خاص: إعداد- سماح عادل
اتفق معظم الكتاب علي أهمية الكتابة في حياتهم، فهي بالنسبة للبعض أعطيت لحياتهم معنا، ولآخرون ساعدتهم علي فهم ذواتهم وذوات الآخرين وعلي الوعي العميق بالمجتمع وقضاياه، وهي أيضا ارتقاء بالروح والعقل، وهي ملاذ آمن تشعر فيه الروح بالسكينة.
هذا الملف عبارة عن آراء كاتبات وكتاب من مختلف البلدان وقد وجهت إليهم الأسئلة التالية:
- هل شعرت بأنك مختلف منذ فترة الطفولة وشعرت بأن ميلك إلى الكتابة هو سبب اختلافك؟
- هل عاملك الأهل داخل الأسرة كأنك غريب عنهم أو لا تشبههم، وكيف كان تقبلهم لميلك إلى القراءة والكتابة؟
- هل كنت تفضل الانعزال عن المحيطين من أفراد الأسرة وهل سبب لك ذلك الانعزال الشعور بالغربة عنهم؟
- هل كنت تتمني أن يتعامل معك الأهل والمحيطين بشكل مختلف؟ .
- هل أنت نادم علي شغفك بالكتابة والقراءة وهل كنت تتخيل حياتك بدون الكتابة؟
الكتابة ارتقاء روحي متدرج..
يقول “د. محمد سمير عبد السلام” قاص، وناقد أدبي ومترجم مصري: “ربما تولد لدي الشعور بالاختلاف في مرحلة الطفولة نتيجة لشيء من الميل إلى التفكير المفرط والخيال، والتفكير بطريقة المونولوج والتداعيات الحرة لفترات طويلة من اليوم؛ أما الكتابة فقد بدأت فعليا في المرحلة الجامعية، وبدأت كتابة بعض القصص القصيرة ذات الطابع السيكولوجي حتى تعرفت على بعض تيارات التجريب العالمية ومن خلال بعض القراءات لجيل الستينيات، والسبعينيات، وأبناء جيلي من التسعينيين وبعض التجارب الثمانينية؛ ومن ثم توجهت بدرجة أكبر نجو جماليات تيار الوعي وما بعد الحداثية”.
وعن معاملة الأهل داخل الأسرة كأنه غريب عنهم أو لا يشبههم وكيف كان تقبلهم لميله إلى القراءة والكتابة يقول: “نشأت في وسط يعمل بالتعليم، وكانت قراءة الصحف عادة يومية بالأسرة؛ وفضلا عن ميلي إلى التخييل والتفكير الذاتي بواسطة الوعي كانت متابعة الأعمال الدرامية والتليفزيونية مؤثرة مع عنصر القراءة وكنت أميل للأعمال ذات طابع الخيال العلمي والفانتازيا، والدراما النفسية التي تتعمق في ذكريات البطل أو البطلة، أو الأحلام وصور اللاوعي؛ وربما كان الشعور لدى البعض بغرابة بعض كتاباتي القصصية نتيجة للإيغال في التجريب والسريالية، وتعددية المراكز الدلالية والتصويرية في النص”.
وعن تفضيل الانعزال عن أفراد الأسرة وما سبب هذا الانعزال يقول: “نعم، كانت العزلة للتأمل، والتخييل، والقراءة، ومتابعة الدراما الخيالية والفانتازيا، وربما الميل للهدوء كان سببا رئيسيا؛ وفي الوقت الراهن أصبحت الخصوصية ذات أهمية لدي؛ فمثلا المقاهي ذات الطابع الذي يحمل أثر الماضي، أو يولد لدي الشعور بشيء من الأصالة الروحية والخصوصية تحفزني لإنتاج مسودة قصة قصيرة أو مخطط مبدئي لدراسة نقدية”.
وعن تمنى أن يتعامل معه الأهل والمقربون بشكل مختلف يقول: “التعددية الإنسانية أمر طبيعي؛ لتحقيق مسارات وجودية متنوعة؛ لذا فمن الطبيعي أن يوجد حولك من يشبهك، ومن يختلف عنك؛ وفي الوقت الراهن أميل لتتأمل التجارب القصصية والروائية الموغلة في التجريب والتي تشبه روحي الأدبية والنقدية بدرجة أكبر من تأمل التجارب المختلفة والتي تجد مكانا لها أيضا في دراساتي بصورة أقرب للتفكير المنهجي المحض”.
وعن الندم على شغفه بالكتابة وهل كان يتخيل حياته بدونها يقول: “الكتابة جزء من عملية طويلة ومعقدة وهي عملية الارتقاء الروحي المتدرج والذي لا يكتمل إلا بفعلي القراءة والكتابة وفق برنامج مطرد نسبيا”.
الكلمة هويتي وصراخي..
وتقول الكاتبة الفلسطينية “شوقية عروق منصور”: ” كلمة مختلف قد تجعل الذاكرة تغوص في عمق أيام الصمت والهروب في الزوايا قد تجعل ملامح الوجوه مقطبة من الدهشة والتعجب لأنني لا أشارك في مهرجانات الأنوثة وأحاول أن تبقى الزوايا مضيئة، رغم أنني كنت أمشي على أطراف أصابعي في ذلك الوقت ولكن مع مرور الأيام والسنوات، حين نرتدي ثياب أعراس الأسماء المنشورة في الصحف الورقية نكتشف أن المسافات التي كنا نعتقد أنها تبني جدران العزلة كانت تصبغ الجدران بحكايات الثقة والشموخ والقوة.
منذ الطفولة كان الكتاب رحلة تزدحم على أبواب المكتبة العامة التي كانت جدرانها آيلة للسقوط، كانت أشلاء الأوراق التي كنت أحضنها وتتساقط من بين أغلفة الكتب القديمة تعطر أيامي وتزرع الورد في سنواتي، لكن أمي كانت تعتبر هذا العطر الممزوج برائحة الغبار وخيوط العناكب حظاً سيئاً لأبنة نسيت أنوثتها وركضت بين قبور الأدباء ودفنت أحلامها بين صفحات الكتب.
نعم كنت مختلفة، كانت رواية للكاتب “إحسان عبد القدوس” في حقيبتي المدرسية عبارة عن “قطعة حشيش “أقوم بتهريب الرواية أو أضع غلافاً آخر فوق الرواية كي أحمي نفسي من عقاب أقله حرماني من المصروف .
بداية الكتابات كانت مشردة، بين الشعر والخاطرة والقصة القصيرة حيث كنت أدور في دائرة التأثر ولا أخرج من الدائرة إلا بعد أن تكون أجنحتي قد برزت ونبت تحتها أنياب الإصرار على مواصلة تكملة الدائرة الميل للكتابة هو الخروج عن الخط المرسوم في المجتمع، خاصة الخط المرسوم للأنثى، لأن الكلام والكتابة والصراخ من اختصاص الذكور، هذا هو المعتاد في دساتير العائلات التي تربي بناتها على احتضان أزهار الزواج.
حين أهداني والدي قبلة الفخر عندما أصدرت كتابي الأول، عرفت أن السنابل التي حملت توهج القمح قد نجحت في تحدي المنجل الذي أراد قطع رؤوسها. تجاعيد الزمن تحفر دروب القلق والسهر وتواقيع حبر الخذلان من عدم النشر وملاحظة رؤساء التحرير، لكن حين تكبر الدروب تتحول إلى شلال من الاطمئنان”.
وعن معاملة الأهل داخل الأسرة كأنها غريبة عنهم أو لا تشبههم، وكيف كان تقبلهم لميلها إلى القراءة والكتابة تقول: “في البدايات كنت أقوم بإشعال شمعة في محيط من القش، أحاول لملمة القش الذي يحترق وأصنع منه وسادة لكي أضع رأسي عليها فتقتلني رائحة الرماد وتحرق أصابعي بقايا القش، ولكن قررتُ فتح الميناء وعليّ أن أبحر واتحدى الأمواج والرياح أنا الغريبة التي كانوا أحياناً ينادونها “المُعقدة” لأنني كنت أقرأ الكتب خاصة الروايات بصورة نهمة، ولكن بعد ذلك أصبحت في المدرسة أكتب مواضيع الإنشاء للطلاب وأصبحت سنداً لهم فصاروا ينادونني بالعبقرية.
في البيت أعترف أنهم أصابهم اليأس من كتبي تحت السرير وفوق السرير في بيت ضيق يحمل بين جدرانه أخوة، يفترسون الهدوء ويدمنون على الصراخ واللعب والتنزه فوق كل شيء حتى تمزيق ما تبقى من صفحات الكتب . لا هروب من الكلمة، سرت مع الكتاب وقمت بتقليد الكثير من الكُتاب والأدباء حتى أزلت الأقنعة عن بصماتي وأصبح لي البصمة الخاصة “.
وعن تفضيل الانعزال عن المحيطين من أفراد الأسرة وهل سبب لها ذلك الانعزال الشعور بالغربة عنهم .تقول: “الانعزال ليس معناه صمت البراكين، والهروب من ميادين الكلام، الانعزال هو تجميع الغيوم كي تمطر حبراً فوق أرض الورق الصامت . نعم اعترف أنني كنت أحب الانعزال وما زلت، لأن في العزلة تفكيك الفوضى والضجيج واللهاث وتفتيت المشاعر والأحاسيس لكي تصبح قطعاً صغيرة من الأضواء التي تنير أزقة الروح، في العزلة نسيج من نوع آخر، فرش خيوط الثقة مع خيوط الإبداع الصامت، فيكون ثوب الرواية أو القصة أو القصيدة أو المقال، جميعها تكون مشغولة بإبرة العزلة، ليس بالضجيج يحيا الكاتب، بل يحيا على سجادة سحرية تأخذه إلى سماء النشر والفخر.
كنت أحياناً أشعر بالغربة، ولكن كنت أبدد غربتي بقص الحكايات التي أقرائها في الكتب، أقص الحكايات لأخوتي الصغار خاصة عندما قرأت كتاب ألف ليلة وليلة، لقد كنت شهرزاد أقوم بتلوين صوتي حسب الأحداث والشخصيات “.
وعن الندم علي شغفها بالكتابة والقراءة وهل كانت تتخيل حياتها بدونها تقول: “مستحيل، أنا أعشق الكتابة، إنها تنفسي ووحدتي وصراخي وبكائي وحبي وأحلامي، كلما كتبت شيئاً وخرج إلى النور شعرت أن جبالاً انزاحت عن ظهري، ولكن سرعان ما تعود هذه الجبال وتبدأ في النواح لأنها تريد النزول، وهكذا أنا متشردة على أبواب الشغف، أقسم أن أترك القلم، ولكن سرعان ما يذوب قسمي أمام روحي التي تريد التحدث بلغة الحبر والورق.
إذا كان هناك شيئاً جميلاً في الحياة، فالكتابة من الأشياء الجميلة التي أعيش من أجلها لا أستطيع تخيل نفسي دون كتابة، كيف لي أن أعيش في الحياة دون الكتابة عن الحب والحرب والإنسان دون الدخول في ليال العذاب والخوف والدم، دون أن أتسكع فوق أوجاع والآم وجروح البشر الكلمة هويتي وصراخي ولم أقبل يوماً هدنة تبعدني عنها، أنا إن عشت يبقى القلم سلاحي وأن مت سيكون القلم إلى جانبي يتنفس الصعداء فقد آن له أن يرتاح”.
الكتابة تعطي للحياة معني..
ويقول الكاتب اليمني “صالح سالم عمير”: ” لعلّ الأصح ميلي إلى القراءة في مرحلة الطفولة، فقد عشقتُ القراءة منذ المراحل الدراسية الابتدائية، وأتذكّر استغراب البعض من الجيران وهم يشاهدون ذلك الطالب الصغير وهو مستغرقا في قراءة كتاب وربما تندّر بعضهم عليه، وكنتُ أقرأ حينها فضلا عن مجلة العربي الكويتية لكُتّاب مصريين مثل “إحسان عبدالقدوس، ويوسف السباعي” وغيرهما، وأتذكّر الآن. فعندما تشاهدني أمي الثانية، زوجة عمّي رحمها الله والتي ربّتني بعد وفاة أمي مع أبنائها، عندما تشاهدني أقرأ في البيت بمفردي في كتاب أو مجلة يوم الجمعة تقول لي مشفقة علي: يابُنَي القراءة في هذه الكتب في يوم الجمعة تجلب العَمَى، الجمعة للراحة العبادة.
وفي المرحلتين الإعدادية والثانوية أحببتُ المجلات المصرية مثل “روز اليوسف وصباح الخير” وأدمنتُ القراءة فيهما، كنتُ أقرأ لأبرز نجوم الصحافة المصرية في العصر الحديث، أقرأ بشغف لعقول مصرية متحررة ومنفتحة على العالَم إذ كانت تلك المجلات منذ صدورها تحمل لواء التنوير وقد استفدتُ منها كثيرا، وعشقتُ “إحسان عبد القدوس” في كتاباته الأدبية، وخواطره الفنية، عندما ترأس “روز اليوسف” وأحببتُ القصص القصيرة التي كان يكتبها في المجلة، واشتهر “إحسان” أيضًا بكتابة رواياته المعروفة متسلسلة في مجلة “روز اليوسف” قبل نشرها في كُتب.
ولتأثري بالسرد القصصي والروائي لإحسان كتبتُ قصة قصيرة وأنا في المرحلة الإعدادية، وشجعني أستاذ اللغة العربية الأستاذ “علي عبدالقادر الحبشي” أطال الله عمره، منصب سيئون حاليا، وامتدحني وطفق يقرأ القصة في بقية الصفوف الأخرى التي يدخلها ويُشيد بي.
لكن آثرتُ أن أتّجه لكتابة الشعر بشقّيه الفصيح والغنائي، وكنتُ أقول في نفسي: بإمكان أي متعلم كتابة السرد ولن أتميّز فيه، بعكس الشعر لا يستطيعه أيّ أحد، واليوم أقول ليتني تفرّغتُ للسرد وأخلصتُ له بدلا من الشعر المكتوب باللهجة المحكية، فربّما بِتُّ معروفا ومشهورا على نطاق أوسع وعلى المستوى العربي!!”.
وعن معاملة الأهل داخل الأسرة كأنه غريب عنهم أو لا تشبههم، وكيف كان تقبلهم لميله إلى القراءة والكتابة يقول: “لكوني حُرمتُ من رعاية وحنان الأم وأنا طفل صغير في الرابعة أو الخامسة، ولكوني وحيد أبي مع أخت تكبرني بأربع أو خمس سنوات، فقد أسبغ أبي علي بعطفه وحنانه ومحبته وظل يرعانا دون زوجة حتى وفاته طيّب الله ثراه، وترك لي كامل الحرية في اختيار ما أُحب ومالا أُحب، ولأنني من المتفوقين في الدراسة وهذا هو الأهم بالنسبة له وأُصلي في المسجد، فقد سمح لي بممارسة كل الهوايات التي أرغب فيها.
غنّيتُ في المدرسة، وكتبتُ الخربشات الشعرية، واستمعتُ للأغاني وقرأتُ في كل الكُتب بمختلف عناوينها، وكانت لي صداقات مع بعض الأقران الطيبين الذين يستقبلهم أبي بترحاب ويتحدث معهم، هذا الأب الأمي زرع بذرة الحب لكل الناس في وجداني، وكان الدرس الكبير الذي علمني إياه هو احترام الناس كل الناس، وأحب الناس يبادلونك الحب، لقد غمرني بالحب والحرية منذ الطفولة في مجتمع محافظ، فلم أشعر بالاغتراب”.
وعن تفضيل الانعزال عن المحيطين من أفراد الأسرة وهل سبب له ذلك الانعزال الشعور بالغربة عنهم يقول: “كُلُّ ماينقصني في تلك المرحلة هو، حنان الأم، التي وافاها الأجل بسبب حُمّى النفاس وهي تلد أخي من بعدي الذي لحق بها بعد شهر، على أن أختي الوحيدة والعظيمة حاولت أن تعوّضني عن فقد الأم. الآن وأنا كبير أشعر بفداحة هذا المكتوب الرهيب، أنْ يعيش المرء بلا أم، ولعلَّ تبعات الحرمان من الأم سبّبتْ لي قصصا طريفة وأحيانا موجعة مع بعض النسوة اللاتي عرفتهن بعد بلوغي سن الرشد، وهذا موضوع آخَر”.
وعن تمنى أن يتعامل معه الأهل والمحيطين بشكل مختلف يقول: “مجتمعنا الحضرمي محافظ كما أشرت، وعندما بدأتُ أكتب بعض القصص القصيرة، كان الكثير منهم يظنون أنني بطل هذه القصص، حتى أن بعض أصدقائي المتعلمين يحاكموني باعتباري بطل هذه القصة أو تلك، فأتضايق بطبيعة الحال ولهذا وفي ظل هذا المجتمع، لا يمكن لأي روائي أن يكتب بحُريّة كما يفعل مثلا علي المقري أو الغربي عمران أو وجدي الأهدل، فلو امتلك الشجاعة الكافية أحدنا وحاول أن يكتب مثل هؤلاء “ياويلُه ويا سواد ليلُه!!”.
وعن الندم علي شغفه بالكتابة والقراءة وهل كان يتخيل حياته بدون الكتابة يقول: “يقول إحسان عبدالقدوس: لا تسألوا الناس، إسالوا الظروف والمعنى أنّ ظروف كل إنسان هي التي تشكّله وتهيّئه لأقداره، ومن حُسن الحظ أن يُخلّف المرء له أثرا بعد حياته القصيرة (ليالي العُمر معدودة) واليوم لا معنى لحياتنا دون أن نقول كلمتنا !!
وفي النهاية لعل الحديث عن الذات لا معنى له بالمرة، وبالذات في هذه الأيام ودماء أهلنا في غزة يسيل من تحت أقدامنا، ولهذا اختصرتُ ماقلّ ودل” .