، فإن الاكتئاب قد يحمينا من القيام بمجهودات لا فائدة منها.
ويؤيد وجهة النظر هذه معالجين نفسيين مثل “نصرت بيزيشكيان” و “أودو بوسمان”، اللذين يشيران في كتابهما المعنون “القلق والاكتئاب في الحياة اليومية” إلى أن كل من القلق والاكتئاب عبارة عن إشارات إنذار يهدفان إلى الوقاية من أمر أكثر سوءا. إنهما احتجاج الجسد والنفس على المخاطر الواقعية والصراعات غير المحلولة والإرهاقات التي لا تطاق والحاجات غير المحققة والإمكانات غير المستغلة. فالقلق والآلام النفسية تتوسط بين
دوافعنا ورغباتنا وحاجاتنا من جهة، وبين الواقع والحدود والقوانين الاجتماعية والطبيعية من جهة أخرى. ومن خلالهما نحقق تكيفاً ضرورياً مع معطيات الوجود. وفي الوقت نفسه، تذكرنا هذه المشاعر الاكتئابية بهويتنا الفردية، وتساعدنا على الحفاظ عليها. ويرى هذان المعالجان النفسيان أن الاعتراف بالقلق والاكتئاب بوصفهما ردتا فعل مبررتان ومشحونتان بالمعنى إلى مدى بعيد، يتيح فرصة كبيرة للشفاء.
قرارات اندفاعية..
ولكن، علماء نفس آخرون يتخذون موقفا مغايرا من نظرية الوظيفة التلاؤمية للاكتئاب. فالطبيب النفسي “بيتر كرامر” مؤلف كتاب بعنوان “مضاد الاكتئاب البروزاك السعادة في وصفة طبية ” يشير إلى أن الأشخاص المكتئبين غالباً ما يتخذون قرارات اندفاعية مؤذية لهم، على نحو الاستقالة من العمل أو الطلاق، والتي ليس لها علاقة من قريب أو بعيد بالعزلة الطبيعية والسوية التي قد تحدث في بعض الأحيان طوعياً. وكذلك تؤكد “سيلفيا سيمبسون” مديرة العيادة الاستشارية للاضطرابات الوجدانية، أن الاكتئاب مرض. وما يميز مرضى الاكتئاب هو أنهم يحمِّلون أنفسهم الذنب. فإذا ما خبر هؤلاء الأشخاص أنهم قد قاموا بالفعل بأمر ما سببوا لأنفسهم من خلاله الاكتئاب، فإن هذا سيعيقهم عن طلب المساعدة المتخصصة. ومن الوارد جداً أن يتم تفسير سبب انحطاط المزاج وهموده عند شخص ما نتيجة لموقف سلبي معين مر أو يمر به، غير أن انحطاط المزاج ليس هو الاكتئاب، إنه أمر آخر مختلف، كما تؤكد “سيمبسون”.
ولكن في نقطة واحدة يعطي “بيتير كرامر” زميله “نيس” الحق حيث يشير إلى أن نظرية “نيس” تطرح مسائل ينبغي على المعالجين النفسيين طرحها باستمرار، على نحو: هل يحاول المكتئب أن يكون كاملاً دائماً؟ هل يحاول أن يرضي الجميع؟ هل هو أسير موقف ميؤوس منه؟ فكل هذه العوامل يمكن أن تكون سبباً للاكتئاب.
أنه من ناحية أخرى، يؤكد “نيس” أن كثير من أشكال الاكتئاب، خاصة الاكتئاب الجسيم أو الشديد، تحمل ولاشك صبغة المرض. وينبغي للحقيقة القائلة أن ردود الفعل الاكتئابية يمكن أن تكون ذات معنى، ألا تصرفنا عن الحقيقة المقابلة أن الاكتئاب بشكل عام يمثل مشكلة نفسية وطبية جدية، تحتاج في أغلب الأحيان إلى التدخل النفسي المتخصص.
معاناة النساء..
تؤكد الدراسة على أنه لا يختلف العلماء اليوم كثيرا حول فكرة أن النساء أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب من الرجال. ويعتقد أن الأسباب وراء ذلك تمتد من التغيرات الهرمونية، كتلك التي تحدث في الدورة الشهرية أو عند الولادة أو في سن المرحلة الارتدادية “اليأس”، مرورا بالمشكلات المتعلقة بالدور الأنثوي، وصولاً إلى التمييز والظلم الاجتماعي الذي مازالت تتعرض له المرأة حتى في أكثر المجتمعات ديمقراطية.
وتظهر نتائج دراسة حديثة أجرتها كل من “سوزان نولن هوكزيما وكارلا غريسون ويوديت لارسون”، على 1100 راشد بين 25 – 75 سنة أن النساء يشعرن أكثر من الرجال بمشاعر الشك والحيرة والعجز والسلبية. ويكمن السبب في أنهن يشعرن بقلة السيطرة على مجالات مهمة من الحياة. الأمر الذي يقود من ناحيته إلى إرهاقات مزمنة، تستجيب لها النسوة بانشغال سلبي وليس إيجابي. ومن ثم ينزلقن في حلقة مفرغة مسببة للمرض. فالانشغال يرفع من الإرهاق المزمن، والضغط المتزايد يقوي من الانشغال وهكذا.
والانشغال السلبي أو الخامد يزيد من الإرهاق، لأنه يستهلك من الإنسان دافعيته وطاقته وقدرته على حل المشكلات، ومن ثم يصبحن غير قادرات على تحسين المواقف غير المرضية بطاقتهن الذاتية. أما مصادر الإرهاق، فقد أمكن تحديدها بالإرهاقات المنزلية وتربية الأولاد، بالإضافة إلى الأعباء المهنية للنساء العاملات خارج المنزل. إنهن أكثر “حملاً للهم”، وهذا يعني أنهم لا يفكرن بحياتهن الخاصة فحسب، بل ويحملن هم الآخرين. وعلى الرغم من البذل والتضحية الكبيرة التي تقدمها النساء، إلا أنهن يشعرن بأنهن لا يحظين بالاعتراف الكافي من أزواجهن، وهذا ما قد يكون أيضاً سبباً لحدوث بعض التغيرات المزاجية والعلاقة بين الأزواج. ومن الطبيعي أن الإرهاق بحد ذاته لا يقود للاكتئاب، وإنما الأسلوب الذي تتم فيه مواجهة الإرهاقات والصراعات.
اكتئابات الولادة..
عندما تنزلق امرأة ما بعد الولادة في حالة اكتئابية، فإنها غالباً ما تلقى الصد والرفض وعدم التفهم من المحيط، إذ أن التصور هنا هو صورة الأم السعيدة بطفلها بعد الولادة. فالطفل المنتظر قد ولد أخيرًا ويتوقع الجميع من الأم الخارجة للتو من المخاض أن تكون سعيدة إلى أقصى مدى. أما أن تحزن الأم أو تكتئب بعد الولادة، فهذا قد لا يتناسب مع التصور الشائع حول الأم. مع أن الدارسات تشير إلى أن حوالي 80 % من النساء يعانين بعد الولادة من أعراض اكتئابية لأوقات محددة. ولدى 10 إلى 20 % منهن ينطبق عليهن تشخيص “اكتئاب ما بعد الولادة”.
يمكن لصيرورة الأم أن تشكل خطرا ممكنا على المرأة، ذلك أن هذا الحدث يمكن اعتباره حدثاً استثنائياً، سواء من الناحية الجسدية أو النفسية. وتعد لحظة التحول إلى أم نقطة بداية تحولات كبيرة في حياة المرأة التي تقلب رأساً على عقب، وعليها أن تعيد تحديد هويتها “تماهيها” كأم وأن تتقبل هذا الدور وتمارسه. ومن هنا، فليس من المفاجئ لنا أن نلاحظ ظهور “ذهانات النفاس” أو “اكتئابات ما بعد الولادة” تتكرر بعد ولادة الطفل الأول بالتحديد، حيث تشكل هذه النسبة حوالي 75 % من الحالات.
أما الأمهات اللواتي يسعدن بمهمتهن الجديدة كأم، فإنهن يجدن أنفسهن فجأة أمام توقعات ضخمة، في أن يكن أمهات كاملات. فكل الفضائل والصفات التي يتوقع للأم أن تتمتع بها بما في ذلك الصبر والسهر وتحمل انتقادات الآخرين، الأخريات صاحبات الخبرة في التربية والتعامل مع الأطفال، لابد وأن تتصف بها بشكل بديهي. ولكن، ما يحدث في الواقع أن كثير من النسوة قد يشعرن في أعماقهن بدلاً من هذه المشاعر وبشكل قد يثير فيهن الرعب بنمو مشاعر الرفض والعدوانية تجاه الطفل الجديد. الأمر الذي يقود لديهن إلى مشاعر الذنب، بسبب غياب الإحساس بذلك الحب العظيم المتوقع تجاه الطفل، وذلك راجع إلى مجموعة كبيرة من العوامل، الجسدية والهرمونية
والبيوكيماوية والنفسية والاجتماعية التي تشكل هذه الحالة المعقدة من المشاعر. فما هي بعض هذه العوامل؟
وقت “النفاس” أصبح مقننا أن يتوقع كثير من الناس من المرأة اليوم أن تقف على قدميها بعد أسبوع من الولادة على أبعد تقدير وتعود لممارسة نشاطاتها المعتادة. أما الفترة التي تطلق عليها فترة النفاس والتي كانت تستمر لأربعين يوما فلم تعد تولى أية أهمية، وأصبحت مجرد ممارسات لا معنى لها من مخلفات الماضي.
يحتاج العبور الفاعل نحو الأمومة إلى الوقت والدعم. وكثير من المجتمعات، منها مجتمعاتنا الريفية، مازالت تدلل الأم بعد الولادة، إنها عملية اكتسبتها مجتمعاتنا القديمة بالفطرة والخبرة، و جعلت لها طقوساً تتم رعايتها وصيانتها. وهي ليست عديمة المعنى على الإطلاق. وما تمت ممارسته لأجيال عديدة بصورة طبيعية يعاد اكتشافه وتصديره وتسويقه من جديد. ففي هذا الوقت تتم رعاية الأم بشكل “أمومي”، ذلك أنها قد عانت الكثير أثناء الحمل والولادة. ولا بد من الاعتناء بالأم وتدليلها إن صح التعبير، يُطبخ ويُغسل لها وتُطعم…إلخ، وعليها طوال اليوم ألا تفعل شيئاً سوى الاعتناء بطفلها والتعرف إليه وإلى حاجاته، وتتآلف مع دورها الجديد في الحياة. وفي هذه المجتمعات يندر للمرأة أن تعاني من الاكتئاب بعد الولادة.
غير أن الموقف يختلف كلية في المجتمعات الصناعية والمدن الكبرى. فالولادة تتم عادة في المستشفيات، حيث يندفع الجميع بعد الولادة لزيارتها في المستشفى دون أن يتركوا لها مجالاً للراحة والتأمل، ويتم فصل طفلها عنها لفترة زمنية تطول أو تقصر، تتوالى أثناءها الممرضات رعايته، وبعد الخروج من المستشفى يغلب أن تقضي الأم غالبية الوقت لوحدها مع طفلها، في حين يكون الزوج مهتماً بشؤونه الخاصة. فتجد الأم نفسها فجأة وحدها دون خبرة، خائفة وحريصة على حياة رضيعها، تثقل كاهلها مخاوف الفشل، مما يدفعها بسرعة إلى أزمة وحتى اليوم لا يوجد أي جيل من النساء استطاع وحده أن يتغلب على هذه المخاوف. أما في الليل، فقلما تجد الهدوء والسكينة، إذ عليها الاستيقاظ مرارا من أجل إرضاع طفلها أو تغيير ثيابه المبللة. ويشكل النوم المتقطع إذا استمر لفترة زمنية طويلة شكلاَ من أشكال التصفية الجسدية والنفسية. فليس من المفاجئ أن الأمهات الشابات يبدأن ضمن هذه الظروف بالشك في أنفسهن وأن يصبحن فاقدات الرغبة ومرهقات وتعبات ومتوترات، ويصبح مزاجهن متقلباً ويعانين من صعوبات في التركيز، والأرق.
هرمونات..
بعد الولادة، يحدث انخفاض سريع وشديد لمستوى هرمون الأستروجين والبروجيستيرون، وهما من الهرمونات التي يتم فرزها بكثرة أثناء فترة الحمل. والغياب المفاجئ لهذه الهرمونات، وبشكل خاص البروجيسترون الذي يمتلك تأثيرًا مضاداً طبيعياً للاكتئاب، يسهم في نشوء الاكتئابات بعد الولادة. وفي الحالة الطبيعية، عندما لا يحدث أي تدخل طبي في مجرى الولادة الطبيعي، يتشكل أثناء الولادة هرمون الحب المسمى “الأوكسيتوتسين”، الذي يلعب دورًا مهماً في نشوء الارتباط الأولي بين الأم ورضيعها. فيعمل الإيقاع الحيوي بين الأم والطفل في هذه الحالة بصورة آلية ومثالية جداً. ولكن، ماذا يحدث إذا تم التدخل اصطناعياً في هذا المجرى؟ المشكلة اليوم تتمثل في أنه قلما توجد ولادة دون استخدام الأدوية أو الآلات أو إعطاء المحرضات الهرمونية الاصطناعية للولادة. فمن أجل تسهيل عملية الولادة اليوم، قد يتم حقن مادة مخدرة في الحبل الشوكي للأم، حتى في كثير من مستشفيات التوليد التي تروج لنفسها بأنها تضمن الولادة دون ألم، وذلك لكبح الإحساس بالألم في النصف الأسفل من الجسد. غير أن هذا الشكل من التدخل الطبي لا يخلو من العواقب، إذ أن قطع مسارات الألم يؤدي إلى عدم قيام الدماغ بإصدار الأوامر المتعلقة بعملية الولادة، ومن ثم لا يقوم بتحرير المواد الضرورية للولادة أو لما بعد الولادة. وكلما، ازداد التدخل في عملية الولادة، سواء أثناء الولادة أو حتى ما قبلها أثناء فترة الحمل، ازدادت المشكلات.
وتشير الدراسات إلى أن الأمهات اللواتي يلدن ولادات طبيعية دون تدخل طبي يندر أن يعانين من اكتئاب ما بعد الولادة. كما أن مشاعر القيمة الذاتية بالنفس لديهن تكون أشد وأقوى، حيث يشعرن أنهن أنجزن عملاً صعباً ومرهقاً ذهبت معه أسباب القلق والاكتئاب. وتبرهن دراسات أجريت في هذا المجال أن التدخلات الطبية الشديدة كاستخدام الشفط أو الملاقط أو العمليات القيصرية يمكنها أن تسهل حدوث اكتئابات بعد الولادة. كما أن الولادة في المنزل تعدعاملاً مضاداً للاكتئاب. بالإضافة إلى أنه عندما يتم كبح الألم أثناء الولادة فإن إنتاج أو إفراز الأندروفينات لا يتم بشكل كاف. والأندروفينات هي مضادات الألم الطبيعية وهرمونات السعادة والفرح.
وفي دراسة ألمانية على 13مجموعة من مجموعات المساعدة الذاتية للولادة، أشارت النساء المفحوصات إلى أن خبرا تهن كانت سيئة مع الأطباء، حيث شعرن أن الأطباء لم يتفهموا حالاتهن النفسية. وعندما كن يطرحن الأسئلة على الأطباء، كانت الإجابة الغالبة، إن ذلك أمرا َ طبيعياً أو سوف يزول ذلك قريباً إلخ. وتشير “أنيتا ريشير روزلر” من المعهد المركزي للصحة النفسية في مانهايم بألمانيا، إلى أنه قلما يتم تشخيص أعراض اكتئاب ما بعد الولادة بشكل صحيح والانتباه لها من قبل الأطباء، بسبب الخجل ومشاعر الذنب من أن يتم اتهام الأم بالفشل في مشاعرها الأمومية من جهة، وبسبب قلة الاهتمام من الأطباء بهذه الأعراض من جهة أخرى.
وفي كل الأحوال يتم التأكيد على الوقاية من خلال تعاون أطباء التوليد والمتخصصين النفسيين والأطباء النفسيين. ومن ضمن إجراءات الوقاية دعم الأمومة اجتماعياً ونفسياً، وعدم تحميل المرأة وحدها مسؤولية مشاعرها والتحرر من الفكرة القسرية الملحة، أنه على الأم أن تكون “أماً صالحة” أو “أماً مثالية”.