كتب: عبد الرحيم الصالحي
صدرت رواية الأطلسي التائه في طبعتها الأولى سنة ٢٠١٥ عن دار الآداب بيروت ، وتحتوي على ٢٠٧ صفحة من الحجم المتوسط و تقع في ١٦ فصلا، كل فصل هو امتداد للسرد و اكتمال للحكي الذي كان يتمطى بأسلوبه الأدبي السلس ، معتمداً على التشويق حينا و على الإثارة آخر و جامعا بين ما هو واقعي صرف و ما هو خيالي فنطستيكي.
كما أن الرواية تعب من معين التاريخ و تسرد بتلقائية أدبية حياة واحد من أولياء الله الصالحين “أبو يعزى الهسكوري” وتحيط به من شتى الجوانب التي مهد لها لغتيري بتصميم للأحداث أقل ما يمكن ان يقال عنه أنه في قمة الرقي ومن الجمالية في غاية. فالصغير أبو يعزى كان يحيا وأسرته الفقر المدقع بشظف العيش وبقسوة الأب و حنان الأم و حكمة الجدة و خضوع الأبناء، الذين لم يكن لهم في الرواية دور. كان يصبر على كل الأذى و يتحمل الإهانة رغم الكم المهول من التقريع و السب الذي كان يكال إليه سيما من والد و صف “بسحنته الجافة التي أنهكتها صروف الزمان ” و “بأسنان نخرها الكيف”، فقط لأن ابنه كان مقتنعاً باختلافه عمن سواه بتصرف أنثوي مع أمه و هي تقوم بأعباء البيت، ثم وهي تأخذ زينتها التي كان الكحل منها يزرع فيه الفضول ليجربه بشغف و تأن أمام نظرات الأم الحنونة و حيائها الزائد.
أبو يعزى هذا الذي يبدو أن جسده كان يأبى التوقف عن الطول ، كان يستهويه أكثر من غيره جمع الأعشاب و دراستها دراسة سطحية ، بسيطة وتقليدية بمساعدة من جدته “توذة” التي كانت الحياة قد خبرتها أمرها و أطلعتها على أسرارها و كشفت لها عن مزاياها التي كان فيها العوض آنذاك عما سواها من الدواء . هذا إلى جانب ولعه بالأعمال المنزلية حتى يتأتى له مساعدة أمه فيها. نظير تلك الهواية و هذا الولع عوقب الصغير بأن أضحى راعي غنم لدى واحد من الأثرياء الشرفاء “الشريف الشرقاوي” الذي كانت تتطاول إليه الأيدي لنيل بركته مثل بركة من يماثله من الشرفاء والانتفاع بما فضل عن كرمه طلبا مرة و استجداء مرة ثانية. و رغم ذلك فقد فرح أبو يعزى الذي كان طوله يخفي حقيقة عمره بعمله الجديد هذا، بل و اجتهد في إتقانه أيما إتقان بدعم من صديقه إبراهيم الذي سيصبح أخا بسلوكه الحسن و ذكائه المتقد و فطنته النابغة وعلمه الغزير، الذي كان لأبيه الفقيه الفضل فيه بحواضر سوس. علم كان يرش به من رذاذه في كل مرة صديقه الجديد أبو يعزى الذي آثاره بحفاوة عز نظيرها عمن سواه لما لامسه فيه من حميد الخصال و كريم الخلال و ليونة العشرة و صفاء الطوية و طهارة النفس و عفوية السلوك، وسط وقائع يوميات تتعاقب و أحداث تتواتر حتى تصبح في المرعى أو في الكوخ نسخة لأصل لا جديد فيه.
كان أبو يعزى متأثراً بهذا الأخ الذي لم تلده له أمه و ملتصقا به كظله يغترف من علمه الغزير كل الاغتراف فيذهب في شؤون الدين المذاهب و يسلك في معرفة طرق الإسلام بسنتها و شيعتها و خوارجها و غيرها المسالك، محتاطا في تجنب طريق السياسة القذرة التي كان إبراهيم لا ينفك يوصيه بالابتعاد عنها و نبذ مسالك الدولة ، هذه الغانية الجميلة التي يعجبها من السياسيين من يكذب أكثر. و هكذا سيتحول إبراهيم إلى قدوة له في كل شيء و رفقة يتعلم منه قدر ما يستطيع .ألهمه حب الموسيقى بنغمات نايه السارحة في مهاب الروح، و التي كشفت عن ميول جديد قاده إلى حال “الجذبة” ، و حب العلم بعقله الوافر و الأثرة بصبره الزاخر و الزهد بإيمانه العميق .و سيبقى حتى بعد مماته (استشهاده) إبراهيم رفيق دربه تحيطه باهتمامها روحه و تبلغ به بر الأمان بنصائح و إرشادات اختص بنورها وحده من دون العالمين.
و كان الجانب الاجتماعي و السياسي ينوء من كلكله النص .سيما ما يتداخل فيه نسق المجتمع و بنيته التي كانت تؤسس على الطبقية و تعقد الوجود على النظرة العنصرية التي لم تكن لتختفي بعد، بالتوازي مع قضايا سياسية من الخطورة في غاية كان إبراهيم كمثال يخفي قناعاته بها خلف رعي قطيع الخيل و البقر.
فأما في الجانب الاجتماعي فقد كان العمق الإنساني بدلالاته حاضرا من بوابة الأواصر التي كانت تعقد بين أطراف شخصيات الرواية. إبراهيم-أبو يعزى ، أبو يعزى-المعطي ، أبو شعيب- أبو يعزى ، أبو عبد الله أمغار-أبو يعزى ، مولاي علي -إبراهيم ، مولا علي- أبو يعزى … حتى إن قرابة الدم نفسها أحيانا يعسر أن تبلغي مبلغ ما وصلت إليه مثل هكذا عرى توثقت حتى تجدر حبها في القلوب و ترجم في الأفعال .و في ركن آخر و هو الأهم كانت شخصية أبي يعزى بكل اللطف الذي تجمعه و العفوية التي تختزنها، تستحوذ على القلوب و تبعث في الألسنة حصان تأويل تصرفاتها(الشخصية) الجامح، الذي ما إن يستقر به رأي حتى يقفز إلى تأويل و لو لغرابته كانت العقول تتقبله و منطق عقلية سائدة يصدقه. بل إن الولي الصالح كما أسموه عينه كان غير مؤمن بذلك و إن كان إيمانه حصراً على رؤى أحلامه ليس إلا و يوضح أبو يعزى أنه لن يقدر عل جلب نفع لنفسه أو أن يدفع عنها ضرا. بيد أن الفكر المجتمعي برمته كان يصدق كل ما يشاع ، بل و يربط كل فعل يصدر عن الولي بالبركة -التي تختلف عن المعجزة كما جاء على لسان أبي شعيب السارية- و كثيرا ما التمستها في حصيره أو في مبيته عندها أو في مجرد المرور بقراها أو حلوله بين ظهرانيها . وكان يقابل هذا “التبجيل” صبر و تواضع من قبل أبي يعزى الذي كان يباركه إبراهيم دوما و أينما حل و ارتحل بمشورات روحه و إرشاداتها و رضاها عنه حتى و هو يرشق بحجارة الصبيان أو يأسر بين القضبان أو يصاب بكلمات الناس و أذاهم و كثير ما هو. فقد كان كل همه من الحياة الارتواء من معين العلم سواء على يد شيخه الأول إبراهيم ،أو أبي شعيب السارية بدكالة أو أبو عبدالله أمغار أو من سيصادفهم إما في طريق أسفاره أو في مجالس العلم كما بفاس، حتى بلغ مجموع شيوخه ال ٤٠ شيخا. هذه السفريات جعلته يلم بتركيبة المجتمع و يجمع من بيادر مناطقه علما متوافرا تيسر له إما مشيا على الأقدام أو ركوبا على بغلة كان يتمنى لو أن لها جناحين كما روج لذلك الكثير من الناس و زعموه بل و صدقوه. بغلة كان قد تلقاها هدية من أحد الفلاحين كما تلقى من ذي قبل جلبابا و نايا من إبراهيم و صرة فاكهة جافة من الشريف الشرقاوي و جبة خضراء من فاطمة الزهراء و برنسا من قاضي مراكش استعاض به عن حصيره الذي ألزمه لقب “بوجرتيل” . و هكذا كان أبو يعزى الهسكوري مثالا للبركة التي لم يفتإ الناس يطلبونها و يتمادون في تفسير صيغها حتى و هو يتوضأ من ماء العين أو يطحن الحبوب أو يعد الخبز – و هنا أجد ارتباط بداية الرواية بفصولها الأخيرة فيما يتعلق بميولات الولي الصالح، بحيث لم يذهب تعلمه الأعمال المنزلية في صغره سدى بعدما أصبح و قد بلغ من العمر كبرا خادمة يجسدها دور “المملوكة” ، مما يعكس ذكاء الكاتب و حسن توظيفه لتصميم أبى إلا أن يكون راقيا..- .ف”بو ونكلوط” المولوع بأكل الأعشاب وتقديم العطايا للفقراء ، قد أودع الله سره فيه و خصه بعطفه و كرمه و قاد بسببه إلى اللين حتى زوجة أبي شعيب ذاته. و في الأخير سيعرض الولي عن مقالات الناس و يضرب عن مداولاتهم بعد مشاورات مع رفيق روحه إبراهيم، ليقول لغتيري: “لا تصدمهم بالحقيقة ، فالوهم علاج لكثير من النفوس”.
و أما الجانب السياسي فقد كانت يموج في صفحته عباب الصراع على الحكم بين مختلف الأطياف التي كانت تهفو إلى الحكم .هذا الجانب كان يشتبك فيه ما هو تاريخي بما هو اجتماعي، مشيرا إلى ذلك الأستاذ لغتيري بضعف حكم المرابطين و وهن سلطانهم و توق الموحدين إلى السطوة على العرش و السيطرة على تسيير شؤون البلاد.
و من جهة أخرى تتناول الرواية فيما تتناوله الجانب الديني الذي كان يتوجه وجود مهم ينهل من الفكر الإسلامي بأدبياته وأطروحاته، مما سيستشفه القارئ من ثقافة الكاتب الإسلامية الواسعة في استشهاداتها تارة و في تناص نصوصها تارة أخرى بانسياب جميل و متدفق للأحداث شرح بشكل جلي فكر أبا يعزى وصوفيته التي كانت معجبة بغازل الصوف “الحلاج”، و سعيدة إلى مرتبة التجلي بإيمان داخلي لا يجنح إلى تقليد. مستعيناً في سرده الأديب مصطفى بالنص القرآني و بآثار التاريخ الصوفي الذي كان يسمو بالروح إلى مصاف إيمانية تتبدى في صفحتها الذات الإلهية و يترقرق في ثمدها نور الحق الساطع. . .
و في خضم هذا الزخم الكبير من جوانب احتفت بها الرواية ، ينبثق الجانب العاطفي .الحب يقول مصطفى لغتيري على لسان أبي يعزى :”هو تلك الاشراقة التي لمعت في قلبي و في ذهني و أشعر بها تتمدد في طريقي لتنيره مدى العمر. ص ١٢٦ “.
هذا الجانب الذي عكسه برود الأب ميمون العاطفي و رقة الابن أبو يعزى الذي تيمه هوى الزهراء و تبله حبها و إن كانت أكبر من أن ترتجى أو أن تنال، و يكفيه فخرا أنه عالجها بأعشابه، بل إنه لا يطمع في أكثر من رضاها عنه. فقد أحاطه نورها بهالته و تخطفه هواها برونقه و ما عاد قادرا على مواجهة المصير لما سعد بلقاها و ارتقى إلى العلى بالروح يوم رآها في أعذب تجل كاسح. و سيلازمه حبها حتى بعد مماتها بعد أن غيبتها آفاق الموت الأحمر في زؤام حريق لافح نتج عن انتقام سياسي قذر، فلم يجد غير قبر رمزي يحتفظ فيه بذكرى الروح الطاهرة.
و في ختام الرواية يكتشف أبو يعزى الهسكوري و هو الذي بدأ الضعف يتسلل إلى جسده، من خلال ليلة قضاها في حضن زوجته ميمونة أو لالة ميمونة، سيكتشف انه ضيع في حياته أمورا لا يجب تضييعها، ملمحا إلى ضرورة عدم إغفال أمر الدنيا و الانشغال بشأن الدين كلية.
هكذا أكون في حيز من الزمن وجيز قد أنهيت قراءة رواية لغتيري “الأطلسي التائه” ، التي تناولت حياة الولي الصالح أبو يعزى الهسكوري أحد أهم أقطاب التصوف في تاريخ المغرب السياسي الديني، دون أن أشبع من قراءتها متمنيا لو طال السرد إلى أبعد من ذلك. سرد كان رائعا جدا و بعبارات فنية تصدح بقاموس اللغة و تتراقص في سرادق حسن توظيفها ، الذي بوأها هالة سنية سيكون لا غرو شأوها مهما و نجمها ساطعا و صيتها ذائعا، وسيغوض القارئ في ثقافة مجتمعية ارتبط فيها الماضي بالحاضر حتى كادا أن يندمجا و سيلمس هذا التقارب الجلي بين الأجيال على مضي العصور و مرور السنين. تقارب لا زال الزمن يحكيه بنفس التيمة و المصطلحات و الدقة، و لو أن السارد شرح في “الأطلسي التائه” ما يتوجب شرحه بإقناع و بحجج دامغة و برأي لا يأتيه الارتجال من بين يديه و لا من خلفه.