حوار مع كتاب «الاجتماع الديني الشيعي» للدكتور علي المؤمن
د. عامرة البلداوي
أكاديمية وباحثة من العراق
تمهيد
كنت قد قرأت مقالات مستلة من كتاب «الاجتماع الديني الشيعي» للدكتور علي المؤمن نشرت في الصحف، ثم من أجل إعداد هذه الورقة، أعدت تصفح فصول الكتاب ومواضيعه، والتوقف طويلاً عند هذا الفصل، وسريعاً عند فصل آخر، في رحلة استغرقت أكثر من شهرين، وكلما حددت موعداً لإنجاز هذه الورقة، أجد نفسي قد غرقت في بحر الفصول التي فتحت لي الباب لمراجعة مصادر أخرى عالجت جزءاً أو أكثر مما ورد في الكتاب، ليس من أجل المقارنة؛ فالكتاب الذي بين أيدينا يمتاز عن المصادر الأخرى بأنه واكب التاريخ والحدث الديني الشيعي المعاصر والى يومنا هذا، وهو مصدر شامل لقضايا الاجتماع الديني الشيعي وتأثير السياسة والمؤثرات الخارجية عليه، وهو يطرح الثغرات ومحاولة الإصلاح بجرأة (وهي ليست المحاولة الأولى ولن تكون الأخيرة)، وباستخدام مصطلحات قد تكون مستفزة إذا ما وردت لأول مرة ودون التمحيص الكافي بالموضوع أو استكمال الفكرة والمبرر، وهو سيكون مصدراً مهماً في المكتبة الدينية عن تفاصيل المؤسسة الدينية الشيعية، بدءاً من تأسيسها والى يومنا هذا.
وقد وجدت نفسي أقف طويلاً عند الفصل الخامس (الحوزة العلمية: المؤسسة الدينية للنظام)(1) والفصل السادس (أعادة مأسسة منظومة المرجعية الشيعية)(2). ومع العلم المسبق بالتحدي والمسؤولية في ذات الوقت للوقوف عند هذين الفصلين بالذات دون باقي محتويات الكتاب، لدقة الموضوعين وحراجتهما، مما يتطلب التحقق والتدقيق والدعم بالمصادر والتثبت من الأحاديث والأقوال؛ مما تطلّب ألّا أكتفي بالمصادر المكتوبة، رغم ثرائها وكثرتها، بل أزيد عليها بمقابلة ذوي الخبرة، ومن هم أدرى بذوق النجف الأشرف ومعطياته في وقتنا الحالي.
إنّ هذه الورقة لاتتسع لكل ما في كتاب «الاجتماع الديني الشيعي»، فضلاً عن فصل من فصوله، وإنّ التركيز وتسليط الضوء على جزئية معينة ستكون ذات أهمية وستضيف ربما شيئاً جديداً، وسيمكّنها أن تحقق الموائمة بين قراءة النص وعرضه وتحليله، وبين مناقشته ومحاورته واستنطاقه؛ فستناقش وتحاور المصطلحات، وتحلل دواعي ومبررات وآليات الإصلاح المقترحة من قبل الدكتور علي المؤمن، قد تتفق معها أحياناً وتختلف معها أحياناً أخرى، وتنطلق من كتاب «الاجتماع الديني الشيعي» الى مصادر أخرى، وتبتعد عنه في المواضيع التي اخترتها، ثم تعود اليه، ليس بهدف المقارنة وحسب، إنما لشمولية البحث والتقصي في هذا الموضوع، ولربطه مع الحقب الزمنية التي مر بها كل باحث، وسيكون الدخول بخطوات هادئة وحذرة بالتركيز على الحوزة العلمية في النجف الأشرف.
نشوء الحوزة الدينية في النجف الأشرف وأهميتها وأدوارها
كان المسجد منذ بعثة النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هو المكان الذي تعقد فيه حلقات الدرس لتعليم القراءة والكتابة ويعلّم فيه قراءة القرآن وتدرس العلوم الدينية، وكان مسجد الكوفة مركزاً تتعدد فيه حلقات الدرس، فضلاً عن مسجد البصرة ومساجد أُخرى في بغداد. على أن تنوع الدروس وتطورها وتعدد حلقات الدرس وكثرة اعداد الدارسين، كانت من جملة الأسباب التي أدت الى خروج الدراسة من المسجد الى أماكن مستقلة.
وقد أُنشأت أولى المدارس الإسلامية التي تختص بتدريس العلوم الدينية في مدينة نيسابور بخراسان في أواخر القرن الثالث الهجري وأوائل القرن الرابع الهجري(3)، أما أول مدرسة دينية أُنشأت في الكرخ غربي بغداد في الربع الأخير من القرن الرابع الهجري، من قبل أحد الوزراء البويهيين وأتخذها داراً للعلم، ويذكر أنّ الشريف الرضي (المتوفي سنة 406 هـ) كان قد اتخذ داراً سماها دار العلم، وفتحها لطلبة العلم، وعين لهم جميع ما يحتاجون اليه. وقد كانت بغداد حاضرة العالم الإسلامي، حيث مدراس العلم ومجالسه تموج بالعلماء والفقهاء والمتعلمين، وتغص بالوافدين من كل حدب وصوب؛ فهاجر اليها الشيخ الطوسي في سنة 408هـ، طلباً للعلم وهو في الثالثة والعشرين من عمره، وتتلمذ على يد الشريف المرتضى مدة طويلة، بلغت ثلاثة وعشرين عاماً، حيث لقي منه رعاية واهتماماً بالغين؛ إذ جعل له داراً في الكرخ، وأجرى له عطاءً شهرياً، وقد نهل العلوم في مجلس المرتضى، وانتقلت الرئاسة العلمية والأُستاذية المطلقة إلى الطوسي بعد وفاة السيد المرتضى (سنة 436 هـ)، وصار الشيعة الإمامية يرجعون إليه؛ فكانت داره التي تقع في الكرخ يؤمّها طلبة العلم من البلاد الإسلامية كافة، ومما ساعده على نشر علومه أن عصره اتّسم بحرية الفكر على الصعيد السياسي؛ فلم يكن هناك حجر عقائدي على مدارس المسلمين المختلفة، ومنهم الإمامية؛ بفضل الحكم البويهي، كما ساعده على ذلك وجود البويهيين في الحكم، والذين كانت لهم ميول قوية ورغبة في تكريم وتشجيع العلماء والأدباء، وقد حظي الطوسي لذلك بكرسي الكلام الذي كان يعد للمناظرة، وقد كان أهلاً لذلك، باعتبار أن هذا المنصب الذي يلتقي فيه كل طلاب المسلمين من غير انحياز طائفي، بلا ريب يثمر ثمراته في رواياته؛ فينطلق من القيد الطائفي إلى طلب العلم، ولن يكون مقيّداً إلّا بقيد الثقة والاطمئنان)4).
ولكن عندما سقطت بغداد بيد السلاجقة ودخلها طغرل بك سنة 447 هـ؛ فإنه أوقع الفتنة بين السنة والشيعة سنة 448 هـ، وأحرق مكتبة شابور الشيعية التي لم يكن يومها مكتبة أعظم منها، كما أقدم السلاجقة على حرق دار شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي، حيث كان يجلس على الكرسي ويلقي مِن عليه علومه، حتى اقتربت النيران؛ فقام عنه قبل أن يحترق الكرسي كما احترق البيت والمكتبة وكتبه(5). تلك الحادثة كانت سبباً في هجرته الى النجف الأشرف عام 448هـ (1056م)، ليجاور مرقد الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام)، ولينشيء الحوزة العلمية المركزية، ولتصبح على يديه مدينة العلوم الإسلامية ومحطة مرجعية الشيعة الإمامية في العالم الأسلامي، يشد الرحال اليها علماء الدنيا يغترفون المعرفة من مناهلها وتفيض معارفهم فيها(6).
الدعوة الى الأصلاح ودواعيها
إنّ الدعوة الى إصلاح الحوزة العلمية في النجف الأشرف ليست وليدة اليوم؛ إنما نشأت وترعرعت كحراك مستمر منذ الربع الأول من القرن الماضي، وتحديداً في 1343هـ (1925م) حسب ما جاء في مذكرات الشيخ محمد رضا المظفر (قدس سره)(7)، واستمرت الى يومنا هذا، ومما لاشك فيه أنها ستستمر الى ماشاء الله (تعالى)، إنّما المتغير في هذه المحاولات هو الأسباب والدواعي التي تتطور مع الزمن؛ ففي الوقت الذي كانت الأسباب موضوعية ناجمة عن الحاجة الملحة على سبيل المثال، نتيجة انتشار قاعدة المقلدين على مساحة واسعة، امتدت من العراق الى البلدان الأخرى، ولهذا أصبح لزاماً مراعاة العلاقة مع المقلد، والانفتاح على القواعد الشعبية، وتطوير برنامج لإعداد الوكلاء وحسن أدائهم، وتوفير العدد الكافي منهم لتغطية الرقعة الجغرافية في النجف والمحافظات الأخرى، فضلاً عن الحاجة الى تطوير ملكات وقدرات المنتمين الى الحوزة العلمية، مما يتطلب وضع ضوابط دقيقة لقبول الأنتماء للحوزة العلمية، وذلك لضمان امتلاكهم الحد الأدنى من القدرات والكفاءة(8).
ونجد أنّ تحديات واقعية برزت في الوقت الحاضر، لابد من مراعاتها، كالانفتاح الأعلامي واسع النطاق ومتعدد الوسائل، الذي أخرج العراق من القمقم الذي حبسه به النظام السابق بكل ممارساته الطائفية، الى أن يكون تحت مجهر الإعلام بكل تفاصيله، بالعرض والتحليل، لاسيما المسلّط على الشيعة في العراق، ولاسيما النجف مركز التشيع وحوزة النجف العلمية، وقد اعتبر العديد من الباحثين المهمين، أن الشيعة والتشيع موضوع بكر لم يكتب عنه ما يكفي، مما جعل كل الأنظار تتوجه الى المصدر والمركز، لتكتب وتحلل وتبحث بنوايا طيبة أو سيئة، فضلاً عما كشفته أحداث جسام مرت على العراق بعد 2003، من انفتاح الفكر الشيعي؛ فعكفت أنظار كبار المعنيين بالدراسات الإسلامية، والمخططين الاستراتيجيين، والسياسيين وغيرهم في أرجاء العالم، وبخاصة في المعاهد والجامعات ومراكز الأبحاث المتخصصة على ذلك الفكر الحر النيّر؛ فانعطفوا نحوه محاولين معرفة حقيقة مذهب شيعة أهل البيت (عليهم السلام) من خلال حوزة النجف الأشرف العريقة(9).
كما أنّ هناك ضرورة لاستثمار الفرصة السانحة بوجود المرجعية الدينية الحالية التي نهضت بمسؤولية استثنائية وفي زمن استثنائي، يوم دعت لدستور يكتبه العراقيون بأيديهم، ويوم أصدرت فتوى الجهاد الكفائي؛ فقد آن لها أن تتبع نهضتها السياسية والأجتماعية بنهضة إدارية وفنية تعيد فيها ترتيب بيتها الداخلي، بعد أن أعادت ترتيب بيت العراق الداخلي بنجاح. كما أنّ الحرص الشديد للمرجع الأعلى الحالي والمراجع الحاليين في حوزة النجف الأشرف العلمية، على التشاور والتواصل والتعاضد، قد ضربوا لنا مثلاً قلّ نظيره سابقاً في التشاور، ونموذجاً عزّ مثيله قبلهم في التواصل(10). وقد أكد الدكتور علي المؤمن على أن الدعوة للاصلاح والتجديد ما هي إلّا استجابة لمتطلبات الواقع وضغوطاته، وأنها لاتمس الثوابت، بل تستهدف المتغيرات التي تبقى بحاجة للتعديل والتطوير مع الزمن(11).
إنّ المهمة والدور المأمول لحوزة النجف الأشرف العريقة في إعداد جيل من رجالات الحوزة العلمية، ملمّ بما ينبغي الإلمام به من مناهج ولغات، ومعارف وطروحات، مؤهّل أكفأ تأهيل، معدّ للتباحث كأفضل ما يكون عليه الإعداد والتدريب، لينهض المتخرج من حوزة النجف الأشرف بالدور الريادي في حواضر العالم ومراكز بحوثه وجامعاته الكبرى؛ تستدعي الاستجابة الى الدعوات التي تصدر من الحريصين والمحبين الذين، مهما تباينت وتوسعت رؤيتهم الإصلاحية؛ فإنّها في آخر المطاف تلتقي عند الآليات التنظيمية والإجرائية في هيكلية الحوزة العلمية، المناهج الدراسية، معايير أختيار طلبة الحوزة والنظام المالي.
مصطلحات الإصلاح وتناسب تطبيقاتها على الحوزة العلمية في النجف الأشرف
لقد ركّز الدكتور علي المؤمن في كتابه «الاجتماع الديني الشيعي» على أربعة مصطلحات، هي (الإصلاح و المأسسة والترشيد وإعادة الهيكلة)(12)، وقد تكرر مصطلحي (الإصلاح والمأسسة) في مصادر أخرى، حتى باتت شائعة خاصة في الكتب التي تبحث في شؤون المؤسسة الدينية الشيعية، وأقصد بالضبط الحوزة العلمية في النجف الأشرف. وسأجري حواراً حول هذه المصطلحات وتطبيقها على المقترحات الإصلاحية (كما يشار اليها) في نظام حوزة النجف الأشرف، مراعية خصوصيتها وتفرد نظامها مستعينة بشواهد من كتاب «الأجتماع الديني الشيعي»(13) ومصادر أخرى.
1-الإصلاح:
قال الإمام الحسين (عليه السلام) في وصيةٍ لأخيه محمد بن الحنفية ((إني لم أخرج أشراً، ولا بطراً ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر؛ فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد عليّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين))؛ فخرج ثائراً وقادها ثورة قلبت موازين الأمور، ومازالت نبراساً لكل الثائرين والمصلحين. ليس الإصلاح عملية ترقيعية أو هامشية أو شكلية تمس المظهر والشكل، وتدخل في جانب وتترك جوانب أخرى؛ إنّما الإصلاح هي عملية التأثير الجذري الذي لايعود الوضع فيه على ما كان عليه، بل يتغير كلياً الى الأكمل والأحسن والأفضل، لكن البهادلي(14) له رأي آخر؛ فقد ساق الشواهد والأدلة التي لايتسع المقام لسردها، وخلص الى أن الاصلاح يعني النظام والترتيب، فما المقصود من إصلاح الحوزة الدينية؟
2- المأسسة:
عندما نقول: ((لابد من مأسسة هذا العمل)) يعني تأسيسه، وجعله ذا أصول وحدود معلومة، لذا فإنّ البديل الصحيح لكلمة (المأسسة) هو كلمة (تأسيس): أَسَّ البناءَ يَؤُسُّه أَسّاً وأَسَّسَه تَأْسِيساً، (أَسَّسْت داراً) إِذا بنيت حدودها ورفعت من قواعدها. وعندما يكون المقصود أن يصبح العمل مؤسسياً نسبة الى المؤسسة؛ فالمصطلح الصحيح هو (مؤسسية العمل) وليس المأسسة، وعلى هذا الأساس، وبعد أن تبيّن أن مصطلح (المأسسة) لايعبر عن المقصود، وأن العمل المؤسسي هو المصطلح الصحيح؛ فما المقصود من العمل المؤسّسي؟. ببساطة يقصد به (العمل الجماعي) الذي يعتمد حشد الجهود والطاقات والخبرات لإنجاز العمل على أكمل وجه، حيث لايمكن لأي شخص بمفرده لأنجازه بنفس المستوى.
وتعرِّف الموسوعة الحرة (ويكيبيديا)(15) المأسسة (في تعريف طويل تم تلخيصه)، بأنها إضفاء الطابع المؤسسي داخل منظمة أو نظام اجتماعي أو المجتمع ككل، ويُنظر إلى إضفاء الطابع المؤسسي على أنه جزء مهم من عملية التحديث في البلدان النامية، بما في ذلك توسيع وتحسين تنظيم الهياكل الحكومية.
ومن خصائص العمل المؤسسي أنه يعتمد سياسات ولوائح ونظم مكتوبة تنص على توزيع المهمات على الإدارات والأقسام التي تتشكل من لجان وفرق عمل ضمن هيكلية الأدارات في داخل المؤسسة، بحيث تكون مرجعية القرارات في العمل المؤسسي الى مجلس الإدارة، الذي يتشكل من مدراء الإدارات المتخصصة، ويحدد النظام الداخلي أو قانون تلك الإدارات آلية التصويت على القرارات وحدود نسبة التأثير لرئيس مجلس الأدارة أو رئيس المؤسسة .
وبما أنّ العمل المؤسسي يعتمد العمل الجماعي؛ فهو بلا شك ضد العمل الفردي أو القرار الفردي، معتبراً أنه يعكس السمات البشرية لصاحبه من الضعف والإهمال، فضلاً عن التسلط ومصادرة الرأي الآخر، ويعتقد أصحاب هذا الرأي بأن العمل الجماعي من جانب آخر يجمع مصادر القوة؛ مما يعد الضامن لمستوى إنجاز مرتفع وبجودة مقبولة، إن لم تكن مرتفعة .
ومن ميزات العمل المؤسسي أنه يكرس الشفافية، ويسهل المحاسبة والمساءلة، ويؤدي الى كشف الأخطاء والمقصرين، ومن ميزاته الأخرى وجود هيكلية تنظيمية للمؤسسة أو الكيان، تحدد فيها الوحدات المكونة لها، والعلاقة بين هذه الوحدات، وخطوط التواصل بينها، وآليات صنع القرار، وتمتاز بإشاعة روح الفريق، وإدارة الأمور بمقاييس تقوم على تحقيق أفضل النتائج والإنجازات، وغيرها كثير من الأمور التي لايمكن حصرها، مما تفيض بها مواقع البحث الإلكتروني، وقد كان الغرض من كل هذه المقدمة التعريفية لمصطلح المأسسة هو الأجابة على سؤالين:
الأول: هل هذا المصطلح مناسب أو ينطبق أو يتلائم مع سياقات عمل الحوزات العلمية؟، مع الأخذ بعين الأعتبار تجارب العلماء، الإصلاحيين منهم والذين نقلوا خلاصة خبرتهم وتجربتهم، ((وقد أعطتنا التجارب ان الأعمال الكبيرة، يجب من أجل نجاحها أن تقوم بها مجموعة محدودة، تدير دفة العمل بتعاضد وتكاتف وتضحية، عكس ماهو مشهور، لأن الشعور بالمسؤولية يقوى في الفرد إذا قلّت الجماعة، وهكذا كلما كثرت الجماعة ضعف الشعور بالمسؤولية في الفرد))، أي أنّ المسؤولية الفردية تضعف في الجماعة، لأن كلّ فرد يتكأ على الآخر، وينتظر الدور المخول به، أي تخبو روح المبادرة والتطوع، بينما لدى الأفراد محدودي العدد، تكون حالة الشعور بالمسؤولية قوية. وهذا الحديث من تجربة الشيخ المظفر (قدس سره)(16).
أما السؤال الثاني: هل المطالبة بتطبيق العمل المؤسسي في الحوزة العلمية يشمل المحاور الأربعة، أم أنها ممكنة ومقبولة حصراً في النظام المالي؟، وهذا السؤال يتبع بتساؤلات أُخر حول المنهج الدراسي الحوزوي وطبيعة المواد والكتب الدراسية والنتائج المرجوة من كل منهج، والتي هي تحت إشراف المرجع الأعلى مباشرة؛ هل الأصلح أن نبعدها عن الإشراف المرجعي لتستبدل بلجان أو مجالس قد يكون المرجع من ضمنها؟ وما ذكر من تطبيقات تعد هامشية، فضلاً عن أن سلبياتها أكثر من إيجابياتها، كالامتحانات وشهادة التخرج أو الشهادة العلمية، مع الإشارة بأنّ تطور التعليم غير الديني تلمس سلبيات هاتين الوسيلتين لتقييم الطالب، وبات اعتماد أساليب أخرى للتقييم، يجدونها أكثر أهمية، مثل بحث ما قبل التخرج أو مشروع التخرج، حسب نوع التخصص؛ فهي آلية مهمة لاكتشاف الملكات الإبداعية لدى الطالب وقدرته على صناعة حلول جديدة لمشكلة علمية. كما أن اتخاذ القرارات بالاجماع، ربما للمراتب دون المرجع الأعلى، من أجل إنضاج القرار وعرضه على المرجعية العليا، مع أن مسؤولية المرجع الأعلى وامتداد مقام المرجعية التاريخي؛ تخوِّلها بالتفرد في القرار، وتحمل مسؤوليته كاملاً، كما حصل في مواقف عدة. من هنا أقول أنّ بعض المصطلحات لاتتناسب مع الموضوع قيد البحث.
3-إعادة الهيكلة:
قد يكون استخدام مصطلح (إعادة الهيكلة) الذي ذكره الدكتور علي المؤمن في بعض فصول الكتاب، والذي غالباً ما يستخدم للشركات أو المؤسسات الإقتصادية؛ هو الأكثر واقعية، حيث عرفت لجنة الأُمم المتحدة الإقتصادية والأجتماعية لغربي آسيا (الأسكوا)(17) إعادة هيكلة المؤسسة بأنها لا تؤثر على استمرارية المؤسسة، وإنما تغير هيكلية المعالجة. ومن أهم مزايا أعادة الهيكلة بأنها قد تكون فرصة لخلق هيكل إدراي وتنظيمي لأي مؤسسة يتلائم مع حاجة التطوير، ومن أجل أداء أفضل.
مناقشة محاور الاصلاح والمأسسة في الحوزة النجفية
1-اصلاح المناهج الدراسية الحوزوية:
اذا سلّمنا أن معنى الاصلاح هو التقويم والتغيير والتحسين؛ فإن بعض ما ذكر من مقترحات في هذا المجال هو تحديث المنهج التدريسي المتبع في الحوزة العلمية النجفية وفي الحوزات الدينية بعامة؛ فهذه الإشكالات ليست جديدة، وكما اسلفنا بأنه تم تشخيصها منذ الثلث الأول من القرن العشرين وربما قبله، ولقد تشكلت جمعية منتدى النشر، وأجيزت رسميا سنة 1935م (1353ه)، لتجعل من أولى مهامها إصلاح المنهج التدريسي المتبع في مرحلتي المقدمات والسطوح(18).
وتتلخص مبررات إصلاح المناهج منذ ذلك الحين بالآتي:
عدم وجود آلية ما تدفع الطالب نحو الالتزام بالدراسة والحضور اليومي، سوى الدافع الذاتي وحده، لذا ينبغي العمل على وضع آليات مصاحبة هدفها تقوية الدافع الذاتي للطالب، وصولاً به نحو الجدية في الدراسة والحضور والمتابعة والمطالعة والمباحثة الدؤوبة المنتجة.
عدم تحديد سقف زمني معين يتراوح بين حدين أدنى وأعلى لكل مرحلة من مراحل الدراسة الحوزوية، بل ولكل كتاب دراسي من كتبها المقررة في كل مرحلة من مراحلها الدراسية، مما يترك المجال مفتوحاً أمام الطالب ليقرر الانتهاء من أية مرحلة يشاء أو كتاب يشاء، ولئن كانت مراعاة الظروف الخاصة لكل طالب مطلوبة، والحرية المتاحة في الدراسة وأوقاتها محببة، إلا أنها في أحيان كثيرة باتت تخرج عما أريد لها.
ليس هناك في النظام الحوزوي السائد ما يلزم الطالب أن يُتم المرحلة أو الكتاب الدراسي الذي هو فيه قبل انتقاله إلى المرحلة أو الكتاب اللاحق له، بل إن الأمر متروك للطالب نفسه؛ فمنهم من يُوفق إلى تطبيقه تطبيقاً تاماً؛ فلا يقرأ في كتاب حتى يتم ما قبله ويتقنه(19).
ومن الحلول المطروحة منذ زمن حتى يومنا هذا، هو اقتراح الامتحانات وشهادات التخرج، وإضافة مواد دراسية جديدة وحذف مواد أُخر، ووضع مادة دراسية مستقلة تتولى مسؤولية الإرشاد والوعظ، وتعنى بالجانب الأخلاقي وتربية النفس وتهذيبها، وفتح باب التخصصات الجديدة، وتشكيل لجان امتحانية. وكل ماذكر من متطلبات الإصلاح في المناهج لايمكن اعتباره ثورة أوتغييراً شاملاً، حيث لم يحصل أن تمت المطالبة بإلغاء مرحلة من مراحل الدراسة الحوزوية، كالمقدمات أو السطوح الأولية أو السطوح العليا أو البحث الخارج، فهذه المراحل هي ذاتها لم تتغير منذ نشأة الحوزة قبل أكثر من ألف عام، وأن مجرد التغيير في الكتب التي تدرس في كل مرحلة أو اضافة مواد جديدة أو إلغاء غيرها أو تقليصه لايعد أصلاحاً.
ويعتقد الدكتور علي المؤمن أن هناك سياقات جديدة تم فرضها في حوزة قم المقدسة بعد تأسيس الجمهورية الأسلامية في 1979، هي الإمتحانات الدورية والسنوية العامة للطلبة، وتحديد عدد سنوات كل مرحلة من مراحل الدراسة، وشهادات التخرج والاختصاصات الفرعية، مما عدّه تطوراً، في حين لم تحظ حوزة النجف الأشرف بممارسة مثل هذه السياقات.
في حين يرى الشيخ المظفر(20) أن مرحلة البحث الخارج غير قابلة للتعديل في الشكل أو المضمون، ولايمكن إخضاعها الى أي تنظيم منهجي خاص؛ ففي وصفه لطبيعة هذه الدراسة، يبيِّن أن مهمة الإعداد كله أو جزء كبير منه، يقع على الطالب نفسه؛ فالطالب يقوم بإعداد مادة البحث، على وفق ما يتطلبه البحث العلمي، ويصغي الى توجيه الأستاذ في صياغة البحث والمناقشة، وبعد النقاش بين الأُستاذ والطالب، أما أن يقتنع الطالب برأي الأُستاذ أو ينزل الأُستاذ عند رأي الطالب، ويصحح الطالب في ضوء هذا التوجيه والإشراف ما كان يبدو على تفكيره من وجود الضعف أو النقص. وعليه؛ فإنّ طبيعة هذا البحث لاتتحمل أي تحديد أو تنظيم، كما لايمكن أن يكون الامتحان داعياً الى البحث والدرس في هذا الدور(21). ومن الملاحظات المهمة للشيخ المظفر، إن الدراسة الفردية أو دراسة الحلقات المعروفة في النجف؛ تدفع الطالب الى الشعور بالمسؤولية أزاء نفسه، وتبعثه الى البحث والتحضير أكثر مما تبعثه الى ذلك الدراسة المنظمة، التي تعتمد على الامتحان وعلى مسؤولية المدرسة(22).
تعد ملاحظات الشيخ المظفر هذه، رؤية متقدمة في مجال التعليم وطرائقه، حيث يعتقد باحثون وأساتذة مهتمون بقطاع التعليم في عالمنا الحالي، وبعد طفرات التكنولوجيا ووسائل الأتصال والتواصل ((إنّ سبب شعور الطالب بالملل وعدم رغبته بالدراسة، هو المناهج الدراسية التي تركز على الحفظ وترديد الحقائق، والأمتحان الذي يكافيء الطالب عن النقل الحرفي من الكتاب المنهجي، بدلاً من حثه على التفكير المستقل، حيث أن طرق التدريس الحالية لاتتيح للطالب أي فرصة في التفكير، وإنما تعليم الطالب من أجل الامتحان والتعرف على أنماط الأسئلة، ولذا فإنّ التعليم يعتمد على التلقين والحفظ، في حين أن التعليم الحديث لايبنى على الامتحان، بل أن إلغاء الإمتحان خطوة في الطريق الصحيح، للتخلص من تفشي الغش وشيوع حالات سرقة الأسئلة التي أحرجت وزارة التربية والحكومة. في حين أن غرس المبادرة والإبداع والفكر الناقد، وتنمية قدرات حل المشكلات، والانتقال من طرق التدريس المبنية على التلقين والحفظ الى طرق تدريس مبنية على التفكير النقدي والتحليلي، وعلى وزارة التربية أو أي جهة تعليمية أخرى أن تعتمد في تأليف الكتاب المدرسي على الأهداف ومخرجات التعلم، وعلى أساسها تبنى المفردات، والتحول من التعليم الى التعلّم، وحث الطالب على المشاركة واستنباط المعلومات، والاهتمام بالمهارة والجانب الحسي والاجتماعي، والغاء أُسلوب النقل الحرفي من الكتاب))(23).
وهذا ما يحصل بالضبط في الدراسة الحوزوية، التي تعتمد على الفهم والفكر النقدي والنقاش. أما اعتماد سياقات المدارس الأكاديمية (غير الدينية) في تحديد سنوات كل مرحلة والامتحانات الدورية والسنوية وشهادات التخرج وغيرها؛ فهي إجراءات شكلية لاتضمن بالضرورة الهدف الأسمى، وهو الدور الذي تلعبه الحوزة العلمية، بل أن التوجه العام في التعليم هو التحول الى وضع معايير فهم واستيعاب الدروس، وهذا بالتأكيد لاتحققه الإمتحانات فقط، بل أن أهم ما يكشف عن ملكات الطالب وما يؤكد فهمه وتفوقه، هو النقاش والسؤال وطرح فكرة جديدة، وتفسير مغاير من وجهة نظر مقابلة؛ مما يوفر بيئة ايجابية للتعلم والفهم، وهذا بالضبط ما يحققه الأسلوب الحوزوي، الذي يحمّل الطالب المسؤولية في وصوله الى الدرجة العلمية التي تؤهله الى الأجتهاد في نهاية المطاف.
2-معايير اختيار طلاب الحوزة:
بيّن الدكتور الحكيم في كتابه دستور حوزة النجف الأشرف(24) أن المهمة والدور المأمول لحوزة النجف الأشرف العريقة هي في:
إعداد جيل من رجالات الحوزة العلمية، ملمّ بما ينبغي الإلمام به من مناهج ولغات، ومعارف وطروحات، متمحض لتوصيل المراد، مؤهل أكفأ تأهيل، معدّ للتباحث كأفضل ما يكون عليه الإعداد والتدريب، ليحسن خريج مدرسة النجف الأشرف أداء ما أنيط به من دور ريادي في حواضر العالم ومراكز بحوثه وجامعاته الكبرى.
تحصين الطلاب والأساتذة تحصيناً مدروساً، مبرمجا بآليات محددة، من دون ترك الطلاب لأنفسهم يتولونها هم، وذلك بأن تقوم الحوزة بدور المربّي المراقب لمن ربّاه، المتابع لسلوكهم العملي، الراصد لمدى استفادتهم الخلقية، لذا باتت للعناية بالجانب الأخلاقي لرجل الحوزة، وتربية نفسه وتهذيبها وتكميلها، أولوية قصوى، حقَّ لها أن تكون مادة دراسية، مستقلّة بنفسها، وحقَّ أن يكون لها من يعهد إليه من علمائها، ليتولى مسؤولية إرشاد ووعظ وتربية نفوس رجالات الحوزة وتهذيبها.
إعداد متخصصين في علوم الشريعة الأخرى، من غير الفقه والأ صول، إلى جانب المجتهدين من الفقهاء والأصوليين، على أن تفتح أبواب التخصص الدقيق في هذه العلوم على مصراعيها، لمن يرغب من طلاب الحوزة التخصص الدقيق فيه، وصولاً إلى أعلى مراتب الاجتهاد في هذه العلوم، مثلما وصلوا إلى أعلى مراتب الاجتهاد في الفقه والأصول. وقد وضع لها هذا الدستور آلية التخصص الدقيق فيها.
وقبل مناقشة الاقتراح أعلاه أو إبداء الرأي فيه؛ علينا التأمل فيما يمتاز به الطالب الحوزوي من سمات عليا تفرّد بها منذ أن تأسست حوزة النجف الأشرف والى يومنا هذا:
أولاً: الاستقلالية: لاينضوي الطالب النجفي في إطار سياسي، والكيان الحوزوي النجفي مستقل عن السياسة، وقد يتصور البعض أن الجامعة النجفية محافظة في سيرها وأفكارها، لكن الباحث المنصف يدرك أنها أقرب للأستقلالية منها للمحافظة، ومما يؤكد استقلاليتها عدم ارتباطها في الجانب المالي بأية جهة رسمية أو مورد سياسي(25).
ثانياً: التعمق والنظر: الطالب الحوزوي لايدرس من أجل الامتحان، بل هو معني بالاهتمام بالمادة الدراسية والتعمق في صياغة البحث من الخارج، وتحليل المحتوى من رأي أو فكرة من الداخل؛ فهو يختلف عن طالب المدارس الأكاديمية الذي يقرأ المادة تحضيراً للامتحان، والنجاح في الامتحان هو الهدف، ولذا فالدراسة تعوّده على حفظ المادة، في حين أن طالب الحوزة يتعود في دراسته على التفكير والتعمق والنظر والمناقشة والنقد، وأن طبيعة الدراسات النجفية، كالفقه والأصول والفلسفة والتفسير، التي تتقبل النقاش والجدال والنقد مما يتطلب التعمق والتفكير(26)، ولايتوخى الطالب في الحوزة العلمية النجفية من وراء دراسته الحوزوية وظيفة مادية أو منصباً تنفيذيا أو رتبة اجتماعية أو غيرها، ولا يسعى الى الحصول على شهادة بالتخرج، تتيح لحاملها ما تتيحه الشهادات ووثائق التخرج من فرص عمل وأشباهها(27).
وحرية الاجتهاد من العوامل البارزة في شخصية طالب الحوزة النجفي، فهو يحاول تجديد النظر وإعادة التجارب، ليواكب حاجات الإنسان في مختلف الظروف الفردية والاجتماعية، كما أن طبيعة دراسة الحلقات تمنح للطالب حرية أكبر في التعبير عن الرأي(28)، أي أن الأُستاذ والطالب في حوزة النجف الأشرف، هما دوماً في امتحان علمي مستمر، وهذا ما يحث الطالب باستمرار على التزود بالمعلومة واستمرار البحث والتحصيل والمذاكرة والاستحضار والمراجعة والحفظ(29). والطالب المشتغل الحريص، والساعي للتزود بالعلم والمعرفة، قادر باندفاع ذاتي كبير، بل بحب، على تحمل الظروف الحياتية القاسية والمعاناة الشديدة والمكابدة المرة والطوارئ الحاصلة، كي يواظب على حضور درسه وتدریسه ومباحثته وتحصيله، متجاوزاً الصعوبات ومتخطيا العوائق(30). وبالرغم من أن النظام الحوزوي هو نظام طوعي، وأن الدافع إلى التعلم في الحوزة وصولاً إلى الاجتهاد، هو نيل رضا اللّه (عز وجل)، والخروج من عهدة التكليف الإلهي فقط، ولاتوجد دوافع أُخرى (لمراجع التقليد ولا لطلابهم).
وبرغم كل السمات الفريدة المشار اليها أعلاه التي يتصف بها طالب حوزة النجف، إلّا أنّه يرى عدد من الحريصين والمهتمين بهذا الشأن أن عدم وجود شروط مكتوبة ومعلنة لقبول الطالب الجديد، الذي ينوي أن يكون طالباً حوزوياً، يدخل غمار البحث العلمي الرصين، والغوص في عباب الآراء والنظريات والمناقشات والرأي والرأي المخالف، وحمل همّ التبليغ وتوصيل ما استفاده من دراسته إلى آخرين؛ تعد فجوة في التعليم الحوزوي لابد من غلقها. وقد وجدت أن من أهم المبررات المذكورة لهذا المطلب هو ضياع بعض المؤهلين من طلاب الحوزة، لعدم تيسر ظهورهم على الساحة، بعد فقد المعايير الدقيقة والحدية لتقييم الأشخاص، فضلاً عن حرمان كثير من ذوي الكفاءات من حقوقهم المادية والمعنوية التي يستحقونها بسبب كفاءاتهم، لصعوبة تمييزهم عن غيرهم، بعد فقد طرق التقييم الرسمية المحددة(31). وأنا أجد أن هذا يتنافى مع طبيعة الدراسة الحوزوية التي تعتمد الاتصال المباشر بين الأُستاذ والطالب، وهي بالضرورة تتيح للمتميز وذي الكفاءة منهم بالبروز، وقد يكون محط الأنظار والاهتمام إذا كان نابغاً مبتكراً بأفكاره ونقاشاته.
وعود على بدء؛ لنطرح هذا السؤال: هل في كل ما ذكر من مقترحات ومطالب تتعلق بمعايير اختيار الطالب؛ ينطبق عليها مصطلح (الإصلاح)، وهل إذا تحققت تلك المطالب؛ ستحدث ثورة وتقلب الأمور رأسا على عقب؟
إصلاح النظام المالي
يرى الدكتور علي المؤمن بأنّ الاستقلال المالي للحوزة العلمية والمؤسسة الدينية الشيعية، سواء في النجف الأشرف أو غيرها، والذي قوامه الحقوق الشرعية من الخمس والزكاة التي يدفعها المؤمنون الى المرجعية الدينية، والتي تشكل الإستقلالية المالية للمؤسسة الدينية الشيعية عن الدولة، هي من أهم مصادر قوة قرارها ومركزها الاجتماعي والديني. كما تشكل الحقوق الشرعية مصدراً للتكافل الاجتماعي؛ فإنّ أحد أهم وجوه انفاقها هو رعاية الأيتام وحماية الفقراء والفئات الهشة، وتقديم الخدمات الصحية والاجتماعية وغيرها، ومن الطبيعي أن تزداد محاولات التشكيك وضرب هذه القوة بشتى الوسائل، ليس حباً أو رغبة في الاصلاح أو تحسين الأداء، وإنّما من أجل كسر جدار الاستقلالية المالية لهذه المؤسسة العريقة، هذه الاستقلالية المالية التي أدت الى استقلالية القرار وقوة التأثير في المجتمع والدولة. ويذهب الدكتور المؤمن الى أنّ من أبرز محاولات الخصوم لقطع شريان هذه الحقوق والتبرعات والأوقاف، هو التشكيك المستمر بتشريع الخمس أو بحق مرجع التقليد باستلام الخمس، والشبهات بكيفية صرفه، وهي شبهات تستند الى سلبيات تتعلق بإدارة المال الشرعي، لكن محاولات الخصوم لاتهدف الى تصحيح الأخطاء والأداء، بل تعمل على مصادرة منظومة مالية عملاقة يستند اليها «النظام الاجتماعي الديني الشيعي» برمته، والتي تحقق المرجعية والمؤسسة الدينية من خلالها استقلاليتهما من أية تأثيرات سياسية أو محلية أو دولية(32).
وهنا لابد من التأكيد على أن كافة المنادين بإصلاح النظام المالي لحوزة النجف الأشرف، هم من الحريصين عليها، المحبين لها، وهم يستشهدون بأحوال مراجع حوزة النجف الأشرف، والقريبين منهم، ذاكرين مدى معاناتهم، نتيجة تشددهم في محاسبة أنفسهم وورعهم، وتثبّتهم في صرف الأموال العامة، وعدالتهم، والنأي بأنفسهم عن زخارف الدنيا الدنيّة، وزهدهم؛ فها هو المرجع الأعلى يسكن في بيت مؤجر متواضع، وبأثاث بسيط، وهو الذي يصرف شهرياً على المؤمنين، وعلى المشاريع الخيرية، ما يكافيء موازنة دولة غير كبيرة(33).
أما الحلول أو الإصلاحات المقترحة؛ فهي ما أشار إليه الدكتور علي المؤمن؛ بأن الكثير من الفقهاء يطرحون حل العودة الى مبدأ وحدة بيت المال، للقضاء على بعض السلوكيات السلبية في إدارة المال الشرعي(34)، وأكد الحكيم في دستوره على تأسيس ((بيت المال واللجان المشتركة))(35)، كما اقترح خطوات استباقية، من قبيل وجود شبكة اتصال وتبادل معلومات موثقة دائمة، تربط مكاتب المرجعيات ببعضها، تعين مكاتبهم على التثبّت أكثر فأكثر في تقسيم المال العام على مستحقيه من المؤمنين، مما يسهِّل تكوين بيت مال واحد، ولو بعد حين. كما أن اقتراح وجود مفتش عام للشؤون المالية، وانتداب خبراء ثقاة متخصصين، يدققون ويتابعون أمور صرف الوكلاء جميعهم، وهو ما يحرص عليه المراجع أشد الحرص، يخفف عن مكاتب المراجع أعمالها، ويضبط لها حسابات ممثليها ووكلائها من جهة أخرى.
هيكلة اختيار المرجعيات
يشير الدكتور علي المؤمن الى أن ((المرجعية الدينية العليا ليست مرجعية علمية فقهية وحسب، بل هي منظومة دينية اجتماعية، تقف على رأس النظام الاجتماعي الديني للطائفة الشيعية الإمامية في العالم، وأن مفاهيم المرجعية الدينية ونيابة الإمام المعصوم وولاية الفقيه، والاجتهاد والتقليد، والرجوع الى رواة الأحاديث، والأحتكام الى الفقيه في المذهب الشيعي؛ هي من ثوابت عصر الغيبة (غيبة الأمام الثاني عشر). أما هياكلها وأنساقها وتفاصيلها التقليدية الموروثة؛ فإنها تظل دائماً من المتغيرات، والتي تفرض متطلبات الواقع والمستقبل ضرورة إعادة النظر فيها وتعديلها وتطويرها))(36)، ولهذا فقد خصص في كتابه فصلاً كاملاً (الفصل السادس) بعنوان إعادة مأسسة منظومة المرجعية الدينية الشيعية، دعا فيه الى تأسيس المجالس الاستشارية، وتجديد هيكلية الحوزة العلمية، ومناهجها الدراسية، وتنظيم الحقوق الشرعية وغيرها. وقد طغت لغة ومفاهيم ومصطلحات العصر على دعوى المأسسة أو التجديد، وهو ما يدعونا الى العودة بالزمن الى الوراء، لنجد أن البهادلي(37) سبق أن أشار في تسعينيات القرن الماضي الى أن الشخصية المرجعية، محصِّلة لنشاطات ثلاثة:
المقومات التقوية في مقامي الرعاية والسلوك
المقومات الاجتهادية في مقامي الأصول والفقه
المقومات القيادية في مقامي الإدارة والتوجيه
وهذه النشاطات تلخص ما جاء في الفصل السادس من كتاب «الاجتماع الديني الشيعي»(38)، وسنأتي على بعض ماجاء فيه لاحقاً.
أما شروط المرجع المقلّد؛ فقد ذكر البهادلي أن أغلب الفقهاء الذين تناولوا هذا الموضوع، يلتقون في اشتراط ثلاث ركائز في شخصية المرجع المقلّد، وهي: العدالة، الأعلمية والحياة، إلّا أنهم تفاوتوا في اشتراط مجموعة ركائز أُخر، مثل: البلوغ، العقل، الحرية، طهارة المولد والذكورة(39).
في حين يؤكد الدكتور علي المؤمن على أربعة شروط أساسية، يرجِّح من يمتلكها، بدرجات أكبر من غيره، أن يكون هو المرجع الأعلى:
الاجتهاد المطلق
العدالة والتقوى والورع
الكفاءة القيادية والوعي بالشأن العام
المقبولية العامة
ويصف الدكتور علي المؤمن طريقة اختيار المرجع الأعلى في النجف الأشرف بأنها تقليدية ومتوارثة منذ مئات السنين، وتتمثل في الاجماع النسبي للوجوه الدينية والعلمية الأبرز في الحوزة، على شخصية معينة، بعد رحيل المرجع الأعلى السابق، ويُسمّون في العرف الحوزوي بـ((أهل الخبرة))، وهم أساتذة البحث الخارج وبعض أساتذة السطوح العالية. وهناك فاعلون في هذا المجال من (حواشي) مكتب المرجع الأعلى، وبيوتات مراجع الصف الأول، يطلق عليهم (جماعات الضغط) أو (جماعات المصالح)، لوجود أفراد بينهم ليسوا من أهل الخبرة. ولكن؛ يبقى دور جماعات المصالح تكميلياً وترجيحياً وليس أساسياً. وتلعب مجموعة من العوامل دوراً في خلق الاجماع النسبي، إلّا أنّ العامل الأبرز الذي يؤكد عليه أهل الخبرة هو عامل الأعلمية الفقهية والأصولية، إضافة الى شرط العدالة، وهو تعبير عن اعتقاد تلك الجماعات بأن الشخصية المرشحة هو أعلم الفقهاء الشيعة الأحياء، بصرف النظر عن الشروط الشخصية ذات العلاقة بالكفاءة القيادية والإدارية(40).
وإذا كان معنى (الاجتهاد) هو ملكة استنباط الأحكام الشرعية الفرعية الكلية، أو الوظائف العملية من مصادرها(41)؛ فإنّ (الأعلمية) هي القدرة على الإحاطة والاستقراء وإرجاع الفرع الفقهي لمبانيه، وإرجاع القاعدة الأصولية الفقهية الى أُسسها الرصينة، وإرجاع كل دليل ظني الى دليل قطعي، والتنبّه لما خفي على الغير من السلف والمعاصرين. ويعرِّف السيد الخوئي (قدس سره) أعلمية المجتهد: ((يكون المجتهد أكثر مهارة من غيره في تطبيق الكبريات على صغرياتها، وهو الأقوى استنباطاً والأمتن استنتاجا للأحكام عن مبادئها وأدلتها، وهو يتوقف على علمه بالقواعد والكبريات، وحسن سليقته في تطبيقها على صغرياتها، ولايكفي أحدهما ما لم ينظم اليه الآخر))(42).
ويتبيّن لنا من مراجعة بعض المصادر أن تفاصيل خطوات اختيار المرجع الأعلى(43) تستند وتركز على الأعلمية، وقد يبدو استبعادها أو حتى حصرها بالفتوى، مع إضافة شروط جديدة أقل وزناً، بل أقل أهمية لموقع المرجع الأعلى؛ فهو ليس (مدير عام لمؤسسة)، ولن يرشح نفسه لتولي منصب إداري، لكي تكون (الكفاءة والمقبولية العامة)، على أهميتهما، من تلك الشروط التي استبعد الدكتور علي المؤمن منها شرط الأعلمية، فضلا عن أنه قد ثبت رأياً في شرط الأعلمية، معتبراً أن إحرازها مستحيل، كونها تعتمد على قناعات أهل الخبرة وتلك قناعات بشرية!!. وإذا شككنا بالقناعات البشرية لأهل الخبرة الذين اقترح الدكتور المؤمن ((أن يؤسَّس مجلس خاص بهم (مجلس اهل الخبرة )، وهم المجتهدون العدول، المقبولون شعبياً، والمتفق على اجتهادهم وعدالتهم وفق معايير مؤسسية))، حيث حدد الدكتور علي المؤمن مهمة هذا المجلس الأساسية باختيار المراجع الحائزين على شروط التقليد، وطرحهم للأمة، واختيار المرجع الأعلى الجديد من بينهم(44)؛ فما هي الأسس التي عليها يختار مجلس أهل الخبرة المرجع الأعلى؟، وكيف سيتحكمون بقناعاتهم البشرية التي لو فتحنا باب الشك بها؛ فإننا لامحالة سنطيح بكافة الشروط الأخرى خاصة التي اقترحها الدكتور المؤمن، أي الكفاءة القيادية والمقبولية العامة، حيث لايوجد لأي منها مقياس أو وسيلة تحدد بالضبط وزن ذلك الشرط، وأن هدم أحد الشروط يتبعه الهدم الكامل لكافة الشروط حتى المقترحة منها.
ومع ذلك؛ فإنّ خطوات الاصلاح في اختيار المرجع الأعلى التي أوردها الدكتور علي المؤمن(45)، لاتختلف، بل هي متطابقة تقريباً مع ما يحصل منذ أن تأسست الحوزة العلمية في النجف الأشرف، كما تبين الخطوات في الاختلاف في المسميات والتنظيم، وهي أُمور شكلية، حيث يبقى الأمر بيد أهل الخبرة ومهماتهم التي أوردها الدكتور علي المؤمن لمجلس أهل الخبرة، تتطابق مع المهمات المتعارف عليها لأهل الخبرة. وقد يعود سبب الاستغراق في المصطلحات (مأسسة وهيكلة وتقنين…)، والدعوة للتغييرات المقترحة من قبل الدكتور المؤمن لأمرين:
الأول: مجاراة مصطلحات العصر الشائعة، التي يمكن أن يفهمها جيل الشباب، ويتماشون معها، وبالتالي؛ لايعزفون عن نهج «الاجتماع الديني الشيعي»، خاصة مع وجود تيارات جارفة، ويمكن أن تكون هذه التحديثات تمزق هذه التيارات وتشتتها، من أجل الحفاظ على أجيالنا القادمة.
أما الثاني؛ فهو ميل الدكتور علي المؤمن الى التنظيم والتغيير (الشكلي) الذي حظيت به حوزة قم المقدسة، وإعجابه الواضح في كل فصل من فصول كتابه بتلك التجربة، من حيث تشكيل المجالس واللجان، وغيرها من تفاصيل في المناهج، أوردها في كتابه. وهذا الرأي بالذات استخلصتُه من كتابه نفسه؛ فهو القائل: ((وعلى صعيد سياقات اختيار مراجع التقليد؛ فإنّ سياقات حوزة قم لاتختلف عن سياقات حوزة النجف، ولكنها تحاول منذ ثلاثة عقود تقريبا مأسسة هذه السياقات، وتقنين عمل جماعات أهل الخبرة وجماعات الضغط، أي تحويلها إلى جماعات علنية تمارس دورها بشفافية))(46)، وقال أيضا في مورد آخر ((وإذا كانت حوزة النجف تختلف عن حوزة قم في الجوانب الشكلية ذات العلاقة بالهيكلية والتنظيم وحجم الانتاج العلمي؛ فانهما تتشابهان الى حد التطابق، في المضامين والمحتوى، ولاسيما في مراحل الدراسة الثلاثة: المقدمات والسطوح والبحث الخارج، والمناهج الدراسية في المراحل الثلاث، ومصادر البحث والرواية والاستدلال، وشروط الأجتهاد وأساليب الوصول اليه، وشروط المرجعية، ولاسيما الأعلمية والعدالة، وأساليب ادارة المدارس الدينية التقليدية وغيرها))(47).
ويعود الدكتور علي المؤمن ليؤكد: ((ليس من الضروري أن تكون تجربة التنظيم في حوزة قم مفيدة للنجف، وليس من الضروري أن تكون تجربة حوزة النجف المفتوحة مفيدة لقم؛ فلكل حوزة ظروفها وبيئتها وتراثها وخبراتها التراكمية، ولكن يرى حكماء الحوزتين أن من المفيد جداً أن تتبادل التجربتان خبراتهما في المساحات المشتركة التي تثري البعد العلمي والتبليغي للمذهب))(48).
ترشيد شرط الأعلمية
يتبنّى الدكتور علي المؤمن فكرة ترشيد شرط الأعلمية، لكي لايكون محصوراً ومعنياً بالفتوى فقط، وكما أسماه ((الكفاءة العلمية الفتوائية))؛ إذ يرى ما نصّ عليه في كتابه: ((لقد وُضع شرط الأعلمية ضمن شروط مرجع التقليد، ليكون دليلاً عقلياً لفرز المرجع الأكبر المتصدي، وحل مشكلة تعدد المرجعيات المتصدية لزعامة الحوزة والشأن العام، والحيلولة دون تشتت قرار الحوزة والمجتمع. ونظراً لاختلاف المعايير وتفاوت المخرجات؛ فإنّ الأعلمية تعد أمراً نسبياً، وإحرازها مستحيل، وبالتالي؛ فإنّ أهل الخبرة يختارون المرجع الأعلم بحسب قناعاتهم، وهي قناعات بشرية خاصة، بل أنّ متطلبات مأسسة المرجعية تتطلب إضافة معايير في الأعلمية تتجاوز الفقه والأصول، ومن بينها الأعلمية في وعي مقاصد الشريعة ونظام الأسلام العام، والأعلمية في تشخيص المفاسد والمصالح وتشخيص الموضوعات ذات العلاقة بالشأن العام))(49).
ابتداءً؛ إنّ مفردة (ترشيد) قد لاتكون هي الكلمة المناسبة لهذا المقام، لما بيّنته المعاجم من المعنى اللغوي لكلمة (ترشيد)(50)، وأما حصر الأعلمية بالفتوى فقط؛ فهو يتنافى مع الرأي القائل بأن المرجعية هي ((ولاية الفقيه في القضاء، وولاية الفقيه في الأمور العامة، المقصود بها الأمور التي ترتبط بها مصالح العباد، فضلاً عن الحسبة. كل هذه الموارد تتطلب فتوى، وعليه لابد من توفر شرط الأعلمية))(51).
لقد دافع الدكتور علي المؤمن بقوة عن مقترحه باستبعاد شرط الأعلمية، ووضع الافتراضات والدواعي والبراهين، لصعوبة إحراز الأعلمية، مع أن تعريفها الذي أشرنا اليه أعلاه واضح ومحدد، هذا فضلاً عن أن المرجع الأعلى هو نائب الإمام المعصوم، ولابد أن يتوافر لنائبه هذه المنزلة العلمية بالفقه والأصول، والقدرة على استنباط الحكم الشرعي، وهذه القدرة والمكانة لاتخفى على المراجع المعاصرين له، ولايتطلب الأمر تضعيف الوسائل المتبعة في إحراز الأعلمية، وأهمها شهادة أهل الخبرة. وهنا أُحيلكم(52) الى مراجعة دقيقة في كيفية إحراز أعلمية المرجع، وكيف أنها لاتختلف بشيء عن وظيفة مجلس أهل الخبرة الذي اقترحه الدكتور المؤمن.
ويذكر الدكتور علي المؤمن في مجال إمكانية تعدد المراجع، ممن اجتمعت فيهم الشروط المثبتة في كتب الفقه والحديث في آن واحد، ويركز على (الفقاهة والعدالة)، بينما يستبعد الأعلمية ويعتبرها غير مشروطة بجعل الولاية للفقيه، بل يؤكد على تحقق الولاية لكل فقيه. ولذا؛ فهناك ضرورة لحصول إجماع نسبي لدى أهل الخبرة في حوزة النجف أو قم، لطرح المرجع الأعلى، وفق شرائط معينة، بإضافة شرطي الكفاءة والمقبولية العامة، ليكونا شرطين مرجِّحين، مضافين الى الشرطين الأساسيين (الأجتهاد والعدالة)، دون الإشارة الى الأعلمية كأحد الشروط(53).
إنّ هذه الاستعاضة عن شرط الأعلم بالأصلح أو الأكفأ وصفات أُخر، يبدو تشخيصها أكثر صعوبة من تشخيص الأعلمية، مثل: المقبولية العامة و((تأثير سيكولوجية الفقيه على صناعة الفتوى وإدارة الشأن العام))(54)؛ تعيدنا الى الأستنتاج بأن الكاتب يميل لاستخدام المصطلحات الحديثة والمتداولة في عصرنا، لكي تكون أكثر مقبولية، وتتناسب مع لغة هذا العصر، ولكن هذا لايعني الابتعاد عن الأصل في الموضوع، وهو الدور الرئيس للمرجع الأعلى، وهي الولاية على الفتوى والقضاء والحسبة التي ترتكز على شرط الأعلمية.
وقد أورد الدكتور علي المؤمن ضمن مقترحات مأسسة المنظومة المرجعية: ((تقنين سياقات علاقة المرجعية العليا بولاية الفقيه ومرجعيات التقليد والفقهاء في البلد نفسه وفي البلدان الأخرى في إطار منظومة مرجعية واحدة))(55). وتعليقاً على هذا المقترح للمأسسة التي تعبر كل الحواجز التي يصعب عبورها؛ ففي الوقت الذي نقدر حرص الدكتور علي المؤمن في أن لايكون هناك تشتت في القرار القيادي للمرجعية الشيعية، ومن أجل ستراتيجية شيعية موحدة(56)، ولكن هذا لايتم من خلال تجاوز متبنيات المدرسة الفقهية لكل مرجعية؛ فالمرجع السيستاني هو على رأي أُستاذه السيد الخوئي (قدس سره)، الذي ذكر في كتاب الاجتهاد والتقليد: ((وقد ذكرنا في الكلام على ولاية الفقيه من كتاب المكاسب أن الأخبار المستدل بها على الولاية المطلقة قاصرة السند أو الدلالة، وتفصيل ذلك موكول إلى محله، نعم يستفاد من الأخبار المعتبرة أن للفقيه ولاية في موردين وهما الفتوى والقضاء، وأما ولايته في سائر الموارد فلم يدلنا عليها رواية تامة الدلالة والسند))(57)، وفي صراط النجاة يقول السيد الخوئي (قدس سره): ((أما الولاية على الأمور الحسبية كحفظ أموال الغائب واليتيم، إذا لم يكن من يتصدى لحفظها كالولي أو نحوه، فهي ثابتة للفقيه الجامع للشرائط، وكذا الموقوفات التي ليس لها متولٍّ من قبل الواقف، والمرافعات، فإن فصل الخصومة فيها بيد الفقيه، وأمثال ذلك، وأما الزائد على ذلك فالمشهور بين الفقهاء عدم الثبوت، والله العالم))(58).
القصد من سرد هذه التفاصيل لتبيان أن رأي المرجع الأعلى السيد علي السيستاني من رأي السيد الخوئي (قدس سره) في ولاية الفقيه؛ فكيف يمكن دمجهما بمنظومة واحدة، بل أننا نجد أن التنوع، وحتى الأختلاف بين المراجع، ليس حالة سلبية، بل العكس؛ فقد كان سبباً في ازدهار الحركة الفكرية في النجف أو قم، والتي انتجت مئات بل آلالف أمهات الكتب، في مجالات علمية دينية متعددة، كالفقه والأصول والكلام والمنطق والرجال وغيرها.
كلمة الختام
إنّ كلّ ما ورد في هذه الورقة، ما هو إلّا حوار مع الدكتور علي المؤمن، شارك فيه عدد من الكتّاب المرموقين الآخرين، الذين تشغلهم نفس القضايا، وتجمعهم نفس الهموم، ويتقاسمون التبجيل والحرص والحب والاهتمام بالحوزة العلمية الدينية في النجف الأشرف. ومع أني أكتب هذه الحروف لأختم الورقة، إلّا أنّ عيني كانت على الفصل الثامن (إشكاليات الهوية الشيعية)، الذي استعرض فيها الدكتور علي المؤمن تاريخ التشيع وأوضاع الشيعة في الخليج والعراق وإيران ولبنان وآذربيجان والهند.
إنّ التنوع في «الاجتماع الديني الشيعي» ليس في البلدان ذات الكثافة الاجتماعية الشيعية فقط، بل حتى في داخل البلد الواحد، وبالرغم من هذا الثراء الشيعي الاجتماعي، الذي يستدعي الكثير من جهود الباحثين، لتسليط الضوء عليه والافتخار به كقيمة ثقافية واجتماعية، إلّا أنّه في العراق، ونتيجة السياسات العدوانية لحكومة البعث القمعية، التي عانى منها الشيعة تحديداً؛ فإنّ هذا الثراء في السلوك والثقافات والمشاعر والاهتمام والممارسات؛ لم يجد حظه من الدراسة؛ فهو لايزال موضوعاً جديداً ومشوقاً للباحث في الاجتماع الشيعي بكل تفاصيله وتركيباته.
لذلك؛ كنت أتمنى لو أن الدكتور علي المؤمن توسّع في وصف تلك الأوضاع في المجتمع الشيعي العراقي، الذي تركّز في مساحة جغرافية من العراق، هي الوسط والجنوب، ولو أنه وصف مجتمع الأقليات الشيعية في مناطق غرب وشمال العراق، التي عانت من الإهمال والإقصاء، وما زالوا يحلمون بالخلاص من ذكريات ما قبل 2003؛ حيث أمعن النظام البعثي في تحجيم الشيعة والسيطرة عليهم، وعزلهم جغرافياً، ولهذا فقد استحدث محافظة صلاح الدين ذات الأكثرية السنية، واقتطع ثلاثة أقضية، كل سكانها شيعة، وضمّها إليها، وهي بلد والدجيل من محافظة بغداد، وطوزخورماتو من محافظة كركوك، وبهذا خنق هذه الأقضية التي عانت بعد 2003 من التفجيرات الإرهابية، كما طبّق البعث السياسات نفسها التي تعتمد خنق الجغرافيا ذات الأكثرية الشيعية، بسياج أو ممر سني متشدد، وهو ما حصل في محافظة كربلاء باقتطاع ناحية النخيب وضمّها الى محافظة الأنبار، وهي اليوم تابعة الى قضاء الرطبة في محافظة الأنبار. وما زالت تعيش الأقضية الشيعية المقتطعة الثلاثة، وضعاً أمنياً هشاً، وقلة خدمات، ومشاركة سياسية ضعيفة لاتحقق لها التوازن المطلوب بعد التغيير.
في جانب آخر؛ نجد في محافظات واسط وديالى وكركوك ونينوى، أقليات شيعية ذات تنوع قومي متعدد: فيليين، عرب، أكراد، تركمان وشبك، ولكل منهم ثقافته الخاصة وأمنياته وأحلامه التي لم تتحقق. وعند استطلاع رأي هذه المجتمعات، ودراسة أوضاعهم، خاصة في فترتي ما قبل وما بعد 2003، فضلاً عن استهدافهم من قبل الهجمات الإرهابية للقاعدة وداعش والبعث، خاصة في كركوك ونينوى، سيكشف عن فجوات الشعور بالأمن والاستقرار، والمشاركة السياسية ومواقع صنع القرار، وربما هي دعوة لإنتاج كتاب آخر، يسلِّط الضوء على هذه الأقليات الشيعية المتناثرة في جغرافيا الوطن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإحالات
(1) المؤمن، د. علي، «الأجتماع الديني الشيعي: ثوابت التأسيس ومتغيرات الواقع»، ص 139-159.
(2) المصدر السابق، ص 162-201.
(3) البهادلي، علي أحمد، الحوزة العلمية في النجف: معالمها وحركتها الأصلاحية1920-1980، ص34.
(4) الحكيم، د. عبد الهادي، حوزة النجف الأشرف النظام ومشاريع الإصلاح، 2012.
(5) البهادلي، ص21-36.
(6) المصدر السابق، ص232.
(7) الآصفي، الشيخ محمد مهدي، الشيخ محمد رضا المظفر وتطور الحركة الأصلاحية في النجف، ص18.
(8) الحكيم، د. عبد الهادي، الدستور المقترح للحوزة العلمية في النجف الأشرف.
(9) المصدر السابق.
(10) الحكيم، د. عبد الهادي، الدستور المقترح للحوزة العلمية في النجف الأشرف.
(11) المؤمن، ص 257.
(12) المصدر السابق، الفصل السادس
(13) المصدر السابق
(14) البهادلي، 286.
https://ar.wikipedia.org/wiki/ (15)
%D9%85%D8%A4%D8%B3%D8%B3%D8%25A%D8%AA%D9%8A%D8%A9″
(16) الآصفي، 98.
(17) \https://www.unescwa.org/ar/sd-glossary/%D8%A5%D8%B9%D8%A7%D8%AF%D8%A %D8%A7%D9%84%D9%87%D9%8A%D9%83%D9%84%D8%A9
(18) الآصفي، الشيخ محمد مهدي، الشيخ محمد رضا المظفر وتطور الحركة الأصلاحية في النجف
(19) المصدر السابق.
(20) المصدر السابق.
(21) المصدر السابق، ص 98.
(22) المصدر السابق، ص 100.
(23) الربيعي، د. محمد، اولويات التعليم (محاضرة الكترونية)، 11شباط 2022.
(24) الحكيم، د. عبد الهادي، الدستور المقترح للحوزة العلمية في النجف الأشرف.
(25) المصدر السابق.
(26) المصدر السابق.
(27) المصدر السابق.
(28) المصدر السابق.
(29) المصدر السابق.
(30) المصدر السابق.
(31) المصدر السابق.
(32) المصدر السابق.
(33) المصدر السابق.
(34) المؤمن، ص211
(35) الحكيم، الدستور المقترح، ص 239
(36) المؤمن، ص 214
(37) البهادلي، ص 208.
(38) المؤمن، ص173-199.
(39) البهادلي، ص 179- 253.
(40) المؤمن، ص142.
(41) البهادلي، ص 148.
(42) المؤمن، ص171.
(43) الاجتماع الديني الشيعي، ص110.
(44) المؤمن، ص 169.
(45) يجوز لنا أن نقول أنّ منصب المرجع الأعلى فيما يمثل في الوجدان الشيعي الإمامي من معنى خلافة الإمام (عليه السلام) الذي هو خليفة للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ لايمكن أن يكون بالتعيين. أذن كيف يتم الأمر لدى الشيعة؟ إنّ الصفات هي الركيزة الأساسية التي يستند اليها فيمن تقع على كاهله مسؤولية (القيادة المرجعية)؛ ((فإذا وجد من استجمعها كاملة؛ ثبتت مرجعيته، ووجب على الناس وجوباً شرعياً الرجوع اليه))؛ فلا تعيين هنا، والسؤال هنا: كيف يتم تطبيق الصفات على الأفراد ليتم من خلالها أختيار المرجع؟ الجواب: ((إنّ المرجع الأعلى الجديد لاينتخب بعد فقد المرجع الأعلى الأول مباشرة، ولا تنتخبه هيئة معلومة محددة، ولاتتعين الرئاسة بعد فقد الرئيس لشخص واحد، بل يجب ان تتوفر في الناخبين جملة من الصفات المشترطة في الرئيس، فغير الثقة الورع كيف تقبل شهادته بورع آخر، وغير العالم اللامع كيف تقبل شهادته بأعلمية أخرى؟ وغير الإداري المتزن كيف تقبل شهادته بحسن إدارة آخر؟ وحيث يوجد عدد وافر من المعروفين بالعلم والفضل وهم بين مجتهد مطلق ومتجزّيء ومراهق وهؤلاء كلهم يشتركون في تمييز الأعلم وهم من يسمون ((اهل التمييز))؛ حيث يتضح لهم المتفوق من بينهم بالأحاطة والأستقراء وإرجاع الفرع الفقهي لمبانيه وبإرجاع القاعدة الأصولية الفقهية الى أُسسها الرصينة، بل بإرجاع كل دليل ظني الى دليل قطعي، ومعرفتهم بتنبهه لما خفي على غيره من السلف والمعاصرين؛ فاذا كان ذلك كله شهدوا له بالأعلمية)). البهادلي، ص 202.
(46) المؤمن، ص 153.
(47) المصدر السابق، ص156.
(48) المصدر السابق، ص 156.
(49) المصدر السابق، ص 171-172.
(50) إنّ كلمة (تَرْشِيدٌ)، كما تم مراجعتها من معاجم اللغة، تعود الى الفعل [ر ش د] =(رَشَّدَ)، أي سَعَى إِلَى تَرْشِيدِهِ لِطَرِيقِ الخَيْرِ: هَدْيُهُ، تَرْشِيدُ الوَلَدِ: جَعْلُهُ رَاشِداً لِبُلُوغِهِ سِنَّ الرُّشْدِ.
(51) مقابلة مع أحد أساتذة حوزة النجف الأشرف.
(52) https://imamhussain.org/arabic/27454
(53) المؤمن، ص 113.
(54) سيكولوجيا تعني علم النفس وهو العلم الذي يبحث في السلوك من حيث علاقته بالحياة العقلية شعورية كانت أو لا شعورية. المصدر: ويكيبيديا (الموسوعة الحرة).
(55) المؤمن، ص165.
(56) المصدر السابق، ص167.
(57) الخوئي، السيد أبو القاسم، الاجتهاد والتقليد، ص 419
(58) الخوئي، السيد أبو القاسم، صراط النجاة.