8 أبريل، 2024 3:36 م
Search
Close this search box.

الإحالة في السرد في رواية (أسميتها تهشو) لحسين محمد علي المصري

Facebook
Twitter
LinkedIn

 

قراءة: صلاح محمد الحسن القويضي- السودان

[email protected]

 

المنهج والفرضيات:

تعتمد هذه الدراسة منهج البحث التحليلي والقراءة (الانطباعية) لإثبات فرضيات ثلاث، أولها أن رواية (أسميتها تهشو) رواية (سيرة ذاتية) (واقعتخيلية) تاريخية. وثاني هذه الفرضيات أن الرواية المذكورة في مجملها عبارة عن (إحالة) لعوالم (افتراضية متخيلة) متعددة المستويات لكنها قائمة على (رؤية) للواقع الحقيقي. وثالث هذه الفرضيات أن الرواية عمل (تجريبي) ينفلت عن القوالب السردية المألوفة لجنس الرواية الأدبي. وتتوسل الدراسة لبلوغ أهدافها باستشهادات من النص السردي ذاته، مقروءً على ضوء المنهج المقترح. وتنطلق من افتراض أن الإبداع عمومًا – والسرد على وجه الخصوص – عبارة عن “إحالة” تسافر بالمتلقي عبر “العوالم”.

رواية (أسميتها تهشو) كسيرة سيرة ذاتية (واقعتخيلية) متعددة المستويات:

(أسميتها تهشو) كرواية (سيرة ذاتية):

يحسم نص حسين المصري السردي المطول (307 صفحة من القطع المتوسط) سؤال طبيعته منذ الجملة الأولى منه. يفتتح الراوي حكايته – في أول صفحات الرواية – بقوله (اسمي “حسين”). ثم لا يلبث إلا قليلًا حتى يقول في الفقرة الرابعة بنفس الصفحة (جدي الريس “المصري” من أعيان المكان…).

وبالرجوع لغلاف الرواية – ومعرفتنا الشخصية للكاتب – نجد أن أسمه (“حسين” محمد علي “المصري”). وفي يقيني أن المؤلف قد استهل روايته بهذه الصورة قاصدًا أن يحسم أي جدل قد ينشأ حول العلاقة بين المؤلف والراوي والشخصية المحورية في السردية ليقول للقارئ والناقد أن “الثلاثة” هم “ذات المؤلف”.

واقعتخيلية (الزمكان):

وإذا كان حسين المصري قد أجاب بصورة مباشرة وحاسمة ومتعمدة على سؤال طبيعة تصنيف الرواية “كسيرة ذاتية” فإن مجمل النص السردي يجيب على سؤال (الواقع والمتخيل) في الرواية. والواقع نفسه هنا لا يشترط أن يكون واقعا “ماديًا” بل يمتد ليشمل المعتقد والموروث – الخرافي أحيانًا – والرؤى والأفكار.

يقول الراوي في الصفحة الخامسة من الرواية:

“ولدت في بلدة ساحلية كثرت عنها الحكايات حتى باتت مشهورة بعمائرها وسكانها من غير البشر. إلا أن القطط أخذت حيزًا أكبر وسارت أخبارها إلى أقصى البلاد”. أ.هـ

بقراءة هذا المجتزأ “المربك” نكتشف أن عناصره اللغوية “تحيل” القارئ لعدة أمكنة “محتملة”. فعبارة “بلدة ساحلية” تحيل القارئ لكل موانئ العالم وبلداته الساحلية. وعبارة “مشهورة بعمائرها وسكانها من غير البشر” تحيل المتلقي لمدينة سواكن الشهيرة بطابعها المعماري المتميز وبالروايات الأسطورية عن علاقتها ب”جن النبي سليمان”. بينما عبارة “إلا أن القطط أخت حيزًا أكبر وسارت أخبارها إلى أقصى البلاد” تحيل مباشرة لمدينة بورتسودان وقططها المشهورة. ويكتمل “الإرباك” المتعمد بورود عبارة (بلدة ساحلية). فبورتسودان الحالية ليست “بلدة” وإنما مدينة كبيرة، لعلها ثاني مدن السودان وميناؤه الرئيسي.

بهذا التعريف المربك “ظاهريًا” أراد المؤلف أن يحيل القارئ لسواكن و(مرسى برءوت) في بعديهما التاريخي. كما قصد أن يؤطر “زمكان” روايته بالعوالم التاريخية والحاضرة للبلدات الساحلية والجزر على امتداد سواحل البحر الأحمر. وهو ما أكده المؤلف في لقائه معي قبل تقديم هذه الورقة في مركز نرتقي الثقافي (3 إبريل 2021م)

وهكذا نجد أنفسنا أمام (مؤلف/ راوي/ شخصية روائية) يمشي بين ظهرانينا، لكنه يتحرك داخل النص في فضاءات (زمكانية) مفتوحة. تتراوح مكانيًا بين سواكن وبورتسودان وبلدات ومدن (سواحل) البحر الأحمر. بينما تتراوح هذه الفضاءات في بعدها الزمني بين (الحاضر/ الماضي/ المستقبل).

تعدد أنماط الواقع في رواية (أسميتها تهشو)..

ابتداءً نقول أنه يصعب – ربما لحد الاستحالة – فصل مكونات (الواقع والمتخيل) (الحقيقي والفانتازي) في سردية حسين محمد علي المصري. غير أن القراءة التحليلية للنص تكشف لنا عن عدد من العوالم الجميلة والمتنوعة التي يتحرك فيها الشخوص والعناصر. ورغم تداخل هذه العوالم فإن بالإمكان حصر بعضها من خلال النص:

عوالم البشر (الواقعية والمتخيلة)

عوالم الجن (المعروفة والمبتكرة)

عوالم البحر (موانئ – بلدات – جزر – كائنات بحرية – مراكب – معتقدات – أساطير – تقاليد – عادات)

عالم القطط

عالم الذئاب

عوالم الصيد والتسفار

عوالم “الأسماء” ومدلولاتها

وفي كل عالم من هذه العوالم نجد تنويعات وحكايات تتناسل وتتوالى محلقة بالقارئ في سماوات سردية يتراوح أفقها بين الفانتازيا والسحر والواقع.

عوالم البشر (الواقعية والمتخيلة)..

في سرديته المطولة يقدم حسين المصري أنماطًا من البشر (من خلال السرد). عالم البحارة يشكل (الكتلة الأكبر) من بين عوالم تهشو البشرية. ويقدم حسين المصري شخوصه من البحارة في تجليات متنوعة تتراوح بين القوة:

(دعك من كل هذا يا ريس سوني… أما كنت شاهدًا عل غطس هذا الفتى في الماء لفترة طويلة جدًا… خرج بعدها يحمل كمية كبيرة من اللؤلؤ… كيف تفعل ذلك يا فتى؟ لا يوجد إنسان يبقى تحت الماء دون أن يتنفس كل هذا الوقت… شخصيًا، أكاد أشك أنك من البشر – ص199) والضعف (جلست قرب صخرة بعد أن ودت رمالًا بيضاء قرب البحر، تبدو باردة مما جعلني أتمدد مسترجعًا شريط الأحداث التي مرت بي منذ لحظات. النسيم العليل جعلني أشعر بالنعاس وأغط في نوم عميق … ص 59) أ.هـ

والفعل:

(علا صوت الريس توتو وقد اقترب مني، واضعًا أصبعه على أنفي مكشرًا عن أسنانه والشرر يتطاير من عينيه “كان عليك أن تنتظر وألا تستعجل أيها الفتى. لا شأن لك ببقية المراكب… هل جئت معهم حتى تذهب معهم؟ كان يجب عليك أن تنتظرني حتى أفيق من سكرتي حتى أعود بالمركب كما ذهبت بها – ص143) أ.هـ

والسكون:

(المعلم عوض كرسو يجلس متربعًا أمامه موقد النار.. يعد إفطاره الصباحي… عجوز قصي القامة، علا رأسه خصلات متناثرة من الشعر الأبيض… – ص 144) والفرح (رعت إلى وسط المرسى وودت الريس توتو السًا كأنه أحد الأمراء. يلتف حوله البحارة، يستمعون إليه باهتمام وهو يحكي عن الأحداث التي مرت به والتي غيرت مر حياته، وحتى هيئته – ص 240) أ.هـ

والحزن:

(مد يده وأمسك بحرز عهود سليمان وأخذ ينظر للخاتم المعلق بانبه … فجأةً أخذ يبكي بصوت عال حتى أن جميع من في المكان تجمعوا حولنا ليروا ما يحدث – ص 198) والأمل (عند وصولنا عرض البحر، أوقف الريس توتو المركب. بدأنا في إلقاء الشبكة في الماء ورمي الخيوط. مر وقت طويل قبل أن تتحرك الخيوط إلا أن إيماننا بالرزق المكتوب وتحلينا بفضيلة الصبر كانا سببًا في أن لا نسأم ولا نتضجر. ص 116) أ.هـ

واليأس:

(البحر لا يصيبه العقم…إلا أنه يبخل في بعض الأيام. ويبدو أننا في يوم من أيام بخله… نقبل بالنصيب، كثيرًا كان أم قليلًا. – ص 116). أ.هـ

وهو في تقديمه لشخوصه يفعل ذلك عبر (الحكي) والحكايات الواقعية والمتخيلة والأسطورية – كما رأينا في المجتزآت – دون أن يغفل (الوصف) الضروري أحيانًا (لتأطير) الحكايات.

ومن بين عوالم البشر التي تحفل بها رواية (اسميتها تهشو) عالم (الحرملك) الذي يقول عنه في الرواية:

(في بلدتنا عالمان… عالم الحرملك وهو الخاص بالنساء ويحتوي على كل تفاصيل حياتهن الخاصة. فالمرأة لدينا ذات قيمة عالية، تحترم لدرة تقارب التقديس… ص38) أ.هـ

عوالم البحر..

يقدم حسين المصري في روايته (أسميتها تهشو)عوالم الموانئ والبلدات والجزر والكائنات بحرية والمراكب في صور متنوعة منها ما هو واقعي مثل:

(المنطقة التي يقع فيها منزل الريس توتو تختلف عن كل أراء الجزيرة. دائمًا تكون هادئة والبيت تشع منه أضواء القناديل. ص 232) ومنها ما هو متخيل (قلت له: لقد سألتموني وأجبتكم. والآن أكرر للمرة الثانية، استطيع أن أبقى تحت الماء كيفما أشاء. يومًا، يومان، شهرًا، شهران، عامًا، أعوامًا … لا مشكلة لدي في ذلك. ص 176) أ.هـ

ومنها ما هو أسطوري/ خرافي، مثل:

(بعد أن تجد اللؤلؤة السوداء ستشتري عنزة بيضاء ثم تذبحها وتخرج أحشاءها دون أن تقطعها ثم تدخل اللؤلؤة السوداء في معدتها وتدفنها في رمال شاطئ البحر لمدة ثلاثة أيام علي شرط أن يكون اليوم الثالث يوم أربعاء … ثم أقوم بإخراج اللؤلؤة وإعطائها لفتاتك… ص 121). أ.هـ

وهو في كل هذه التجليات يربطها (بالواقع) من خلال الحضور الفاعل للراوي/ المؤلف وللجد (المصري).

العوالم (المعنوية)..

تحتشد سردية (أسميتها تهشو) بالعديد من العوالم المعنوية من معتقدات، مثل:

(حسنًا… ستقوم فتاتك بعدها بربط اللؤلؤة السوداء بين فخذيها لسبعة أيام… من الخميس إلى الأربعاء… وتذهب بعدها للبحر وتخرج اللؤلؤة السوداء وتقوم بدفنها تحت الرمال… ص11).

ومنها ما هو فانتازي:

(سمعت الناس يتحدثون عن شخص يغطس في الماء كالأسماك … هل هو أنت؟ لست أنا يا سيتي الفاضلة … هذا الفت هو من يغطس تحت الماء.ص 189) أ.هـ

. كل ذلك يجعل من الرواية مرجعًا للسياق الأنثروبولوجي / الإجتماعي لفضاءاتها المكانية.

عالم القطط..

تفرد السردية موضع البحث حيزًأ مهمًا للقطط وعوالمها الواقعية حيث يقول حسين المصري في مفتتح روايته:

(إلا أن القطط أخذت حيزًا أكبر وسارت أخبارها إلى أقصى البلاد ص 5)

وعوالمها والمتخيلة، مثل:

(لقد أخطأت يا بني عندما أخذت هذه القطة وحركتها من مكانها. والحمد لله أنك لم تؤذها وإلا لكنت في عداد الموت الأن. وخيرًا فعلت بإطعامها، فهذا يجعلك في مأمن من شرور أهلها) والخرافية (إنها ليست قطة بالرغم من اتخاذها لهيئة القطط … إنها من سكان أعماق البحار. جماعة الجن الأحمر … ص 15) أ.هـ

مما يجعل من القطط وعوالمها عنصرًا أساسيًا من عناصر السرد التي تترك أثرًا لدى المتلقي أسميته بـ (أثر القطة) على نسق (أثر الفراشة) المشهور في الشعر.

عالم الذئاب..

يندرج ورود عالم الذئاب في الرواية في إطار (تجاور العوالم) البحرية والبرية. ويرد عالم الذئاب في ذات السياق الذي يجمع بين الواقع والخيال مثل:

(صعدت عل المركب سريعًا وأخذت الحربة  وقبل أن أنزل سمعت صوتًا خشنًا يصيح قائلًا: كف يا “شارك”… دع الأمر لي. توقف الذئب عن العواء بعد أن سمع الصوت. التفت إلى مصدر الصوت فإذا برل يقف منتصبًا كتمثال الحرية… ص89) أ.هـ

عوالم الصيد والتسفار..

وهي (العوالم الأساسية) في الرواية التي تتخلل نسيجها السردي من بدايته للنهاية. وكما نرى في المجتزأت اللاحقة فإن عوالم الصيد والتسفار عند حسين المصري تحتشد بذات التنوع الغني بين السرد الواقعي والواقع المتخيل (مجتزأ) والفانتازيا السحرية وموروث الخرافة الشعبية. ولو شئنا أن نمثل لها بمجتزأ لاحتجنا لإيراد (معظم) الرواية.

أسميتها تهشو كعمل (تجريبي)..

التزمت غالبية الروايات السودانية بالقوالب السردية المتعارف عليها في هذه المدرسة أو تلك من مدارس السرد.

لكن الرواية الأولى المنشورة لحسين المصري انفلتت عن القوالب السردية المألوفة لجنس الرواية الأدبي واختطت دربا تجريبيًا في ثلاث نقاط، وربما أكثر.

فالرواية من جهة فارقت النمط المعهود للروائيين في تقسيم رواياتهم إلى فصول أو أبواب بعناوين فرعية أو حتى في ترقيم هذه (الأجزاء) لتفادي إشكالات العنونة الفرعية.

فرواية (أسميتها تهشو) بصفحاتها الثلاثمائة وسبعة عبارة عن (فصل) واحد لا يقطع انسيابه عنوان ولا رقم ولا حتى فراغ انتقال لصفحة جديدة. وعلى كثرة ما قرأت من الروايات السودانية فإنني لم أقف عل رواية أخرى نهجت هذا النهج في بنائها الهندسي. ورغم أن تلك الهندسة النصية قد أرهقتني شخصيًا إلا أن المؤلف لديه – لا شك – ما يقوله من مبررات.

وهي من جهة ثانية اعتمدت على تقنية (التشظي) وتناسل (الحكايات) بصورة مخالفة لروايات تيار الوعي. ففي (أسميتها تهشو) تولد حكاية جديدة مع ظهور كل شخصية من شخوص الرواية. غير أن المصري استطاع بذكاء ومهارة أن يجعل كل تلك الحكايات تصب في نهر واحد لتشكل رواية تقترب كثيرًا من حدود الملحمية.

وحسين المصري ينحو في خاتمة روايته منحى التدوير. وهي تقنية عرفتها القصيدة العربية على عهد حسن طلب و(قصيدة التدوير). إلا أنني لم أقف له على أثر في ديوان الرواية السودانية قبل رواية حسين المصري هذه.

يقول حسن المصري في ختام روايته:

(قلت له: هذه زوجتك المستقبلية، فهل أنت مستعد لتحظى بها؟ فأجابني: نعم، على أتم الاستعداد. سأفعل المستحيل حتى أصل إليها. لا يمكن أن أترك مثل هذه الفتاة تضيع مني. لا أستطيع أن أصف جمالها. لقد ملكت عقلي وقلبي.

قلت له: سأعينك على ذلك على الرغم من طول الطريق. لقد سبقتك فيه. وسأعيد الكرة معك حتى تصل إلى مبتغاك).

خلاصة:

وهكذا رأينا من خلال ما استشهدنا به من نص الرواية أنها فعلًا (سيرة ذاتية) (واقعتخيلية) تاريخية. وأنها في مجملها عبارة عن (إحالة) لعوالم (متخيلة) متعددة المستويات لكنها قائمة على (رؤية) للواقع الحقيقي. وأنها عمل (تجريبي) انفلت عن القوالب السردية المألوفة لجنس الرواية الأدبي في ثلاث من خصائصه على الأقل.ِِ

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب