خاص: إعداد- سماح عادل
ربما يدهشنا هذا التشابه الكبير ما بين الكتاب في الشعور بالغربة والاغتراب في فترة الطفولة بالأخص، ربما هذا التشابه يجعلنا نفكر في بعض خصائص نفسية للكاتب-ة تتوافر فيه منذ الصغر ، وتهيء له أن يكون كاتبا فيما بعد، أبرزها الخيال الخصب الثري، والميل إلى العزلة، وأحلام اليقظة.
هذا الملف عبارة عن آراء كاتبات وكتاب من مختلف البلدان وقد وجهت إليهم الأسئلة التالية:
- هل شعرت بأنك مختلف منذ فترة الطفولة وشعرت بأن ميلك إلى الكتابة هو سبب اختلافك؟
- هل عاملك الأهل داخل الأسرة كأنك غريب عنهم أو لا تشبههم، وكيف كان تقبلهم لميلك إلى القراءة والكتابة؟
- هل كنت تفضل الانعزال عن المحيطين من أفراد الأسرة وهل سبب لك ذلك الانعزال الشعور بالغربة عنهم؟
- هل كنت تتمني أن يتعامل معك الأهل والمحيطين بشكل مختلف؟ .
- هل أنت نادم علي شغفك بالكتابة والقراءة وهل كنت تتخيل حياتك بدون الكتابة؟
الكتابة الملاذ والعصمة..
يقول القاص المصري “حسين منصور”: “حقا كنت أدرك أنى مختلف، لكن لم أدرك السبب أو ربما نبهني أحد المدرسين إلى ذلك على سبيل التوبيخ، أو السخرية؛ فأنا كنت إذا جلست بجوار شباك؛ أترك الدرس والمعلم وأتابع حركة العصافير على الشجر، أو تكون الغمام في السماء من حيث الاتجاه، أو مشاهدة السحاب يتراكم حتى يكون سحابة ضخمة تبتلع كل ما يقترب منها .
وعندما كنت أنسى آية وأنا (أسمِع) لوح القرآن الكريم؛ كان الشيخ – طبعا بعد زخمة مفاجأة، أو كف على الوجه- يقول لي (إنت هتسرح! هتعمل فيها عبد الحليم حافظ) أدركت ذلك فيما بعد، وعرفت أن الانشغال بالطبيعة، أو حركة الناس في الممر خارج حجرة الدراسة، هو أول طريق كتابة القصة القصيرة؛ حيث كنت أثناء الدرس أضع عيني على فتحة الباب وأتوقع من سيمر أمام الباب، وأحرك الأشخاص حسب سيناريو أضعه في ذهني، والغريب أن ما كنت أخطط له كان كثيرا ما يتحقق – أعرف أن هذا قد يحدث بسبب روتين الحركة في المدارس- لكنه كان يسعدنى؛ وكأن القصة تسير حسب ما أراه، وتنتهى النهاية التي أريدها” .
ويواصل: “نحن لا نعيش في عالم مثالي؛ ففي الأسر الفقيرة، لا مكان لإظهار الاختلاف، عليك أن تفعل ما يفعله الآخرون تشارك في العمل، أو تذهب إلى المدرسة، والاختلاف يظل حبيسا حتى ينفرد الإنسان بنفسه .
هذا يحدث في مراحل التكوين الأولى، ولكن بعد اشتداد العود وتكون الشخصية شعر الأهل بأن هناك شيئا مختلفا؛ إما في الكلام، أو في وصف أدبى مختلف لبعض الأشخاص، أما القراءة فكانت مقبولة ما دامت في كتب الدراسة، التي يترتب عليها النجاح والانتقال لمرحلة أعلى، فالراسب يصير معرة الأسرة لدرجة أن وصف (ساقط) أو راسب تتحول إلى كلمة سب صريحة وجارحة .
ولم أتمكن من القراءة الحرة دون اختلاس الوقت، أو بالسهر بعيدا عن عين الأم التي كانت- رغم أميتها- تميز الكتب الدراسية وتعرفها، السهر الذى يفسره الأهل تفسيرات في اتجاه آخر غير الوعى بوجود موهبة” .
ويضيف: “نعم كنت، وما زلت أفضل الانعزال، عن الأهل، فكتابتي كلها تتحقق في ظل عزلة أبتكرها، إما بالسهر، واستغلال وقت نومهم، أو الخروج لمكان لا يحدثني فيه أحد، حتى بعد الزواج والاستقلال ببيت خاص، ما زلت أمارس الكتابة ليلا، فأنا أشعر بغربة حقيقية لا يمكن للمحيطين فهمها، ويمكن أن أضيف سببا آخر للرغبة في العزلة وهو الحرص على الانغماس في عالم ما أكتب، والتورط الكامل معه لدرجة التوحد .
والشعور بالغربة يأتي من رفضي للعالم كلية والبعد عن من يرفضون رغبتي في التغيير للأفضل، ثم إن الكتابة حالة سرية لا يحترمها إلا من عاشها .وهناك سبب جوهري للرغبة في العزلة وأحيانا يكون دافعا نحوها؛ هو أسئلة الأهل عن الجدوى خاصة المكاسب المادية، والشهرة، وتلك الأمور التي لا تعني الكاتب الحقيقي ولا يكون الحصول عليها إلا مصادفة، أو بترتيب غير أخلاقي يرفضه الصادقون من الكتاب” .
ويكمل: “لا، كل ما تمنيته، وأتمناه دائما، أن يتركني الأهل في حالي، والواقع أنها أمنية لا تتحقق، سأحكى لكم حكاية:
قبل الزواج كنت كتبت رواية ” ثم” بشكل كامل، وبإهداء جاء فيه (إلى أريج، إلى صوتها الآتي كهاتف من السماء) و(هاهي حكايانا يا شهرزاد هجرتها العفاريت) إهداء يحمل حالة تناقض بين صوت يأتي من السماء يحمل الطمأنينة والسلام، وحكايات لم تعد مسلية، فالرواية تدور في عالم الحرب والموت والفقد والخسارة التاريخية، وأثناء الطباعة رأت زوجتي درافت الرواية كنت أحضرته للمراجعة النهائية، وأصرت على تغيير الإهداء وحذف اسم (أريج) منه، وهذا أمر دونه الموت بالنسبة لي؛ لأن الإهداء مكون هام من مكونات الرواية؛ ألم أقل لكم فليدعونا في حالنا !
ويؤكد: “لم أكن، ولن أكون أبدا أو في أي يوم نادما على شغفي بالقراءة والكتابة، فهما المتعة الوحيدة والحياة الأثيرة التي وهبني الله إياها؛ فالقراءة تعنى تعدد مصادر المعرفة التي من شأنها بناء العقل، والوجدان، على أساس الإيمان بالاختلاف، والشعور بأن هناك بشرا آخرين، ينشدون العيش في سلام بلا صراع، أو قتال. والكتابة هي الملاذ والعصمة، ودليل البراءة من كل ما يدور في العالم من شرور، وقتل، ودم، وظلم، وقهر، وتفقير، واستغلال للأضعف من البشر.
وتخيلي لحياتي بدون كتابة هو نتاج محبتي لحالتي الآن؛ فأنا أحب كوني كاتبا، وأفخر به، وأشكر الله على نعمته، وأمتن لكل من ساعدني، أو قدر كلمتي التي لا أملك طريقا لقولها غير الكتابة، أما بدونها فأنا شاهد صامت، والصمت علامة على العجز، أما الكتابة فهي علامة على الرفض، والأمل في الأفضل على طريق الحق والخير والعدل والجمال.
الكتابة جزء من هويتي وكينونتي..
ويقول الكاتب المغربي “مصطفي لغتيري”: “في طفولتي أتذكر أنني كنت مندمجا إلى حد كبير مع أترابي في اللعب وممارسة الشغب الطفولي، لكن الأهل حين يتحدثون عن مرحلة طفولتي يعجبهم أن يقولوا أنني كنت مختلفا عن باقي الصغار، يظنون أنني منذ تلك الفترة كنت شديدة الملاحظة، وأتصرف أحيانا كالراشدين، كما كنت أهتم بدراستي، بدون ضغط من أحد، وأذكر مع الزمن ومرور وقت أنني بدأت ألاحظ في نفسي بعض الاختلاف خاصة فيما يتعلق بالدراسة، وتفضيل الانعزال أحيانا والاستغراق في الخيال، كما كنت أحب قراءة القصص بشكل أثار انتباه كل من حولي”.
وعن هل عامله الأهل داخل الأسرة كأنه غريب عنهم أو لا يشبههم، وكيف كان تقبلهم لميله إلى القراءة والكتابة يقول: “طبعا لم أكن ألاحظ تعاملهم معي لكن أذكر أنهم كانوا يعاملونني بشكل أفضل وكنت أرجع ذلك لاهتماني بدراستي، وعدم التورط في المشاكل، كنت أتجنب الوقوع في المشاكل خاصة مع أقراني، كما كنت طفلا خدوما، لا أرد لأحد طلبا، ربما لهذه الأسباب كنت أعامل في العائلة بشكل جيد.
أما بخصوص القراءة فلقد أدمنتها منذ وقت مبكر، وكان الجميع يلاحظ ذلك. ومن حظي أنني كنت أقطن قريبا من الشاطئ، فكنت اختلي بنفسي فوق بساط الرمال واستغرق في القراءة حتى أتعب وأنام في نفس المكان إلى ان استعيد حويتي وأقوم لأتابع القراءة”.
وعن هل كان يفضل الانعزال عن المحيطين من أفراد الأسرة وهل سبب لك ذلك الانعزال الشعور بالغربة عنهم يقول: “يمكن الآن أن أفهم تلك الحالة التي كانت تتملكني وتجعلني ابتعد عن الناس، وانعزل لوحدي لفترة ليست هينة إما للقراءة أو الانغماس في عالم الخيال، كنت أستمتع ببناء عالم خيالي أكون أحد شخصياته وأتخيل تفاصيله ومصيري داخله، وحين لا يعجبني أهدمه وابني آخر غيره. كان هذا الامر يستغرقني لأيام كثيرة، حتى أنني أحدث نفسي أحيانا وحين انتبهت للأمر، وحتى لا يفسر بطريقة غير مناسبة بدأت أكتم الحديث في داخلي أو أصرفه كنوع من المناجاة الداخلية.
ربما في ذلك بعض من الغرابة، التي قد تؤدي إلى الشعور، بالغربة خاصة لما تأكدت بأن هذا الأمر لا يشترك معي فيه باقي الأطفال بعد أن كنت أظن أن الجميع يمارسونه”.
وعن تمني أن يتعامل معه الأهل والمحيطون بشكل مختلف يقول: “حقيقة كانت معاملة الأهل لي جيدة، لكنهم ربما يتهامسون فيما بينهم عن بعض السلوكيات الغريبة التي أقوم بها، لكنهم عموما كانوا يقدرون اهتمامي بدراستي، وجديتي في التعامل مع الناس، واستعدادي للمساعدة في أي شيء.
وعن الندم علي شغفه بالكتابة والقراءة وهل كان يتخيل حياته بدون الكتابة يقول: “طبعا لا، فالكتابة موهبة وهدية مميزة يتلقاها المرء في حياته، وقد أفادتني كثيرا في فهم ذاتي وفهم العالم من حولي بشكل أفضل، كما أنها أتاحت لي، بناء ذاتي بشكل مختلف، بل جعلتني أسلك طريقي في الحياة، بعيدا عن القوالب الجاهزة، بل أزعم أنني أسطر مسار حياتي بما أرغب فيه ويناسبني، لذا لا أتخيل حياتي بدون كتابة لأنها ببساطة تشكل جزءا من هويتي، وكينونتي.. الكتابة اسلوب حياة، وحياتي، بدون كتابة لا تمثلني ولا تناسبني”.
العزلة حريةً موجعةً مؤلمةً..
ويقول القاص العراقي “علي السباعي”: “وُلِدتُ وأنا أُلوِّنُ بالكلماتِ حَياتي، فكُنتُ مُختَلفاً مُنذُ فَترَةِ الطُّفولةِ حتّى اليوم، مُختلفٌ بكِتابَتي للقِصّةِ القصيرةِ، جعلتني الكتابةُ مُختلفاً عمّا يراهُ الآخرونَ، مُنذُ الوَهلَةِ الأولى يَشعُرون بهذا الاختلاف، ومن الوهلةِ الأولى أدخُلُ قُلوبَهم،
مُنذُ بداياتي انصرفت إلى ترتيبِ الحكاياتِ في هذا الفَقرِ المُدقِعِ الذي نعيشُهُ،
كنتُ ميّالاً إلى الحَكيِ القَصَصيّ الذي نَذرتُ نفسي لهُ بطريقةٍ صوفيّةٍ لكتابةِ حياةِ الناسِ البُسَطاءِ لأستَخرِجَ منها كميّاتٍ كبيرةً من الجمالِ المُوحِشِ في دُروبِنا المُغبِّرةِ أقدارَنا القاسيةِ “.
ويضيف: “موقِنٌ بأنَّ أهلي مثلُهم مثلُ أهلِهِمُ العربِ لا يملكونَ بُعدَ النّظرَةِ التي تُثَمِّنُ الإنسانَ المُبدِعَ الخلّاقَ كقيمةٍ مُضافَةٍ في المُجتَمعِ، المبدعونَ مصابيحٌ تُضيءُ الزّوايا المُعتِمةَ في حياتِنا”.
ويواصل: “كانت لديّ بعضُ الأحزانِ في حياتي، إنَّني لم أعِشْ طُفولةً سَعيدةً، غيرَ أنّ الموضوعَ الأهمَّ في حياتي أنّ هذهِ الأحزانُ هَيّأتني لأكتَشِفَ عالَمَ الكُتُبَ في وقتٍ مُبَكِّرٍ مِن حياتي، وشرَعتُ أكتبُ قِصَصَ الأحزانِ العراقيةِ، كنتُ طفلاً وحيداً، كانت الكتبُ أفضلَ أصدقائي، كنتُ بها أمضي إلى أرضي القَصَصية، وأرضُ القصصِ التي أحرثُ ملونةً وأكثرَ واقعيةٍ من حياتنا التي نخوضُ فيها.
كنتُ أغزلُ قصصي مُنعزلاً عن الجعجعةِ الجماعيةِ، أقرأ كثيراَ وأكتبُ قليلاً، كتبتُ في عُزلَتي المعرفيةِ قصصاً أثناءَ الحربِ وبعدَها، قصصي التي صِغتُها ببراعةٍ وإخلاصٍ هي ما يُميزُ حياتي منذُ الحربِ وبعدَها، انقطعت عن حياتي حتى أعيشَ عُزلتي الكبيرةِ الطويلةِ التي اختارتني نديمَها، وما زلتُ مُنقطعاً عن حياتي، قطعتُ حياتي من جذورها، ابتعدت عن الفسادِ لأنّنا نعيشُ عدةَ “كروناتٍ” مختلفةٍ في وطننا، كرونا الطائفية والسمسرة واللصوصية.
وينبغي أن يحفظَ الإنسانُ نفسَهُ بهذه العزلةِ الحيةِ حتى لا يصيرَ كالآخرين. لم يعد عندي أملٌ بخلاصٍ جماعيٍّ لأنّ الناسَ أنهيت للأسفِ تمَّ تصفيتُها كطاقاتٍ وتناقضاتٍ وطموحاتٍ.
نعم. أعيشُ رحلةَ الألمِ وعذابَ العزلةِ عن الآخرين الجحيم. صبرتُ في عزلتي المعرفيةِ حتى لا أنكسِرَ، وأنّ الفجرَ آتٌ، فجرُنا المُندّى باستجابة أحلامِنا، بعد أن تمسّكتُ بإبداعي وجمالياتِهِ. هذا القطعُ في حياتي معَ هذهِ العزلةِ هو نوعٌ من أنواعِ الحُريّةِ، وإن كانت حريةً موجعةً مؤلمةً”