22 ديسمبر، 2024 6:57 ص

الإلهة الأنثى .. أول أسطورة عرفها الإنسان القديم

الإلهة الأنثى .. أول أسطورة عرفها الإنسان القديم

كتبت – سماح عادل :

بعد تطور العلوم الإنسانية وتطور علوم دراسة الأرض ودراسة آثار المجتمعات ودراسة الآثار التي هي مخلفات الإنسان القديم, اكتشف بعد زمن طويل أن المجتمعات الإنسانية البدائية كانت تحكمها النساء.. واستتبع ذلك أن تبدأ تصورات الإنسان حول القوى الغيبية التي تحكم الطبيعة من حوله بتقديس النساء، الحاكمات، صاحبات المقام الرفيع، واهبات الحياة والمحافظات عليها، “الأم الكبرى” و”الإلهة الأنثى”..

تحولات التاريخ الإنساني..

تميز التاريخ الإنساني بأربعة تحولات أساسية.. كل تحول أحدث انقلاباً هاماً:

1 – أقدم التحولات في مطلع العصر “البليستوسيني” الأعلى من عام 100 ألف “ق. م” إلى عام 10 آلاف قبل الميلاد, وسميت التغييرات في ذلك العصر بثقافة “العصر الحجري القديم” من خلال محاولة الإنسان السيطرة على الطبيعة.

2 – في أواخر الألف التاسع وأوائل الألف الثامن قبل الميلاد, بتأثير ثلاث عوامل “الاستقرار في الأرض وبناء المستوطنات الثابتة الأولى – واكتشاف الزراعة – وتدجين الماشية”.

3 – تكون المدن الأولى في “وادي الرافدين” الأدنى بتنظيماتها المدنية والسياسية والدينية المتطورة.

4 – في القرن التاسع عشر وهو الثورة الصناعية.

عبادة الأنثى..

ارتبط التصور الديني الأول في حياة الإنسان البدائي بعبادة الأنثى.. كانت المرأة بالنسبة لإنسان العصر الحجري القديم موضع حب ورغبة، وموضع خوف.. من جسدها تنشأ حياة جديدة ومن صدرها ينبع حليب الحياة، وخصبها هو خصب الطبيعة التي تهب الزرع وثمار الشجر، وعندما تعلم الإنسان الزراعة وجد أن الأرض مثل المرأة تحبل بالبذور، اعتقد الإنسان أن وراء الطبيعة أنثى كونية عظمى هي منشأ الأشياء، عنها تصدر الموجودات وإلى رحمها يؤول كل شئ كما صدر.

غير أن هذا النظام الديني سيتزعزع مع عصر الكتابة وظهور المدن الكبيرة ذات التنظيمات المدنية والسياسية والاقتصادية المعقدة، التي عكست واقعها على الحياة الدينية الجديدة، فمع انتقال السلطة في المجتمع نهائياً إلى الرجل وتكوين دولة المدينة ذات النظام المركزي والهرم السلطوي والطبقي التسلسلي الصارم الذي قام على أنقاض النظام الزراعي البسيط تظهر الآلهة الذكور ويتشكل مجمع الآلهة برئاسة الإله الأكبر، ذلك المجمع الذي يعكس تشعب الاختصاصات وتقسيم العمل، وتتحول الإلهة الكبرى للعصر القديم إلى إحدى آلهة المجمع بعد أن كانت الإلهة الواحدة، غير أن هذا التحول في مكانة “الأم الكبرى” لم يتم إلا على النطاق الرسمي، بينما بقيت مكانتها القديمة على حالها في ضمير الناس ممن لم يتوجهوا إليها إلا عند الخوف واليأس وأزمنة الشدة.

الكتابة أغفلت عبادة الأنثى..

الكتابة التي ابتكرها الإنسان في مطلع العصر المديني, وراح يدون بها أساطيره الموروثة قد ساهمت في تظليل صورة الأم الأولى، وإلقاء غلالات سميكة حول وجهها، فالكهنة المتفرغون ممن ساعد الرفاه الاقتصادي في المجتمع الجديد على تفرغهم كلية للنشاط الديني، والذين كانوا أول من استعمل الكتابة وحفظ أسرارها المقدسة، راحوا يدونون أساطير الأمس بلغة اليوم والتي كانت لغة مجاز وخيال ورمز، ولقد دونت أسماء عدة للإلهة، وسارت هذه الأسماء المتعددة كأنها ذوات منفصلة ومتباينة، في (سومر) الإلهة “نمو” الإلهة البدئية والمياه الأولى و”إنانا” إلهة الخصب، وفي (بابل) “نتخرساج” الأم الأرض و”عشتار” المقابلة لـ”إنانا”, وفي (كنعان) “عناة” و”عستارت”, وفي (مصر) “نوت” و”ايزيس” و”هاتور” و”سيخمت”, وعند (الإغريق) “ديمتر” و”جيا” و”رحيا” و”ارتميس” و”افروديت”, وفي (الهند) “كالي”.. أسماء متنوعة لإلهة واحدة في العصر القديم، وصارت متعددة قولاً وواحدة فعلاً، في عصور الكتابة هي ربة الحياة وخصب الطبيعة، وهي الهلاك وربة الحرب، في الليل عاشقة وفي النهار مقاتلة، هي الأم الحانية راعية الحوامل والمرضعات، وهي البوابة المظلمة لالتهام جثث البشر، هي القمر المنير وهي كوكب الزهرة، هي النور ورمزها الشعلة الأبدية، وهي الظلمة، هي القاتلة وهي الشافية، هي العذراء الأبدية وهي الأم المنجبة، هي البتول وهي البغى المقدسة، هي ربة الحكمة وسيدة الجنون، تصالحت لديها المتناقضات.

المجتمع الأمومي..

في بداية تجمع الإنسان القديم في جماعات, كان تنظيم المجتمع يعرف بما أسماه الباحثون بـ”المجتمع الأمومي”، في المجتمع الأمومي أسلم الرجل قيادته للمرأة، لا لتفوقها الجسدي بل لتقدير عميق لخصائصها الإنسانية وقواها الروحية وقدراتها الخالقة، وإيقاع جسدها المتوافق مع إيقاع الطبيعة، فإضافة إلى عجائب جسدها الذي بدا للإنسان القديم مرتبطاً بالقدرة الإلهية، كانت بشفافية روحها أقدر على التوسط بين عالم البشر وعالم الآلهة، فكانت الكاهنة الأولى والعرافة والساحرة الأولى، ولقد أسلمت الجماعة قيادتها للأمهات دينياً وسياسياً واجتماعياً، وعزز ذلك الدور الاقتصادي للمرأة فلقد كانت المنتج الأول في الجماعة، لكونها المسؤولة الأولى عن الأطفال وتأمين حياتهم، ومسؤولة عن تحضير جلود الحيوانات وتحويلها إلى ملابس ومفارش وأغطية، وكانت النساجة والخياطة الأولى، وأول من صنع الأواني الفخارية، وبسبب قضائها وقتاً طويلاً في البحث عن الأعشاب الصالحة للأكل تعلمت خصائص الأعشاب السحرية في شفاء الأمراض، فكانت الطبيبة الأولى، وكانت من يبني البيت ويصنع الأثاث، وهي أول موقدة لشعلة النار الأولى في البيوت والمعابد، وكانت أول حارس عليها وحافظ أسرارها.

وتوجت المرأة دورها الاقتصادي الكبير باكتشاف الزراعة ونقل الإنسان من مرحلة الصيد والالتقاط إلى إنتاج الغذاء، وكانت معاملة المرأة لأطفالها دون تمييز هي التي أسست لروح العدالة والمساواة الاجتماعية القائمة في الجماعة الأمومية، وأيضاً ابتعاد نفسية المرأة عن كل ميل نحو التسلط والاستبداد ونفورها من العنف الجسدي، إلا عند الحاجة الحقيقية إليه، قد شاع السلام بين أفراد الجماعة وبين الجماعات الأمومية الأخرى، وفيضها الطبيعي كان أساس المشاعة البدائية وعدالة توزيع الثروة وكان مناخ أقرب إلى الفردوس فقده الإنسان بحلول مجتمع الذكر الذي ضيع السلام والدعة ربما إلى الأبد.

الانقلاب على المجتمع الأمومي..

مر “المجتمع الأمومي” عبر تاريخه الطويل بمراحل متعددة انتهت بالانقلاب الكبير الذي قام به الرجل، في البدايات السحيقة للتجمعات الإنسانية كانت العلاقات الجنسية حرة تماماً دون قانون، ثم جاءت خطوة في تنظيم العائلة تلخصت في تحريم الجنس بين الآباء والأبناء، والخطوة الثانية في تحرمه بين الأخوة والأخوات، وكان الأولاد ينسبون لأمهاتهم، والشكل الرابع من أشكال العائلة هو العائلة الثنائية حيث لكل رجل زوجة رئيسة داخل مجموعة من الزوجات يسكن إليها فترة أطول، وكان بالنسبة إليها الزوج الأساسي بين عدد أزواج كثيرين، ثم تحولت العائلة إلى عائلة صغيرة مؤلفة من زوجين وأبنائهما المباشرين، وفي هذه العائلة حافظت المرأة على وضعها المتميز السابق، فكانت حرة في فصل الزواج متى شاءت فيعود الأولاد إليها لا إلى الزوج، الذي يخرج من البيت صفر اليدين.

مع تزايد الثروات بتأثير الزراعة والاستقرار بدأ مركز الذكر يتدعم على حساب مركز المرأة، مما أدى بجماعة الذكور إلى قلب نظام الوراثة القديم حيث كانت الأم تورث أبنائها والأب يورث إخوته بالدم، ونجحوا في المرحلة الأخيرة السابقة لظهور المدن الأولى وقضى الرجل على انتساب الابن لأمه وأصبح ينسب لأبيه، وظهرت العائلة الأحادية التي تقوم على سيادة الرجل مع الرغبة الصريحة في ولادة أولاد تكون أبوتهم ثابتة لا جدال فيها من أجل تمليكهم وتورثيهم فكان إسقاط “حق الأم” هزيمة تاريخية عالمية للجنس النسائي ابتدأ معه تاريخ استعباد المرأة.

لم تهزم النساء دون مقاومة لكن التاريخ لم يحفظ آثار الصدام المباشر بين الجنسين والذي حصل في زمن ما عند أعتاب التاريخ المكتوب، إلا أن الأسطورة تزودنا بكثير من المعلومات عنه فالأسطورة ذاكرة إنسانية تحفظ الأحداث بشكل رمزي.

في “بابل” و”فينيقيا” لم يستطع الرجل, وحتى فترات متأخرة جداً من تاريخ المجتمع الذكري هناك, أن يضع تحت وصايته حياة المرأة الجنسية قبل الزواج، فكانت بكارة المرأة ملكاً للإلهة “عشتار” لا لزوجها، وكانت تهب عذريتها في المعبد حيث تمارس الجنس المقدس تحت رعاية الإلهة قبل أن تلتزم بالحياة الزوجية، عند جذور الحضارات جميعاً من “اليابان” شرقاً وحتى مجتمعات “الهنود الحمر” غرباً عثر الباحثون على أساسات المجتمعات الأمومية.

الإلهة الأنثى..

صنع الإنسان البدائي في العصر القديم تماثيل طينية للإلهة الأم تبرز مناطق خصوبتها، كما ظهرت منذ مطلع الألف الثامن قبل الميلاد وضعية أصبحت كلاسيكية وهي وضعية الإلهة الأم ممسكة بثدييها العاريين، والتي سنجدها خلال الفترات اللاحقة لدى كل ثقافات الشرق القديم تقريباً، كرمز لخصب الإلهة الأم، ثم ظهرت رموز منها الصليب المعكوف والصليب العادي اللذين استمرا رمزين مقدسين في الديانات الأمومية والذكرية على حد سواء، وصولاً إلى “السيد المسيح” وأمه “مريم” آخر أم كبرى في الديانات البشرية، ومازال الصليب المعكوف رمزاً مقدساً لدى الهندوسية والبوذية، كما وجد في نقوش ورسوم الهنود الحمر في أميركا، وصليب النازية ما هو إلا إحياء لرمز مقدس للقبائل التوتونية التي انحدر منها الألمان، ومن الرموز الأولى الفأس المزدوج، كما ارتبطت بها رموز حيوانية أهمها الحمامة والأفعى والثور، وبعد تعلم الإنسان صناعة الجرار الفخارية أصبح الإناء الفخاري أحد رموز “الأم الكبرى”.

رغم أن صورة “الأم الكبرى” ألغيت في الدين الرسمي للدولة إلا أنها حافظت على سماتها القديمة في قلوب الناس العاديين، الذين تعبدوا للإلهة الذكورية تعبد خوف وتابعوا تعبدهم للأم الكبرى تعبد محبة، ففي “سومر” التي كان بها مجمع لآلهة الذكور برئاسة الإله “آن” بقيت أساطير الأم وصلواتها، تقول صلاة مرفوعة إلى (إنانا): “سيدة النواميس الكونية، أيها النور المشع يا واهبة الحياة وحبيبة البشر، أنت أعظم من كبير الآلهة آن وأعظم من الأم التي ولدتك، يا مليكة البلاد الحكيمة العارفة يا مكثرة المخلوقات”.. وفي ترتيلة لعشتار البابلية: “لك الحمد يا أرهب الإلهات، لك الإجلال يا سيدة البشر وأعظم الآلهة، عشتار مالها في عظمتها قرين، بيدها مصائر الموجودات جميعاً، لها الدعاء واسمها الأول بين الأسماء، نافذة شرائعها، سامية محكمة مقامها الأعلى، يسعى الآلهة إليها، ظاهرة فوقهم مطاعة الكلمات مليكة نافذة الإرادة”.

في الميثولوجيا المصرية كانت “نيت” أم الآلهة وبالذات أم كبيرهم “رع”, وهي البقرة السماوية التي أنجبت السماء وهي التي نسجت فيما بعد مادة العالم بمغزلها, وهي صاحبة القول: “أنا ما كان وما هو كائن وما سوف يكون وما من أحد بقادر أن يرفع عني برقعي”.. وهي تختلط بالإلهة “ايزيس”, وهي قبة السماء المحدبة التي يتقوس ظهرها فوق الأرض “جيب” المستلقي تحتها، وهي البقرة السماوية التي أنجبت الشمس التي تشرق من حضنها وإلى حضنها تعود عند المغيب، أما بطنها فسقف الكون الذي تزينه النجوم والكواكب.

الديانات الذكرية المتطرفة..

الديانات الذكرية المتطرفة حاولت أن تجتث تماماً صورة “الأم الكبرى” من نظامها الأسطوري كما في ديانة العبرانيين بشكلها التوراتي المتأخر، ولكن التقاليد المسيحية ما تلبث أن تعيد للأم الكبرى سابق مجدها وسلطانها.

القمر..

اعتبر الإنسان البدائي أن “الأم الكبرى” تتجلى في القمر، ومنذ أن اعتبر القمر تجسيداً للإلهة صور في خياله الإلهة على هيئة بقرة سماوية يرسم قرناها هلالاً في السماء واستمرت هذه الصورة في عصور الكتابة.

ارتبطت حياة المرأة الفسيلوجية والسيكولوجية بالقمر، فهي مرتبطة بدورة شهرية معادلة لدورة القمر، وقد كان سكان بلاد الرافدين يعتبرون تمام البدر يوماً تحيض فيه الإلهة “عشتار” وتستريح من كل أعمالها, لذا فقد ارتبطت بهذا اليوم مجموعة من المحرمات، كالشروع في السفر، وأكل الطعام المطبوخ وإشعال النار، وهي نفس الأمور التي تستريح منها المرأة الحائض ودعي هذا اليوم بيوم “السباتو” أي يوم الراحة وكانوا يحتفلون به في كل شهر، ثم مرة في كل ربع من أرباع الشهر القمري، وعنهم أخذ اليهود أيام السبت.

النار..

كما اكتشفت المرأة الزراعة اكتشفت النار، وكانت مهمتها الحفاظ على الشعلة لأن إشعال النار كان صعباً، وارتبطت النار بالقداسة وعرفها الإنسان القديم على أنها منحة الأم الكبيرة، التي تمنح الدفء والإنارة في ظلام الليل، وتستخدم في طهو الطعام وأغراض أخرى، ثم حين انتقلت وحين عبدت المرأة في المعابد أصبحت لها شعلة مقدسة تحافظ العذروات على دوام اشتعالها، ويمكن القول أن طقوس إشعال الشموع في معابد الديانات الكبرى اللاحقة كما في الكنائس والمعابد البوذية والهندوسية وحول أضرحة الأولياء هي استمرار للطقوس النارية للام الكبرى القديمة.

إيزيس..

تتجلى الأم المصرية الكبرى في شكلها الأبهى كسيدة للطبيعة تحت اسم “إيزيس”, التي تصفها النصوص المثيولوجية والطقسية بالإلهة المتعددة الأسماء.. فهي “سيدة القمح” وأول من اكتشف زراعته, من ألقابها “خالقة كل نبت أخضر” و”الإلهة الخضراء” و”سيدة الخبز” و”سيدة الجعة” و”سيدة الخيرات وحقل القمح “, وقد قرنها الإغريق والرومان بكل من “ديمتر” و”سيريس”, ووصفتها بعض النصوص الإغريقية بـ”والدة ثمار الأرض” و”أم حزم القمح”، وفي الأعمال التشكيلية الإغريقية والرومانية تصور وقد رفعت بيديها الاثنتين باقتين من سيقان القمح أو زينت رأسها بسنابله، وقد انتشرت عبادتها في العالم القديم انتشار النار في الهشيم، منذ فتح الاسكندر الأكبر، وملأت تماثيلها المقدسة أنحاء الإمبراطورية الرومانية، وخصوصاً تلك التي تمثلها جالسة وفي حضنها الوليد الإلهي، والتي بقى بعضها يعبد من قبل المسيحيين على أنه  تمثال “السيدة مريم” وابنها “يسوع”، ومنذ الأزمنة المبكرة يظهر الإله “أوزوريس” إلى جانب إيزيس أخاً أو زوجاً أو ابناً وشريكاً في خصائص الخصب وإلهاً لدورة القمح والإنبات.

  • المصدر:

كتاب: “لغز عشتار الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة”.. فراس السواح.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة