الإيديولوجيا كحلقة مركزية في المقاربة العلمية للسينما (1)

الإيديولوجيا كحلقة مركزية في المقاربة العلمية للسينما (1)

خاص: بقلم- د. مالك خوري*

*أ. د. مالك خوري؛ هو باحث وناقد ومنَّظر أكاديمي في الدراسات السينمائية، ويرأس قسم السينما في الجامعة الأميركية في القاهرة.

 

في هذا المقال أهدف للمسَّاهمة في إعادة الاعتبار للتقيّيم العلمي للسينما باعتباره حجر الأساس في قراءتها كظاهرة اجتماعية مفصلية في الحياة المعاصرة. وفي هذا أسّعى لإلقاء الضوء على أُسس نظرية مركزية في قراءة مكونات الممارسة السينمائية وتطور ذلك خلال القرنين الماضي والحالي. وهذا التقييّم يُركز على قراءة المضمون/ الموضوع، اللغة والشكل، المشاهدة والتلقي، والصناعة كنماذج أساسية في القراءة العلمية للممارسة السينمائية، لكن ليس كمكونات منفصلة عن بعضها البعض، بل كمكونات تكتسّب فعاليتها بالارتباط مع البُنية الإيديولوجية العامة للمجتمع. كما أهدف هنا إلى إعادة التركيز، ليس فقط على التناول الأكاديمي أو المتخصص لهذه المكونات كركائز للقراءة العلمية للسينما ضمن البُنية الإيديولوجية العامة في مجتمعاتنا المعاصرة، بل أيضًا كأساس لتطوير القراءة النقدية للأعمال السينمائية، كجزءٍ من الفهم الثوري العضوي للمَّمارسة السينمائية كبُنية دائمة التفاعل مع المتغيَّرات التاريخية لهذه المرحلة من تاريخ الرأسمالية والصراع الطبقي.

الكثير من الأبحاث والدراسات الأكاديمية هي أكثر اهتمامًا بتجاوز الميول السائدة في الثقافة السينمائية السائدة والتي ما زالت في معظمها “تُقّدس” عزل النشاط السينمائي والأفلام وقراءتها عن تقاطعاتها المادية المعقدَّة. ومن ناحية ثانية، هناك العديد من أشكال النقد والقراءة الأكثر علمية للسينما والتي تهدف أيضًا للوصول إلى جمهورٍ أوسع من ذلك المحصّور بنخب الاختصاصيين والأكاديميين. وأحد المكونات الأساسية التي تدفع بهذا الاتجاه يكَّمن في التزايد الهائل والمتُسارع في استعمال وسائل التواصل الاجتماعي ومواقع الإنترنت واهتمامها بنشر قراءات لم يكن ليراها أحد من قبل خارج المكتبات الجامعية وأوساط النخب. وجمهور هذه الأبحاث والقراءات النقدية المغايرة في الشكل والمحتوى أصبح اليوم يضم تقاطعات جديدة تشمل أجزاءً أوسع من جمهور السينما والفنون وكذلك أوساطًا هامة من الناشطين المهتمين بالقضايا الاجتماعية والسياسية لعالمهم. كل هذا يتمخض عن مزيد من التفاعل ما بين هذه الأوساط، وانبثاق نوعيات مختلفة من المهتمين بالقراءة عن السينما كإطار معرفي يُساعد في فهم ديناميات البُنية الإيديولوجية التي تُهيّمن على عالمنا المعاصر، وبالتالي يُساعد على تلمَّس وسائل جديدة لمقاومة تلك الهيمنة وما تُمثّله.

ويبقى ما اصطلح على وصفه بقراءات نقدية سينمائية “محايدة” أو “غير مسيّسة” أو “فنية خالصة” أو “غير مؤدلجة” أو محض “خاصة” و”شخصية” (والذي يُعاد تسّويقه وتدويره اليوم بالاستفادة من تراجع نفوذ القوى السياسية الثورية)، “قميص عثمان” الذي يختبيء وراءه كل من يبقى متمتَّرسًا خلف القراءات الانطباعية أو الانتقائية الشعبوية للسينما وللثقافة السينمائية. وهذه التوصيفات لمنهجيات قراءة السينما تتماهى بوضوح مع ما هو سائد ويتم الترويج له في الدوائر المهيمنة في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، كما ضمن المؤسسات المهيمنة على الثقافة السينمائية محليًا وعالميًا، وتسَّهم في النهاية في إعادة تدوير السينما في الوعي الشعبي كظاهرة يُمكن التعاطي معها بمعزل عن الواقع المادي والتاريخي المفترض أن يحكم التوجهات العلمية في دراسة الظواهر الثقافية في العالم المعاصر.

ومن أخطار هذا النوع من القراءة أنه يُهمش بطبيعته الفهم العلمي للسينما كأداة يُمكن أن يكون لها دور فاعل (agency) على المستويات الثقافية والاجتماعية والسياسية لمجتمعاتها وللعالم. وبالتالي، فإنه يُسّهم في إعادة التدوير الحصري للمَّمارسة السينمائية كمجرد سوق آخر من أسواق بضائع الاستهلاك الرأسمالي المهيمن. وبهذا يُعاد ترسيّخ فكرة السينما حصريًا كإحدى ألعاب التسلية الوقتية المعدَّة للاستهلاك الجماهيري السريع و”البريء”. وفي الواقع، فإن مثل هذه المقاربات تُعيّد في أساسها اجترار الكتابات التي ظهرت في المراحل التكوينية لظهور السينما في العقدين الأولين للقرن المنُصرم، والتي اتسمت بتكريّس وتمكيّن هيمنة أشكال الإنتاج والتسويق الرأسماليين على “اختراع” السينما في نهاية القرن التاسع عشر وامتصاصه تدريجًا للقيام بدوره كجزءٍ من النظام الرأسمالي العالمي بدءًا بأوروبا ومرورًا بالولايات المتحدة ثم دول الأطراف.

إن السينما بمفهومها الواسع، والأعمال السينمائية كمراجع محدَّدة، كانت وما زالت تُمثّل مكونات عضوية داخل اللحظة التاريخية التي تولدّ فيها وتُقارب من ضمنها البيئة التي تخرج منها وتُحاكي العالم الأوسع من خلالها. إذ لا وجود لعمل سينمائي بمعزل عن الواقع المادي لتلك اللحظة التاريخية التي يخرج من أحشائها إلى النور، والتي يبدأ من خلالها رحلة تفاعله مع الحيز الاجتماعي الأوسع الذي يُحيط به والذي يُصبح هو أيضًا جزءًا عضويًا منه.

هذا يعني أن أي محاولة لتقديم قراءة ثورية للسينما (بمعنى وهدف المسَّاهمة في عملية تغيّير بُنى الهيمنة الاقتصادية والاجتماعية الطبقية السائدة في المجتمع)، لا بُدّ لها أن تتبع نهجًا علميًا لقراءة الوقع المادي للمَّمارسة السينمائية كمَّمارسة ثقافية (Cultural Practice) أساسية ونافذة في العالم المُعاصر. وفي هذا الإطار، فإن المدخل الأهم الذي يُفسّح في المجال لفهم الواقع العلمي المادي التاريخي للسينما في مرحلة الأزمة البنّيوية الخطيرة التي تعيشها الرأسمالية اليوم، لا بُدّ وأن يُحدّد لنفسه أولوية المَّساهمة في رصد وكشف ماهية وكيفية تفاعل الإيديولوجيا مع الثقافة الشعبية بشكلٍ عام والسينمائية منها بشكلٍ خاص.

***

( أ ) ‌- الإشكالية البحثية للمُقاربة العلمية لطبيعة ودور السينما

من المتعارف عليه أكاديميًا لدى دراسة وتقيّيم الظواهر الاجتماعية والإنسانية أن يجري أولًا تحديد الهدف من القيام بهذه الدراسة. وبغض النظر عن اختلاف الزوايا أو الرؤى أو الاتجاهات النظرية تجاه الموضوع المطروح، يبقى هناك نوعٍ من الاتفاق الضّمني بين معظم الباحثين على أولوية استخدام “منهجية علمية” محدَّدة وواضحة لدراسة أي واقع أو ظاهرة اجتماعية.

لكن، ما أن تطرح أفكار متعلقة بدراسة الظواهر الفنية (وعلى اختلاف تجسيّداتها في الحاضر أو في التاريخ)، فإن الاتفاق حول أولوية اتباع “منهجية علمية” في الدراسة (والتي تتمتع بشبّه إجماع حولها لدى التعامل مع الظواهر الاجتماعية “غير الفنية”، تُصبّح فجأة مفتوحة أمام التأويل والاستثناء عن القاعدة. ومن أكثر “الاتجاهات” شيوعًا بين الرافضين، من حيث المبدأ، لأهمية اتباع منهجية علمية في التعامل مع الفنون كظواهر اجتماعية مادية وتاريخية، هو الاتجاه الذي يدفع نحو نوع من “الاستثنائية المعرفية” Epistemological Exceptionalism في تقيّيم أو دراسة تلك الفنون.

فما اعتدنا على وصفه بالفنون على مدار التاريخ يرتبط بشكلٍ أو بآخر بعلاقة خاصة بالتعبير عن أحاسيس وانفعالات وعواطف إنسانية خاصة وغير ثابتة المعالم. لذلك فإنه، حال التناول البحثي للفنون أو للأعمال الفنية، ترتفع أصوات البعض منادية بضرورة تجنب دوغما فرض إطار نظري ثابت على التحليل باعتباره يُصبّح “غير مُلائم” في وضعية الفنون. ويزعم بعض هؤلاء أنه أخذًا في الاعتبار أننا نتعامل هنا مع “قيم جمالية” (لاحظ هيمنة الفكر المثالي الأفلاطوني المهيَّمن في هذا التوصيف)، يُصبّح من المُفترض علينا أن نغلّب شيئًا من التعاطف الوجداني والعاطفي في تحليلنا لدى تناولنا لمادة فنية، وبالتالي ألا نُقاربها ببرود شأنها شأن تعاملنا مع مواضيع أخرى مثل العلوم الطبيعية والوضعية أو العلوم الاقتصادية والاجتماعية بشكلٍ عام.

وامتدادًا لهذا المنطق، يُصبّح من المقبول بالنسبة لنا كباحثين أو كنُقاد أن تقود مقارباتنا في هذا المجال، أو تطغى عليها، وجهات النظر والتحليلات “الذوقية” أو الانطباعية. من هنا يُصبّح تغليّب مقاربة الفنون بإيحاءات وانحيازات انطباعية فنية، دينية، إثنية، أو استنادًا إلى رصد القيم الترفيهية أو الاستهلاكية للعمل، أو على أساس شخصنة علاقة الفن والعمل الفني بالفنان، أشكالًا منهجية مقبولة لدى دراسة وتقيّيم الفنون (وهذا ما يحصَّل بالفعل لدى الأكثرية الساحقة من القراءات النقدية الشائعة للسينما في الصحافة والإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي).

نحن بالطبع نتفهم، إلى حدٍ ما، الدور الخاص الذي تلعبه ذاتية وتنوع الرؤية سواء في عملية تبلور العمل الفني نفسه أو في تنوع أشكال تلقّيه والتفاعل معه. إذ كيف يُمكن لنا مثلًا أن نتجاهل دور الأعمال الفنية في عكس أو إثارة مشاعر خاصة لدى المُشاهد تُحيلها فعليًا إلى “مواقف” منحازة عاطفيًا أو أخلاقيًا أو دينيًا أو سياسيًا أوما شابه؟ بالتالي، فإنه من الطبيعي أن تشّوب حتى بعض المنهجيات العامة للتحليل “العلمي” للمادة الفنية ببعض الأبعاد والرؤى ذات الطابع “العاطفي” أو الشخصي الخاص.

بيد أن الإشكالية هنا لا تكَّمن في الاعتراف بوجود هذا العامل المضاف في تحليل وقراءة الأعمال الفنية في حد ذاته؛ (وإن لم يكن هذا العامل بالضرورة عاملًا يقتصر على الفنون أو العلوم الإنسانية بل يشمل في الواقع الكثير من العلوم الإنسانية، بل تتجسّد في وضع تلك الاعتبارات في موقف النقيض أو البديل لهدف محاولة اتباع منهجية علمية. فالخطأ الأساسي للتوجهات التي أشرنا إليها يكَّمن إذًا في وضع الاتجاهين في تناقض مع بعضهما البعض. فالتعبير، على سبيل المثال، عن الميّل أو عدم الميّل الشخصي لعمل فني محدَّد لا يمنعنا بالضرورة من سبر غور الأبعاد الشكلية والبنائية والسيميائية لهذا العمل، كما أنه لا يتناقض بالضرورة مع استشراف مكامن تأثر والتأثيرالبنيوي للعمل في الزمان والمكان والديموغرافيا والتقنيات المتصلة به وتأثرها به.

***

( ب‌ ) – في المفهوم العام للإيديولوجيا

إذا أخذنا بالاعتبار أن ردود الفعل والعلاقة بين الفنون والإنسان ترتبط بمدى تأثرها وتأثيرها ومسَّاهمتها في رفد التاريخ الإنساني واجترار، أو تحفيز، التغييَّرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية (بطريقة مباشرة أو غير مباشرة) فيه، وأن الفنون مثّلت دائمًا جزءًا عضويًا من التراث والواقع المادي التاريخي للإنسان، فإن محاولة تعريف وتحديد أطر لدراسة الفنون ومنها السينما ترتبط بدورها برصد أشكال تفاعلها كمَّكون أساس في البُنية الإيديولوجية التاريخية لهذا التراث والواقع.

وهنا، من الضروري أن أحدَّد إطار استعمالي لتعبير “إيديولوجيا”. فاستعمالي للكلمة لا يرتبط بالتفسير “الشعبوي” لها كرمز لآراء أو أفكار متبَّاينة يجري تبنّيها من قبل أفراد أو مجموعات أو دول، ويستّلهم في المقابل التنظير الماركسي بشأن “بنى” (Structures) لوعينا ونظرتنا لما يُحيط بنا. وبالتالي، فإن الإيديولوجيا هنا هي بُنية نُصبّح نحن جزءًا عضويًا ودائمَ التحول ضمنّها بحُكم دخولنا وبدء تفاعلنا مع اللحظة الاجتماعية والتاريخية التي نولد فيها ونعيش ضمنّها. فكما يُشير ماركس في كتابه “مسَّاهمة في نقد الاقتصاد السياسي Contribution to the Critique of Political Economy”:

“في الإنتاج الاجتماعي لحياتهم، تنشأ بين الناس صلات معينة، مستقلة عن إرادتهم، وهي علاقات إنتاج تُناسب درجة معينة من درجات تطور قواهم الإنتاجية المادية. ويُشكل مجموع هذه العلاقات الإنتاجية، البُنية الاقتصادية للمجتمع، أي القاعدة الحقيقية، التي تقوم فوقها البُنية الحقوقية والسياسية، والتي تتوافق مع أشكال معينة من الوعي الاجتماعي. فنمط إنتاج الحياة المادية هو شرط العملية الاجتماعية والسياسية والعقلية للحياة بوجهٍ عام. وليس وعي الناس هو الذي يُحدَّد وجودهم، بل على النقيض، وجودهم الاجتماعي هو الذي يُحدَّد وعيهم.” (1987، 263)

من الواضح أن هذه الصيغة تُركز في النظر إلى الفكر الإنساني كحيز “يعكس”، أو يُعيّد إنتاج، البُنية الاقتصادية للمجتمع ويلعب الدور الأساس في “تحديد وعيه”. وبناءً عليه، فهي تُشدّد على مركزية حركة القوى الإنتاجية للاقتصاد في المجتمع (الأشخاص العاملين بشكلٍ أساس، وكذلك الأدوات المادية للإنتاج)، ودورها المحوري في تحديد شكل ومستوى وعي المجتمع وتقلباته. غير أن التفسير المبسَّط لهذه الصيغة، قد يُفضّي إلى جدلية ترى في الثقافة والإيديولوجيا مثلًا كمجرد “انعكاس سلبي”، أي غير مؤثر أو فاعل في التغييَّرات على علاقات الإنتاج المادية. وهذا بالطبع تفسيّر اختزالي للتعريف لا يُعبّر عن الفهم الجدلي للعلاقة في ما بين الإيديولوجيا والبُنية الاقتصادية للمجتمع.

فالبُنية الإيديولوجية التي ندخلها، بغض النظر عن إرادتنا ونفَّرز من خلالها أساس شكل ومحتوى نظرتنا إلى نفسنا وإلى العالم الذي يُحيط بنا، هي أيضًا بُنية دائمة الحركة وعلاقتنا بها، أي تأثرنا بها وتأثيرنا فيها، هي علاقة شديدة التعقيّد ودائمة التغيَّر.

والإيديولوجيا ليست قوة هلامية تعمل كالسحر، بل هي تنبثق عن الواقع المادي المتحرك الذي ولدنا داخله ونتواجد ضمنه خلال فترات مختلفة من حياتنا. كما أنها تكتسب قوتها وإعادة تكوينها من خلال مادية وجودنا وتفاعلنا مع، وداخل، الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي الذي نحن جزء منه.

والإيديولوجيا تعمل من خلالنا بشكلٍ أساس “كتابعين” أو Subjects لها يجري تكوين أساس هويتنا ونظرتنا إلى المجتمع والحياة والدين والتاريخ والسياسة وغيرها ضمن عمليات تفاعل معقدَّة ودائمة الصراع والحركة مع، وضمن، الواقع المادي الذي نولد منه وفيه ونعيش ضمنه. وبالتالي، فإن الإيديولوجيا تُعبّر في النهاية عن علاقة “وهمية” تُحدَّد كيف ننظر إلى أنفسنا وعلاقتنا بالعالم، ونقبل بها وندخل في لعبتها لأننا في الدرجة الأولى لا نميَّز هيمنتها علينا أو لا نعترف بوجودها.

ومن أهم خصائص الإيديولوجيا أنها في الوقت الذي تُحاكينا وتُحدّد عمليًا الأطر العامة لتفكيرنا منذ ولادتنا، فهي تُضّفي على هذا التفكير أيضًا صفة “التطبيع الذاتي” أو (Internalized). فمن خلال ما يُطلق عليه لويس ألتوسير توصيف “جهاز الدولة الإيديولوجي” أو (Ideological State Apparatus)، والذي يضم في ما يضم التراكمات الفكرية التي تطبعنا)، توهمنا الإيديولوجيا بأن تلك الأفكار هي بالفعل أفكارنا نحن وأننا نحن الذين اخترناها واخترنا تبنيها بمحض إرادتنا واستقلاليتنا.

فعلى الرُغم من أننا ندخل “بوابة الحياة” ونحن مفعمون بأوهام “الإرادة الحرة والمستَّقلة”، فإننا في الواقع ندخلها مثُقلين بأحمال إيديولوجية ضخمة كنا قد راكمناها وتطبّعنا بها ثم طُبّعنا معها. وهي لا تعدو كونها جزء من مكونات الإرث غير المحدّود والمهيَّمن على الحيز الأضخم الذي يرسم في النهاية شكل ومضمون ردود أفعالنا ومشاعرنا وأسلوب تعاطينا مع ما يُحيط بنا أو ما يُمر عرَضًا أو يدخل في نطاق عالمنا. ويشمل هذا الإرث كل ما تكدّس لدينا من أفكار وتوجهات وتوجسات عائلية، وتعليمية، وقانونية، ودينية، وذات علاقة ببيئتنا الاجتماعية، ولغتنا، وإعلامنا، وفنوننا. إضافة لكل هذا، تتفاعل علاقتنا مع هذه المكونات من خلال “مصفاة” شخصيتنا الخاصة والتأثيرات الواعية واللاواعية على هذه الشخصية/ الكيان الفيزيولوجي بالعلاقة مع كل ما أحاط ويُحيّط بها خلال رحلتها ومحطات حياتها المتعاقبة.

إذًا، بغض النظر عن نوايانا، فنحن محكومون إيديولوجيًا، في النهاية، بالتفاعل مع السينما كمشاهدين “تابعين” (subjects)، وذلك حتى قبل أن ندخل إلى قاعات العرض، أو نشَّغل جهاز الكومبيوتر لمشاهدة فيلم سينمائي. أي أن تقييّمنا لما نُشاهده في هذا السيّاق هو بالضرورة يمثل في أساسه رؤية متناغمة مع الإيديولوجيا الطبقية المهيمنة على المجتمع والعالم الذي نعيش فيه والذي تُهيّمن “مسلّماته” وتأثيراته على الحيز الأوسع من رؤانا الفكرية العامة الأساسية. كل هذا يعني أن القطبين الرئيسيين في معادلة الممارسة السينمائية (القطب المكوِّن والقطب المتَّلقي والاستيعابي وما بينهما)، كلها محكومة بنفس الأسس الطبقية للبُنية الإيديولوجية السائدة ودينامياتها. إذ كما ندخل نحن الحياة (بمعناها الأوسع والأشمل)، ندخل أيضًا السينما من خلال بوابة الإيديولوجيا لنتفاعل مع ما نشاهده سلبًا وإيجابًا أو بلا اكتراث.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة