19 نوفمبر، 2024 10:11 ص
Search
Close this search box.

اغتراب الكاتب/ة(6).. الكتابة وحدها ستنقذ العالم من القبح الذي فيه

اغتراب الكاتب/ة(6).. الكتابة وحدها ستنقذ العالم من القبح الذي فيه

خاص: إعداد- سماح عادل

قد تكون الكتابة ملاذ، طريق آمن ومريح، يجد فيه الكاتب ذاته، ويعبر عنها بشكل أفضل، وقد تكون بداية لحياة جديدة له، وقد يمارس من خلالها تفاصيل حياة كاملة، وتكون وسيلته في الاستمتاع بالكتابة هي العزلة والتوحد مع الذات.

هذا الملف عبارة عن آراء كاتبات وكتاب من مختلف البلدان وقد وجهت إليهم الأسئلة التالية:

  1. هل شعرت بأنك مختلف منذ فترة الطفولة وشعرت بأن ميلك إلى الكتابة هو سبب اختلافك؟
  2. هل عاملك الأهل داخل الأسرة كأنك غريب عنهم أو لا تشبههم، وكيف كان تقبلهم لميلك إلى القراءة والكتابة؟
  3. هل كنت تفضل الانعزال عن المحيطين من أفراد الأسرة وهل سبب لك ذلك الانعزال الشعور بالغربة عنهم؟
  4. هل كنت تتمني أن يتعامل معك الأهل والمحيطين بشكل مختلف؟ .
  5. هل أنت نادم علي شغفك بالكتابة والقراءة وهل كنت تتخيل حياتك بدون الكتابة؟

إنقاذ العالم من القبح..

يقول “خليل جابو” روائي من مدينة “عفرين” في الشمال السوري، مواليد ١٩٨٣، مقيم في الدنمارك، صدر له روايتين “السعادة مهنة شاقة” و”حُفاة الديار”: “باكراً، شعرتُ باختلاف ما في داخلي. كنتُ في العاشرة من عمري، حين مسكتُ القلم في المرة الأولى، بعد أن قال لي أبي عن المكتبة التي في منزلنا بأنها نافذتنا إلى العالم؛ لم أفهم كثيراً ما كان يقصده، مسكتُ كتاباً لكارل ماركس، “طبعة دار التقدم موسكو”، وسألت نفسي: أين تقع موسكو؟

فتحتُ خريطة العالم ووجدتها في روسيا، كانت كبيرة جداً على الخارطة. بالنسبة لسوريا التي أعيش فيها ودولٍ أخرى. مسكتُ بقلمي وحاولت رسمها، فلحتُ في رسم الحدود، ووقف سؤالٌ أمامي حينها: أين كان يسكن ماركس، وكيف كان يعيش؟

حاولتُ اللحاق بالإجابة من خلال الكتب الموجودة في مكتبتنا، امتلكني شعوران مختلفان ومتناقضان وأنا أقرأ بين صفحات الكتب التي وقعت في يدي حينها، الشعور الأول، لم أفهم شيء من كتب كارل ماركس، مما جعل العجز يتسلل إلى داخلي. والشعور الآخر هو المنافسة، أي يجب أن أفهم شيئاً من هذه الكتب، إلى أن وقعتُ في فخ “تشيخوف” وقصته “لمن أشكو كآبتي”. كانت القصة الأولى التي أقرأها في حياتي، وأفهمها بشكلٍ جيد. أذكر أنني لم أفهم معنى كلمة “الحوذي” حينها، لكن اكتشفتها من سياق القصة بأنه سائق عربة الخيل. قصة “الحوذي” كانت الشرارة التي أشعلت حب الكتابة والقراءة في داخلي، وسقطتُ في حفرة الكتابة من حينها.

في البدايات كانت تستهويني لعبة الكلمات المتقاطعة في الصحف، والتي كان من الصعب عليّ أن أفهمها حينها. لكن خلال وقتٍ قصير اكتشفتُ سر اللعبة وبدأتُ أرسمها لأصدقائي. كنتُ أختار الكلمات من الكتب التي كنتُ أقرأها. وبعدها تطور الأمر أصبحتُ أكتب الخواطر القصيرة جداً، والتي أحتفظ ببعضها إلى اليوم، رغم سذاجتها، لكنني أحترمها جداً. كانت تعبّر عن حالتي كطفلٍ يريد أن يخلق جملةٍ لها معنى عميق مثل “لمن أشكو كآبتي”. وفي المرة الأولى التي ألقيت فيها قصيدة أمام أصدقائي، كنت في الصف الثالث الإعدادي. أذكرُ حينها كنتُ ارتجف، وغرقتُ في عرقي رغم البرد. لكن فعلتها.

أحببتُ قصائد كثيرة وحاولتُ أن أكون شاعراً، رغم أن بداياتي في عالم الكتابة كانت في صحيفة “الجماهير” المحلية في سوريا، الخاصة لمحافظة حلب. نشرتُ خواطر ونصوص في الزاوية الثقافية لمدة عامين. لكن فيما بعد اكتشفتُ بأنني لستُ شاعراً، ووضعتُ الشاعر أمامي، وقمتُ بتصفية حسابي معه، وقتلته، حين وجدتُ نفسي أقرب إلى الرواية”.

وعن المعاملة داخل الأسرة كأنه غريب عنهم أو لا يشبههم، وكيف كان تقبلهم لميله إلى القراءة والكتابة يقول: “القسم الأول من السؤال لم يواجهني الأهل بالغرابة عنهم أو أنني لا أشبههم. أمّا القسم الثاني فكان هناك تشجيع منهم، وكانوا يندهشون من الذي أكتبه، رغم أنني كنتُ أشعر بأنها مجاملة للتشجيع فقط، وكانت أمي تحاول أن توفر لي طقساً هادئاً حين كانت تجد كتاباً في يدي. وفي حديثي عن الأهل أقصد العائلة من الدرجة الأولى فقط”.

وعن تفضيل الانعزال عن المحيطين من أفراد الأسرة وهل سبب له ذلك الانعزال الشعور بالغربة عنهم يقول: “بالنسبة للعزلة، صادفتها في فترة مبّكرة من حياتي؛ كنتُ صغيراً جداً ولم أعد أذكر متى بدأت العزلة تستهويني. لكن لم تكن عزلتي عن الأسرة مثل عزلتي عن خارج المنزل. علاقتي مع أهلي كانت جيدة جداً.

حتى اليوم، تختلط الأمور عليّ في بعض الأحيان، حين أفكر بعزلتي في طفولتي، هل كان سبب ذلك هو القراءة والكتابة والرسم، أم الفقر؟

كان الفقر في طفولتي مثل الإثم. كنتُ أشعر أن أصدقائي في الحي والمدرسة ينظرون إليَّ نظرة الشفقة، ربما لهذا السبب أحببت العزلة، وربما الكتب جعلتني أبتعد عن المحيط. وغير ذلك كان ممنوعاً عليَّ أن أعترف بقوميتي أو أن أتحدّث بلغتي الأم (الكُردية) في الحي أو في المدرسة. لهذا وجدتُ نفسي منعزلاً جداً، حتى في الفترات التي كنتُ أحاول فيها أن أقوم بعملٍ ما غير الكتب والرسم، كنتُ ألجأ إلى شرفة المنزل الخلفية لأصنع من الخشب شيئاً جديداً في غرفتي. كنتُ ألتقط أية قطعة خشب أصادفها في طريقي وأجمعها في الشرفة، وحين كنت أشعر بالملل أبدأ بأعمال النجارة في ورشتي الصغيرة على الشرفة. كانت مصدر إزعاج للجيران، وأنا أمارس هواية الطرق على الخشب بالمسامير وقصَّ القطع، كي لا أخرج إلى المجتمع”.

وعن تمني أن يتعامل معه الأهل والمحيطون بشكل مختلف يقول: “بالنسبة للأهل، أي “عائلتي”، لم أصادف أية مشكلة معهم في عالمي المتمثل في الرسم والكتب، أبداً. أمّا بالنسبة للمحيطين فقد واجهتني مشاكل كثيرة، مثل أي شخص في أي مجال، وليس في مجال الكتابة فقط. أنا شرقي، وللأسف فإن أغلب الشرقيين حينها كانوا يحاولون أن يهدموا حياة أي شخص بطريقةٍ ما. أذكر أنني حاولت المطالعة في الطريق وأنا أمشي، صادفتُ بعض الشبّان في الحي، سخروا مني وقالوا “عامل حالو مثقف”.

المحيط في المجتمع الذي كنتُ أعيش فيه يمدح من يسجد لله في المسجد، غير ذلك أنت موضع شك وسخرية مهما فعلت، وفي بعض الأحيان حتى الذي يدخل المسجد مشكوكٌ في أمره. لا أشمل الجميع، لكن الأمري يسري على الغالبية. ولا أستطيع أن أتمنى لو يعاملوني بطريقةٍ مختلفة، لكن، كنتُ أقول دائماً وحتى اليوم: “إن كنت لا تستطيع أن تقوم بعملٍ جيد، لا تفعل السيء”. غير ذلك كنتُ راضياً عن كل شيء أقوم به. رغم وجود بعض اللحظات التي تمنيتُ فيها أن أكون موضع إعجاب بعض الأصدقاء”.

وعن الندم على شغفه بالكتابة والقراءة وهل كان يتخيل حياته بدون الكتابة يقول: “بالطبع لستُ نادماً. الكتابة علمتني الكثير وأعطتني أكثر. الحياة بدونها خاوية. وبالنسبة لحياتي بدون كتابة، مررتْ بتجربة عملية خفيفة عن ذلك؛ في شهر أيلول سنة 2022 أصبت بجلطة قلبية، وتوقفَ النطق وحركة اليدين عندي لمدة دقائق قليلة، السؤال الذي وقف أمامي لحظتها حين استيقظت: كيف سأكتب إن بقيتُ هكذا؟

لا تصلح الحياة أن تُعاش بدون الكتابة، هي النافذة الوحيدة التي أُطل منها إلى العالم، وتجعلني أرى الأشياء بوضوح. تضع الأشياء في مكانها الصحيح، وترسم لي الطرق كما ينبغي أن امشي فيها. لا أتردد في المجازفة في أي شيء من أجلها. لديَّ إيمان كبير بأن الكتاب وحده سينقذ العالم من القبح الذي فيه، يوماً ما”.

الكتابة تفاصيل حياة..

يقول  الكاتب المصري “بدوي الدقادوسي”: “نعم، ومبكرا جدا حيث اختلفت اهتماماتي عن أقراني وأخوتي ففي الوقت الذي يحلم فيه هؤلاء بامتلاك دراجة هوائية مثلا كنت أحلم بمكتبة صغيرة، وظللت أعمل على تحقيق هذا الحلم حتى حققته .إن وجود اهتمامات مغايرة في مجتمع مغلق أمر مثير ومرهق وملفت وممتع .

ويضيف: “لاشك أن أي اختلاف في مجتمع ريفي مغلق يؤدي إلى أن تكون غريبا، هذا الاختلاف الذي يمجه الكثيرون ويتقبله قلة، إن مجرد كونك مختلف في مجتمعنا أمر قد يجعلك موضع تندر وتهكم في مجتمع لا يقبل الاختلاف شكلا ومضمونا. وهو ما مثل عبئا نفسيا لي في مراهقتي ولكني تجاوزت ذلك وفرضت  هذا الاختلاف على المحيطين بي وسأذكر لك قصة بسيطة:

“لم يكن سماع فيروز أمر شائع أو حتى معروف في بيتنا فالمذياع لا يتغير مؤشره عن إذاعة القرآن الكريم وإن تغير وهذا نادرا فلأم كلثوم، مما اضطرني صغيرا للعمل على شراء كاسيت اشتري الشرائط الخاصة بفيروز وأنفرد لسماعها ولكن المحيطين بي لم تألف أسماعهم صوتها ويتعجبون لأني أسمع أغان غير مفهومة فلم تكن لهجتها مفهومة لديهم، وحدث أن غبت عن البيت لأسابيع فلكي تشعر أمي بأني موجود كانت تقوم بتشغيل شرائط فيروز، ويوما فيوما أدمنت سماعها وبالتكرار فهمت لغتها حتى صار بيتنا كله من هواة سماعها .”

إن الاختلاف مرهق في أوله حتى يمضي وقت فيتقبله المحيطون” .

ويواصل: “أما تقبلهم لميلي للقراءة والكتابة فقد فاق الحد، ويكفي أنهم منحوني لقب أستاذ قبل أن أتجاوز الصف السادس، فلقد سبق اسمي كلمة أستاذ وأنا في سن الثانية عشر ولعل منبع فرحتهم وتقبلهم أنهم يظنون أن كل الكتب تجعلك فقيها في الدين، حيث لا كتب عندنا إلا التفسير والسيرة النبوية والأحاديث .

رغم ميلي للعزلة إلا أن ذلك لم يسبب اغتراب لأنها أسرة عفوية تتقبلني حين أعتزل وتقبلني حين أعود، وهناك أمر لابد أن أسوقه لتدركي السر وهو أني قد أصبت في طفولتي بالتهاب كبدي ألزمني الراحة وملازمة الفراش، لذلك فقد ظنوا أن حبي للعزلة سببه ذلك وقد يكون ظنهم صحيحا .

طبعا تقبلت حياتي هذه بأريحية وكذلك أسرتي فلا أنا طلبت معاملة خاصة ولا هم استاؤوا من عزلتي “.

ويتابع: “المشاعر لا تتسم بالثبات؛ فقد يعتريك في لحظات شعور بالندم على إهدار حياتك دون جدوى أو رصيد حين تدخل أزمة مالية طاحنة، ولكن هذا الشعور لا يطول إذ سرعان ما أشعر بالرضا عن نفسي والرضا بما آلت له حياتي والحقيقة أني لا أتخيل حياة إنسان بلا كتابة فكيف أتخيل حياتي بدونها؟ فقد اعتدت على تسجيل يومياتي منذ نعومة أظفاري ولا أستطيع النوم دون فعل ذلك الكتابة عندي لا تقتصر على الأدب أو السياسة إنها تفاصيل حياة”.

الكتابة حياة جديدة..

يقول الكاتب السوري “أمين الساطي”: “من الطبيعي أن يتفرّد كلُّ واحدٍ منا عن الآخرين، والبصمات وتميزها في كل فرد عن جميع الناس أكبر شاهد على ذلك. أما أنا فقد لعبتْ قراءة القصص ومشاهدة الأفلام السينمائية دوراً كبيراً في تكوين شخصيتي في سنّ الطفولة والمراهقة، ما جعلتني أعيش في عالم أحلام اليقظة، واجتزت الخط الفاصل بين الواقع والخيال، لعل حبَّ الظهور هو الذي دفعني لكتابة أول مقالة لي في المجلة الشهرية التي كانت تصدرها ثانوية أسعد عبد الله في مرحلة من مراحل دراستي فيها، وعلى ما أذكر أنني كنت وقتها في الصف السابع.

لقد شعرت أمي بالفخر عندما قرأت اسمي على عنوان المقالة، ومن حينها بدأت أكتب لأختي وظيفة الإنشاء المدرسية، وكانت حينها في الصف الرابع الابتدائي، لقد أصبح جميع أفراد أسرتي ينظرون إليّ كشخص متميّز في الأسرة”.

ويواصل: “هناك فجوة كبيرة بيننا نحن جيل الخمسينيات وبين جيلنا السابق. لقد تفتحت عيوننا بوساطة الإذاعات والجرائد والسينما على حضارة العالم الغربي وقيمه الأخلاقية، ما خلق اختلافاً كبيراً بيننا وبين أهلنا، في الآراء والأفكار والأذواق والمعتقدات السياسية، التي بدأت في تلك الفترة تتمحور حول القومية العربية.

لقد عشت مع أسرتي نحو تسعة عشر عاماً، لم أشعر خلالها بالغربة أبداً، فالغربة شعور الفرد بعدم انتمائه إلى مكان وجوده. لقد بدأت غربتي فعلياً بعد أن غادرت سوريا إلى أمريكا، واستمرت لفترة قصيرة، أمضيت حياتي متنقلاً بين أمريكا والسعودية والمغرب العربي، وحلّ ترحالي الآن في مدينة دبي في الإمارات، فالغربة هي الشعور بعزلة الذات والفراغ وعدم القدرة على التفاعل مع الأشخاص المحيطين بالفرد، ولعلي كنت محظوظاً أكثر من الآخرين، فلقد تفاعلت مع العوامل المحيطة بطرق مختلفة”.

ويتابع: “الآن بعد أكثر من أربعين عاماً في الغربة، وبعد أن تقاعدت في عملي كمهندس مدني في السعودية، انتقلت لأعيش مع ابني في مدينة دبي،  دفعني الفراغ لأنغمس بالكتابة بشكل كامل. لقد نشرت  خلال السنوات السبع الماضية ستة كتب بين روايات ومجموعات قصصية، إضافة إلى كتاب إلكتروني على الإنترنت، لقد أنقذتني الكتابة من الضجر واليأس، وأعادت لي الأمل والشعور بالذات من جديد، وبدلاً من أن أكون عضواً في نقابة المهندسين، أصبحت الآن عضواً في اتحاد الكتاب العرب”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة