7 أبريل، 2024 1:24 ص
Search
Close this search box.

الإيديولوجيا كحلقة مركزية في المقاربة العلمية للسينما ! (1)

Facebook
Twitter
LinkedIn

خاص : دراسة بقلم – د. مالك خوري :

في هذا المقال أهدف للمساهمة في إعادة الاعتبار للتقييم العلمي للسينما باعتباره حجر الأساس في قراءتها كظاهرة اجتماعية مفصلية في الحياة المعاصرة. وفي هذا أسعى لإلقاء الضوء على أسس نظرية مركزية في قراءة مكونات الممارسة السينمائية وتطور ذلك خلال القرنين الماضي والحالي. وهذا التقييم يُركز على قراءة المضمون/الموضوع، اللغة والشكل، المشاهدة والتلقي، والصناعة كنماذج أساسية في القراءة العلمية للممارسة السينمائية، لكن ليس كمكونات منفصلة عن بعضها البعض، بل كمكونات تكتسب فعاليتها بالارتباط مع البنية الإيديولوجية العامة للمجتمع. كما أهدف هنا إلى إعادة التركيز، ليس فقط على التناول الأكاديمي أو المتخصص لهذه المكونات كركائز للقراءة العلمية للسينما ضمن البنية الإيديولوجية العامة في مجتمعاتنا المعاصرة، بل أيضًا كأساس لتطوير القراءة النقدية للأعمال السينمائية، كجزء من الفهم الثوري العضوي للممارسة السينمائية كبنية دائمة التفاعل مع المتغيرات التاريخية لهذه المرحلة من تاريخ الرأسمالية والصراع الطبقي.

الكثير من الأبحاث والدراسات الأكاديمية هي أكثر اهتمامًا بتجاوز الميول السائدة في الثقافة السينمائية السائدة والتي ما زالت في معظمها “تُقدس” عزل النشاط السينمائي والأفلام وقراءتها عن تقاطعاتها المادية المُعقدة. ومن ناحية ثانية، هناك العديد من أشكال النقد والقراءة الأكثر علمية للسينما والتي تهدف أيضًا للوصول إلى جمهور أوسع من ذلك المحصور بنخب الاختصاصيين والأكاديميين. وأحد المكونات الأساسية التي تدفع بهذا الاتجاه يكمن في التزايد الهائل والمتسارع في استعمال وسائل التواصل الاجتماعي ومواقع الإنترنت واهتمامها بنشر قراءات لم يكن ليراها أحد من قبل خارج المكتبات الجامعية وأوساط النخب. وجمهور هذه الأبحاث والقراءات النقدية المغايرة في الشكل والمحتوى أصبح اليوم يضم تقاطعات جديدة تشمل أجزاءً أوسع من جمهور السينما والفنون وكذلك أوساطًا هامة من الناشطين المهتمين بالقضايا الاجتماعية والسياسية لعالمهم. كل هذا يتمخض عن مزيد من التفاعل ما بين هذه الأوساط، وانبثاق نوعيات مختلفة من المهتمين بالقراءة عن السينما كإطار معرفي يُساعد في فهم ديناميات البنية الإيديولوجية التي تُهيمن على عالمنا المعاصر، وبالتالي يُساعد على تلمس وسائل جديدة لمقاومة تلك الهيمنة وما تُمثله.

ويبقى ما اصطلح على وصفه بقراءات نقدية سينمائية “محايدة” أو “غير مسيّسة” أو “فنية خالصة” أو “غير مؤدلجة” أو محض “خاصة” و”شخصية”؛ (والذي يُعاد تسويقه وتدويره اليوم بالاستفادة من تراجع نفوذ القوى السياسية الثورية)، “قميص عثمان” الذي يختبيء وراءه كل من يبقى متمترسًا خلف القراءات الانطباعية أو الانتقائية الشعبوية للسينما وللثقافة السينمائية. وهذه التوصيفات لمنهجيات قراءة السينما تتماهى بوضوح مع ما هو سائد ويتم الترويج له في الدوائر المهيمنة في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، كما ضمن المؤسسات المهيمنة على الثقافة السينمائية محليًا وعالميًا، وتُسهم في النهاية في إعادة تدوير السينما في الوعي الشعبي كظاهرة يمكن التعاطي معها بمعزل عن الواقع المادي والتاريخي المفترض أن يحكم التوجهات العلمية في دراسة الظواهر الثقافية في العالم المعاصر.

ومن أخطار هذا النوع من القراءة أنه يُهمش بطبيعته الفهم العلمي للسينما كأداة يمكن أن يكون لها دور فاعل (agency) على المستويات الثقافية والاجتماعية والسياسية لمجتمعاتها وللعالم. وبالتالي، فإنه يُسهم في إعادة التدوير الحصري للممارسة السينمائية كمجرد سوق آخر من أسواق بضائع الاستهلاك الرأسمالي المُهّيمن. وبهذا يُعاد ترسيخ فكرة السينما حصريًا كإحدى ألعاب التسلية الوقتية المُعّدة للاستهلاك الجماهيري السريع و”البريء”. وفي الواقع، فإن مثل هذه المقاربات تُعيد في أساسها اجترار الكتابات التي ظهرت في المراحل التكوينية لظهور السينما في العقدين الأولين للقرن المنصرم، والتي اتسمت بتكريس وتمكين هيمنة أشكال الإنتاج والتسويق الرأسماليين على “اختراع” السينما في نهاية القرن التاسع عشر وامتصاصه تدريجًا للقيام بدوره كجزء من النظام الرأسمالي العالمي بدءًا بأوروبا ومرورًا بالولايات المتحدة ثم دول الأطراف.

إن السينما بمفهومها الواسع، والأعمال السينمائية كمراجع محددة، كانت وما زالت تُمثل مكونات عضوية داخل اللحظة التاريخية التي تولد فيها وتُقارب من ضمنها البيئة التي تخرج منها وتُحاكي العالم الأوسع من خلالها. إذ لا وجود لعمل سينمائي بمعزل عن الواقع المادي لتلك اللحظة التاريخية التي يخرج من أحشائها إلى النور، والتي يبدأ من خلالها رحلة تفاعله مع الحيز الاجتماعي الأوسع الذي يُحيط به والذي يُصبح هو أيضًا جزءًا عضويًا منه.

هذا يعني أن أي محاولة لتقديم قراءة ثورية للسينما (بمعنى وهدف المساهمة في عملية تغيير بُنى الهيمنة الاقتصادية والاجتماعية الطبقية السائدة في المجتمع)، لا بد لها أن تتبع نهجًا علميًا لقراءة الوقع المادي للممارسة السينمائية كممارسة ثقافية (Cultural Practice) أساسية ونافذة في العالم المعاصر. وفي هذا الإطار، فإن المدخل الأهم الذي يُفسح في المجال لفهم الواقع العلمي المادي التاريخي للسينما في مرحلة الأزمة البنيوية الخطيرة التي تعيشها الرأسمالية اليوم، لا بد وأن يُحدد لنفسه أولوية المساهمة في رصد وكشف ماهية وكيفية تفاعل الإيديولوجيا مع الثقافة الشعبية بشكلٍ عام والسينمائية منها بشكل خاص.

أ ‌- الإشكالية البحثية للمقاربة العلمية لطبيعة ودور السينما..

من المتعارف عليه أكاديميًا لدى دراسة وتقييم الظواهر الاجتماعية والإنسانية أن يجري أولاً تحديد الهدف من القيام بهذه الدراسة. وبغض النظر عن اختلاف الزوايا أو الرؤى أو الاتجاهات النظرية تجاه الموضوع المطروح، يبقى هناك نوع من الاتفاق الضمني بين معظم الباحثين على أولوية استخدام “منهجية علمية” محددة وواضحة لدراسة أي واقع أو ظاهرة اجتماعية.

لكن، ما أن تطرح أفكار متعلقة بدراسة الظواهر الفنية؛ (وعلى اختلاف تجسيداتها في الحاضر أو في التاريخ)، فإن الاتفاق حول أولوية إتباع “منهجية علمية” في الدراسة (والتي تتمتع بشبه إجماع حولها لدى التعامل مع الظواهر الاجتماعية “غير الفنية”، تُصبح فجأة مفتوحة أمام التأويل والاستثناء عن القاعدة. ومن أكثر “الاتجاهات” شيوعًا بين الرافضين، من حيث المبدأ، لأهمية إتباع منهجية علمية في التعامل مع الفنون كظواهر اجتماعية مادية وتاريخية، هو الاتجاه الذي يدفع نحو نوع من “الاستثنائية المعرفية” (Epistemological Exceptionalism) في تقييم أو دراسة تلك الفنون.

فما اعتدنا على وصفه بالفنون على مدار التاريخ يرتبط بشكل أو بآخر بعلاقة خاصة بالتعبير عن أحاسيس وانفعالات وعواطف إنسانية خاصة وغير ثابتة المعالم. لذلك فإنه، حال التناول البحثي للفنون أو للأعمال الفنية، ترتفع أصوات البعض منادية بضرورة تجنب دوغما فرض إطار نظري ثابت على التحليل باعتباره يُصبح “غير ملائم” في وضعية الفنون. ويزعم بعض هؤلاء أنه أخذًا في الاعتبار أننا نتعامل هنا مع “قيم جمالية” (لاحظ هيمنة الفكر المثالي الأفلاطوني المُهّيمن في هذا التوصيف)، يُصبح من المفترض علينا أن نغلّب شيئًا من التعاطف الوجداني والعاطفي في تحليلنا لدى تناولنا لمادة فنية، وبالتالي ألا نقاربها ببرود شأنها شأن تعاملنا مع مواضيع أخرى مثل العلوم الطبيعية والوضعية أو العلوم الاقتصادية والاجتماعية بشكلٍ عام.

وامتدادًا لهذا المنطق، يُصبح من المقبول بالنسبة لنا كباحثين أو كنقاد أن تقود مقارباتنا في هذا المجال، أو تطغى عليها، وجهات النظر والتحليلات “الذوقية” أو الانطباعية. من هنا يُصبح تغليب مقاربة الفنون بإيحاءات وانحيازات انطباعية فنية، دينية، إثنية، أو استنادًا إلى رصد القيم الترفيهية أو الاستهلاكية للعمل، أو على أساس شخصنة علاقة الفن والعمل الفني بالفنان، أشكالاً منهجية مقبولة لدى دراسة وتقييم الفنون (وهذا ما يحصل بالفعل لدى الأكثرية الساحقة من القراءات النقدية الشائعة للسينما في الصحافة والإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي).

نحن بالطبع نتفهم، إلى حدٍ ما، الدور الخاص الذي تلعبه ذاتية وتنوع الرؤية سواء في عملية تبلور العمل الفني نفسه أو في تنوع أشكال تلقّيه والتفاعل معه. إذ كيف يمكن لنا مثلاً أن نتجاهل دور الأعمال الفنية في عكس أو إثارة مشاعر خاصة لدى المُشاهد تُحّيلها فعليًا إلى “مواقف” منحازة عاطفيًا أو أخلاقيًا أو دينيًا أو سياسيًا أو ما شابه ؟ بالتالي، فإنه من الطبيعي أن تشوب حتى بعض المنهجيات العامة للتحليل “العلمي” للمادة الفنية ببعض الأبعاد والرؤى ذات الطابع “العاطفي” أو الشخصي الخاص.

بيد أن الإشكالية هنا لا تكمن في الاعتراف بوجود هذا العامل المضاف في تحليل وقراءة الأعمال الفنية في حد ذاته (وإن لم يكن هذا العامل بالضرورة عاملاً يقتصر على الفنون أو العلوم الإنسانية بل يشمل في الواقع الكثير من العلوم الإنسانية، بل تتجسد في وضع تلك الاعتبارات في موقف النقيض أو البديل لهدف محاولة إتباع منهجية علمية. فالخطأ الأساس للتوجهات التي أشرنا إليها يكمن إذًا في وضع الاتجاهين في تناقض مع بعضهما البعض. فالتعبير، على سبيل المثال، عن الميل أو عدم الميل الشخصي لعمل فني محدد لا يمنعنا بالضرورة من سبر غور الأبعاد الشكلية والبنائية والسيميائية لهذا العمل، كما أنه لا يتناقض بالضرورة مع استشراف مكامن تأثر والتأثيرالبنيوي للعمل في الزمان والمكان والديموغرافيا والتقنيات المتصلة به وتأثرها به.

ب ‌- في المفهوم العام للإيديولوجيا..

إذا أخذنا بالاعتبار أن ردود الفعل والعلاقة بين الفنون والإنسان ترتبط بمدى تأثرها وتأثيرها ومساهمتها في رفد التاريخ الإنساني واجترار، أو تحفيز، التغييرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية (بطريقة مباشرة أو غير مباشرة) فيه، وأن الفنون مثلت دائمًا جزءًا عضويًا من التراث والواقع المادي التاريخي للإنسان، فإن محاولة تعريف وتحديد أطر لدراسة الفنون ومنها السينما ترتبط بدورها برصد أشكال تفاعلها كمكون أساس في البنية الإيديولوجية التاريخية لهذا التراث والواقع.

وهنا، من الضروري أن أحدد إطار استعمالي لتعبير “إيديولوجيا”. فاستعمالي للكلمة لا يرتبط بالتفسير “الشعبوي” لها كرمز لآراء أو أفكار متباينة يجري تبنّيها من قبل أفراد أو مجموعات أو دول، ويستلهم في المقابل التنظير الماركسي بشأن “بُنى” (Structures) لوعينا ونظرتنا لما يُحيط بنا. وبالتالي، فإن الإيديولوجيا هنا هي بنية نُصبح نحن جزءًا عضويًا ودائمَ التحول ضمنها بحكم دخولنا وبدء تفاعلنا مع اللحظة الاجتماعية والتاريخية التي نولد فيها ونعيش ضمنها. فكما يُشير ماركس في كتابه “مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي Contribution to the Critique of Political Economy”:

“في الإنتاج الاجتماعي لحياتهم، تنشأ بين الناس صلات معينة، مستقلة عن إرادتهم، وهي علاقات إنتاج تُناسب درجة معينة من درجات تطور قواهم الإنتاجية المادية. ويُشكل مجموع هذه العلاقات الإنتاجية، البنية الاقتصادية للمجتمع، أي القاعدة الحقيقية، التي تقوم فوقها البنية الحقوقية والسياسية، والتي تتوافق مع أشكال معينة من الوعي الاجتماعي. فنمط إنتاج الحياة المادية هو شرط العملية الاجتماعية والسياسية والعقلية للحياة بوجهٍ عام. وليس وعي الناس هو الذي يُحدد وجودهم، بل على النقيض، وجودهم الاجتماعي هو الذي يُحدد وعيهم.” (1987، 263).

من الواضح أن هذه الصيغة تُركز في النظر إلى الفكر الإنساني كحيز “يعكس”، أو يُعيد إنتاج، البنية الاقتصادية للمجتمع ويلعب الدور الأساس في “تحديد وعيه”. وبناءً عليه، فهي تُشدد على مركزية حركة القوى الإنتاجية للاقتصاد في المجتمع (الأشخاص العاملين بشكل أساس، وكذلك الأدوات المادية للإنتاج)، ودورها المحوري في تحديد شكل ومستوى وعي المجتمع وتقلباته. غير أن التفسير المبسط لهذه الصيغة، قد يُفضي إلى جدلية ترى في الثقافة والإيديولوجيا مثلاً كمجرد “انعكاس سلبي”، أي غير مؤثر أو فاعل في التغييرات على علاقات الإنتاج المادية. وهذا بالطبع تفسير اختزالي للتعريف لا يُعبّر عن الفهم الجدلي للعلاقة في ما بين الإيديولوجيا والبنية الاقتصادية للمجتمع.

فالبنية الإيديولوجية التي ندخلها، بغض النظر عن إرادتنا ونفرز من خلالها أساس شكل ومحتوى نظرتنا إلى نفسنا وإلى العالم الذي يُحيط بنا، هي أيضًا بنية دائمة الحركة وعلاقتنا بها، أي تأثرنا بها وتأثيرنا فيها، هي علاقة شديدة التعقيد ودائمة التغير.

والإيديولوجيا ليست قوة هلامية تعمل كالسحر، بل هي تنبثق عن الواقع المادي المتحرك الذي ولدنا داخله ونتواجد ضمنه خلال فترات مختلفة من حياتنا. كما أنها تكتسب قوتها وإعادة تكوينها من خلال مادية وجودنا وتفاعلنا مع، وداخل، الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي الذي نحن جزء منه.

والإيديولوجيا تعمل من خلالنا بشكل أساس “كتابعين” أو Subjects لها يجري تكوين أساس هويتنا ونظرتنا إلى المجتمع والحياة والدين والتاريخ والسياسة وغيرها ضمن عمليات تفاعل معقدة ودائمة الصراع والحركة مع، وضمن، الواقع المادي الذي نولد منه وفيه ونعيش ضمنه. وبالتالي، فإن الإيديولوجيا تُعبّر في النهاية عن علاقة “وهمية” تُحدد كيف ننظر إلى نفسنا وعلاقتنا بالعالم، ونقبل بها وندخل في لعبتها لأننا في الدرجة الأولى لا نُميز هيمنتها علينا أو لا نعترف بوجودها.

ومن أهم خصائص الإيديولوجيا أنها في الوقت الذي تُحاكينا وتُحدد عمليًا الأطر العامة لتفكيرنا منذ ولادتنا، فهي تُضفي على هذا التفكير أيضًا صفة “التطبيع الذاتي” أو (Internalized). فمن خلال ما يُطلق عليه لويس ألتوسير توصيف “جهاز الدولة الإيديولوجي” أو (Ideological State Apparatus)، والذي يضم في ما يضم التراكمات الفكرية التي تطبعنا، توهمنا الإيديولوجيا بأن تلك الأفكار هي بالفعل أفكارنا نحن وأننا نحن الذين اخترناها واخترنا تبنيها بمحض إرادتنا واستقلاليتنا.

فعلى الرغم من أننا ندخل “بوابة الحياة” ونحن مفعمون بأوهام “الإرادة الحرة والمستقلة”، فإننا في الواقع ندخلها مثقلين بأحمال إيديولوجية ضخمة كنا قد راكمناها وتطبّعنا بها ثم طُبّعنا معها. وهي لا تعدو كونها جزء من مكونات الإرث غير المحدود والمُهّيمن على الحيز الأضخم الذي يرسم في النهاية شكل ومضمون ردود أفعالنا ومشاعرنا وأسلوب تعاطينا مع ما يُحيط بنا أو ما يمر عرَضًا أو يدخل في نطاق عالمنا. ويشمل هذا الإرث كل ما تكدس لدينا من أفكار وتوجهات وتوجسات عائلية، وتعليمية، وقانونية، ودينية، وذات علاقة ببيئتنا الاجتماعية، ولغتنا، وإعلامنا، وفنوننا. إضافة لكل هذا، تتفاعل علاقتنا مع هذه المكونات من خلال “مصفاة” شخصيتنا الخاصة والتأثيرات الواعية واللاواعية على هذه الشخصية/الكيان الفيزيولوجي بالعلاقة مع كل ما أحاط ويحيط بها خلال رحلتها ومحطات حياتها المتعاقبة.

إذاً، بغض النظر عن نوايانا، فنحن محكومون إيديولوجيًا، في النهاية، بالتفاعل مع السينما كمشاهدين “تابعين” (subjects)، وذلك حتى قبل أن ندخل إلى قاعات العرض، أو نشغل جهاز الكومبيوتر لمشاهدة فيلم سينمائي. أي أن تقييمنا لما نشاهده في هذا السياق هو بالضرورة يُمثل في أساسه رؤية متناغمة مع الإيديولوجيا الطبقية المُهّيمنة على المجتمع والعالم الذي نعيش فيه والذي تُهيمن “مسلّماته” وتأثيراته على الحيز الأوسع من رؤانا الفكرية العامة الأساسية. كل هذا يعني أن القطبين الرئيسيين في معادلة الممارسة السينمائية (القطب المكوِّن والقطب المتلقي والاستيعابي وما بينهما)، كلها محكومة بنفس الأسس الطبقية للبنية الإيديولوجية السائدة ودينامياتها. إذ كما ندخل نحن الحياة (بمعناها الأوسع والأشمل)، ندخل أيضًا السينما من خلال بوابة الإيديولوجيا لنتفاعل مع ما نُشاهده سلبًا وإيجابًا أو بلا اكتراث.

ج – الإيديولوجيا كرافد أساس للقراءة العلمية للسينما..

ومع تطورها ضمن سياق تاريخي بدأ في نهاية الألفية الثانية وما زال مستمرًا مع بدايات الألفية الثالثة، فُرض على السينما (شاءت ذلك أم أبت)، أن تضطلع بحيز أساس من رفد وتكوين معالم البنية الإيديولوجية للإنسان وبالتالي في تحديد اختياراته الفكرية ضمن مرحلة مفصلية ربما تكون الأكثر خطورة في تاريخ البشرية. فالقرنان اللذان رافقا نشوء السينما وتطورها حتى اليوم شهدا، وما زالا يشهدان، على مرحلة وصلت فيها القوى الطبقية الرأسمالية (في مرحلتها الإمبريالية) إلى التحكم بالعالم من خلال قوى وتقنيات تدميرية (حربية وغير حربية) غير مسبوقة. وهذا التحكم أصبح يجعل من “الإنسان” رهينة لدى هذه القوى الطبقية التي تُهيمن على مقدراته ومصيره، والقادرة عمليًا على تدمير البشرية والبيئة التي يقطنها الإنسان مئات مضاعفة من المرات.

توسعت اتجاهات التحليل الإيديولوجي للسينما (كأحد أهم المفاصل النظرية لتطور النظرية السينمائية)، وذلك بالتدريج من التركيز على الاقتصاد السياسي للثقافة ومن ضمنها السينما (مدرسة فرانكفورت كان لها دور مركزي في ظهور وفي تطور هذا الاتجاه)، مرورًا بالتركيز على الموضوع/القصة والثيمة العامة للفيلم، ثم إلى تحليل النص السينمائي ودراسته في إطار الأشكال الإيديولوجية لتركيبته اللغوية والنصية، ثم مرورًا بدراسة أطر المشاهدة والتلقي وكيفية مساهمتها في بلورة الوقع الاجتماعي للعمل الفني.

فمنذ بدايات تكونها، وحتى يومنا هذا، شهدت السينما على نشوء وتطور توجهات نظرية ركزت بشكل أو بآخر على دورها كفاعل وكمتفاعل إيديولوجي في حياة الإنسان المعاصر. وبالتالي، فإن محاولة فهم أو تقييم تطور التنظير السينمائي بمعزل عن استيعاب تفاعله المستمر والمتعدد الأشكال مع مفهوم “الإيديولوجيا” لا يفصل فقط بين هذا التنظير وواحد من أهم مصادره النظرية تاريخيًا، بل إنه يُعيق وإلى حدٍ كبير قدرتنا على استيعاب الخصوصيات المتعلقة بكل من الأطر التي ميزت التنظير السينمائي في مراحل مختلفة من تاريخه.

وفي صلب كل هذه الاتجاهات النظرية التي تناولت طبيعة ودور السينما كان هناك موضوع الثقافة في مرحلة الرأسمالية المعاصرة، والسينما كجزء أساس في الواقع الجدلي لهذه الثقافة، وكيف أن القوى المهيمنة في علاقات الإنتاج الاقتصادية، هي التي تحسم في النهاية (overdetermines) المعالم العامة لأشكال إنتاج وتسويق وتلقي السينما. وبالتالي، فإن الطبقة المُهيمنة داخل نظام العلاقات الرأسمالية هي التي ترسم في النهاية الأطر والأشكال الأساسية الأكثر نفوذًا في فرض الهيمنة الإيديولوجية العامة للسينما كممارسة ثقافية وكنظام عام فاعل داخل النظام الرأسمالي. من هنا كان وما يزال ترداد مقولة أن فيلمًا، أو مجموعة أفلام لن تُغير بحد ذاتها نظامًا سياسيًا أو اقتصاديًا سائدًا.

والحيز الأكبر من الأهداف المُعلنة للتنظيرات السينمائية حتى اليوم ركز على دراسة وتقييم ورسم العلاقة مع ما هو متعلق “بالسينما السائدة”. ومفهوم السينما السائدة ممكن أن نربطه بالشكل العام المُهيمن على الصناعة السينمائية بوجهها العام، والذي يعتمد على واحد أو أكثر من أطر الإنتاج، أو التوزيع أو التسويق أو العرض السينمائي، السائدة سواء على المستوى المحلي أو العالمي. فهذه الأطر، وإن كان بعضها قد اتسم في مراحل تاريخية معينة ببعض الاستقلالية النسبية العامة، أو بالقدرة على “التحييد” النسبي لبعض الأدوات المُهيمنة داخل “السينما السائدة”، فهي بمجموعها أو بمفردها، وبشكل أو بآخر، لعبت وما زالت تلعب دورًا رئيسًا في تحديد شكل ومحتوى الفيلم السينمائي والثقافة السينمائية بما يتلاءم مع، أو على الأقل لا يُخالف، المصالح العامة أو الاتجاهات الفنية، الأخلاقية، أو السياسية للطبقة الرأسمالية المهيمنة. وهذا لا يستبعد تلك المعبّرة عن التوجهات “الليبرالية” داخل هذه الطبقة، والتي ساهمت تاريخيًا في امتصاص التشنجات الطبقية والسياسية التي كانت تطبع مراحل الأزمات الاقتصادية والسياسية التي تعيشها المجتمعات الرأسمالية سواء في دول المركز أو في الأطراف.

بيد أن تفاعل الإيديولوجيا مع السينما والثقافة بشكلٍ عام (وعلى الرغم من خضوعه في النهاية لسيطرة مصالح وتصورات الكتل الاقتصادية والاجتماعية المهيمنة) يتسم أيضًا بتعقيدات وتفصيلات تجعل من الهيمنة الإيديولوجية فيه محطة مفتوحة ومتأثرة دائمًا بتحديات وصراع التناقضات فيما بين الطبقات المهيمنة نفسها، وفيما بين تلك الطبقات وتلك المُهيمَن عليها والفئات الاجتماعية الأخرى المهمشة. فواقع كوننا “تابعين” إيديولوجيًا لا يعني أننا غير قادرين على التفاعل المستقل نسبيًا مع واقع الهيمنة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية السائدة.

والتنظير السينمائي استفاد بوضوح من تحليل طبيعة الهيمنة الرأسمالية (Capitalist Hegemony)، خصوصًا ما يتعلق منها بتطوير فهم دور الإيديولوجيا في الصراع الطبقي. فالتطوير النظري للزعيم الشيوعي الإيطالي “آنطونيو غرامشي” لمفهوم “الهيمنة” كساحة لا تلغي واقع الهيمنة الطبقية لرأس المال ولا تُقصي تناقض مصالحها الطبقية مع مصالح الطبقات العاملة حتى في إطار هيمنتها الطبقية العامة، كان له دورٌ هامّ في فهم وموضعة الممارسات السياسية والثقافية البديلة أو المغايرة أو المتمايزة طبقيًا عن تلك الهيمنة.

والواقع الجدلي للصراع ضمن أطر الهيمنة الطبقية، عبرت عنه بدورها، وبأشكال مختلفة منذ ستينيات القرن الماضي، ما اصطلح البعض على وصفه بالسينما “البديلة”. والتعبير الأصح علميًا برأيي هو السينما “غير السائدة”، لأنه يصف المحاولة “الواعية” (Conscious) لهذا النوع من العمل أو الممارسة السينمائية لاستبعاد بعض الأدوات السائدة أو المهيمنة في تكوين شكل أو محتوى التواصل السينمائي.

وبالرغم من أن تاريخ السينما شهد ملامح عديدة لبزوغ ممارسات سينمائية مغايرة، سواء على صعيد المضمون أو الأسلوب، والتي استطاعت الصمود في وجه محاولات المنع الصريح أو المحاصرة أو التهميش أو التجاهل، فإن البنية الإيديولوجية العامة للسينما السائدة بقيت في النهاية قادرة على استيعاب هذه التمايزات، وعلى استعادة المبادرة لإعادة تأكيد هيمنتها العامة في هذا الإطار. كما كان يجري هذا (وما يزال) عبر الاتجاه لمحاولة “تحييد” أو استيعاب تلك التمايزات السينمائية من داخل نطاق البنية الإيديولوجية المهيمنة وذلك عبر، أولاً: استيعاب المضامين أو الأفكار “المغايرة” أو “البديلة” في إطار مقولات الديمقراطية البرجوازية التقليدية حول “احترام وتقبل التنوع والرأي الآخر”، والخطاب الليبرالي “المنفتح” للسينما الأميركية والأوروبية في تعاملها مع قضايا المهمشين اجتماعيًا أو المرأة أو البيئة بشكلٍ عام (وكلاهما يُمثل جوهرًا تنفيسيًا في وجه الفهم الطبقي الثوري البديل لطبيعة بعض تلك التمايزات). وثانيًا: استيعاب المكونات “المغايرة” في الشكل والأسلوب السينمائيين كديناميات “تجديدية” يمكن الاستفادة منها ضمن البنية المهيمنة للسينما السائدة أو كمكمّل لها (مساهمات أيزنستين، “الواقعية الجديدة”، غودار، أو السينما التجريبية، وغيرها هي أمثلة تاريخية أساسية هنا).

إذاً، فإن أهم مرحلة في تاريخ تطور النظرية السينمائية وانتقالها من التعاطي الأحادي مع محتوى وشكل النص الفيلمي (وفيما بعد بالعلاقة مع الصانع أو المؤلف السينمائي)، بدأت في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. ومنذ تلك الفترة اتجهت تدريجيًا الأبحاث والدراسات السينمائية بعيدًا عن بعض الجذور الأقدم للتنظير السينمائي والتي ركزت على مناحي دراسة اللغة السينمائية، المخرج، أو النوع السينمائي. وشهدت نظريات ومنهجيات دراسة السينما توسعًا تدريجيًا وتراكميًا في قراءتها لطبيعة العلاقة بين العمل السينمائي من ناحية، ومكونات الاقتصاد السياسي للعمل وللصناعة، ومتغيرات التقنية على اختلافها، وديناميات المشاهدة والعرض والتلقي، من ناحية ثانية. كل هذا أتاح المجال أمام ظهور دراسات أكثر تفصيلاً وشمولاً في مقاربة واقع الثقافة السينمائية بأطرها الأوسع، وكذلك في رصد تفاعلاتها مع عدة عوامل اجتماعية وجغرافية وتاريخية وديموغرافية تُمثل (وإن بأشكال ومستويات متباينة) حيزاً فاعلاً ضمنها. ومع مساهمة هذه التطورات في رسم أهداف أكثر تحديدًا للجوانب العديدة للممارسة السينمائية، بقي من الواضح أن هذه التعددية كانت في النهاية تُبلور نقاشات أكثر علمية وتُراكم أبعادًا غير مسيوقة وأكثر تعقيدًا لفهمنا الإيديولوجي لكيفية تفاعل السينما مع واقعنا الاجتماعي.

لكن، على الرغم من أن القراءة الإيديولوجية للسينما قد مثلت أحد أهم الأطر التي تم من خلالها تطوير النظرية السينمائية على مدى قرن ونيف من ظهور السينما، فإن هذا التقييم اتسم ضمن مراحل معينة بنزعة “تجزيئية” (Fragmentary) لدى استعماله وتطبيقه على أرض الواقع. فبالرغم من أن معظم المدارس والنماذج البحثية أو الدراسية عن السينما قد استلهمت أو ارتكزت بشكلٍ عام على العلاقة التي تربط بين الإيديولوجيا والسينما، فإن العديد منها ركز اهتمامه على أطر ومكونات منفردة لهذه العلاقة، وباعتبار أن كلّاً منها يُمثل عاملاً “حاسمًا” ومقرِّرًا لشكل أو أهمية العلاقة الإيديولوجية مع السينما. وبالتالي، فإن ميل العديد من المنظّرين للتعامل مع واحد، أو مع بعض، من هذه العناصر بطريقة تفضيلية أو حصرية عن العناصر الأخرى أدى إلى قصور في فهم العلاقة الجدلية بين هذه المكونات ككل من ناحية، وتأثير تقاطعها الفردي والجماعي على طبيعة السينما كعامل إيديولوجي شديد التعقيد والنفوذ في عالمنا المعاصر، من ناحية أخرى.

على سبيل المثال، حين اتجه منظرو الستينيات والسبعينيات نحو تقييم البنية اللغوية للسينما وتقاطعات ذلك مع نظريات التحليل النفسي وماركس، فهم كانوا يميلون إلى النظر نحو هذا المكون بنفَسٍ يميل إلى الحصرية، مما كان يُفسح في المجال أمام وضع هذا القراءة المحددة في تعارض مصطنع (على سبيل المثال لا الحصر) مع تقييم مضمون أو موضوع العمل السينمائي. أي أن المنظّرين البنيويين في حينه ركزوا على البنية اللغوية (وامتداداتها في التلقي النفسي للمشاهدة السينمائية كما توسع كريستيان ميتز في درسها)، ليس كأمثلة أو أطر محددة لأشكال عديدة ومحتملة لعمل الإيديولوجيا في الممارسة السينمائية، بل كتجسيدات حصرية لشكل عمل الإيديولوجيا في هذا الحيز الأساسي من ثقافتنا المعاصرة. وكذا فعل فيما بعد أولئك الذين شددوا على ديموغرافيات العلاقة بين السينما من ناحية، والمشاهد أو المتلقي أو أشكال التقنيات الفنية، أو والاقتصاد السياسي للإعلام والاتصالات، حين رفض بعضهم الأخذ بالاعتبار الأطر اللغوية والنفسية والسياسية للممارسة السينمائية.

بيد أن نماذج قراءة مكونات علمية محددة داخل وحول الممارسة السينمائية (الكلاسيكية منها والأكثر حداثة)، لا تُمثل بالضرورة منهجيات منفصلة عن بعضها أو متعارضة فيما بينها، وإن كانت تتسم في معظمها بالتركيز على أطر وأهداف محددة لأهداف وأولويات أبحاثها. بل إنها تعبّر موضوعيًا في مجموعها عن تراكمات قراءات متقاطعة ومتنوعة وأكثر جدلية لتلك الممارسة.

إن توسع اتجاهات ومحاولات الفهم العلمي للسينما بامتداداتها المتنوعة على مدار أكثر من قرن، شكل أكثر الأطر تماسكًا للفهم النظري للسينما كواحدة من أهم ركائز الثقافة الشعبية المعاصرة وأكثرها نفوذًا في رسم معالم الثقافة في مرحلة الرأسمالية المعاصرة. ومن ناحية أخرى، وعلى الرغم من محاولة البعض تصوير هذا التوسع كدليل افتراق عن الفهم الإيديولوجي لها، فإن التوسع والتراكم المستمر لمنهجيات قراءة السينما “كممارسة ثقافية” خلال العقود الثلاثة الماضية ساهم في تعميق فهمنا للسينما كمكون حيوي فاعل على مستويات إيديولوجية عديدة ومتشعبة في حياتنا المعاصرة.

وكون هذه النماذج لمكوّنات الفهم العلمي للسينما تُمثل أجزاء ضمن وحدة معرفية جدلية، فهي بتطورها المستمر تُعيد تأكيد أهمية وأولوية دراسة سوسيولوجيا الثقافة السينمائية باعتبارها مهمة متمايزة عن علم اجتماع يعزل المؤسسات والتكوينات والعلاقات التواصلية بعضَها عن بعض. فضمن الربط المنهجي للتوجهات العلمية في البحث السينمائي نُقدم أيضًا أساسًا لفهم أعمق وأكثر شمولية للسينما كواحدة من أهم الممارسات الثقافية في عصرنا.

لذلك، فإن التوجه العلمي المنفتح على دراسة كافة المكونات المؤثرة والمتأثرة بالسينما كممارسة، تُفسح في المجال أمام استيعاب أعمق وأكثر جدلية لطبيعة ولأشكال التفاعل الإيديولوجي (نظريًا ومعرفيًا) مع هذه الظاهرة الاجتماعية النافذة. ويُسهم هكذا توجه على وجه الخصوص في رسم خطوط أكثر وضوحًا في تمايزها مع الاتجاهات الأحادية السائدة في البحث والنقد السينمائيين، والتي لا ترى في السينما أكتر من ممارسة ترفيهية أو “كبضاعة استهلاكية” أو “كفن نخبوي”؛ وكلها اتجاهات ساهمت بترسيخ النظر إلى السينما كعامل “محايد” (بنية وفعالية) في الواقع الاقتصادي والاجتماعي والإيديولوجي في العالم الرأسمالي المعاصر.

في النهاية، فإن السينما هي ممارسة ثقافية إيديولوجية مركبة تولد ضمن لحظات اجتماعية وتاريخية ومكانية محددة، وتصوب (إراديًا أو لا إراديًا) باتجاه التواصل مع أطر اجتماعية وتاريخية ومكانية واسعة أو محددة في آن معًا. وامتدادا لهذا التواصل الأولي تتفاعل هذه الممارسة بشكل تراكمي مع علاقات وأطر اجتماعية وتاريخية مضاعفة ودائمة التحول.

وبالتالي، فإن أي فيلم يخرج إلى الحياة (أو في أي مرحلة من تكونه) يتحول إلى محور لدمج ومراكمة تفاعلات إيديولوجية متنوعة ودائمة الحركة. وهذا الدمج التراكمي الدائم التحول يشمل ويتخطى الديناميات الأصلية المحدودة لأي عمل سينمائي. وبغض النظر عن نوايا الفيلم وأهدافه، وحتى لو لم تتجاوز تلك الأهداف الرغبة في التعبير عن “رؤية شخصية” أو “خاصة” تجاه موضوع محدد، فإن ديناميات الكتابة والتعبير والشكل والإنتاج والتسويق والتوزيع والعرض والمشاهدة وردود أفعال المشاهدين أو النقاد، على تنوّع مواقعهم وأهوائهم والإرث الإيديولوجي الذي يحملونه، هي التي تُضّفي في النهاية بمجموعها وبتراكماتها المعقدة، هوية وتفاعلاً إيديولوجيًا حيًا وعميق التنوع في وقعه على ما يقوله، على سبيل المثال، فيلم سينمائي بسيط يتناول قصة العلاقة بين طفل وقطته.

إن الفهم الأكثر تكاملاً من الناحية العلمية للسينما وللممارسة السينمائية، إذاً، لا بد وأن يتضمن استيعابًا للأطر التاريخية للتشكيلات والمؤسسات والأدوات التي ترفد عمليات إنتاجها وتوزيعها والدعاية لها وأدوات تلقيها وتداولها، وأشكال ارتباطها وتفاعلها ضمن البنية الإيديولوجية للمجتمع و”مساراته” المادية التاريخية بشكل عام. إذ كيف يمكن الفصل اعتباطيًا بين التشكيل “الجمالي” لأي فيلم أو مجموعة أفلام أو ثقافات سينمائية، وبين النطاق الأوسع لعمليات التمويل والإنتاج والتوزيع والدعاية في مرحلة تاريخية معينة ؟ وكيف يمكن فصل العملية التكوينية للفيلم “كإبداع” عن البنية والبيئة الإيديولوجية التي يقبع ضمنها المبدع (سواء كفرد أو كمجموعة) الذي شرع بهذا المسار المعقد ؟

  • نشرت لأول مرة بمجلة “اشتباك”.

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب