خاص : قراءة بقلم – سعيد العليمي :
01 – … ولا نكف عن الحلم
الحزن والفرح توأمان يولدان معًا – كما قال “دانتي أليغيري” – هذا هو الشعور الذي راودني حين قرأت مؤلف الكاتب الكبير؛ “محمود الورداني” الأخير، فقد كان حلم الثورة هو حلم جيلنا “الستيني-السبعيني” الذي عملنا من أجله في القرن الماضي، ثم حلم أجيال تالية في الألفية الثالثة، وهو حلم لم يتحقق بعد مع مضي العمر، رغم المعاناة المريرة التي كابدتها أجيال متلاحقة، وليس معنى هذا أنه لن يتحقق.
يحتضن “الورداني” في نصه الصادر عن “دار الشروق”؛ في أواخر العام المنصرم: (الإمساك بالقمر)، تاريخه الفكري والأدبي والسياسي؛ كما يحتضن طائر بدفئه صغاره تحت جناحية، وهو الإنطباع الذي هيمن عليّ طوال وعقب قراءته. فهذا الأديب الكبير لم يتنكر لمعتقدات شبابه التي أعتنقها، ولم يتبرأ منها كما فعل الكثيرون تحت مختلف الذرائع التبريرية الشخصية والعامة، ولم يضف رواء زائفًا على الماضي بل صوره بأمانة وبلا مغالاة؛ سواء تعلق الأمر بشخصياته أو بأحداثه، أي دون تهوين ولا تهويل. وكان صارمًا دقيقًا في تصويره، فقد استطاع أن يُمسك بمشاعر وأحاسيس لحظات ماضية، وعكس الحالة الذهنية له ولمجايليه في الفترة التي أعقبت هزيمة حزيران/يونيو 1967، ولم يسقط عليها وعيه الراهن، رغم انتقاده بعض المواقف القديمة المُغالية. وقد أمتلك سحر البيان مما أعانه على إحياء هذه الفترة من حياته، وتناولها كما لو كان يعيشها الآن بتمكنه من وصف عواطفه ومشاعره المتدفقة، وأنفعالاته واسترجاع خبراته الماضية بإنصاف وأعتدال، وبإتزان شديد. وأديبنا لديه إدراك عميق للعصر الذي كتب عنه حين يسترجع الماضي فعكس بوصفه واحدًا منه آمال وآلام جيل من الشباب المتمرد، وأحاسيسه العنيفة المؤرقة التي كابدها آنذاك. ولم ينفصل عنده التوق لمثل أعلى عن إدراك ضرورة نقض الأوضاع القائمة التي فرضتها طبقة اجتماعية دخلت طور التدهور والإنحطاط. ورغم أن الكثيرين قد عاصروا هذا الزمان إلا ان هناك جذورًا فردية لكل منهم تختلف فى نتاجها فيما يتسم به كل واحد من تميز، رغم أنهم جميعًا نتاج نفس الجيل ونفس البيئة الثقافية الاجتماعية، وإن كانت شخصياتهم قد تحولت تدريجيًا بحكم الإنخراط في الممارسة الأدبية والسياسية المشتركة إلى شخوص متقاربة نفسيًا واجتماعيًا وسلوكيًا.
02 – بطل من ذاك الزمان
يؤكد كاتبنا الكبير أنه لا يكتب تأريخًا ولا سيرة ذاتية ولا سيرة لجيل أو موجة من موجاته؛ فهي كل ذلك مضفورًا بالبدايات الباكرة والتشكل والمعارك والأحلام والدور الذي لعبته السياسة تحديدًا. ومهما يكن من شيء فهي تنتمي لأدب السيرة بوصفها نوعًا فرعيًا من التاريخ يُعرض لما يعتبره الكاتب أكثر أحداث حياته أهمية ودلالة. وقد ذهب البعض إلى أن جوهر التاريخ هو تراجم حياة لا تُحصى وهي نظرة مثالية لدور الأفراد الذين لا يصنعون التاريخ إلا من خلال طبقات اجتماعية *. وربما كانت فكرة المنحنى الشخصي لحياة ما؛ حيث يتقاطع الفردي مع ما هو عام اجتماعي، هي أكثر إتساقًا مع رؤية الكاتب.
بعد أن أنهيت قراءة النص تداعت إلى ذهني رواية الأديب الروسي؛ “ميخائيل ليرمنتوف” – (بطل من هذا الزمان) – وقد كان “بتشورين”؛ بطل الرواية، لا يُمثل صورة إنسان واحد وإنما مثل نموذجًا عبر عن جيل ضاع بأكمله، أتى بعد هزيمة انتفاضة النبلاء الديسمبريين؛ عام 1828، في “روسيا القيصرية”. لقد كان: “لا يؤمن بشيء ولا يأمل بشيء”، فقد تلاشت بلا جدوى تلك القوى الثرية التي تحسسها في دخيلته، وظلت أحلامه بالمآثر العظمى أحلامًا لا غير، فهو لم ير الهدف، ولم يستشعر ضرورة النضال لتقويض الأوضاع القائمة في أفق رآه مسدودًا، حيث بات النظام القديم عتيقًا ولم تكن براعم تغييره قد ولدت بعد. وقد مثل “بيتشورين” روح العصر بكل خصاله وشروره ونُبله؛ وكان فى المحصلة الأخيرة نتاج هيمنة الرجعية القيصرية الروسية والحكم المطلق والثورة المضادة**.
ولم يكن كاتبنا لينتمي لهذا النموذج؛ فرغم هزيمة حزيران/يونيو 1967، التي أفاض في بيان أثرها وجذريتها في تشكيل وعي جيل بواقعه، ومحاولة النفاذ لأسبابها العميقة، فقد كان رد فعله ردًا مقاومًا بكل الأدوات التي أتيحت له وقتها. لم يقتصر على أن يكون بوصفه أديبًا: “مناضلاً طبقيًا على الطريقة التاوية”؛ وإنما إنخرط في عمل حزبي منظم يُمثل تلك “الأنا الجمعية” التي شكلها “التنظيم الشيوعي المصري”؛ في 08 كانون أول/ديسمبر 1969، والذي بات لاحقًا “حزب العمال الشيوعي المصري”. وقد كان كاتبنا من أوائل كوادره، وربما لا يذكر أنه مع صديقنا ورفيقنا المشترك؛ “خليل كلفت”، والأديب الكبير؛ “جارالنبي الحلو”، قد زاروني في بيتي عقب خروجي من المعتقل الأول؛ في نيسان/إبريل عام 1970، وكان ذلك عقب تجنيده كما علمت فيما بعد.
“إن جيل السبعينيات من الطلبة والمثقفين مر بمرحلة طويلة من المعاناة، من الهزيمة إلى (حرب) الإستنزاف إلى خوض غمار التحضير للحرب والاشتراك فيها اشتراكًا فعليًا. وقد حتم ذلك الرغبة في واقع آخر يُخفف المعاناة ويُتيح قدرًا أكبر من المشاركة الشعبية ومن محاصرة الإمتيازات. لقد عرف هذا الجيل الحلم المُلح بتحقيق واقع آخر، وإعادة تشكيل المجتمع الذي يتسم بتراتب صارخ وبيروقراطية ومنطق بوليسي تشكيلاً سياسيًا وديموقراطيًا، والحلم بمعمار مختلف للواقع وهندسة جديدة للمجتمع. إن تضحيات هذا الجيل بالكثير جعلهم يطالبون بحقهم في التعبير والفاعلية وفى بداية جديدة”***.
03 – جيلنا في الأدب المقاوم
لا يفصل كاتبنا في روايته المسيرة الأدبية بالأحداث التي حكاها عن المسيرة السياسية. وهو ينتمي عمومًا لذلك الفصيل من الأدباء الحقيقيين الذين تعني السياسة عندهم: “فهم المصير الإنساني وتقييم السلوك الإنساني في كليته؛ وفهم الرؤية الشاملة للوجود الإنساني، ومكان الإنسان في الكون والصورة العامة للإنسان في تطوره وتجاوزه لما يعوق تحقيق ذاته وإمكاناته. وهذا التطور متصل يتجاوز لحظته التاريخية إلى موقف إنساني متصل باكتشاف العام داخل الخاص”****. على ما يقول أستاذنا؛ “إبراهيم فتحي”.
والحال أن هناك تراثًا من الأدب المقاوم افتتحه مناضلون في الحركة الثورية الروسية، حيث صُدر في أواخر القرن قبل الماضي كتاب: (روسيا السرية – بروفايلات واسكتشات ثورية من الحياة)؛ لمؤلفه: “سيرغي ستيبنياك كرافيشنسكي”، 1883، وهو ينتمي لتلك المنظمة التي تُسمى: “الأرض والحرية”؛ التي مارست الإرهاب الاشتراكي الثوري. وهناك أيضًا كتاب “سيسيليا بوبروفسكايا”: (عشرون عامًا في العمل السري في روسيا – مذكرات مناضلة بلشفية)؛ وقد نُشر عام 1934، والكتابان يتناولان شخصيات ثورية وأحداثًا ثورية، حيث نرى فيهما مسيرة العمل السري والسجن والنفى والاعتقال والهجرة للخارج ومشاهد أخرى من دراما الثورة. كما أن هناك كتابات أخرى مثل: (يوميات المقاومة في اليونان)؛ التي كتبها الموسيقي اليوناني المعروف؛ “ميكيس تيودوراكيس”، عن إسهامه في مقاومة الحكم العسكري اليوناني؛ عام 1967. ومن تراثنا المصري يمكن أن نُشير إلى مؤلف من الحلقة الثانية للحركة الشيوعية المصرية؛ مثل السيرة الذاتية للدكتور “فخري لبيب”: (المشوار)؛ 2008، و(حكايات من زمن فات)؛ لرفيقنا “كمال خليل”؛ 2012. ليس هذا بالتأكيد حصرًا لأدب سير المقاومة والنضال وإنما مخطط عام لبيان وتصنيف الوجهة والإنتماء.
لقد كتب البعض عن “التنظيم الشيوعي المصري” ونشاطه العملي – “حزب العمال” لاحقًا – وإن كان كتاب الباحث الإيطالي؛ “جينارو غيرفازيو”، عن (الحركة الماركسية في مصر) هو أوفاها؛ رغم الملاحظات النقدية التي أبديت عليه – وكتب آخرون مثل: “غالي شكري” و”سيد ياسين” و”أحمد صادق سعد”، غير أن هذه الكتابات جميعها؛ رغم أهميتها، لا يمكن أن ترقى لمستوى ما يكتبه أديب وسياسي مارس العمل السري الحي بكل تفاصيله وتعرض في مسيرته للاعتقال والهروب والنفي؛ وكان نتاج ذلك صورة صادقة نابضة بالحياة قدمها أديب كبير بموهبته في التعبير عن أفكاره بشكل أدبي في سلسلة من الصور لأشخاص وأحداث الحركة الأدبية والسياسية في فترة حاسمة من تاريخ مصر – إنه باختصار واحد منا.
وإذا كان النص قد استهدف في البداية كتابة رثاء لسينمائي كبير؛ وهو الدكتور “محمد كامل القليوبي”، الذي كان أول من التقاه كاتبنا في بداية عمله الحزبي، حيث حضر في بيته أول اجتماع سري له مع الشاعر الكبير؛ “محمد سيف”، والمفكر والناقد البارز؛ “خليل كلفت”، إلا أن النص قد “إنزاح” إلى تناول سمات جيل أدبي سياسي بشخوصه وأحداثه ومعاركه.
وصف “الورداني” هذا الجيل من داخله في إحساسه: بـ”مهمته التاريخية ودوره الرسالي”؛ في تقويض ما هو قائم وتحقيق الحلم في: “الإمساك بالقمر”؛ من خلال تبيان شعوره عند الإنضمام لـ”التنظيم الشيوعي المصري”، وما راوده أثناء اجتماعه الحزبي الأول (إلى أي حد كان اليقين بتغيير العالم ليس مجرد حلم فقط)، ثم أثناء وعقب اشتراكه في اعتصام “جامعة القاهرة”، وإنخراطه في أحداث “الحركة الطلابية” في عام 1972، كما صوره بوجهه الزورباوي من خلال بعض شخوصه التي برع في تصويرها عند تعرضه مثلاً للراحلين: “إبراهيم منصور” و”يحيى الطاهر عبدالله”.
04 – سمات جمعتنا معًا
ويرسم “الورداني” بريشته تلك الملامح والسمات التي مثلت جيلاً فى عمومها؛ رغم كل التمايزات الفردية، فهو جيل هزته بعمق هزيمة حزيران/يونيو 1967، وهو الجيل المتمرد على سلطة البورجواية البيروقراطية في المجالين الثقافي والسياسي، وهو الذي رفع راية العصيان؛ في شباط/فبراير وتشرين ثان/نوفمبر 1968، ضد “عبدالناصر” ثم واصل ذلك في عهد “السادات”، وقد كان العصيان وفعل التمرد أول خطوة في طريق الرفض المتلاحق وأشبه بالنار التي سرقها “بروميثيوس” من آلهة الأولمب فدفع ضريبته من الاعتقال والنفي والمطاردة كاملة. لقد ختم مرحلة تاريخية من مصادرة الحياة السياسية والثقافية وأشعل الشرارة التي أنارت طريقًا جديدًا للمعارضة السياسية الراديكالية. وقد كان ذلك الصراع الذي خاضه ضد سلطة الدولة وتجلياتها ومؤسساتها هو الأساس الذي بنى عليه شخصيته المستقلة. وأنصهر كاتبنا في تجارب كبرى فشارك في “الحركة الطلابية” عام 1972، ثم في “حرب أكتوبر” 1973، ثم نُفي إلى “الوادي الجديد” عام 1978، وهرب من مطاردة الشرطة وانغمس في العمل السري عام 1977، والسجن عام 1982 – وهي لا ترد في كتابه بوصفها تجارب شخصية فقط، بل بوصفها تجربة أبناء السبعينيات الذين انتمى لهم في تجربته الأدبية. “ما ميزنا وما تعلمت منه هو الجنون والنزق والغضب والرفض والحلم والثورة والهزيمة… لم يكن طيش شباب مثلاً، بل علامة على مرحلة كاملة، كنا نعيش معًا تقريبًا. وعندما تلتقي أي عدد من أصدقاءك…… كان من الطبيعي أن تقضي اليوم بكامله معهم، وربما أيامًا تالية، تقتسمون قروشكم لشراء السجائروما شابه، وبعد أن تنتهوا من ندوة أو فيلم مثلاً، لا يُفكر أحدكم أين يقضي الليلة، فأي مكان يتسع لأي عدد من الأصدقاء”؛ على ما يقول كاتبنا. كان هذا شائعًا بيننا جميعًا؛ بيوتنا أشبه بمشاعيات صغرى وقبلت عائلاتنا تقاليدنا الجديدة دون تذمر (والرفيقة: نعمات، والدة الورداني، تُماثل الرفيقة والدتي: أم محمود، والرفيقة والدة المناضل الراحل: عبدالسلام الشهاوي، والرفيقة والدة محمد سيف وغيرهن). ويشتد التضامن في أوقات الاعتقال ولا تنقطع زيارات الرفاق للأهل مقدمين كل ما يستطيعون من دعم مادي ومعنوي (ومشهورة هي مظاهرات الأمهات ضد اعتقال أبنائهن وبناتهن – خدوا ولادنا ف الفجاري؛ كان هتاف الأمهات). ويواصل “الورداني” وصفه؛ فيُشير إلى كيف كُنا نقرأ بنهم مجنون، وكيف كان الأدباء يكتبون كتابة أكثر جنونًا ولا يكفون عن البحث عن طريق. ويتحدث عن الاستقلال الأدبي لهذا الجيل المتمرد عن الصحافة الثقافية الرسمية، حيث: “الإستغناء والعزوف وعدم الإهتمام بالظهور وإنتفاء شهوة التواجد كانت سمات أساسية لأغلب أبناء تلك الموجات من الكُتاب”.
05 – بروفايلات أدبية وسياسية
ويصور “الورداني” بعض شخصيات الجيل الأدبي-السياسي تصويرًا دقيقًا مُنصفًا؛ فإذا كان قد بدأ النص بالمخرج الكبير ورفيقه الحزبي؛ “محمد كامل القليوبي”، فقد مر سريعًا على؛ “خليل كلفت”، المفكر والمترجم والناقد المعروف، وبعد أن حكى عن كيف بدأ قراءاته وأي أثر تركه أخوه الأكبر وأصدقاءه وخاله عليه – قدم لنا شخصًا فريدًا مميزًا، وهو “عبدالفتاح الجمل”، الذي كان يشرف على الصفحة الأدبية في جريدة (المساء) القاهرية؛ التي لعبت دورًا أساسيًا في تقديم هذا الجيل للقُراء من كُتاب القصة والشعر والنقد والترجمة، وقد كنت واحدًا منهم. وأشهد أنه كان مستقلاً في مواقفه ولم يخضع لإكراهات الجهات الأمنية؛ وربما كان هذا أشد ما ميزه. ويحكي عن الشاعر الكبير؛ “محمد سيف”، كاتب (ستة أناشيد لمصر)، وعن العلاقة الحميمة بينهما؛ وربما كان (الإمساك بالقمر) ترجمة نثرية في بعض جوانبها لقصائد “سيف”؛ التي أهداها ضمنيًا لرفاقه في التنظيم الحزبي الذي جمعهما، والتي أشير إليها أعلاه، ومما ورد فيها :
يسعد مساكم يا صحاب / يا روح ودبت في عروق هيكل تراب / لكأني بالمح فيكو بكره النامي / بيرج سطح الأرض من تحتي ومن قدامي / يسعد مساكم السكك خطرة / والحلم بيشاركنا في البيت والغدير والشجرة/ لكأني بالمح فيكو عرق الشقا / وباحس ألم الولاده / ويا دوبني بأقدر أحسب اللي وقع وراح واللي بقى.
ويعرض “الورداني” في شخصياته التي إنتقاها لـ”إبراهيم منصور، و”عبده جبير”، و”خيري شلبي”، و”يحيى الطاهر عبدالله”، والشاعر والرفيق “عزت عامر”، و”محمد عبدالعال”، و”إدوارد الخراط”، و”يوسف إدريس”، ولجنرال الثقافة؛ “يوسف السباعي”، ونظيره “ثروت أباظة”، الذي كان يرى أن هناك نُصابًا ماليًا للشرف؛ وغيرهم.
وقد واتاني الحظ لأنني قد عرفت معظم من ذكرهم. وقد ربطتني ببعضهم علاقات وثيقة – فقد أقام في بيت عائلتي الصديق الأديب؛ “يحيى الطاهر عبدالله”، عندما أفلت هاربًا من الحملة البوليسية التي شملت بعض منسوبي “منظمة وحدة الشيوعيين المصريين”؛ في أيلول/سبتمبر عام 1966، وتوليت تأمينه في أماكن أخرى فيما بعد، ولكنه لم يكن ممن يخضع لأي إنضباط في حركته. وقد صوره “الورداني” تصويرًا دقيقًا بنزواته، وعواصفه الغاضبة، وفرديته الجامحة، وإعتداده بنفسه، وثقل وطأته على أصدقاءه، وتقديسه لإله الخمر اليوناني “ديونيسوس”، وجمال أدبه الباقي، ويبدو لي أن كاتبنا الكبير قد أتبع قاعدة التنويري الفرنسي؛ “دنيس ديدرو”، حين تحدث عن “راسين”، في مؤلفه: (ابن شقيق رامو)؛ موازنًا بين نتاجه الأدبي الذي سيستمر لأجيال وسماته الشخصية التي لم يُعد لها أثر وإنتهت برحيله بينما بقي أدبه.
ويُخصص “الورداني” قسمًا معتبرًا للشاعر الكبير؛ “عزت عامر” – عضو “التنظيم الشيوعي المصري”، وواحد من أبرز كوادره – ومرشحه لعضوية “مجلس الشعب” عن دائرة مصر القديمة، ثم المتهم الأول في القضية 100 لعام 1977، وهي القضية التي تتعلق بالإنتفاضة الشعبية التي جرت في كانون ثان/يناير من ذلك العام.
ويعرض سيرتة منذ سني نشأته الأولى والمؤثرات الفكرية والروحية التي تعرض لها في حياته؛ وخاصة من والده الصوفي، وقراءاته في (العهد القديم)، و(الفتوحات المكية) لـ”ابن عربي”، وديوانه الأول (مدخل للحدائق الطاغورية)، ثم سيرته المهنية، وإرتباطه الحزبي بمنظمة ماركسية ونضاله في صفوفها؛ وخوضه لمعارك سياسية تحت رايتها وباسمها بوصفه واحدًا من قادتها، ثم تحوله الروحي ومعاناته – وأعتقد أن هذا قد حدث بعد إنهيار الاشتراكيات الواقعية؛ وهو الزلزال الذي أثر فينا جميعًا بشكل أو بآخر، وربما أيضًا بسبب بعض المشاكل الداخلية التي إعترت تنظيمه الحزبي – لم يُندد الشاعر الكبير بقناعاته السابقة كما فعل البعض، ولم ينخرط في صفوف المنظمات الممولة تحت رايه الليبرالية المتوحشة، وبالأحرى لم يدعم النظام القائم آنذاك أو يُسانده – كانت معاناته ومكابدته معاناة مثقف صادق مغترب روحيًا، وقد حمل “الورداني” شاعرنا في قلبه كعصفور جريح، لم يُحاكمه كهروبي أو متراجع؛ وإنما عرض لتحولاته بموضوعية، وترك الكلمة الفاصلة لقُراءه، وربما كان مما له دلالة هامة أن “عزت عامر” إرتبط بعد نشوب ثورة 25 كانون ثان/يناير 2011، بـ”حزب العمال والفلاحين”؛ الذى كان آنذاك في طور التأسيس.
06 – أحداث أدبية وسياسية
وقد استعرض “الورداني” في نصه علاقة جيله المثقف بالسلطة وتجليات ذلك في أوجه الإبداع، وجهوده في التخلص من قبضة القهر المهيمن، ونزوعه للاستقلال. كما بيّن دور الأدب في تمثيل الواقع السياسي-الاجتماعي وفي إعادة خلقه.
وبعد أن تحدث عن الصفحة الأدبية لجريدة (المساء) القاهرية ودورها الريادي في تقديم رهط جديد من الكُتاب والمترجمين وصفوا بأنهم الأدباء الشبان؛ وخاصة بعد صدور مجلة طليعية هي: (جاليري 1968)، عرض لمحاولة السلطة احتوائهم من خلال عقد مؤتمر لهم في مدينة “الزقازيق”؛ عام 1969، برعاية وزير الداخلية؛ “شعراوي جمعة”، آنذاك، لكن المؤتمر تحول لمهرجان مضاد للسلطة وهيمنتها بحضور: “إبراهيم فتحي” و”خليل كلفت” والشابة “رضوى عاشور”؛ التي تحدثت بجسارة عن الأدباء والكُتاب المعتقلين؛ منهم: “الشيخ إمام ونجم وصلاح عيسى وأحمد الخميسي وسعيد العليمي ومحمد عبدالرسول”؛ وقد اعتقلوا في أعقاب المظاهرات العمالية الطلابية في شباط/فبراير عام 1968 – وخرج المؤتمر بتوصيات مغايرة لما استهدف منه؛ وخاصة إنشاء اتحاد مستقل للكُتاب. ثم تأسيس “جمعية كتاب الغد”؛ التي بلورت ما حدث في المؤتمر.
وينتقل “الورداني” لتأريخ واحدة من تجارب النشر المستقل – الصادرة بعيدًا عن إعلام الدولة، رافضة الخضوع للرقابة أشبه بدار نشر “منوي” – منتصف الليل – الفرنسية؛ التى كانت تنشر أدبًا سريًا مقاومًا للاحتلال النازي. وأسماها: “ثورة الماستر”، وقد نشرت شعرًا ونثرًا وكتابات سياسية مثل الوثائق التأسيسية لـ”حزب العمال الشيوعي المصري”، والرد على “ط. ث شاكر” وغيرها.
ويستدعي اعتصام طلاب “جامعة القاهرة”؛ الذي شارك فيه وحضر وقائعه حتى انفضاضه واعتقاله في كانون ثان/يناير عام 1972، ويُذكرنا بواحد من شعاراته الأساسية: “كل الديموقراطية للشعب.. كل التفاني للوطن”؛ وببعض الشخصيات الطلابية التي برزت؛ آنذاك، مثل: “أحمد عبدالله رزة”، ومن رفاقنا الشاعر الكبير: “زين العابدين فؤاد، وسناء عبدالعزيز، وإبراهيم عزام” وغيرهم. وقد كانت أول انتفاضة في عصر “السادات”؛ وشكلت حجر الأساس لما تلاها.
ويكون “الورداني” من مقاتلي “حرب أكتوبر”؛ التي شارك فيها عدد من رفاقنا منهم: “عبدالرحمن محسن المقدم” – عقيد في سلاح المدرعات وعضو اللجنة المركزية لـ”التنظيم الشيوعي المصري”، ومن كوادره الأساسيين: “عزت عامر”؛ مهندس الطيران، و”وفيق السيد محمد الشع”؛ مدير مزرعة جامعة عين شمس؛ ونقيب الاحتياط في سلاح المدفعية، والدكتور عادل العليمي؛ جندي المشاة من الجيش الثاني وغيرهم. ولكن كان نصيب كاتبنا من هذه الحرب هو الأشد درامية؛ فقد كان عليه استلام جثث الشهداء ودفنها وتصنيف متعلقاتهم الباقية وتسليمها لذويهم أو للسلطات الرسمية حسب نوعها. وكان من أكثر من أحس بجسامة التضحيات التي قدمها أبناء الشعب من الكادحين وهزال ثمارها التي زعموا أننا انتصرنا فيها – انتصارًا حققنا فيه كل ما أراده الأعداء قبل الحرب، فما أغربه من انتصار.
ويعرض “الورداني” لمعركتي إغلاق مجلتي (الكاتب) و(الطليعة)؛ ومصادرة شعار إنشاء “اتحاد كتاب ديموقراطي مستقل”، حيث أستولت السلطة على الشعار الأخير وجسدته في اتحاد رسمي تابع.
07 – مصر السرية بين الهروب والسجن والمنفى
ويُشارك كاتبنا متظاهرًا في انتفاضة كانون ثان/يناير 1977؛ مع الكثير من الرفاق، وقد روج النظام؛ آنذاك، إلى أنها كانت من تدبير “حزب العمال الشيوعي المصري”. والحال أنها كانت انتفاضة شعبية فجرتها قرارات رفع أسعار بعض السلع الأساسية. وإذا كان الحزب قد استطاع إخراج هؤلاء الملايين إلى الشارع كما زعموا لكان في مقدوره تنفيذ برنامجه المعلن وعلى رأسه الإطاحة العنيفة بنظام “السادات” وأستولى على السلطة. وينخرط “الورداني” في تجربة الهروب من الاعتقال بعد أن سعت الجهات الأمنية في طلبه؛ ويذهب إلى مكان الأرشيف السري، حيث حان موعد حظر التجوال يراوده القلق لأنه لم يتبع الإجراءات الأمنية المعتادة، كما يشعر بالخوف فقد كانت هذه أول تجربة هروب ومطاردة يعيشها – ومن مر منا بذات التجربة شعر بنفس المشاعر غير أن الشجاعة هي قهر الخوف وليس عدم الشعور به. ويتحول الأديب الكبير إلى: “محترف ثوري”، وهو الكادر الذي يُعطي كامل وقته للعمل الحزبي في التنظيم والدعاية والتحريض والعمل الجماهيري.
وبعد تبين أن اسمه لم يرد في قرار الإتهام في القضية رقم (100) لسنة 1977 – حاول العودة لعمله كأخصائي اجتماعي في إحدى مدارس التربية والتعليم. وبعد تحقيق شكلي تم إبعاده إلى “الواحات الخارجة”؛ وقد كانت موضع اعتقال شيوعيى الخمسينيات؛ (تم إبعاد رفاق آخرين في مناسبات مختلفة إلى الصعيد؛ مثل رفيقينا: بشير صقر وأحمد رضوان). ويُقدم صورًا من حياته هو ورفيقة رحلته (عائشة وأم لينا فيما بعد)، متغلبين على الظروف المحيطة بكل سلبياتها. وكان هذا النمط من العلاقات الرفاقية التي تنتهي بالزواج مألوفًا وأحيانًا رغم إعتراض الأهل ومثل نواة لإرساء قيم جديدة لا مكان فيها للحسابات الرأسمالية في الزواج.
ويتعرض كاتبنا الكبير للاعتقال مرتين في أعقاب ضربة أمنية لمنظمته؛ عام 1979، ثم في أعقاب اغتيال “السادات”؛ فى تشرين أول/أكتوبر 1981، وهو يُقدم لنا تفاصيل حياتية لا مقولات مجردة. وهنا تبرز أسماء رفاق عرفهم داخل السجن مثل؛ رفيقنا الراحل: “تيمور الملواني”، والدكتور “عماد أبوغازي”؛ و”براء الخطيب”؛ و”أمير سالم”؛ و”فريد زهران” وغيرهم. ويفرد قسمًا مهمًا من نصه لعرض حياة المناضلين داخل السجن من التمرد إلى الإضراب عن الطعام، إلى الحياة العامة الجماعية، وهي شكل من أشكال المشاعة التي يقتسم فيها الجميع كل شيء من طعام وشراب وأدوية ودخان – وكذلك توزيع المسؤوليات – منظم الحياة العامة – مسؤول الاتصال بالإدارة – الحصول على الجرائد والكتب والمجلات تنظيم تلقي المعلومات وإذاعتها، الاتصال الداخلي، عقد الندوات، الاتصال بالخارج إلخ…. يستدعي “الورداني” كل هذا راسمًا تلك الحياة “غير الطبقية”؛ وذكريات التضامن والتآخي الرفاقي ضد محاولات السيطرة على جسد وروح المعتقل من قبل سلطة تُريد أن تُعزز سطوتها السياسية وتنتشي بها. ولكن كان العالم الداخلي للسجن السياسي لكاتبنا الكبير وأمثاله هو مدرسة للنضال.
كتب “إ. ن. شتينبرغ” الاشتراكى الثوري الروسي؛ في كتابه: (فى مطبخ الثورات) عن النماذج الخمسة للثوريين******* – وصنفهم إلى المتمرد من أجل ذاته – الثوري العلمي – الثوري الجمالي – الثوري بالتراحم – الثوري بالحب. وفي الواقع تتداخل هذه الأنماط بل يمكن أن يُضاف إليها من واقع التجربة الثورية أنماط أخرى. لكن يُخيل ليّ أن كاتبنا قد صنع من سبيكة إختلط فيها الثوري الجمالي بالثوري العلمي والثوري بالحب.
يرفض “الورداني” طلب وكيل النيابة في اعتقاله الثاني العشوائي؛ بعد اغتيال “السادات”، أن يركع على ركبتيه أثناء التحقيق ويُصر على رفضه معرضًا نفسه لمخاطر جمة، وهنا يحضرني ما كتبه الروائي “كارلوس ليسكانو”؛ في روايته (عربة المجانين – سيرة السجن): (كرامته هي التي تجعله يصمد.. إنها كرامة إدراكه بأنه لابد وأن ينظر ذات يوم في وجه أطفاله وزوجته ورفاقه وذويه)، وكاتبنا الكبير حتى الآن مع كوكبة من الرفاق لم يركعوا ومازالوا رغم شيخوختهم يحملون روحًا ثورية نبيلة شابة.
مراجع المقال
*(معجم المصطلحات الأدبية)، “إبرهيم فتحي”، المؤسسة العربية للناشرين المتحدين. صفاقس – تونس، الطبعة الأولى، 1986.
**(بطل من هذا الزمان) – “ميخائيل ليرمنتوف” – دار التقدم – موسكو – 1984.
***(المظاهرات الطلابية في الرواية المصرية)، “إبراهيم فتحي”، مجلة (الهلال) القاهرية – عدد تشرين أول/أكتوبر 2000.
**** (مشكلات السياسة مع الأدب الروائي)، “إبراهيم فتحي” – صفحة كتابات المفكر الإشتراكي والناقد الأدبي “إبراهيم فتحي” – الـ (فيس بوك).
***** (المثقف العربي والسلطة)، “د. سماح إدريس”، دار الآداب، بيروت، 1992.
****** (السجن السياسي في الرواية العربية)، “د. سمر روحي الفيصل”، “غروس برس”، طرابلس – لبنان، 1994.