13 أبريل، 2024 1:21 م
Search
Close this search box.

الأحزاب الهوياتية في مواجهة الأحزاب المدنية في العالم العربي

Facebook
Twitter
LinkedIn

إعداد/ د. دينا شحاتة
مقدمة

من الفرضيات المتداولة حول أسباب ضعف أو غياب الديمقراطية في العالم العربي فرضية ضعف الأحزاب السياسية وعدم قدرتها على منافسة النظم الحاكمة بفاعلية. وكثيرا ما يتم تناول الأسباب السياسية والقانونية التي أدت إلى هذه النتيجة، ومنها القوانين المقيدة للحياة الحزبية، والإجراءات القمعية، وتزوير الانتخابات، واستقطاب الدولة للأحزاب، والانقسامات الداخلية والشخصنة، وغياب الديمقراطية الداخلية، واستبعاد الشباب، وعدم القدرة على تجنيد أعضاء جدد، وحشد المؤيدين، والتفتت والتنافس داخل كل تيار سياسي، والاستقطاب بين القوى والتيارات السياسية المختلفة.

لكن فرضية ضعف الأحزاب وتفتتها في العالم العربي هي فرضية قاصرة في عدد من جوانبها. فبينما تعاني العديد من الأحزاب، خاصة الأحزاب ذات الطبيعة المدنية ومنها الأحزاب اليسارية والأحزاب الليبرالية، من مشكلة ضعف البناء الداخلي والتفتت داخل التيار الواحد، فمن ناحية أخرى، فإن الأحزاب العقائدية والطائفية في العالم العربي ربما تعاني من المشكلة العكسية، حيث تتسم العديد من هذه الأحزاب بالقوة المفرطة؛ حيث تمثل هذه الأحزاب مجتمعات منفصلة ودولة داخل الدولة في العديد من الدول. وقد وصلت هذه الظاهرة إلى ذروتها في حالة الدول الفاشلة والهشة في العالم العربي، حيث تحولت هذه الأحزاب إلى مليشيات مسلحة ومشاريع لدويلات منفصلة.

بمعنى آخر، يمكن القول إننا أمام ظاهرتين متناقضتين. فمن ناحية، تعاني الأحزاب المدنية من الضعف المفرط. ومن ناحية أخرى، تعاني الأحزاب الهوياتية من القوة المفرطة. وقد أدت هذه الظاهرة إلى تشوه الحياة السياسية في معظم الدول العربية، وإلى تعزيز السلطوية والنزاعات الأهلية، وإلى تعقيد عملية التحول الديمقراطي.

وللوقوف على واقع الأحزاب السياسية في العالم العربي، تبدأ الدراسة بتناول السمات الرئيسية للأحزاب المدنية في مواجهة الأحزاب الهوياتية في العالم العربي. تنتقل بعد ذلك إلى تناول المنظومات السياسية المختلفة السائدة في المنطقة العربية، ونقسمها إلى أربع منظومات مختلفة: الدول التنافسية وشبه التنافسية، والدول السلطوية والدول الفاشلة والهشة، وأخيرًا الدول التقليدية. تنتقل الدراسة بعد ذلك إلى تناول المسارات المستقبلية للحياة الحزبية في العالم العربي، ونقسهما إلى نوعين رئيسين، الأول مسارات صراعية، والثاني هو المسارات التوافقية.

أولا: الأحزاب المدنية في مواجهة الأحزاب الهوياتية

يمكن تقسيم الأحزاب في العالم العربي إلى فئتين رئيسيتين: هما الأحزاب المدنية والأحزاب الهوياتية. وتنقسم الأحزاب المدنية إلى عدد من التيارات السياسية، مثل التيار الليبرالي، والتيار اليساري والتي تستند إلى مرجعية طبقية وتتبنى برنامجًا سياسيًا ذا مرجعية اقتصادية ترتبط بمصالح طبقات محددة، وبرؤية سياسية تعظم من حقوق هذه الطبقات. أما الأحزاب الهوياتية، فهي تستند في الأساس إلى مرجعية دينية أو طائفية أو عرقية، وتتبنى مشروعًا سياسيًا مرتبطًا بإعلاء رؤية طائفة أو جماعة دون غيرها. وعادة ما تكون الرؤى الاقتصادية والسياسية للأحزاب الهوياتية مبهمة وغير محددة. ونتناول فيما يلي أهم ملامح الأحزاب المدنية والأحزاب الهوياتية في العالم العربي.

1- الأحزاب المدنية

من حيث التوجهات السياسية، تنقسم الأحزاب المدنية إلى تيارين رئيسين، هما التيار الليبرالي والتيار اليساري. ويضم التيار الليبرالي أحزابًا مثل الوفد والمصريين الأحرار في مصر، وحزب نداء تونس والحزب الليبرالي في المغرب، والتحالف الوطني الديمقراطي في الكويت. أما التيار اليساري فيضم أحزاب ذات توجه ماركسي/ اشتراكي، وأحزاب ذات توجه قومي/ ناصري. وتعد أحزاب التجمع والتحالف الاشتراكي، والحزب الديمقراطي الاجتماعي في مصر وأحزاب الجبهة الشعبية في تونس، والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في المغرب نماذج مهمة لهذا التيار. أما فيما يخص التيار القومي الناصري فيعد حزب البعث في سوريا والعراق، والحزب الناصري وحزب الكرامة في مصر من أبرز ممثلي هذا التيار.
وتعاني الأحزاب المدنية في العالم العربي من عدد من السمات المشتركة، أهمها:

أ- الشخصنة وغياب الديمقراطية الداخلية، حيث تنفرد نخبة محدودة من القيادات بعميلة صنع القرار واقتسام الغنائم داخل الحزب. وغالبا ما تتكون هذه النخبة من الذكور من كبار السن، ويتم استبعاد العناصر النسوية والشبابية وممثلي الأقاليم والأقليات الدينية والعرقية بشكل ممنهج، مما يضفي طابعًا سلطويًا ونخبويًا وإقصائيًا على هذه الأحزاب ويجعلها في الكثير من الأحيان صورة طبق الأصل من الدولة السلطوية.

ب- الانقسامات الداخلية، حيث تؤدي عملية الإقصاء وغياب الديمقراطية إلى تعدد الانشقاقات والانقسامات داخل هذه الأحزاب، مما يضعف من تماسكها الداخلي ومن قدرتها على تجديد القيادات وتجنيد أجيال جديدة من الأعضاء.

ج- التفتت والتنافس داخل التيار الواحد، حيث تؤدي الانقسامات والانشقاقات داخل هذه الأحزاب إلى تعدد الأحزاب الصغيرة التي تمثل التيار الواحد، وإلى وجود علاقة تنافسية فيما بينها مما يجعل قدراتها على تأسيس التحالفات الانتخابية والسياسية محدودة، ويضعف بشدة من قدرتها على منافسة التيارات الأخرى.

د- محدودية القدرة على الحشد والتأثير، تضعف العوامل السابقة بشكل كبير من قدرة هذه الأحزاب على تجنيد القيادات والأعضاء الجدد، وقدرتها على بناء القواعد الشعبية والانتخابية اللازمة. كما أن هذه الأحزاب غالبا ما تفتقر إلى الموارد المالية والتواجد الجغرافي خارج المدن الكبرى مما يحد من قدرتها على التجنيد والتعبئة والمنافسة بشكل فعال.

هـ- التحالف مع النظام الحاكم: بعض الأحزاب تدخل في تحالفات مع الدولة في مواجهة التيارات الراديكالية خوفا من صعود هذه التيارات التي تتبني نظرة اقصائية للقوى الأخرى، حيث ترى هذه الأحزاب أن الدولة السلطوية أقل خطورة من التيارات الراديكالية.

و- تأثير اجتماعي واقتصادي وثقافي: بالرغم من مواطن الضعف السابق ذكرها إلا أن الأحزاب المدنية في العديد من الدول العربية لا زالت تتمتع ببعض عناصر القوة. فالأحزاب الليبرالية كثيرا ما تضم عناصر من النخبة الرأسمالية التي تدفع في اتجاه تبني سياسات اقتصادية ليبرالية وتدعم النظام السياسي في هذا الإطار. أما الأحزاب اليسارية والناصرية فلها تأثير كبير على الساحة الثقافية، فالغالبية العظمى من الأدباء والصحفيين والفنانين في العالم العربي ينتمون لهذا التيار ويروجون له من خلال إنتاجهم الأدبي والفني والإعلامي. كذلك ترتبط قوة القوى المدنية بقوة مؤسسات المجتمع المدني، حيث تكون أقوى في الدول التي تنشط فيها التنظيمات الحقوقية والنسوية والنقابية والعمالية والتي تمثل الظهير المجتمعي لهذه الأحزاب، خاصة في حال وجود مجال سياسي أكثر انفتاحًا.

ز- رمانة الميزان: أخيرًا رغم ضعفها فإن الأحزاب المدنية كثيرًا ما تلعب دورًا فاصلًا في الصراع الممتد في العديد من الدول العربية بين النظام السلطوي من ناحية، والتيارات الدينية والطائفية من ناحية أخرى، حيث يمثل دعم هذه الأحزاب لطرف ما في مواجهة الطرف الآخر عنصر حاسم في هذا الصراع.

2- الأحزاب الهوياتية

تنقسم الأحزاب الهوياتية في العالم العربي إلى عدد من النماذج؛ فهناك أحزاب ذات طابع ديني/ عقائدي، مثل الأحزاب المرتبطة بجماعة الإخوان المسلمين والتيار السلفي والتي تعمل على فرض رؤيتها الدينية على المجتمع الأوسع بطوائفه وتياراته المختلفة. وهناك الأحزاب ذات الطابع العرقي أو الطائفي، مثل حزب الله وحركة أمل في لبنان، والأحزاب الكردية في سوريا والعراق، والجماعة الحوثية في اليمن، وهي أحزاب تسعى هي الأخرى إلى انتزاع مساحات أكبر للجماعة التي تمثلها على المستوى السياسي والثقافي، وفي بعض الأحيان على المستوى الجغرافي وأن تتنصل من سيطرة الدولة المركزية. وتتشارك الأحزاب الهوياتية في العالم العربي في عدد من السمات، أبرزها:

أ- مجتمعات منفصلة: تمثل العديد من التيارات والأحزاب الهوياتية مجتمعات منفصلة عن المجتمع الأوسع، وأحيانا يكون هذا الانفصال انفصالًا لغويًا وثقافيًا كما في حالة البربر والأكراد، أو انفصال طائفي كما في حالة الشيعة أو المسيحيين. وكثيرًا ما يتقاطع الانفصال الثقافي والطائفي مع الانفصال الجغرافي مما يسهم في ظهور ميول انفصالية لدى العديد من هذه الأحزاب. أما في حالة أحزاب الإسلام السياسي فإن الانفصال كثيرًا ما يكون نفسيًا ومجتمعيًا حيث ينقطع المنتمون لهذه الأحزاب عن المجتمع الأوسع، ويسعون إلى التطهر من عاداته ومعتقداته وفرض تصوراتهم الدينية والأخلاقية المحافظة على هذا المجتمع.

ب- دولة موازية: كثيرًا ما تقوم هذه التيارات بتأسيس مؤسسات ثقافية ودينية وتعليمية واجتماعية واقتصادية ورياضية، وأحيانًا عسكرية وشرطية، تشكل في مجملها دولة موازية أو دولة داخل الدولة، حيث يستند أعضاء هذه التيارات بشكل شبه كامل إلى المؤسسات الخاصة بهم، و يمثلون فئة شبه مستقلة عن الدولة الأكبر مما يجعلهم ينفصلون نفسيًا واجتماعيًا عن المجتمع والدولة الأوسع.

ج- الدمج بين الحزب والجماعة: في حالة الأحزاب الهوياتية تغيب الحدود الفاصلة بين الحزب السياسي من ناحية والجماعة الدينية أو الطائفة من ناحية أخرى، حيث يمثل الحزب السياسي وجه من أوجه الجماعة بينما تصب الأوجه الأخرى مثل الأنشطة التعليمية والثقافية والخيرية والاقتصادية وأحيانًا العسكرية للجماعة في خدمة المشروع السياسي للحزب مما يعطي هذه الأحزاب قدرة كبيرة على التجنيد والتعبئة والحشد.

د- قوة البناء الداخلي: تعدد المستويات والأنشطة التي تتسم بها التيارات الهوياتية يجعلها مراكز قوة مجتمعية، ما يجعل عملية قيادة وإدارة هذه التيارات عملية دقيقة، حيث تتعدد مستويات القيادة وتتقاطع العديد من المصالح السياسية والاقتصادية والثقافية. وعامة ما تكون هذه التيارات قادرة على استيعاب الصراعات الداخلية والحملات الأمنية بسبب تعدد مستويات القيادة وتنوع الأنشطة ما يمكنها من تجديد القيادات والانسحاب من بعض المساحات عند الضرورة، ويجعلها أكثر صلابة واستمرارية، بالمقارنة بالأحزاب المدنية، في وجه الأزمات حيث تتسم الأحزاب المدنية بأحادية القرار والنشاط مما يحد من قدرتها على استيعاب الانقسامات والصراعات.

هـ- الحشد على الهوية: تقوم الأحزاب الدينية والطائفية بالتجنيد والتعبئة والحشد على أسس هوياتية، حيث تستهدف في الأساس دعم وتأييد المجموعات المنتمية إلى الجماعة الدينية أو الطائفية التي يمثلها الحزب، وقلما ما تسعى إلى الحصول على كسب تأييد القوى التي لا تنتمي إلى نفس الجماعة أو الطائفة. بل تحاول هذه التيارات أن تحول دون انضمام أعضائها إلى الأحزاب المدنية، حيث تناصبها العداء في الكثير من الأحيان مما يضع هذه الأحزاب في علاقة صدامية مع المجتمع الأوسع، ويعزز من الاستقطاب والانقسام المجتمعي الذي يصب في الكثير من الأحيان في تدعيم النظم السلطوية في العالم العربي.

و- الصدام مع الدولة المركزية والأحزاب المدنية: كثيرًا ما تتسم العلاقة بين الأحزاب الهوياتية بالصدام مع الدولة المركزية من ناحية، ومع الأحزاب المدنية من ناحية أخرى، ما يعزز من حالة الاستقطاب المجتمعي داخل الدول العربية ويجعل الأحزاب المدنية تحتمي بالدول السلطوية خوفًا من سيطرة الأحزاب الهوياتية على السلطة، وما يستتبع ذلك من تحولات سياسية وثقافية تتعارض مع رؤية ومصالح الأحزاب المدنية والقوى المجتمعية المؤيدة للنظم السلطوية.

ثانيا: أربع منظومات سياسية

يمكن تقسيم الدول العربية إلى أربعة نماذج ومنظومات سياسية متمايزة تتسم كل منها بسمات وخصائص تفصلها عن النظم الأخرى، وتفرض على القوى السياسية المدنية والهوياتية أنماط تفاعل مختلفة. ونتناول فيما يلي هذه المنظومات، ونمط تفاعل الأحزاب المدنية والهوياتية في إطار هذه المنظومات.

1- النظم التنافسية أو شبه التنافسية

تتسم بعض النظم السياسية في العالم العربي بملامح تنافسية وديمقراطية أو شبه ديمقراطية، ومنها انعقاد انتخابات دورية تتسم بالتنافسية والشفافية، ووجود فصل بين السلطات، وتمتع السلطة التشريعية بصلاحيات حقيقية، وتمتع السلطة القضائية بالاستقلال، ووجود صحافة حرة ومجتمع مدني فعال. وتأتي تونس في مقدمة الدول العربية من حيث انفتاح المجال السياسي والتنافس بين القوى السياسية، تليها بعض نظم الملكية مثل المغرب والأردن والكويت التي تسمح بحيز من التنافس بين القوى السياسية مع الحفاظ على صلاحيات واسعة للمؤسسة الملكية. وتتسم هذه النظم بوجود قدر من التوازن السياسي والمجتمعي بين الأحزاب المدنية من ناحية، والأحزاب الهوياتية من ناحية أخرى. وفي حالة تونس نتج هذا التوازن عن وجود أحزاب مدنية قوية تحظى بدعم من منظمات نقابية وحقوقية فعالة، وعن وجود مؤسسات أمنية تتسم بالمهنية والحياد. أما في الحالات الأخرى فإن التوازن مرتبط بوجود تحالف بين المؤسسة الملكية من ناحية، والقوى المدنية من ناحية أخرى، وبوجود مجتمع مدني قوي يدعم التيارات المدنية بشقيها الليبرالي واليساري. وتعتمد النظم التنافسية وشبه التنافسية في استقرارها على الحفاظ على التوازن الدقيق بين الأحزاب المدنية من ناحية، والأحزاب الهوياتية، من ناحية أخرى، والحيلولة دون قدرة طرف من هذين الطرفين على إقصاء الطرف الآخر. وعامة ما تتسم الانتخابات في هذه الدول بقدر من النزاهة والتنافسية، ويُسمح للأحزاب المختلفة بتقلد مناصب تنفيذية وتشريعية ومن ثم بالمشاركة بدرجات متفاوتة في عملية صنع القرار.

2- النظم السلطوية

تتمتع السلطة التنفيذية في هذا النمط من النظم السياسية بسلطة شبه مطلقة، ويتم تقييد استقلال وصلاحيات السلطات التشريعية والقضائية، وفرض العديد من القيود القانونية والأمنية على الأحزاب السياسية والإعلام ومنظمات المجتمع المدني. وتتمتع الأجهزة العسكرية والأمنية في هذه النظم بصلاحيات واسعة، وأخيرًا يتم استخدام القمع بشكل واسع ضد المعارضين من التيارات المدنية والهوياتية. وغالبا ما تعتمد السلطات في هذه النظم على حزب حاكم أو على عدد من الأحزاب الموالية أو التابعة لها. ولا يُسمح للأحزاب والقوى المعارضة بالمشاركة في عملية اتخاذ القرار، ويتم التلاعب بالانتخابات بشكل ممنهج لصالح الأحزاب التابعة للدولة. وغالبا ما تتسم الأحزاب السياسية، سواء كانت مدنية أو هوياتية، بالضعف في هذه النظم حيث يتم تهميشها وتقويضها بشكل ممنهج. وتؤدي هذه الحالة إلى تراجع العمل السياسي لصالح الأنشطة الاجتماعية والثقافية والخيرية المرتبطة في معظمها بالمجال الديني، ما يجعل التيارات الدينية أكثر قدرة على الحشد والتعبئة في حال وجود انفتاح سياسي كما حدث في حالة الجزائر في انتخابات 1991، وفي حالة مصر في الفترة ما بين 2011 و2013 والتي تمكنت فيها الأحزاب والقوى الدينية من تحويل رصيدها ونفوذها الاجتماعي إلى رأس مال سياسي، ومن ثم الحصول على نسب عالية من الأصوات في حال انعقاد انتخابات وحرة ونزيهة.

3- النظم الملكية التقليدية

في حالة هذه النظم تسيطر الأسرة أو الأسر الحاكمة بالتحالف مع بعض القوى التقليدية، مثل القبائل والمشايخ والمؤسسات الدينية، على السلطة، ويتم تهميش القوى الحديثة مثل الطبقة الوسطى المتعلمة في المجالين الاقتصادي والسياسي، حيث تقوم الأسر الحاكمة وحلفاؤها التقليديون بالهيمنة على مصادر السلطة والثروة. ولا توجد في هذه النظم أحزاب سياسية مكتملة الملامح. وتقتصر التيارات السياسية في هذه الدول على جمعيات وروابط ثقافية ضعيفة، ولا توجد سلطات تشريعية وقضائية مستقلة ومكتملة الملامح، حيث تقتصر المؤسسات التشريعية على مجالس شورى ذات صلاحيات استشارية وسلطات قضائية خاضعة في معظمها لسيطرة المؤسسات الدينية. وغالبا ما يقتصر الصراع السياسي بين التيارات المدنية والهوياتية في هذه النظم على التنافس على استمالة الحاكم أو الأسرة الحاكمة ودفعها لتبني أفكارًا أو توجهات معبرة عن أفكار التيار.

4- الدول الضعيفة والفاشلة

تضم هذه الفئة دولًا مثل سوريا وليبيا واليمن، حيث تكون الدولة المركزية ضعيفة أو غائبة، وتزدهر الأحزاب الهوياتية بشكل كبير في هذه الدول وتتحول إلى مليشيات عسكرية مستقلة مسيطرة على مناطق جغرافية وموارد طبيعية تمارس مهام الدولة في المناطق التي تسيطر عليها. وغالبا ما تتسم هذه المجتمعات باستقطابات حادة وبالاحتراب الأهلي مما قد يؤدي إلى تقسيم هذه الدول بشكل فعلي أو رسمي. وتتسم الأحزاب المدنية في هذه الدول بالضعف الشديد في مواجهة الأحزاب الهوياتية ما يجعل الصراع السياسي صراعا بين هويات وطوائف متصارعة.

مما سبق يتضح أن الأحزاب المدنية تكون أقوى في حالة النظم التنافسية وشبه التنافسية، حيث يوجد توازن مجتمعي بين هذه الأحزاب من ناحية، والأحزاب الهوياتية من ناحية أخرى، وحيث توجد آليات مؤسسية لحماية هذا التوازن مثل وجود مؤسسة ملكية تحفظ هذا التوازن أو وجود مؤسسات ودساتير ونظم انتخابية ومجتمع مدني قوي. وتضعف هذه الأحزاب في حالة النظم السلطوية والنظم التقليدية، حيث تقوم النظم الحاكمة بتقييد القوى السياسية المختلفة وتصل إلى ذروة ضعفها في الدول الضعيفة والهشة ،حيث يقتصر الصراع السياسي على طوائف وهويات متصارعة.

أما الأحزاب الهوياتية فهي تزدهر بشكل كبير في حالة الدول الهشة والفاشلة وتتحول إلى جماعات ودويلات شبه مستقلة لها مليشياتها العسكرية الخاصة بها، وتكون قوية ولكن أقل استقلالا في حالة النظم التنافسية وشبه التنافسية، حيث يوجد توازن مجتمعي بينها وبين قوى أخرى مثل المؤسسة الملكية والأحزاب المدنية ولا يُسمح لها بالسيطرة على مساحات مستقلة أو ممارسة أنشطة ذات طبيعة عسكرية أو شبه عسكرية. أما في حالة النظم السلطوية والنظم التقليدية فغالبا يتم تقويض أو استقطاب هذه التيارات مما يُحد من قدرتها على التحرك بشكل مستقل عن النظام الحاكم. ولكن في حال تراجع النظام الحاكم تكون هذه القوى بسبب تعدد وتوسع نشاطها الديني والثقافي والاجتماعي هي الأكثر قدرة على حشد التأييد السياسي.

وتجدر الإشارة إلى أن التصنيفات السابقة ليست تصنيفات ثابتة، حيث يمكن لدولة أن تنتقل من فئة إلى أخرى في ظل المتغيرات السياسية. على سبيل المثال، انتقلت دول مثل ليبيا وسوريا والعراق من فئة النظم السلطوية المغلقة إلى فئة النظم الهشة والفاشلة، بينما انتقلت مصر وتونس من فئة النظم السلطوية إلى فئة النظم التنافسية وشبه التنافسية بعد أحداث الربيع العربي. كذلك انتقلت البحرين من فئة النظم الملكية شبه التنافسية إلى فئة النظم السلطوية بعد أحداث الربيع العربي.

ثالثا: سيناريوهات مستقبلية

بالرجوع إلى خصائص الأحزاب السياسة وتنوع النظم السياسية في العالم العربي، وبالنظر التي التطورات الاقتصادية والديموغرافية والمجتمعية في الدول العربية، يمكن تحديد عدد من السيناريوهات المستقبلية فيما يخص تطور الأحزاب والنظم السياسية في العالم العربي.

1- المسارات الصراعية

في ظل الصراع المحتد في عدد من الدول العربية بين النظم الحاكمة والقوى المدنية والقوى الهوياتية تظل العديد من هذه الدول مرشحة لمزيد من الاستقطاب والصراع المجتمعي ويمكن لهذا الصراع أن يتبع عددًا من المسارات:

أ- مسار الاحتراب الأهلي والتقسيم، والذي تضعف فيه الدولة المركزية وتختفي فيه القوى المدنية بشكل شبه كامل، وينقسم المجتمع إلى طوائف وهويات متصارعة لكل منها مليشياتها العسكرية والمؤسسات السياسية والاقتصادية والثقافية المستقلة. ويفتح هذا السيناريو المجال لتدخل قوى خارجية، ولتحالفها مع طرف ضد آخر ما يصعب معه تصور الوصول إلى توافقات سياسية تضمن التعايش السلمي بين القوى المتصارعة في مراحل لاحقة، ويصبح التقسيم الفعلي في شكل دول كونفدرالية قائمة على المحاصصة تتمتع فيها كل طائفة أو إقليم باستقلال شبه كامل، كما هو الحال في لبنان والعراق اليوم، أو التقسيم الرسمي في شكل ظهور دول مستقلة هو السيناريو الأكثر احتمالًا.

ب- مسار نشأة نظم سلطوية جديدة، من الممكن تصور مسار آخر في حالة احتدام الصراع المجتمعي، وهو سيناريو تأسيس نظام سلطوي جديد في حال نجاح طرف من الأطراف المتصارعة (غالبًا بمساعدة قوى إقليمية ودولية) في السيطرة على الأطراف الأخرى عسكريًا وسياسيًا وفي تأسيس نظام سلطوي جديد يتم فيه نزع سلاح وتحييد القوى المتصارعة. ويمكن تصور هذا السيناريو في حالة سوريا، على سبيل المثال، إذا ما نجح النظام في السيطرة عسكريا على القوى الأخرى. ولكن في ظل التدخلات الخارجية والتوازنات الإقليمية الحالية يصعب تصور تحقق هذا السيناريو في الدول التي تشهد صراعات أهلية حاليًا.

وعلى صعيد آخر، من الممكن تصور تحول عدد من الدول العربية التنافسية وشبه التنافسية في حال احتدام الصراع المجتمعي فيها بين القوى المدنية والقوى الهوياتية إلى نظم سلطوية مغلقة يتم فيها استخدام القمع بشكل واسع من قبل الدولة لتحييد القوى المتصارعة التي تهدد استقرار وكيان الدولة. وقد حدث هذا السيناريو بالفعل في الجزائر في فترة سابقة، وفي مصر بعد وصول الإخوان المسلمين إلى السلطة بعد يناير 2011.

2- مسارات توافقية

في مواجهة السيناريوهات الصراعية السابق ذكرها من الممكن تصور عدد من السيناريوهات التوافقية القائمة على تفاهمات سياسية ومؤسسية بين القوى الفاعلة في المجتمعات العربية تؤدي إلى التعايش والتداول السلمي للسلطة بين القوى السياسية المختلفة. ويمكن تصور هذا السيناريو في حال وجود مؤسسات دستورية وسياسية ومجتمعية فاعلة تضمن التوازن والتعايش السلمي بين هذه القوى، كما نشهد بشكل من الأشكال في تونس من ناحية، وفي الكويت والأردن والمغرب، من ناحية أخرى.

أ- مسار الجمهوريات الدستورية، من الممكن تصور تحول النظم السلطوية في عدد من الدول العربية مثل السودان والجزائر في حال تراجع الاستقطاب المجتمعي وتطور بنية المجتمع المدني الداعمة للقوى المدنية وتزايد مهنية وحياد المؤسسات الأمنية إلى نظم ديمقراطية قائمة على إطار دستوري يحفظ التوازن بين التيارات المدنية والهوياتية.

ب- مسار الملكيات الدستورية وشبه الدستورية، من الممكن تصور تحول العديد من الملكيات شبه التنافسية في العالم العربي، مثل المغرب والأردن والكويت، إلى ملكيات دستورية تتزايد فيها صلاحيات القوى والمؤسسات المنتخبة، وتتراجع فيها صلاحيات الأسرة الحاكمة، ويقتصر دور الأسرة الحاكمة على الحفاظ على التوازن السياسي والمجتمعي بين القوى السياسية المختلفة. من ناحية أخرى، من الممكن تصور تحول العديد من النظم الملكية التقليدية في العالم العربي إلى نظم ملكية دستورية أو شبه دستورية، تتبلور فيها القوى السياسية إلى أحزاب ذات مرجعيات وهياكل مكتملة وتتزايد فيها صلاحيات السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية بشكل مستقل عن الأسرة الحاكمة، وتتراجع فيها صلاحيات المؤسسات التقليدية لصالح المؤسسات الحديثة والمنتخبة.

قائمة المراجع

-Dunne, Michele and Amr Hamzawy, Egypt’s Secular Political Parties: A Struggle for Identity and Independence, (Washington DC: Carnegie Endowment for International Peace, 2017).

-Muasher, Marwan, The Path to Sustainable Political Parties in the Arab World, Policy Outlook, (Washington DC: Carnegie Endowment for International Peace, November 13, 2013).

-Hamid, Shadi, Political Party Development Before and After the Arab Spring, (Washington DC: Brookings Institute, December 2014).

-Okar, Ellen-Lust, Structuring Conflict in the Arab World: Incumbents, Opponents and Institutions (Cambridge: Cambridge University Press, 2005).

المصدر/ مركز الاهرام للدراسات الاستراتيجية

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب