7 أبريل، 2024 12:03 ص
Search
Close this search box.

الاستراتيجية الثقافية لبناء السلام في العراق الفرص والتحديات

Facebook
Twitter
LinkedIn

إعداد/ د. هاشم سرحان العوادي

مدير المركز العراقي الافريقي للدراسات الاستراتيجي. بغداد

إن وجود استراتيجية ثقافية وطنية تحمل بيت طياتها مداخل بناء السلام العراقي، وتنبثق عنها برامج وآليات عمل محددة بجدول زمني محدد ، وتخضع لمراقبة وتقييم من جهات محدّدة المسؤولية بين المحلية والدولية ، لم يعد ترفاً أو طموحاً غير واقعي أو أمراً فائضاً عن الحاجة في محيطنا العربي خاصة عراقنا المعاصر .

فغياب فكرة بناءاستراتيجي ذو بعد ثقافي من شأنه تهديد الأمن الوطني، فالمجتمع يُترك في هذه الحالة عرضة للتفكك على الصعيد القيمي، مما يشكل تهديدا لتماسكه الاجتماعي، الذي يعدّ العامل الأهم في بناء دولة وطنية يشعر فيها كل فرد من أفرادها بالمواطنة مما يحفزه على العطاء والبناء .

وبنظرة سريعة على المظاهر الاجتماعية للمجتمع العراقي التي انتشرت في ظل غياب دور فعلي وحقيقي للثقافة يرتكز على استراتيجية حقيقية وفاعلة، نجد أنها ظواهر لها بعد ثقافي مهم، ولعله يكون البعد الأساسي، ومن هذه الظواهر : ضعف الانتماء الوطني ، وزيادة ظاهرة الفساد، والعنف المجتمعي، والتعصب، وانتشار فكر الإرهاب والذى مثلهُ تنظيم داعش 2014 .

كشفت عملية تحرير الموصل من العصابات الاجرامية لتنظيم داعش الارهابي وكما جاء على لسان العديد من القيادات الامنية بان عملية التحرير لم تكن مكتملة من جميع جهاتها، فسلوكيات التنظيم الارهابية في تعامله مع المختلف الاخر ثقافيا، والاثار التي خلفها على المستوى الاجتماعي والثقافي كشفت عن التحرير غير المكتمل، وان ما تم انجازه في عملية التحرير يكاد ينحصر في حدود استعادة الارض، واما اثار الاحتلال الداعشي اجتماعيا وفكريا فما تزال موجودة سواء في المجتمعات التي كانت تخضع لسيطرته نتيجة فرضه لثقافته، او المجتمعات التي كانت تمثل جانب الضحية لممارساته الاجرامية.

بعبارة اخرى ان تنظيم داعش الارهابي كان في مواجهته للدولة العراقية يتبنى استراتيجية متعددة الجهات، تشكل القوة الصلبة والعنف المسلح احدى جهاتها وتجلياتها الواضحة، كما ان هذه الاستراتيجية تتضمن جهات اخرى يمكن وصفها ( بالقوة الناعمة ) من خلال توظيفه لأدوات هذه القوة ( الاقتصادية والثقافية ) لتحقيق اهدافه التوسعية[1].

ان سياسة التنظيم الارهابي التي اتبعها في تعامله مع مكونات المجتمع العراقي، وعملية التنوع في الادوات التي تم توظيفها من قبل التنظيم لتحقيق اهدافه ( العسكرية الاقتصادية والثقافية )، والاثار التي ترتبت على هذا الواقع بعد عملية استعادة الارض يجعلنا نعترف بان المواجهة مع هذا التنظيم ما تزال مستمرة، وان هناك اثارا فكرية وثقافية ربما يمكن القول بانها تمتلك رقعة جغرافية اوسع من الجغرافية التي احتلها هذا التنظيم عسكريا، ومن ثم تستدعي وجود استراتيجية ثقافية تعمل على استعادة الامن والاستقرار وبناء السلام في العراق.

وإذا ما أردنا تحديد استراتيجية ثقافية تحمل بين ملامحها إحلال السلم والأمن المجتمعي فعلينا عمل البحوث والدراسات، والاستقصاءات، والتحليلات، وجلسات العصف الذهني ومشاركات واسعة على المستويين المؤسسي والفردي، وهي تحتاج جميعها إلى وقت كافٍ   وعلينا أيضا أن ننظر إلى ما وراء الحدود وأن نستلهم مبادرات من مناطق أخرى.

ومن ثم تسعى هذه الورقة إلى رصد للديناميكيات العراقية المحلية وعلاقتها بالصراع الثقافي، من أجل التصدي لآثار وتداعيات هذا الصراع ، والمساعدة في تعزيز صنع استراتيجية ثقافية لبناء وتفعيل آليات السلام بالعراق .

وتعمل ايضا على تقديم رؤية واستراتيجية ثقافية لبناء السلام في العراق تكون بمثابة الصفحة الثانية ( الاهم والاخطر ) في عملية المواجهة في عملية المواجهة مع تنظيم داعش الارهابي وسيتم من خلال.

اولا: مفهوم بناء السلام

تناولت هذا المفهوم العديد من الحضارات القديمة والديانات الوضعية فضلا عن السماوية، والقوانين والدساتير والمواثيق المحلية والاقليمية والدولية. مؤكدة على ان مفهوم بناء السلام هو محور العلاقة بين المكونات الاجتماعية، سواء على مستوى الفرد كما في قوله تعالى ( ان لك الا تجوع فيها ولا تعرى، وانك لاتضمأ فيها ولا تضحى)[2] او على مستوى المجتمع كما في قوله تعالى ( يا ايها الذين امنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان انه لكم عدو ) [3].

كما ان مفهوم السلام لم يعد مفهوما مقصور الدلالة على حالات عدم الحرب، وانما اتسع في دلالته على حالات التعايش والاندماج الاجتماعي بين مكونات المجتمع الواحد من خلال ترسيخ مبدأ الحوار والتعاون في معالجة الازمات الاجتماعية وانتزاع فتيل الازمة قبل استفحالها او انفجارها. .

عند التعامل مع مصطلح ” بناء السلام” Peacebuilding ؛ نجد أن ثمة اتفاقا في الأدبيات والممارسات العملياتية للمؤسسات الدولية في مناطق الصراع يتمحور حول ” إقامة علاقات سلمية بين أطراف الصراع” مما يمنح الأطراف المتصارعة مستقبلا حالة من الاطمئنان بعدم اندلاع أعمال عنف وتجددها مرة اخرى، وهنا لدينا ثمة اتجاهين أساسيين في هذا الشأن[4]، هما:

الاتجاه الأول: يحصر هذا الاتجاه بناء السلام في مجموعة من البرامج الزمنية في تسوية ما بعد وقف الصراع المسلح ويعني هذا الاتجاه بتشييد الهياكل والمؤسسات مثل (إعادة بناء مؤسسات الدولة- إصلاح البني التحتية المدمرة- تسريح المقاتلين- إعادة إدماجهم- بناء المؤسسات القضائية) التي تساعد مجتمعات ما بعد الصراع على إزالة عوامل العنف. وغالبا ما تتبني المنظمات  الأممية والإقليمية هذا الاتجاه لتمييزه عن مفاهيم أخري، كالدبلوماسية الوقائية، وحفظ السلام، وصنع السلام، كما جاء في “أجندة من أجل السلام” التي طرحها الدكتور بطرس بطرس غالي الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة .

الاتجاه الثاني: وهو الاتجاه الذي تشكل فيه عملية بناء السلام جسرا بين الأبنية القاعدية والأبنية الفوقية في الصراعات. ويعمل هذا الجسر على تعزيز المؤسسات كوسيلة لمنع المزيد من العنف من خلال ايجاد البيئة التي تعمل على خلق حواضن متدرجة دافعة للسلام في مراحل ومستويات الصراع المختلفة.

ثانيا: المعوقات الثقافية لعملية بناء السلم العراقي   

لم تكن معوقات بناء السلام في العراق بالأمر الطاري او المستحدث، وانما هي تحديات تزامنت ورافقت المجتمع العراقي قبل ظهور الدولة الوطنية ، اذ تعرض العراق للعديد من عمليات الغزو والاحتلال من قبل دول اقليمية ودولية كالمغولية والعثمانية والفارسية والتركمانية ومن ثم الانكليزية ، وقد امتدت فترة الاحتلال هذه الى اكثر من خمسة قرون تعرضت خلالها التركيبة الاجتماعية الى حالة من التنوع والاختلاف القومي والديني والمذهبي، هذا الاختلاف كان يمثل أرضية لتهديد السلام واندلاع العديد من الصراعات لاسيما بعد تأسيس الدولة العراقية في عشرينات القرن المنصرم.

بعد عام 1921م تعرض النظام السياسي في العراق الى ازمة بناء الثقافة العراقية فرضتها السياسة الاستعمارية ، و ترسخت نتيجة الاسس الفكرية والايديولوجية التي تأثرت بها النخبة السياسية العراقية آنذاك خصوصا في المؤسسات التعليمية التي كانت تشكل الركيزة الاساسية في صناعة الثقافة العراقية، اذ شكل التوجه القومي لدى النخبة السياسية بداية تشكيل الثقافة العراقية، وتم تغييب البعد الوطني فيه[5]، مستبعدا فيه المكون الكردي اذ لم يتعرض الدستور العراقي لعام 1924م الى وجود القومية الكردية كمكون عراقي، (كذلك الحال مع المكون الشيعي الذي كان لساطع الحصري ــ مؤسس التعليم في العراق ــــ موقفا سلبيا منه بدعوى انه مكون يمتلك توجهات فارسية، ومن ثم اصبح النظام السياسي يشكل تحديا خطيرا امام بناء الثقافة العراقية، مما جعل النظام السياسي في مواجهة مع هذه المكونات الاجتماعية خصوصا وان البعض منها استخدم العنف المسلح للمطالبة بحقوقه)[6].

وبعد عام 1968 استمرت سياسة السلطة في التعامل مع هذا التنوع على نفس الاسس السابقة ومن ثم فشلت هي الاخرى في بناء السلام لفشلها في تحقيق وترسيخ الهوية الوطنية الجامعة لمكونات المجتمع العراقي والتي يمكن من خلالها تحديد الهويات الثانوية وتقييدها والسيطرة عليها ضمن اطار السلم المجتمعي، ووضع استراتيجيات فاعلة للتعامل مع الصراعات التي يمكن ان تنشأ بسبب تفعيلها سواء كانت قومية أم طائفية، ومدى تأثير هكذا نوع من الصراعات على عملية بناء السلام في الدولة العراقية، لاسيما وان الاستقطاب الثقافي في المنطقة يجعل من العراق بلدا مهيأ سياسيا واجتماعيا لتهديد السلام في ظل الصراع الاقليمي بين السعودية وايران[7]، والحرب التي تقودها تركيا ضد حزب العمال الكردي.

افرز هذا السياق التاريخي للدولة العراقية واقعا ثقافيا يجعل من العراق – أمة في أزمة- أمة محملة ومثقلة بتاريخ طويل من الصراعات الداخلية على السلطة، يعاني من الفشل في اكثر من مجال سياسي واجتماعي وثقافي اذ فشلت السلطات المتعاقبة على الحكم في بناء الهوية الوطنية العراقية[8] وتفعيل الاندماج الوطني على مستوى النخب، وتعزيز الامن والسلام المجتمعي كانت من نتائجها اندلاع الصراعات الاهلية وقتل وتشريد عشرات الالاف من المدنيين وتدمير البنى التحتية.

ان هذا السياق التاريخي للدولة العراقية يشير بوضوح الى ان هنالك جملة من المعوقات او التحديات التي كانت تواجه الدولة العراقية في عملية بناء السلام:

  • المعوقات السياسية: التهميش والاقصاء السياسي التي مارستها السلطة السياسية في العراق منذ تأسيس الدولة العراقية وخصوصا ما بين عام 1968 ـــ 2003.
  • المعوقات الايديولوجية: اضفاء المسحة الثقافية والدينية على الحرب العراقية الايرانية، اذ كان الاعلام المحلي يعمل على تصويرها على انها حرب عربية فارسية ولذا استعار من حرب القادسية التاريخية اسمها ليكون عنوانا لحربه ضد الجمهورية الاسلامية في ايران[9]. اضافة الى تبني التنظيمات الارهابية للبعد الايديولوجي في استهداف السلام في العراق والذي يؤكده عملياتها الارهابية التي كانت تستهدف الرموز والمقدسات الدينية مثل تفجيرها لقبة الامامين العسكريين عام 2006، واعلان تنظيم داعش الارهابي عام 2014 عن تأسيسه (الدولة الاسلامية) على اسس ايديولوجية[10].
  • المعوقات الديموغرافية: ترسيخ سلطة الاحتلال الامريكي لمبدا القومية والطائفية من خلال مشاريع التقسيم التي تروج لها الادارات الامريكية وتعمل على ترسيخها من خلال تقاسم السلطة على اسس قومية ومذهبية. وفي هذا الاطار تحدث وزير الثقافة والاثار الحالي فرياد راوندوزي في إحدى الندوات بعنوان – الثقافة وخيارات المستقبل – قائلاً “عندما أصبحت الموظف الأول في وزارة الثقافة لم أكن أعلم انها فقيرة ومتخلفة الى هذه الدرجة وعندما مرّ شهر على عملي فيها وجدت أن هنالك مشاكل كثيرة، أهمها ان قوى الاسلام السياسي المتنفذة في الحكومة والدولة ليست لها رؤية ثقافية وانها لا تبالي بقضية الثقافة وتطورها” ،ورأى الوزير ان الواقع  الثقافي في العراق يشهد انقطاعا في الترابط بين الثقافتين الكردية والعربية ، على الرغم من ان الثقافة الكردية في العراق ثقافة عربية وعاش معظم الاكراد في بغداد ما اسهم في تطور الثقافة الوطنية العراقية، إلا انه في العقود الاخيرة حدثت عزلة وانقطاع بين مثقفي القوميتين الرئيستين في البلاد[11].

ونتيجة لتشويه المفاهيم الثقافية ؛ تعامل المواطن العراقي مع مفهوم الثقافة بالمعنى الضيق واختزاله في ضمن عنصري(الأدب والفن)، غافلا عن المعنى الواسع والكبير لهذا المفهوم في الأدبيات الفكرية والذي يشير الى كونه عبارة عن الانتاج الفكري والإدراك والمشاعر والتصورات التي تساهم في تشكيل هوية المجتمع العراقي وتغذيته بالقيم والمعايير الاجتماعية والنفسية، وبلورة اصول وعادات العلاقات الاجتماعية.

ثالثا: مقومات بناء السلام في العراق

بعد انتصار إرادة الشعب العراقي على آفة الإرهاب  الداعشي في المدن العراقية الرئيسة برز الى الواجهة تحديا يتمثل ببناء السلام وإرساء دعائمه وإنهاء مظاهر العنف وغياب العدالة ، وعليه لابد من السعي الى تعزيز جهود بناء السلام الاستراتيجي؛ والذي نقصد به  استخدام نهج شامل للصراع العنيف يضع روابط ثقافية بين القمة والقاعدة وروابط تصاعدية فيما بين الأفراد وكذلك المجموعات على جميع المستويات النخبوية والدينية ، والحفاظ على تلك الروابط ، والجمع بين جهود الجهات الداخلية والخارجية الملتزمة بإرساء السلام ووضع مسار جديد للتغير الاجتماعي.

ان تحقيق ما تقدم لا يكون ناجزاً إلا بتحقيق شراكة حقيقية بين الجهات الفاعلة على الساحة العراقية الرسمية منها والدينية والاجتماعية بل وحتى الثقافية، وان يكون لمؤسسات المجتمع المدني الدور الريادي في ذلك، فنحن بحاجة إلى رسم أهداف مسبقة توضع في اطار استراتيجية مرحلية وأخرى طويلة الأجل تركز على  مجموعة من مداخل بناء السلام كالآتي:

 

اولا: التوافق السياسي

من المهم التعامل مع التوافق السياسي بين صناع القرار في الدولة العراقية بمختلف توجهاتهم وانتماءاتهم على انه نقطة الانطلاق المحورية باتجاه الاتفاق على أهمية التخطيط الاستراتيجي لخدمة مختلف المجالات وفي مقدمتها المجال الثقافي للدولة وذلك لأنه المجال الوحيد الذى يحدد تكوين الدولة من حيث القيم والمبادي واللغة والدين والعادات والتقاليد، وينبغي على القادة والخبراء الذين تقع على عاتقهم عملية التخطيط الاستراتيجي الاستفادة من معلوماتهم وخبراتهم بشأن القضايا الاستراتيجية، وفي حال عدم توصل صناع القرار إلى توافق سياسي حول هذا الامر فانه سينعكس بصورة سلبية على التخطيط ويكون عديم الفاعلية مع تضاؤل فرصة نجاحه ، او تضييق نطاق الجهد المبذول والتركيز على نطاق أصغر يمكن الاتفاق بشأنه.

ان عدم التوافق السياسي الذي يعاني منه العراق يعود في احد اسبابه الى افتقاد السلطة لرؤية مستقبلية لإدارة البلاد[12] نتيجة حجم التحديات الداخلية التي تواجهها والمتمثلة في:

  • قلة الخبرة في العمل السياسي التي انعكست على غياب مشروع او نموذج للسلطة يتعلق بالنهضة والعمران.
  • تصاعد المطالب للعمل بالفدرالية على اسس طائفية، ومطالبة إقليم كردستان بالانفصال.
  • الارادات الاقليمية والدولية الساعية الى فرض اجنداتها السياسية في العراق والمنطقة.

ثانيا: الثقافة الوطنية

من أهم المعوقات التي تواجه بناء مواطنة حقيقية في العراق ضعف الثقافة الوطنية لدى مختلف فئات الشعب، فضلا عن معاناة النخبة السياسية العراقية من ضعف حقيقي في المنظومة الثقافية وهو الامر الذي يؤسس انتكاسة عن الهوية الوطنية باتجاه الهويات الفرعية مع عدم الاعتراف بالتعددية[13] ، هذه المعاناة ليست وليدة مرحلة ما بعد 2003م، وانما هي نتيجة لسياسات الاستعمار البريطاني (فرق تسد) وسياسات الانظمة السياسية التي تعاقبت على حكم العراق والتي رسخت الشعور بعدم الاستقرار في الانتماء الوطني، واختزال الهوية العراقية في الانتماءات الثانوية دينية تارة وقومية اخرى وطائفية ثالثة حتى اصبحت تهدد اي تجربة ديمقراطية ممكنة في العراق، ومن أهم القنوات التي من خلالها يمكننا بناء ثقافة المواطنة والتسامح وقبول الأخر والتعايش السلمى هي التربية والتعليم والتي لها دور مهم في ترسيخ قيمة المواطنة  من خلال عدة قنوات

ثالثا: مبدأ الحوار وقبول الاخر

ان ترسيخ مفهوم الصراحة في اجواء الحوار التفاعلي والذي يكون برعاية المؤسسات الاكاديمية والثقافية ـــ الرسمية وغير الرسمية ــــ يمكن ان يساهم في بناء منظومة ثقافية قادرة على استيعاب الاخر المختلف، والتعايش السلمي والابتعاد عن لغة العنف والصراع القائم على اساس التطرف، كما تتضمن هذه المنظومة الثقافية معالجة اسباب ظهور التيارات الدينية المتطرفة في العراق والذي جاء نتيجة لمجموعة من التراكمات الثقافية في مقدمتها [14]:-

  • ضعف برامج التخطيط لدى بعض المؤسسات الرسمية العراقية وعلى مدى تأسيس الدولة العراقية، وهو الضعف الذي كشف عنه عجز هذه المؤسسات عن ايجاد عقد اجتماعيّ حقيقيّ بين السلطة والشعب.
  • الدكتاتورية والاحتكار المستمرّ للسلطة، والتي فرضت نظامًا من الهيمنة على التنمية السياسية والاجتماعية وهو احتكار لم يقتصر على السلطة السياسية وانما وصل الى السلطة الثقافية بالمستوى الذي كانت فيه السلطة تسوق ثقافتها الخاصة على الصعيدين الداخلي والخارجي من دون النظر الى الثقافة الحقيقية للمجتمع العراقي.

رابعا : التعليم

ان اصلاح المنظومة التعليمية العراقية التي هي منبع وأساس الثقافة العراقية لابد وان يتجاوز مرحلة التدريس بنظام النمو الكمي على حساب نظام الجودة والنوعية ودراسة ماذا يحتاج سوق الأسرة قبل سوق العمل الاقتصادي وان تكون المؤسسة التعليمية بمثابة نهج تربوي للفرد من مبادئ وقيم ولغة ودين وعلوم وقبل كل هذا زرع الانتماء الوطني وروح المواطنة والاخاء عن طريق المناهج المدرسية وهذا يمكن ان يكون من خلال نظم تعليمية جديدة تحاكي النظم التعليمية للدول التي تعرضت لأزمات ثم تجاوزتها وتحولت الى نماذج دولية ناجحة, فالجهود الحالية لإصلاح التعليم تركّز بشدّة على جوانب فنّية، مثل بناء المزيد من المدارس، وإدخال تكنلوجيا الحاسوب، واللغات إلى المدارس[15]، ومع الالتزام بأهمية هذا التطور في الوسائل التعليمية وفروع التعليم، الا ان مقتضيات المرحلة الحالية ( ما بعد داعش ) لحاجة الى جملة من الاجراءات الوقائية والعلاجية التي يمكن العمل على ترسيخها في اذهان طلبة المدارس من خلال تضمينها في المناهج الدراسية.

بمعنى ان التركيز الحالي للإصلاح يفتقر إلى عنصر إنساني أساسي, فالطلاب في حاجة إلى أن يتعلموا في سنّ مبكرة جداً مما يعني أن يكونوا مواطنين صالحين ومسالمين  يتعلمون كيف يفكّرون ويبحثون وينتجون المعرفة، ويسألون ويبتكرون بدل أن يكونوا رعايا للدولة تعلّمهم ماذا يفكّرون وكيف يتصرّفون[16] فالتعليم له علاقة وثيقة بقضايا المجتمع الثقافية والانسانية والاجتماعية والاقتصادية ، ويؤدي دورا هاما في المجتمعات، وهو عامل اساسي في تحقيق التحول الاجتماعي على أساس العدالة وتكافؤ الفرص بين الأفراد والبيئات المختلفة، ويكسب الفرد كل المقومات التي تحقق انسانيته وقدرته على تحقيق ذاته والإسهام في بناء مجتمعه[17].

ونظرا للتقدم السريع والمستمر في مجال العلوم والتكنولوجيا في ظل العولمة وما فرضتها من ضرورة التغيير السريع لمواكبتها في جانب التعليم حتى يتمكن من تحقيق أهدافه وتطوير المجتمع كان لابد من النهوض بالقطاع التعليمي في العراق وفق خطط مدروسة تعمل على تامين مجموعة من المتطلبات ابرزها [18]:-

  • تحديد واقعي لبرامج ومشروعات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
  • القيام بمسح دقيق للهيكل التعليمي القائم واتجاهات نموه، مثل مؤشر الهيكل التعليمي من الناحية الكمية، وايضا من الناحية النوعية ( الكيفية ).
  • وضع الأسس والمبادئ التي تبنى عليها خطط النهوض بالتعليم .
  • دراسة المشكلات التي تعرقل وضع وتنفيذ برامج التنمية التربوية .
  • دراسة عملية توزيع الخدمات التعليمية لمعرفة مدى التوزان في توزيعها بين المحافظات العراقية، على ان يقوم  التعليم على مبادئ تضمن تحقيق الغاية التعليمية وخصوصا احترام ثقافة المكونات الاجتماعية. بحيث تتمتع جيمع مكونات المجتمع العراقي بالحرية ودون تمييز قومي او عرفي او وضع اجتماعي او ديني.
  • رصد الميزانية المطلوبة لتنفيذ برامج النهوض بالتعليم عامة والتعليم العالي خاصة.
  • إصلاح القوانين والتشريعات واللوائح المنظمة لشؤون المدارس والمعاهد والجامعات العراقية.

خامسا: الاعلام

لاشك في ان للإعلام دورا كبيرا في نشر الثقافة الوطنية بين مكونات المجتمع، ومن ثم ينبغي ان تخضع المؤسسة الاعلامية الى اعادة النظر في استراتيجيتها في هذا المجال وتحديد الدور الذي تقوم به حاليا، ومدى مساهمته في نشر الثقافة الوطنية، كما لابد من تحديد معوقات اداء الاعلام العراقي لهذه الوظيفة، وطبيعة البيئة السياسية والاجتماعية التي يعمل الاعلام العراقي في اطارها في ظل الحكومة الحالية بعد 2003م ؟

يمكن وصف الاعلام العراقي قبل عام 2003م  بانه اعلام السلطة اكثر مما هو اعلام الدولة، ومن ثم كان الاعلام العراقي بكافة اشكاله المكتوب والمرئي والمسموع بعيدا عن المجال الثقافي الوطني ويمثل ثقافة السلطة والحزب الحاكم، فضلا عن غياب الاعلام الديني والذي غالبا ما يكون منحصرا في نقل صلاة الجمعة تحديدا والتي هي الاخرى كانت تمثل احدى نوافذ السلطة والحزب لتسويق ثقافته، اما وظائفه الثقافية الاخرى فكانت حبيسة الجوانب الادبية من دون ان تمتد الى الثقافة السياسية، والمواطنة وحرية التعبير عن الراي.

الخاتمة

وفي النهاية، بعد أن تم رسم الخطوط الرئيسية على الورق، فعلينا أن ننتقل من النظرية إلى التطبيق وأن نقرر الإجراءات التي يغلب في ظنّنا نجاحُها. ومن أجل ذلك، سيتعين على الجهات الفاعلة في  العراق  الرسمية والمدينة والدينية أن تجد مراكز اتصال فيما بينها وأن تعمل يدًا بيد، و لابد من إشاعة مفهوم ثقافة السلام ونبذ العنف على الصعيد الاجتماعي بمختلف الطرق والوسائل وبالأخص عبر التعليم الأساسي والجامعي والديني، ونشر مفاهيم التسامح الديني والتركيز على أدلة الأحكام الشرعية الراعية للسلم والسلام والتذكير بهدف الأديان جميعاً إلا وهو سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة. واعتماد برامج تنموية من شأنها توفير فرص العمل للطبقة الشابة التي تملك مقومات النهوض عمرانياً واقتصادياً بالمجتمعات.

من الضروري جدا العمل على تامين جملة من الاسس التي تساهم في وضع استراتيجية بناء السلم المجتمعي تهدف الى اجراء عملية تحول في المجتمع العراقي من مجتمع غير متجانس إلى اخر متجانس ثقافياً يقوم على التعددية المجتمعية والسياسية وتحقيق السلام فيما بين مكوناته، ومن أهم الاسس التي ينبغي مراعاتها في هذه الاستراتيجية:[19]

  • الإقرار بالتنوع وتبني مبدأ الحوار الفكري المتواصل.
  • العمل على تحقيق المساواة السياسية والاقتصادية والثقافية.
  • تقديم فرص متساوية للتعليم والوظائف لكافة الجماعات.
  • العمل على تحقيق المشاركة لكافة الأفراد والجماعات.
  • ضرورة الاتجاه نحو اللامركزية الادارية لما يمكن أن تعمل عليه من تدعيم للمشاركة والإسهام في عملية اتخاذ القرار وتعدد مراكزه ،حيث يمكن أن تكون التعددية السياسية هي ذاتها نتاجاً وانعكاساً للتعددية الاجتماعية في المجتمع العراقي[20].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] – نادية مصطفى. التحديات السياسية الحضارية الخارجية للعالم الاسلامي: بروز الابعاد الحضارية الثقافية، الامة في قرن، مجلة امتي في العالم، العدد السادس ، مركز الحضارة للدراسات السياسية، القاهرة، 2001، ص97.

[2] – سورة طه : الايات 118ـــ 119

[3] – سورة البقرة : الاية 208

[4] – خالد حنفي علي، مداخل محفزة لـ “بناء السلام” في مناطق الصراعات ، ملحق إتجاهات نظرية ( القاهرة : مركز الأهرام الاستراتيجي ، 2016) http://www.siyassa.org.eg/News/11930.aspx

[5] – راهي مزهر العامري، وزراء المعارف في العراق 1921م ـــ 1968م، دار امل الجديدة، دمشق، 2014م، ص24.

[6]احمد جودة، ، تاريخ التربية والتعليم في العراق واثره في الجانب السياسي، مؤسسة مصر مرتضى للكتاب العراقي، بغداد، 2009، ص189.

[7] Bridoux, J., Hobson, C., Kurki, M,  Rethinking Democracy Support. Policy Paper. United Nations University, 2012, pp: 1-8.

[8] – عيسى اسماعيل عطية، دور المصالحة الوطنية في تفعيل السياسة الخارجية العراقية، مجلة دراسات دولية، مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، العدد44، بغداد، 2010م، ، ص98.

[9] -هاشم سرحان سلمان. العلاقات العراقية ــ الافريقية وافاق المستقبل : دراسة في البعد الثقافي. اطروحة دكتوراة. معهد العلمين للدراسات العليا، النجف الاشرف. 2018. ص102,

[10] – برهان غليون، المسالة الطائفية ومشكلة الاقليات، ط3، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، دار الفكر العربي ، بيروت، 2012م، ص27.

[11]نفس المصدر.

[12] – محمد رشيد صبار، الطائفية واثرها في مستقبل الهوية الوطنية العراقية، مجلة دراسات سياسية، العدد 76 مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، بغداد، 2016م، ص228.

[13] – علي رسول حسين المسعودي، المواطنة والتجربة الديمقراطية في العراق:دراسة في المعوقات واليات البناء ، جامعة بغداد، متاح على الرابط الالكتروني التالي www.poplas.org.member_ studies

[14] – إسماعيل سراج الدين ، التحدي : رؤية ثقافية لمجابهة التطرف والعنف ، مكتبة الاسكندرية ، الاسكندرية ، مايو  2013م ، ص 30

[15]  محمد فاعور ومروان المعشر, التربية من أجل المواطنة في العالم العربي: مفتاح المستقبل, اوراق كارينغي, ، بيروت, مؤسسة كارينغي للشرق الاوسط, 2011م،  ص1.

[16] –  محمد الربيعي ، هل من ضرورة لاصلاح التعليم العالي في العراق؟ ، جامعة دبلن، إيرلندا ، متاح على الموقع الالكتروني     www.ameppa.org/

[17] – مفتاح محمد عبدالعزيز ، التعليم والثقافة : كقوى اجتماعية دافعة للتقدم والتطور واستراتيجية تربوية مفتوحة للتعليم الثانوي والعالي للمجتمعات الأفريقية ، أعمال مؤتمر التعليم من أجل التحرير في أفريقيا ، 20-25 مارس ، الجزء الثالث ، مركز البحوث والدراسات الأفريقية ، جامعة سبها ، لبيبا ، 1988م ، ص 75.

[18] – آمال حلمي سليمان ، النهوض بالتعليم في ضوء الثنائية اللغوية في القارة الأفريقية ” رؤية جغرافية “ ، ورقة مقدمة الى أعمال المؤتمر الدولي الثاني ” اللغة والثقافة في أفريقيا  ” 13-14 فبراير، القاهرة ، جامعة القاهرة ، معهد البحوث والدراسات الأفريقية ، قسم اللغات ، 2008 م، ص ص 290- 296 .

[19]  – أحمد وهبان ، الصراعات العرقية واستقرار العالم المعاصر: دراسة في الأقليات والجماعات والحركات العرقية ، دار الجامعة الجديدة للنشر ، الاسكندرية ، 2001 ، ص 40

[20]– محمد عمر مولود، الفيدرالية وإمكانية تطبيقها في العراق، مؤسسة موكدياني للطباعة والنشر،  العراق، 2003م، ص ص 5-7.

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب