14 نوفمبر، 2024 9:21 م
Search
Close this search box.

اغتراب الكاتب/ة (31).. الكتابة لترميم الجروح ورتق الثقوب في الروح المتعبة

اغتراب الكاتب/ة (31).. الكتابة لترميم الجروح ورتق الثقوب في الروح المتعبة

خاص: إعداد- سماح عادل

هل تعد الكتابة وسيلة نجاة للكاتبة التي عانت من القهر والاضطهاد، كونها أنثي تنتمي للطبقة المتوسطة والكادحة التي تترسخ فيها قيم الرجل الظالمة للمرأة.

هذا الملف عبارة عن آراء كاتبات وكتاب من مختلف البلدان وقد وجهت إليهم الأسئلة التالية:

  1. هل شعرت بأنك مختلف منذ فترة الطفولة وشعرت بأن ميلك إلى الكتابة هو سبب اختلافك؟
  2. هل عاملك الأهل داخل الأسرة كأنك غريب عنهم أو لا تشبههم، وكيف كان تقبلهم لميلك إلى القراءة والكتابة؟
  3. هل كنت تفضل الانعزال عن المحيطين من أفراد الأسرة وهل سبب لك ذلك الانعزال الشعور بالغربة عنهم؟
  4. هل كنت تتمني أن يتعامل معك الأهل والمحيطين بشكل مختلف؟ .
  5. هل أنت نادم علي شغفك بالكتابة والقراءة وهل كنت تتخيل حياتك بدون الكتابة؟

الكتابة تنقذ الروح والعقل..

تقول الكاتبة والشاعرة السورية “هند مرشد”: “منذ نعومة أحلامي والتمرد هو السمة الأكثر وضوحا في شخصيتي ..كنت شغوفة بالطيران والتحليق في مدارات أكثر اتساعا من عالمي الضيق والخانق، هذا التمرد ربما قد جعل مني طفلة مختلفة بعض الشيء عن  أقرأني حتى ألعابي كانت مختلفة وهواياتي أيضا كانت أقرب لهوايات وألعاب الذكور. وهذا مرده لكوني رافضة لدور الأنثى المضطرب والمحدد في مجتمع ذكوري متسلط . رافضة التأقلم مع الفكر الأبوي الذي يلغي دور المرأة الأم في الأسرة ..

هذا التوق للحرية جعلني بداية مدمنة قراءة، أقرأ كل ما تقع عليه يدي من كتب قصص صحف ومجلات. وكان هاجس الكتابة مقتصرا على مواضيع التعبير والانشاء التي تطلبها منا مدرسة اللغة العربية.

ومن هنا أحسست أنني أكتب بلغة مختلفة واستعير مفردات غريبة، هذا بشهادة كل المعلمات وإدارة المدرسة، حيث كانت مواضيع التعبير التي أكتبها تعلق أغلب الأحيان في لائحة الشرف الخاصة بالمدرسة، مع علامة امتياز. وكانت معلمة اللغة العربية تستشهد بموضوعاتي التي أكتبها وتضعها نموذجا للطالبات ليكتبوا مثلها، خاصة حين يكون الموضوع متخيلا وفيه وصفا لتفاصيل دقيقة لأشياء غير واضحة.

فخيالي الجامح كان يأخذني لأماكن أبعد من المكان المطلوب وصفه، ويغرقني في تفاصيل الأشياء الجامدة والصامتة كالطبيعة والأشجار والفصول والغروب الشمس والقمر والليل والبحر، فأجعل منها كائنات لها روح  تتحرك وتتكلم .

وتواصل: “وأصبحت قراءاتي انتقائية وبات يلفتني عنوان الكتاب وغلافه وأحيانا المؤلف، فصرت أبحث عن الكتاب الذي يستفز مخيلتي ويرضي شغفي ويتسع لأجنحتي. لم أحب يوما قصص الأطفال، كنت أحس أنني أكبر وأعمق مما ترويه هذه القصص من مسلمات ونصائح تربوية وأفكار بقوالب توجيهية ونمطية، لا تعبر عما بداخلي من اختلاف وتباين لنظرتي للحياة والأماكن والأشياء.

وتكمل عن العائلة: “نشأت في عائلة متوسطة الحال من ذوي الدخل المحدود،  والدي كان عصاميا لم تستهويه حياة الفلاحة فترك القرية وتطوع في الجيش ليكون موظفا حكوميا براتب  شهري، وكانت القراءة وشراء الكتب ترفا لا يستطيع أبي توفيره لنا فراتبه لا يكاد يكفي إطعام الأفواه السبعة أنا وإخوتي. هذا ما دفع بوالدتي السيدة الأمية التي لم تتلق أي تعليم وتزوجت صغيرة أن تبحث عن طريقة تساعد أبي في مصاريف العيش بمدينة كبيرة مثل دمشق، واهتدت مع جارة لها إلى معمل للغزل يحيك الكنزات والسترات الصوفية آليا، ولإكمال الأعمال النهائية من خياطة الأكمام والياقات لتلك الكنزات كان يوزع البضاعة المنجزة في المعمل على النساء اللواتي لا يستطعن الخروج من بيوتهن للعمل خارجا، ليقمن بوضع اللمسات الأخيرة على المنتج من خياطة وكي وترتيب وإعادته للمصنع الذي يعرضه للبيع في المحلات.

ورغم إصرار أمي على إتمام تعليمنا إلا أنها أجبرتنا على العمل معها في الحياكة، حتى أثناء الموسم الدراسي، ولكن في أيام العطلة الأسبوعية، أي تأتي بالبضاعة يوم الخميس وعلينا تسليمها يوم الجمعة جاهزة.

وهنا تحضرني هذه الحادثة المتعلقة بنهمي وحبي للقراء، كنت لم أتجاوز الحادية عشرة من عمري وقد استعرت من مكتبة المدرسة، كما كنت أفعل كل أسبوع، كتاب “الأرواح المتمردة” ل”جبران خليل جبران”. ومن عاداتي السيئة في القراءة أنني كنت لا أترك الكتاب قبل أن أنهي قراءته، وأحيانا أعيد قراءته حين يكون صعبا على عمري فهم محتواه. وهذا ما حصل معي وأنا اقرأ “جبران خليل جبران”، حيث أعدت قراءة الكتاب مما أغضب أمي، فأنا لم أنجز حصتي من أعمال الحياكة التي كانت أمي توزعها علينا أنا وأخواتي البنات، مما اضطرها ان تنجزه هي بنفسها، فقد كان تفوقي الدراسي وحصولي على المرتبة الأولى كل سنة يشفع لي هذا التقاعص هذه المرة في انجاز ما علي من أعمال الصوف، الذي كانت أمي تعلم أنني أتقنه أكثر من البقية.

ومع هذا حين جاء والدي في اليوم الثاني وكنت ما زلت أقلب في صفحات الكتاب شكتني أمي له، فما كان منه إلا أن مشى باتجاهي وصفعني على وجهي، ثم أخذ مني الكتاب ومزقه نصفين. هنا من شدة وجعي وغضبي لم أبك، بل وقفت على الكرسي الذي كنت أجلس عليه فأصبحت بموقع أعلى من المكان الذي يقف فيه والدي، مما منحني الإحساس بالتفوق والقوة، وبدأت في إلقاء محاضرة عن الأبوة ومسؤوليات الأب في تأمين حياة كريمة لأولاده وليس تشغليهم، وقلت له: إن كنتم لا تقدرون على مصاريفنا لماذا أنجبتمونا، كيف تمزق كتابي أيها الجاهل، لو أنك تقرأ لما فعلت هذا، لو أنك تقرأ لما أنجبت سبعة أولاد، وراتبك لا يكفي لولدين، لو أنك تقرأ لعرفت أن لنا حقوقا بأن نتعلم ونعيش حياة وطفولة مريحة وسعيدة، وأن لا تفرض علينا قوانينك الصارمة وأنت لا تقوم بواجباتك اتجاهنا، ماذا سأقول لمعلمتي غدا حين تسألني عن الكتاب الممزق، هل أقول لها أن والدي المتخلف يريدني أن أتقن حياكة الصوف بدلا من التفوق في دراستي، لو كنت تقرأ لعرفت ما في داخل هذا الكتاب من أشياء رائعة وملهمة قبل أن تصفعني وتمزقه، من واجبك كأب أن تشتري لي الكتب لأقرأها لا أن استعيرها من المدرسة وأنت تمزقها.

كل هذا ووالدي ينظر لي بدهشة واستغراب، وقد عجز عن الرد، ثم انفجرت باكية ولملمت أغراضي وكتبي ومريول المدرسة وحبست نفسي في الحمام لليوم التالي، وكل المحاولات في إخراجي من الحمام للعشاء باءت بالفشل  .

استيقظت باكرا ولبست ثيابي وحملت حقيبتي لأذهب للمدرسة، فوجدت والدي جالسا على الكرسي والكتاب بين يديه، ناداني وقال معتذرا وهو يناولني الكتاب بعد أن قام بلصقه ببعضه وأصلح الممزق منه، لقد قرأت الكتاب وأصلحته، قولي للمعلمة أن أخوك الصغير مزقه، أجبته بلؤم أنا لا أكذب اذهب أنت وقل لها هذا .

وفي أثناء الفرصة بين الحصص نادتني المشرفة لغرفة المديرة، ذهبت فوجدت أبي جالسا بكل عنفوان مزهوا بنفسه، قال وهو يبتسم: لقد قبلت المعلمة اعتذاري وقالت إنها ستعطيك الكتاب هدية لأنك من المتفوقات بالمدرسة، تدخلت المعلمة وقالت: ابنتك هند تلميذة مجتهدة ومتفوقة وواعية، وأكاد أجزم أنها أكثر التلميذات حبا للقراءة، شكر أبي المديرة على شهادتها وقد بدت عليه علائم الفخر والاعتزاز.

حين عدت إلى البيت كان والدي ينتظرني، وقال: هل استطيع أن أطلب منك خدمة. أجبت: نعم، قال: أرجو حين تحضرين كتابا وتقرأينه أن تعيرني إياه لأقرأه قبل أن تعيديه للمكتبة، ابتسمت وقلت في نفسي: يا لها من صفعة رائعة تلك التي تلقيتها أمس فلقد جعلت من والدي قارئا. وغيرت الكثير من طباعه العسكرية القاسية وغيرت من علاقتي به لاحقا، حيث أصبح صديقي ورفيقي في القراءة.

وفعلا منذ ذلك اليوم ووالدي يقرأ كل ما يتوفر له، وكل ما كنت اشتري من كتب وأرسلها له بمواضيع متنوعة من روايات عالمية وكتب علم  النفس والفلسفة والتاريخ والكتب الدينية، حتى أصبح مدمن قراءة ومرجعا لمن يريد الاستفسار عن كتاب أو موضوع معين، وبقي على هذه العادة لليوم الأخير في حياته رحمة الله عليه”.

وتتابع عن الرغبة في الانعزال: ” لا، ليس انعزالا بالمعنى التام إنما هي محاولة للانفراد والهروب من زحمة المكان، فلقد كان البيت صغيرا ونحن تسعة أفراد في هذا المكان الضيق الذي كان دافئا وعذبا في كثير من الأوقات، ولكنه كان خانقا في أوقات كنت أتوق بها إلى الوحدة والسكون، كنت حين اشتاق إلى نفسي ابتعد عن الازدحام، فاختار زاوية من الشرفة أجلس فيها لأتأمل المارة والباعة من بعيد وأتخيل تفاصيل حياتهم وهمومهم دون أن اقترب من عالمهم .

وحين أاحس بالوحدة أعود للانخراط بجو الأسرة الحميم، وكنا نهرب من الحر في أيام الصيف ونطلع كلنا على سطح البناء الذي نسكنه نفرش الأرض ونقضي سهرات ممتعة مع الجيران على ضوء القمر، مع أكواب الشاي والكعك المحلى التي كانت أمهاتنا يتابرون في صنعه .

والشعور بالغربة لم يكن اتجاه الأسرة بل شعور بالغربة الداخلية وإحساس بالنقص لا يعوضه إلا التحليق في عوالم أخرى أكثر اتساعا وحرية، علني أجد متنفسا آخر لشاعريتي وتأملاتي التي بدأت تلوح معالمها وتنمو مع كل قراءة جديدة وكل سنة جديدة وكل عام دراسي جديد .

وكانت فكرة الانعزال تلح علي أحيانا وخاصة عندما يأتي أقرباء أبي من القرية لزيارتنا ويبقون لأسابيع، إما لتسيير أعمالهم وأوراق سفرهم أو لمراجعة الأطباء وهكذا، فلقد كنت أحس حينها أنني غريبة حين يفرضون علينا وهم ضيوف في بيتنا طريقة حياتهم، وينتقدون أبي على تربيته لنا وعدم التزامنا بالعادات والتقاليد التي يرونها في تصرفاتنا وحديثنا ولباسنا. هنا فقط كنت أفضل الانعزال وأتمنى لو أختفي وأصبح غير مرئية طوال الفترة التي يمكث فيها الأقارب عندنا”.

وتضيف: “التمني في مجتمع مغلق ومتخلف لا يجدي نفعا، وأسرتي لم تكن استثناء فكل الأسر في تلك الفترة تعيش نفس الظروف. كنت أتمنى لو أني خلقت بمكان وزمان آخر، في زمن ليس فيه كل هذه المعاناة  التي يفرزها الفقر والقهر والركض وراء لقمة العيش .

وأسرتي ككل الأسرة المتوسطة والفقيرة تخضع للثقافة التي كانت سائدة في المجتمع آنذاك، من تكريس الفكر الأبوي والتسلط الذكوري والعنف الأسري وتهميش دور الأم والرقابة المشددة على الإناث، والتصنيف الوظيفي حيث يقتصر دور الأنثى على خدمة الذكور داخل المنزل من تنظيف وطبخ وتربية، ولا يحق لهن الرفض والتذمر. حتى لو كانت تعمل خارج المنزل فهي لن تتساوى مع الرجل وعملها هذا لا يعفيها من الأعمال المنزلية وخدمة ذكور العائلة.

في النهاية يمكننا القول أن حرية الاختيار لم تكن متاحة للمرأة، لأن هذا الحق كان ذكوريا بامتياز، وأية مطالبة للمرأة بهذا الحق يعتبر تمردا وشذوذا وخروجا عن الأعراف والتقاليد” .

وتؤكد عن وجود لحظات ندم علي القراءة والكتابة: “أبدا.. بالعكس فأنا مدينة لهذا الشغف بكل ما هو جميل في حياتي، فالكتابة كانت حبل الخلاص الذي انتشلني من بئر الأحزان والخيبات التي وقعت فيه أكثر من مرة. أنا مدينة للكتابة التي أعادت لي توازني الذي فقدته بعد وفاة زوجي المبكر وتركي وحيدة مع طفل صغير، وأنا مدينة للكتابة لأنها صالحتني على الدنيا والمجتمع الذي ظلمني.

ومدينة لها لأنها ساعدتني على اكتشاف النور في الزوايا المظلمة بداخلي واستغلاله لترميم الجروح التي أصابتني ورتق الثقوب في روحي المتعبة، وتخطي كل الصعوبات والعقبات التي مررت بها .كانت الكتابة بالنسبة لي الملجأ الآمن الذي ألوذ به حين تشاكسني الحياة، تلجم غضبي وتمتص حنقي وثورتي وانفعالي وتحوله إلى قصائد رقيقة وكلمات منمقة ومعان جذابة.

خلاصة القول أن الكتابة هي الخيار الحر الذي اتخذته طوعا في رحلة البحث عن الذات .ولا أنسى فضل القراءة المبكرة علي التي فتحت أمامي آفاقا جديدة عوالم واسعة من العلم والمعرفة، وعرفتني على ثقافات مختلفة وكثيرة وزادت من رصيد أصدقائي الذين لم يتخلوا عني ولم يخذلوني يوما، ألا وهم كتبي” .

أحب أن أشارككم نصوصا لي تتحدث عن العزلة والاغتراب:

ها أنا أعود ..!

لأمتهن العزلة من جديد ..

أغلق ورائي باب البيت ..!

أرمي هموم العمر على العتبة ..

أخلع شعري المستعار ..!

ألقي به على الكرسي مثل قميص وسخ ..!

و بنزق مألوف أغسل وجهي ..

لأزيل ما علق به من آثار ..!

مكياج.. كآبة.. نفاق.. وملل ..

لأزيل عنه.. بعضاً من الغبار ..!

وكثيراً من الاحتقار ..

أتأمل أيامي الهاربة في المرآة ..!

لأجدها شبه فارغة ..

أعلق خوفي على المشجب ..!

أندس في فراشي المزركش ..

بشتى أنواع الدهشة ..!

أجول بنظري في أنحاء غرفتي الباهتة ..

أتكور على نفسي ..!

مثل قطة شاردة في زقاق بارد  ..

أعانق خيبتي ..!

و أغفو بارتياب .

تجتاحني مشاعر غريبة

قادمة من ذلك المجهول

الذي يسكنني !!

لأكتشف أنني موشومة

في مكان ما

بخوف لا أعرف له إسماً

بجرح يتسم ببساطة خادعة

و بعلامة لا تمحى مدفونة

في مناطق الظل مني

حيث للرعب دائماً

طعم الطفولة .

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة