19 نوفمبر، 2024 6:42 ص
Search
Close this search box.

اغتراب الكاتب/ة (30).. كتابة مقاطع نصية جزء من الرواية الأكبر التي أعيشها

اغتراب الكاتب/ة (30).. كتابة مقاطع نصية جزء من الرواية الأكبر التي أعيشها

خاص: إعداد- سماح عادل

هل يمكن التساؤل عن اغتراب الكاتب في ظل وحشية الحرب وقساوتها، والتي وصلت إلي تفاصيل واقعية لا يمكن أن تخطر ببال أكثر الكتاب قدرة علي الخيال.

هذا الملف عبارة عن آراء كاتبات وكتاب من مختلف البلدان وقد وجهت إليهم الأسئلة التالية:

  1. هل شعرت بأنك مختلف منذ فترة الطفولة وشعرت بأن ميلك إلى الكتابة هو سبب اختلافك؟
  2. هل عاملك الأهل داخل الأسرة كأنك غريب عنهم أو لا تشبههم، وكيف كان تقبلهم لميلك إلى القراءة والكتابة؟
  3. هل كنت تفضل الانعزال عن المحيطين من أفراد الأسرة وهل سبب لك ذلك الانعزال الشعور بالغربة عنهم؟
  4. هل كنت تتمني أن يتعامل معك الأهل والمحيطين بشكل مختلف؟ .
  5. هل أنت نادم علي شغفك بالكتابة والقراءة وهل كنت تتخيل حياتك بدون الكتابة؟

نسق من الرؤي المعرفية..

يقول الكاتب السوري “مازن عرفة”: “في الإجابة على أسئلة الصديقة سماح عادل، سأحاول تقديم رؤية مغايرة لطبيعة طرحها التقليدية، بالارتباط مع تجربتي الشخصية في الكتابة، إذ تبدو لي الأسئلة مناسبة لعوالم القراءة وأجواءها أكثر مما ترتبط بشغف الكتابة وصولاً إلى حرفيتها.  وتتعلق الأسئلة أساساً بما تسميه هي نفسها “اغتراب الكاتب” (أو بالأحرى فإنها تشير بدقة أكثر إلى “غربة القارئ المفترضة اجتماعياً”، وليس الكاتب نفسه). وهي تعني نمط حياة الفرد، المفترض أنه مرتبط بالقراءة أو الكتابة، وبالتالي مدى قبوله من الوسط الاجتماعي المحيط به بسبب هذا؛ بدءاً من ميوله نحو القراءة منذ الطفولة، ومروراً بإمكانية انعزاله اجتماعياً بسببها أيضاً، وشعوره بالغربة عن وسطه الاجتماعي نتيجة لذلك، وهل هو نادم على هذا التوجه…

مع التأكيد على أن عوالم الكتابة هي مغايرة لعوالم القراءة، وإن كان هناك تداخل أولي بينهما، أضع رؤيتي هنا بناء على تجربتي الشخصية، بعد إصدار خمس من الروايات وثلاث كتب فكرية (واحد منها باللغة البولونية)، والبدء بنشر مقالات أدبية أولية بالألمانية، فيما مستمر أنا بكتابة الرواية (السادسة في طريقها للنشر).

من حيث المبدأ، تهدف القراءة بأبعادها الشاملة، ليس فقط إلى اكتشاف عوالم الحياة، سواء الداخلية أو الخارجية المحيطة بالفرد، عن طريق النصوص، بل وأيضاً إلى بناء نسق من الرؤى المعرفية؛ الاجتماعية والفكرية والفلسفية، لفهم موقعه في المجتمع، في الطبيعة، في الكون.

وأشدد هنا على قراءة النصوص الورقية، التي تسمح بالتأمل وتداعي الأفكار وتشكيلها، أكثر مما تستدعيه (حالياً) قراءات الصورة، بأشكالها المختلفة، والإلكترونية الاستهلاكية منها بخاصة. قراءة النصوص هي التي تساعد بفعالية على تشكيل مناهج الرؤى الشخصية لاكتشاف عوالم الفرد (الإنسان)، وبالتالي تسهم ببناء شخصية محددة له. لكن مع ملاحظة أن تجربة التلقي في عالمنا المعاصر لم تعد تقتصر على النصوص الورقية فقط، بل وأخذت تنزاح أكثر فأكثر نحو التلقي الإلكتروني بأشكاله المختلفة، (المجتمعة معاً في نصوص، وصور، ومؤثرات سمعية ـ بصرية). وهو ما سيزيح في النهاية ـ على مدى غير بعيد ـ النص الورقي عن عرشه المعرفي لصالح النص الإلكتروني، أو ما يسمى “الكتاب الإلكتروني، بكافة المؤثرات السمعية ـ البصرية فيه”، كما أزاح الكتاب المطبوع تاريخياً المخطوطات القديمة (المنسوخة بخط اليد)، وبشكل واضح منذ بداية القرن التاسع عشر”.

ويكمل: “وإذا أضفنا إلى فرادة تجربة القراءة (المعرفية) للفرد مجموع تجاربه العملية في مختلف مجالات الحياة اليومية، نستطيع فهم كيفية تشكل شخصيته المتميزة، في إطار ظروفه الاجتماعية المحيطة به. وهو ما يعني بالمحصلة الفرادة النفسية ـ الاجتماعية للفرد، على مدى التاريخ الإنساني.

تحدثت عن تجربتي البحثية في عالم القراءة، في كتابي البحثي المتعمق “سحر الكتاب وفتنة الصورة؛ من الثقافة النصية إلى سلطة اللامرئي”، الصادر في عام 2007. وهو يمثل حصيلة أبحاثي، بعد حصولي على درجة الدكتوراه في هذا المجال، منذ حوالي خمس وثلاثين عاماً. وترتكز الدراسة على فكرة تحول عصرنا بخطوات سريعة من عالم الكتاب (الورقي) إلى عالم الصورة (وتجاوزاً الكتاب الإلكتروني، كنص ومواد سمعية ـ بصرية).

وبالارتباط مع طبيعة الأسئلة المطروحة من قبل الصديقة سماح، فإنه على عكس القراءة التي تسهم في بناء شخصية الفرد، فإن الكتابة في حياة محترفها (أو شبه محترفها) تصبح مع الزمن بنية تكوينية من طبيعته الشخصية؛ جزء متلازم من حياته. يعيشها الفرد عندئذ كحياة يومية، ويمارسها كحاجته لتنفس الهواء وتناول الطعام والنوم، وقد تتحول إلى هوس فرادته. وتصبح عملية الكتابة (الإبداعية) على الأغلب مهنة للفرد، مرتبطة به، أو صفة تعريفية ملاصقة لأسمه، فنقول الروائي، أو الشاعر، أو الباحث، أو المفكر، أو الفيلسوف، وكلهم يكتبون. وعلى نمطها يمكن الحديث عن الارتباط  بالمجالات الإبداعية الأخرى، فنقول المخرج، أو المسرحي، أو الرسام، أو النحات، أو الموسيقي.

معظم الناس يقرؤون معرفياً (خارج مناهج التدريس المدرسية والجامعية والمهنية)، إلى جانب ممارسة مهنة ما يرتزق منها، لكن القليل منهم من يكتب (إبداعياً). وهناك من يقرأ في بعض من فترات حياته، خاصة في مرحلة الشباب، ثم قد ينقطع عن هذا الفعل في مراحل أخرى تالية. لكن القراءة (والاطلاع الثقافي بأشكاله المختلفة) هي سمة المجتمعات الحضارية المتقدمة، كتعبير عن بعض من رخائها وجانبها التطوري في رعاية أفرادها. بينما المجتمعات الفقيرة تتميز، ليس بالجهل والتخلف، بل بالأحرى بالاستغلال الممارس بحق أفرادها من قبل طبقات فاسدة، فيجعلها تبحث عن أسباب معيشتها، بدلاً من تحسين وضعها المعرفي. يضاف إلى ذلك أن هذه المجتمعات المتخلفة تعيش في إطار أنظمة شمولية قمعية؛ ديكتاتورية عسكرية، أو دينية متخلفة، تحرم أفرادها حرية التفكير والاعتقاد، وصولاً إلى التدخل بحياتها الشخصية وتوجهاتها المعرفية. ولذلك تُشكل فيها لجان الرقابة على الكتب والسينما والمسرح، وكافة الأنشطة الثقافية، وتضع الخطوط الحمر للمحرمات (أساساً السياسية والدينية والجنسية في عالمنا العربي). وهو ما أخذت شبكات التواصل الاجتماعي الإلكترونية تحطمه أكثر فأكثر”.

اغتراب الإنسان..

ويواصل: “والسمة الأخرى التي ينبغي مناقشتها في طبيعة الأسئلة، هي أن “اغتراب الإنسان” في مجتمعه ليس له علاقة بطبيعة الفرد كقارئ أو كاتب. الاغتراب هذ يتعلق بأسباب نفسية واجتماعية أساساً، في أطر سياسية قمعية، تؤدي إلى عدم قدرته على الاندماج مع مجتمعه، وممارسة الحياة الطبيعية فيه. ولا علاقة لهذا بأن القراءة أو الكتابة بحاجة لبعض العزلة المؤقتة، التي لن تتحول بالطبع إلى حالة مرضية، لا اجتماعياً ولا نفسياً. القارئ أو الكاتب يمارسان فعلاً يتطلب بعض العزلة المؤقتة، ولكنهما يرتبطان بعلاقات اجتماعية وإنسانية طبيعية، وإن كان من الطبيعي أن تتطور علاقاتهم مع المجموعات المنسجمة في توجهاتها معهم.

“الاغتراب” هو مفهوم فلسفي، من الممكن أن يمثل ردة فعل سلبية ضد تحولات “جذرية”، في جميع مجالات الحياة، يفرضها تطور المجتمعات، ويؤدي هذا إلى تقوقع فردي، أو جماعي، أو طبقي، وصولاً إلى تشكل “طبقات محافظة اجتماعياً” أو “مجموعات متزمتة دينياً”. ويتحول هذا التقوقع فلسفياً إلى اغتراب، إما سلبي اعتزالي، أو تمردي عنفي.

كانت هذه المقدمة السريعة ضرورية لشرح احتمالات الالتباس الأولية في المفاهيم الفكرية المؤطرة لمواضيع القراءة والكتابة و”الاغتراب”. ومنها يمكن الانطلاق لشرح تجربتي القرائية، والأهم الكتابية”.

تجربتي..

وعن تجربته الخاصة يقول: “أعيش الآن في نهاية الستينيات من عمري، وهذه فرصة لإعادة النظر في تجربتي القرائية والكتابية. فأنا أنتمي إلى أجيال النصف الثاني من القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، في العالم العربي.

في النصف الثاني من القرن العشرين، كانت الطبقات الوسطى تتشكل جنينياً في العالم العربي، وتحاول منح المجتمعات هويتها الوطنية والإنسانية المميزة. كان وجود مكتبة منزلية، ومعرفة العزف على آلة موسيقية، وارتياد السينما والمسرح والمتاحف، وممارسة الهوايات الثقافية (مثل جمع الطوابع، وقطع النقود القديمة، والبطاقات البريدية، على سبيل المثال) هي من سمات العائلة المدينية في تلك الفترة، بل وتمتد في أشكال منها إلى العائلة الريفية. يعيش الأطفال في تلك الأجواء، وينمون معها، وتتشكل بها معارفهم وتوجهاتهم للحياة المستقبلية.

منذ عمر العاشرة، كنت أمتلك مكتبة صغيرة من المجلات المصورة الموجهة للناشئة، أخذت أطورها باستمرار، بحيث تحولت بعد خمسين عاماً إلى مكتبة ضخمة غنية من الكتب العربية (قسم كبير منها كتب نادرة) والفرنسية والبولونية، أحتلت غرفة كاملة في المنزل، وتمثل جزءاً مهماً من حياتي. (كنت قد أنهيت دراسة اللغة الفرنسية وآدابها في جامعة دمشق عام 1983، ومن ثم حصلت على الدكتوراه في بولونيا في علم الكتاب والصورة عام 1990. وساعد على إنماء المكتبة وتطويرها وجودي مديراً للنشاطات الثقافية في المكتبة الوطنية في دمشق، ومنها المسؤولية الثقافية على معرض الكتاب فيها، لأكثر من خمس وعشرين عاماً).

لكن الأنظمة الشمولية الديكتاتورية والدينية المتعصبة في العالم العربي لن تسمح للطبقات الوسطى بالنمو والازدهار، خوفاً من تطلعاتها الديمقراطية في بناء مجتمعات عادلة، ومن قيمها المعرفية التقدمية، وسعيها لحرية التفكير، فتم تدميرها اقتصادياً (وسياسياً). ستختفي الطبقات الوسطى بضربات سريعة مفاجئة، ويتحول التشكل الطبقي في العالم العربي إلى طبقات فقيرة، تمثل الأغلبية الساحقة من أفراد المجتمعات، أنصبت اهتماماتها الرئيسية على تأمين متطلبات العيش، وأقليات ثرية، لا علاقة لها بالثقافة والعلم، تمتلك المال والسلطة، بسبب ارتباطاتها بالفساد المنظم في الدولة وبمافيات السلطة. بذلك ستنتهي فترة ذهبية في عالمنا العربي، لن تتكرر، وأنتهى معها النهوض الثقافي والمعرفي الذي تميز به، لصالح شواش استهلاكي عولمي، يشوبه إرهاصات دينية متخلفة مطوعة له، في ظل أنظمة تدافع بشراسة عن ديكتاتوريتها وتعصبها الديني، فقدنا به مفهوم الهوية الخاصة المميزة بنا (كتبت بشكل تفصيلي عن الطبقات الوسطى في العالم العربي في كتابي “تراجيديا الثقافة العربية، القراءة نموذجاً”، الصادر عام 2014)”.

الحرب..

ويتابع: “وإن نجوت بمكتبتي عمراً طويلاً، بشغف وجهد شخصي، فإنها ستتدمر بالكامل، وتختفي في ظروف الحرب، التي أعقبت “ثورة الربيع العربي” في سورية، وخروجي لاجئاً إلى ألمانيا. حل الخراب في المدن والبلدات السورية، بعملية تدمير ممنهج لها، مترافقة بمشروع تهجير في إطار التغيير الديموغرافي الطائفي للمنطقة. أخر الأخبار عن كتبي هو أنه يتم إحراقها والتدفئة على مجلداتها الضخمة، أيام الشتاء، في الظروف المأساوية التي يعيشها الناس في سورية حالياً، في ظل الموت اليومي، وغياب القدرة على تأمين الحد الأدنى من متطلبات الحياة، من الطعام والدفء، دون الحديث عن الأمان. وحدث هذا لمعظم المكتبات المنزلية في سورية، في ظل الظروف المأساوية التي تعيشها البلاد، وتهجير أصحابها إلى بلاد المنافي، وخاصة أن التهجير والهجرة أصاب أيضاً الطبقة المثقفة والتكنوقراط.

وما يحدث ليس هو فقط حرق للكتاب، كتمثيل لأداة تنوير معرفية كانت مهمة في حياتنا، وإنما حرق تدميري لمفهوم الثقافة والمعرفة، في ظل تعسكر البلاد، وتحكم مجموعات مافيات عسكرية، وميليشيات دينية وطائفية وعنصرية، بها. وستزداد الأمور سوءاً باحتلال سورية من عدة جيوش دول إقليمية وأجنبية، حولتها إلى ساحة لتصفية الحسابات السياسية فيما بينها، ومد مشاريعها الغريبة عن هوية المنطقة”.

فهم العالم..

وعن محاولته لفهم العالم يقول: “منذ أن بدأت القراءة في طفولتي، وباستمرار دائم في حياتي، كنت أحاول بها اكتشاف العالم من حولي، ومحاولة فهمه. وكان أكثر ما يشغلني هو محاولة إيجاد أجوبة على الأسئلة الوجودية الشائكة في حياة الإنسان، المتكررة على مر العصور؛ من أين نحن أتينا، ولماذا، وإلى أين نحن ذاهبون. وبما أن الدين لا يقدم أي إجابة سوى الأساطير والخرافات، فقد توجهت نحو الكتب العلمية، في محاولة تلمس إجابات، ولو أولية. وجمعت في مكتبتي كل ما صدر تقريباً بالعربية من كتب الفلك والفيزياء والكون، المكتوبة بشكل معرفي.

(واستعنت بفترة بالكتب البولونية أثناء إقامتي في بولونيا في أثناء دراستي، التي قاربت الست سنوات)، وأخذت أقرؤها بجنون. ومازلت أتابع التطورات العلمية عبر وسائط التواصل الاجتماعي الإلكتروني، وهو ما ترك تأثيراً كبيراً على رواياتي.

منذ طفولتي كانت لدي حساسية خاصة مع الزمن، وثقله الغريب على حياتنا في مسيرته. وقادني هذا إلى التساؤل الفلسفي عن معنى وجودنا في الماضي، ولماذا نحن نسير إلى حتفنا في المستقبل (الآن يتم الحديث في الفيزياء النسبية عن الزمن النسبي الذي يختلف سيره بحسب جاذبية الزمكان، وفي الفيزياء الكوانتية عن وهم الزمن، أي وجود الماضي والحاضر والمستقبل معاً). ومع هذه الحساسية بالنسبة للزمن، اتخذت مفاهيم الذكريات والحنين وفقدان الأحباء والحوادث الجميلة في حياتي الشخصية (وحياتنا كمجموع) معاني خاصة، يرافقها نوع من نوستالجيا المشاعر الإنسانية. كنت أريد إيقاف الزمن بشكل ما، وهو ما يعني إبقاء الذكريات الجميلة حية فينا، بما فيها ذكريات الأحباء الذين نفقدهم باستمرار بالموت”.

المذكرات اليومية..

وعن المذكرات يقول: “من أجل تحدي الزمن، أخذت أكتب المذكرات الشخصية اليومية، بشكل شبه يومي تقريباً. بدأت ذلك بشكلها الطفولي في عمر العاشرة، ومازلت مستمراً فيها حتى الآن. بغض النظر عن الكم الهائل من الروايات التي قرأتها، وبغض النظر عن الحاجة النفسية للتخفيف عن الضغوط الحياتية بالكتابة، فإن كتابة المذكرات لم يكن لها علاقة بذلك. كنت أكتب التفاصيل اليومية الصغيرة بهدف بإيقاف الزمن وإيجاد معنى لحياتي التي تمر، أو بالأحرى لمعنى وجودنا، على الأقل من خلال توثيقه.

كتبت في مراهقتي، وفي دراستي الجامعية، وفي أسفاري (ست سنوات في بولونيا)، وعن إرهاصات “ثورة الربيع العربي”، وانفجارها في سورية، وعن إخفاقاتها بالعسكرة، ومن ثم بالأسلمة. ومازلت أكتب عن فراري الاضطراري من سورية، وحياتي في المنفى. وقبل الخروج من سورية، كان قد تكدس عدد هائل من دفاتر المذكرات المخطوطة؛ جبل هائل من الذكريات.

لكن في لحظة الفرار من البلاد، والموت يحوم فوق الجميع، ومن يعتقل لأي سبب عابر يختفي من الحياة، والدمار أحاق بالمدن، ومنها منزلي بفرار العائلة مسبقاً وتشردها، وتحطم الأثاث، والذكريات والأحلام، لم أجد إلا أن أحرق سريعاً كل دفاتر مذكراتي، قبل يوم من هروبي، وأنا أعرف أنني لن أعود. (البناية المدنية التي كنت أعيش فيها تحولت إلى موقع عسكري، وسأتحدث عن ذلك). أمام تبلد المشاعر والأحاسيس في لحظات العيش اليومي مع الموت، ماذا تعني التفاصيل الصغيرة؟ لكن ما يعزيني أن رواياتي الخمس، التي أصدرتها حتى الآن، أنها أستقت أحداثها من ذكرياتي الشخصية، ومازالت، كنبع لا ينضب. (انفجرت ثورات الربيع في عام 2011، صمدت على أمل التغيير السلمي، لكن سأفقد الأمل شيئاً فشيئاً، حتى تحول الوضع في البلاد إلى كابوس حقيقي. ولم أغادر البلاد إلا عام 2017 مضطراً، بعد أن أصبح الموت يترصد الجميع أكثر فأكثر، في كل زاوية).

عندما كنت أدرس في بولونيا، كانت بعثتنا الرسمية تضم أكثر من مئتي شخص. سيبقى القسم الأعظم منهم هناك، بقرار رسمي. كانت مغريات أوروبا أقوى جاذبية من العودة إلى فوضى سورية. ومع ذلك كنت حاسماً لأمري بالعودة إليها، ليس بسبب “شعارات الوطن الخشبية”، بل لأن فكرة البلاد تمثلت بأمي وإخوتي وأصدقائي، ومراتع ذكريات الطفولة، ومقبرة الأهل، وحقول بلدتي، ومقاهي دمشق… كان الوطن هو رائحة الذكريات والحنين، وعلى أمل التغيير عدت.

كنت أحلم بتغيير الأوضاع في البلاد عن طريق العمل المؤسساتي العلمي، لذلك أنصبت أبحاثي على تأسيس علم معرفي خاص باسم علم الكتاب والصورة ـ استناداً إلى دراساتي العليا، بهدف النهوض بالمؤسسات الثقافية، ورفع سوية المجتمع معرفياً وعلمياً وثقافياً. بعد كتابين فكريين مهمين “تراجيديا الثقافة العربية”، والأخص الكتاب المرجعي الموسوعي “سحر الكتاب وفتنة الصورة”، وبعد إخفاقات عملية في العمل المؤسساتي (بما فيها التدريس المؤقت في الجامعة)، اكتشفت أن لا فائدة من العلم في بلد، يرتجف المدراء العامين للمؤسسات العلمية والثقافية فيه رعباً أمام عنصر أمني أمي تماماً. ولا فائدة من العلم في بلد يقف فيه شخص يحمل أعلى الشهادات العلمية التخصصية وراء أمام مسجد أمي بالكامل، ويستمع إلى تخريفاته الدينية. عندئذ قررت الاتجاه إلى الرواية (أصدرت أربع منها بعد خروجي من سورية)”.

ثورات الربيع العربي..

ويضيف: “ومازلت أعتقد جزاماً أن “ثورات الربيع العربي” كانت حتمية تاريخية، انتصرت في البلدان التي انفجرت فيها، وحققت تحولات نوعياً في طريقة التفكير المستقبلي، وذلك قبل أن تتم عسكرتها، ومن ثم أسلمتها، مما شوهها بالكامل. لا يعود هذا فقط إلى شراسة الأنظمة الديكتاتورية ضدها (التي ستسعين بقوى خارجية تحتل البلاد وتستنزف ثرواتها مقابل بقاء عروشها)، بل وأيضاً من خوف البلدان العربية الأخرى من زحف هذه الثورات إليها، وبالتالي العمل على ترويضها وفق سياساتها، إضافة إلى تعقيدات سياسية لا مكان لمنقاشها هنا (منها سماح الغرب بتمدد المشروع الشيعي الإيراني إلى العالم العربي، لمواجهة الخطر السني الإرهابي المفترض، وموقفه المزدوج من المشروع الديمقراطي الصالح للغرب، فيما يعطل مصالحه الاقتصادية في البلاد العربية، إضافة إلى مصالح متشابكة لإسرائيل وتركيا وروسيا والغرب بعامة في المطقة العربية، وبشكل أوسع في منطقة الشرق الأوسط).

رغم التدمير المنهجي الذي نال المدن السورية، وأكثر مليون قتيل (في المعتقلات وتحت البراميل المتفجرة)، وأضعافهم من الجرحى والمعوقين، والتهجير القسري الديمغرافي لصالح المشروع الشيعي، بما يعادل تسعة ملايين من السكان، فإن الظروف الموضوعية التاريخية هي التي فجرت الثورات. وارتكزت روايتي “الغرانيق” على فكرة أننا استطعنا قلب تماثيل الزعماء الجنرالات ـ الآلهة (الإله التوحيدي وآلهة الغرانيق)، ليس في الساحات فقط، بل وفي العقول أيضاً، بمظاهرات سلمية، تحدت الخوف الذي عشعش في العقول منذ زمن الانقلابات العسكرية. سقوط الديكتاتوريين هو سقوط مدوي للآلهة، التي حاولوا تلبس شخصياتها. لكن رواية “الغرانيق” (التي كتبتها أثناء الثورة ولم استطع إصدارها إلا بعد الخروج من سورية عام 2017) توقعت أن الشاب المتمرد والثائر قد يتحول في ظروف محددة إلى حمل السلاح والأسلمة في مواجهة شراسة الديكتاتور، ومن ستصبح الديكتاتورية والأسلمة المتعصبة وجهين متقابلين للعملة نفسها (صدرت عن رواية “الغرانيق” أكثر من ثلاث وعشرين مقالة ومقابلة صحفية معي).

لا يعني هذا أبداً أن رواياتي سياسية (أو بالأحرى منشور سياسي)، بل هي أدب حقيقي، يمتلك رؤية مميزة خاصة بي، مرتبطة بالحياة الإنسانية، وبتفاصيل الحياة اليومية، وترفع من قيمة المشاعر. ورغم جمالية القص فيها، وبالتالي شعبيتها، فإن تعقيدات بنيتها الخاصة وتركيبيتها هي التي تخلق لي دائماً إشكاليات صعوبة إيجاد ناشر لها. وبعيداً عن القص التقليدي، فإن رواياتي في بنيتها هي مزيج من السوريالية، وأحلام اليقظة، والتداعيات الحلمية والكابوسية، والمونولوجات الداخلي، وانكسار حدود الأزمنة والأمكنة، إلى جانب واقعية سحرية وكافكاوية ـ عربيتين.

هي ببساطة وقائع توثيقية برواية “ضمير المتكلم ـ الأنا”، سرعان ما تتحول إلى فانتازيا اللامعقول، عبر تشظي الراوي ـ الفرد إلى مجموعات، هم بالمحصلة نتاجات مجتمع شرقي بالغ التعقيد. ويتم تقديم هذا جميعه في إطار من الكوميديا السوداء، كنوع من السخرية للواقع اللامعقول بسخرية أدبية أقسى.

بشكل عام توجد رؤية ما لتسلسل الأحداث في رواياتي، لكن في الحقيقة ليست لها بداية تصل بالقارئ إلى نهاية. من الممكن أيضاً أن يبدأ القارئ بأي فصل فيها، لنقل السابع أو الخامس، ومن بعده العاشر، فالأول، وهكذا. فالأحداث هي تجميع مونتاج سينمائي، وأو حتى تجميع أحلام يقظة، لمجموعة أحداث من الممكن تركيبها بطرائق مختلفة (وهذا واضح تماماً في روايتي الأولى وصايا الغبار، الصادرة في عام 2011). وبهذا لا يتم كسر محرمات الرواية التقليدية المحددة بمناهج النقد الأكاديمي، من حيث منطقية ترتيب الأحداث مثلاً، بل وتتجاوز إلى كسر المحرمات السياسية والدينية والجنسية. وهو ما يتحاشاه الروائيون التقليديون، خوفاً من رقابة المجتمع، بل ومن الرقابة الذاتية المعشعشة في لاوعيهم.

للأسف يبحث معظم النقاد، بل ويفتعل بعضهم البحث عن مفاصل سياسية في رواياتي، وفي إيجاد تسلسل ما للحوادث فيها، وبالتالي يفشلون في فهم عوالمها. في حين يبدع بعض النقاد المتمكنين في التسلل إلى عوالم الجنون والكوابيس والواقعية السحرية فيها.

أمام واقع غرائبي سوريالي نعيشه إلى حد الجنون في عالمنا العربي، وخاصة في سورية، حيت يتكامل قمع الديكتاتورية مع القمع الديني (رغم اختلافهما الظاهري الشكلي، لكن المتشابكين معاً في قهر الإنسان، دون أي عداء بينهما)، لا يمكن وصف هذا الواقع ومواجهته إلا بطريقة مجنونة”.

صعوبات..

ويحكي: “عندما اندلعت المظاهرات السلمية في بلدتي عام 2011، أحتل العسكر بنايتي التي أسكن في الطابق الثالث منها، لأنها في موقع استراتيجي، تشرف على الساحة الرئيسية والبساتين التي يتجمع فيها المتظاهرون. أحتلوا بعض الشقق الفارغة، وجعلوا موقع قيادتهم على السطح. ومع أول إطلاق نار عشوائي من العسكر على الأحياء المجاورة والبساتين، بدأ القاطنون بالشقة في البناية بالفرار ذعراً، وسرعان ما كان العسكر يحتلون الشقق الفارغة الجديدة. هرب الجميع تقريباً من البناية، بمن فيهم زوجتي وطفلاي (كنت أظن أن فرارهما مؤقتاً لبضعة أسابيع، ريثما تنزاح الغمة، لكني لن ألتقي بهما إلا بعد ست سنوات في ألمانيا)، فيما بقيت أنا فيها متحدياً، لا أرغب بترك مكتبتي الضخمة، ولا ذكرياتنا المعششة في كل زوايا الشقة.

سرعان ما تحولت البناية إلى موقع عسكري محصن، نُصبت الرشاشات على سطحها، ووضعت الحواجز حولها، مدعمة بوجود الدبابات، واستقرت فيها ثكنة كاملة من العسكر بكل فوضاهم ووحشيتهم. كان يفصل شقتي عن شقة قائد المفرزة العسكرية جدار رقيق، تجري خلفه تحقيقات عشوائية مع معتقلين تحت الضرب، فإذا ما أنصت أسمع الكثير. لكن الأخطر هو إقامة مركز أمني في الطابق الأول، يجري فيه التعذيب الأولي، قبل النقل إلى المعتقلات الرسمية. كنت أسمع منه أصوات المعتقلين المخيفة وهم يجأرون بالألم عبر منور البناية، وأنا متمدد في سريري محاولاً النوم. وعندما أمر في الشارع، كان أشاهد إنزال المعتقلين شبه عراة حفاة، والدماء تنزف منهم، مربوطين بحبل، ويجرون في السوق إلى سيارة تنقلهم إلى المعتقل الرسمي. في الصباح، كثيراً ما كنت أستيقظ وأشاهد جثة ما مرمية في الشارع، كانت حوادث الاغتيالات والمداهمات الأمنية لا تنقطع.

وبغض النظر عن المداهمات المستمرة لشقتي وقلب أثاثها، بحثاً عن أسلحة متوهمة، فقد تم تركي في الشقة “درعاً بشرياً”، في حال هجمات مفترضة من الثائرين السلميين، الذي بدأ قسم منهم يتحول إلى “الجيش الحر”، فيما كنت حذراً في تصرفاتي ولقاءاتي، كي لا يتم اعتقالي.

هكذا كنت أعيش حرفياً في معتقل حقيقي، جحيم حقيقي من الجنون، لكن مع إمكانية الدخول والخروج في أوقات محددة، أليست هذه سوريالية مجنونة، لا تحدث حتى في الأفلام الهوليودية. كتبت شهادة أولية مؤثرة عن هذا، ونشرتها على مواقع إلكترونية، عقب خروجي من سورية. لكن في مواجهة مثل هذا الجنون السوريالي هل كان يمكن الاكتفاء بشهادة قصيرة؟ لذلك كتبت رواية “سرير على الجبهة” (ستكون هي روايتي الثالثة، وصدرت عام 2019)؛ رواية سوريالية بالكامل تقابل الواقع المجنون بجنون كتابي أكبر، حيث تحولت البناية إلى رمز للوطن، تجري فيها المعارك بالدبابات والصواريخ، وأقيم فيها نصب ضخم لبوط عسكري، تزوره الوفود الرسمية لعبادته صنماً حقيقياً… ذروة الفانتازيا والواقعية السحرية، مغلفة بكوميديا السوداء.

كتبت مسودات روايتي في هذا المعتقل السوريالي، الذي عشت فيه حوالي ست سنوات، ومن ثم بدأت بالنشر، عندما أصبحت في أمان في ألمانيا. كانت الكتابة وقتها نوع من الدفاع عن الذات، والصمود بوجه هذا الواقع المتوحش حولي، ليس في البناية فقط، بل في كامل البلاد.

بشكل عام تنتظم رواياتي في توجهين أساسيين، الأول هو “سردية الحكاية السورية”، والثاني هو “الحياة نفسها هي رواية / أو فيلم نعيشه””.

توثيق الحكاية السورية الأصيلة..

ويتابع: “في مواجهة التشويه الذي مارسته عسكرة البلاد، والتيارات الدينية بكافة أشكالها، وطال كافة جوانب الحياة في سورية، بدءاُ من الحياة الثقافية والفكرية، وصولاً إلى تفاصيل الحياة اليومية والمعيشية، كان لابد من توثيق الحكاية السورية الأصيلة؛ حياة الناس البسطاء، سواء بأصولهم الريفية أو المدينية، التي تنغرس جذورهم في الذاكرة الجمعية والحنين. كانت العسكرة قد حولت كامل البلاد إلى معسكر كامل (طلائع البعث للأطفال، الفتوة العسكرية وأتحاد شبيبة الثورة في المدارس، التدريب العسكري في الجامعات، الخدمة العسكرية الإجبارية، السيطرة الأمنية على كافة مفاصل الحياة ـ كان افتتاح محل فلافل يحتاج إلى موافقة أمنية، على سبيل المثال).

أما المشايخ الأميون فقد أخذوا يتصدرون جميع المناسبات الاجتماعية (أعراس، مآتم، ولائم…)، ويدلون بخرافاتهم عن الشياطين والعفاريت، ويسهبون بوصف ملذات الجنة الجنسية وعذابات جهنم السادية، ويفتون في المسائل العلمية والاقتصادية والتاريخية والطبية، وصولاً إلى تفاصيل ممارسة الجنس بين الأزواج (الموضوع المحبب لديهم)، والأهم الدعوة لقتل الآخر باسم “الجهاد”، في بلد يعج بتعددية الأديان والطوائف والعلمانيين المخالفين لهم. كان هناك تواطء حقيقي بين العسكر والمتدينين؛ العسكر يسمحون للمتدينين بالنشاطات الاجتماعية المحددة لهم والمراقبة أمنياً، مقابل دعوة المتدينين لعبادة الديكتاتور، “صورة الإله على الأرض”.

في هذا الإطار كانت رواية “وصايا الغبار”. والغبار هو رمز التدين الوهابي، القادم من صحراء البتروـ دولار، في سبعينيات القرن الماضي، بكل تخريفاته وعاداته المتخلفة. الرواية قدمت في قسم كبير منها “الحكاية الشعبية الريفية” اعتماداً على أرضية أنتربولوجية، في مواجهة التخريفات الوهابية القادمة من الصحراء؛ حكايات “جن البساتين والسهرات العائلية” وحكايات “النخوة والشجاعة والعشق” مقابل حكايات الصحراء عن “الجن الذين يغتصبون النساء في الحمام، وما اجتمع رجل وامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما”.

في “الغرانيق” يوجد فصل كامل يروي تاريخ سورية، لكن عبر الحكايات الشعبية وتفاصيل الحياة اليومية، بعيداً عن تعقيدات المناهج الأكاديمية.

في “سرير على الجبهة” تتواجد بطلتين رئيسيتين في الرواية؛ الجدة الدمشقية، والجدة الريفية. تتحول ذكريات كل منهما إلى توثيق أنثروبولوجي للعادات والتقاليد اليومية، التي كادت تندثر في ظروف التشويه (الطعام، والشراب، واللباس، وألعاب الأطفال، والأعراس…).

لكن الأهم في “الحكاية السورية” هي رواية “داريا الحكاية”، التي صدرت حديثاً، في نهاية عام 2023. وداريا هي بلدة تقع في ريف دمشق الغربي، ونموذج للبلدات السورية، كانت شهيرة بحياتها الريفية، خاصة بكروم العنب والزيتون. تم الاستيلاء على قسم كبير من أراضيها الزراعية فيها من أجل بناء “مستوطنات عسكرية طائفية”، ضمت مرتزقة النظام العسكري، الذين شكلوا مافيات رسمية، ليس لديها أي عمل سوى نهب البلاد. في انتفاضة داريا من أجل الحرية عام 2011، تم مسحها بالكامل حرفياً من وجه الأرض بالبراميل المتفجرة، بتخطيط روسي على طريقته في تدمير غروزني، وبتعاون بين “شبيحة العسكر” و”الميلشيات الشيعية القادمة من لبنان والعراق وإيران وأفغانستان”. وهذه الأخيرة قررت أن مهديها الخرافي سيخرج من سرداب في داريا. في واحدة من المجازر التي تم ارتكابها في داريا، وفي ليلة واحدة، تم قتل أكثر من 800 شخص من أهاليها، وهو ما دفع أهاليها للثورة المسلحة. ومن نجا من الموت، بعد صمودها عدة سنوات تحت الحصار، تم تهجيره إلى الشمال السوري، إلى مناطق الإسلاميين. لتصبح المنطقة مهيأة لإسكان الغرباء الشيعة، بدءاً من أفغانستان وباكستان، ضمن مشروع التغيير الديموغرافي الطائفي في المنطقة. الرواية تعيد بناء حكاية داريا المزروعة في الذاكرة، منذ تاريخ قديم، هو تاريخ الناس الريفيين البسطاء فيها التي جعلوا منها شهيرة بعنبها وزيتونها.

“الحكاية السورية” هي مشروع مستمر، بدءاً من “وصايا الغبار”، التي تتحدث عن إرهاصات الانفجار الشامل قبل “ثورة الربيع العربي”، ومن ثم “الغرانيق” و”سرير على الجبهة” و”داريا الحكاية”، هي ما حدث خلال الثورة والإخفاقات التالية لها. أما “الغابة السوداء” فهي حكاية المهجر السوري في بلاد التهجير. ومازلت الحكاية مستمرة في الروايات الجديدة”.

الحياة رواية..

ويواصل: “التوجه الثاني في رواياتي، وهو ما أريد أن أنهي به هذه الشهادة الطويلة، هو شعوري الدائم بأن حياتي الواقعية هي “رواية” والأفضل هي “فيلم”، وهو ما أعيشه باستمرار. ورواية الحياة هذه مستمرة، منذ ولادتنا وحتى موتنا، وما نخطه على الورق ما هو إلا مقاطع من هذه الرواية الطويلة. أحياناً لا أشعر بفروق بين ما أكتبه وأعيشه، بل إن كتابة مقاطع نصية هو جزء من الرواية الأكبر التي أعيشها. الرواية الصغيرة الورقية هي شكل مشوه ناقص، إذا لم أربطها مع رواية الحياة التي أعيشها.

لكن القضية تصبح أعمق عندما تتحول حياتنا إلى “فيلم”، ونشعر عندئذ إننا نعيش في “محاكاة” إلكترونية. أصبح كثير من العلماء يعتقدون بجدية بأننا ربما نعيش في محاكاة، مبرمجة لنا بالكامل من قبل كائنات فضائية ذكية، أو من قبل كائنات موجودة في أبعاد أعلى (نظرية الأوتار الفائقة تشير إلى أننا نعيش في كون ثلاثي الأبعاد؛ الطول والعرض والارتفاع، إضافة إلى الزمن كبعد رابع. وهذا مؤكد فيزيائيا، أي في الحياة الواقعية. لكن نظرية الأوتار الفائقة تؤكد وجود سبعة أبعاد إضافية، ولكل منها كائناتها، التي تتطور قدراتها أكثر كلما ارتفعت بعداً. وهذا مؤكد رياضياً، وهناك محاولات لإثبات ذلك فيزيائياً، خارج روايات الخيال العلمي).

ولأعطي أمثلة كيف انتقلت مشاعري بأنني أعيش حياتي رواية أو فيلماً إلى رواياتي.

في بداية انفجار “ثورة الربيع العربي”، سيطر المتظاهرون السلميون على بلدتي، كما على بلدات أخرى. وطبعاً لم يرق هذا لسلطة الديكتاتور، فبدأت توجه إليها حملات أمنية من العسكر والأمن والشبيحة، المدعومين بالدبابات، مع باصات كبيرة لجمع المعتقلين. ودائماً، أينما تحركت، كنت أحمل أوراقاً وقلم، وأسجل كل ما يحدث حولي.

وصلت الأخبار أنه سيتم اجتياح بلدتي، فاختفى المتظاهرون، هاربين خارج البلدة خوفاً من الاعتقال، والجميع يعرف ما حدث للبلدات المجاورة من وحشية. وهرب أيضاً الكثير من أهالي البلدة، ومنها أسرتي. لم يبق فيها تقريبا إلا النساء والعجائز. وبعض الرحال الذين يظنون أنهم لا علاقة لهم بالتظاهرات. يومها، وقفت على شرفة شقتي في الطابق الثالث من بنايتي، المطلة على الساحة. كنت الوحيد الذي أقف مجنوناً على الشرفات، بل كنت في ذروة الجنون، أريد مراقبة ما يحدث وتسجيله بواقعية.

أكتب على ورقة بجانبي “بين السابعة والتاسعة صباحاً خيم صمت غريب على البلدة. وكأن سكانها هجروها فجأة، أو ربما لم يكن فيها بالأصل سكان … وكأن إلهاً أسطورياً عبثياً خلق البلدة، ونسي في لحظة ثمالة أن يخلق ناسها…”.

أسجل تالياً الوقت، وتفاصيل دخول الحملة الأمنية، كما كانت تحدث أمامي؛ الدبابات، سيارات التويوتا برشاشاتها على الظهر، مجموعات المداهمة… وأسجل بين الملاحظات “التاسعة والربع توقفت المدرعة الأولى في الساحة. دار البرج ربع دورة مستطلعاً المكان، اكتشفتني على الشرفة، ارتفعت السبطانة نحوي، توقفت، أصبحت في مرماها… تصبب العرق مني غزيراً، وأنا أرتجف، وأنا أكاد أسقط ولا أسقط. ماذا أفعل، كي لا يطلق قذيفة نحوي؟ … الساعة والعشرون دقيقة. يبدو أن العين المعدنية اكتشفت أنني لست أميراً صحراوياً في إمارة إسلامية، يقود جيوشه المؤمنة من على الشرفة، ولا ألوح بسيف، أو بلطة، أو ساطور. ربما فكر بأنني مسافر عابر أنتظر على الشرفة غيمة تأخذني في سفر…ونجوت”.

كدت أفقد حياتي في تلك اللحظة المجنونة، بسبب رغبتي أن أعيش المداهمة واقعاً، وأسجلها، إذ سيشتعل إطلاق القذائف والنيران تالياً في الأحياء، من أجل الترهيب قبل بدء الاعتقالات. بقيت واقفاً وأسجل الوقت والحدث. بدأت حملات المداهمة. المخبرون الملثمون يدلون على بيوت المتظاهرين. أسجل. يسحبون من يجدون في البيوت من نساء وعجائز. وأسجل كل ما يحدث أمامي… حتى وصلت فرقة مداهمة إلى بنايتي. وأنا أسجل.

نقلت هذا المشهد الذي عشته فصلاً في رواية “الغرانيق” عبر الملاحظات التي سجلتها، وكدت أفقد حياتي مقابلها. كان ما يحدث حولي فيلم، وكنت أنا أحد المشاركين فيه. هكذا، كانت رواية “الغرانيق”، تسجيل لما عشته.

في طرف دمشق الغربي، يوجد كراج مواصلات لنقل المسافرين إلى البلدات المجاورة. على طرف الكراج، تواجدت “براكات” البضائع المهربة. يجلس أمامها عناصر المافيات المسلحون يدخنون النارجيلة، يبيعون، ويراقبون الأوضاع الأمنية. على الأرصفة، يتنقل المسافرون بين الحواجز الأمنية، مذعورين من اعتقالهم حتى من دون سبب. تبعد داريا حوال 3 ـ 4 كيلومترات عن الكراجات، وكانت الحوامات تلقي البراميل المتفجرة عليها دون توقف. تهدر أصوات الانفجارات عالياً، وتهتز الأرض معها، وترتفع عواصف الغبار عالياً، تتهدم البيوت، ويموت أهاليها. المسلحون يتفرجون على “فيلم” مستمتعين بموت “الإرهابيين”، والناس البسطاء يفكرون بالوصول سالمين على بيوتهم، دون اعتقال، أو طلقة قناص غادرة. كنا نعيش في فيلم، ونشاهد فيلماً أخر، يجري أمامنا. وسيكون هذا فصلاً من أكثر الفصول مأساوية في رواية “داريا الحكاية””.

كوابيس الموت..

عندما وصلت إلى ألمانيا، كانت تراودني كوابيس الموت السورية كل ليلة بشكل وحشي. أستيقظ منها، وأنا أتصبب عرقاً. وفجأة أجد نفسي بأمان في شقة مريحة وأمنة، فأنا في ألمانيا، ولست في سورية. أخرج إلى الشرفة، وأنا أحمل كوب شاي. أتأمل البيوت الأنيقة، والحدائق الجميلة، والشوارع النظيفة… لكن لا يوجد أناس. يمضي الوقت طويلاً وثقيلاً، لا أشاهد أحداً. الألمان يذهبون على أعمالهم صباحاً باكراً، ويعودون إلى بيوتهم مساء، وينامون باكراً. بالمقارنة مع الشرقيين هم منغلقون اجتماعياً كنمط حياة. وهكذا أتخيل فجأة إنني أعيش في مدينة دون أناس، في عالم دون أناس وحيداً.

أسال ابنتي ذات العشرين عاماً “هل تفضلين العيش في مدينة بين أهلك وأصدقائك، رغم المجازر والاعتقالات والموت الذي يحوم حولها، أم تفضلين العيش في مدينة مرفهة وآمنة، لكن بدون أناس فيها؟”. تجيبني سريعاً “أبي مستحيل، أريد أن أعيش مع الناس، مهما تكن الظروف”. سأكتشف أن الحياة دون أناس هو كابوس حقيقي. هكذا، تشكلت رواية “الغابة السوداء”.

كتبت فصلاً جميلاً عن مُهجر، مصاب بصدمة حرب، فقد ذاكرته، وفقد وثائقه، وانقطع عن العالم بغياب أي وسيلة اتصال. لا يعرف أين هو، ولماذا هو وحيد. كان فصلاً سوريالياً غريباً، قرأه بعد الأصدقاء، بمتعة. ثم ماذا سألوني ” وبعد ذلك، ماذا ستكتب؟”. ستتدافع الهلوسات من اللاوعي بطريقة فاجأتني أنا نفسي، وتصبح أشباحاً، وجعلت بطلها يدور في متاهة محاكاة. وكانت “الغابة السوداء”، ليست فقط ردة فعل ضد كوابيس الحرب، التي يحملها المهجر في وعيه ولاوعيه، بل وكانت أيضاً تعبيراً عن فقدان القدرة على التواصل مع مجتمع غربي منغلق بالكامل اجتماعياً، وبارد عاطفياً. ورغم احترام حقوق الإنسان وحريته في الغرب بطريقة مذهلة، حيث يُعامل بها المهجرون مثل أي مواطن أوروبي، إلا إن فقدان الدفء والحميمية الشرقية هي التي تمزق أرواحنا نحن الشرقيين.

هكذا أتابع تسجيل “الحكاية السورية” في المنافي، بضمي المتكلم الأنا”. وقد أنجزت حالياً رواية سادسة، وسابعة أضع عليها اللمسات الأخيرة، وأبحث عن ناشرين لهما.

الأدب لا يغير العالم، لكن يجعل الإنسان شفافاً بمشاعر إنسانية، تجاه الذات وتجاه الآخر. يجعله يكتشف قيمة الحياة الإنسانية، بتفاصيلها اليومية، ويحترم كل لحظة من الوجود الإنساني. الأدب يعلمنا أن نحب الجميع، ويفتح أرواحنا على عوالم إنسانية أكثر رحابة. ولهذا مستمر أنا في الكتابة”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة