6 أبريل، 2024 8:17 م
Search
Close this search box.

اغتراب الكاتب/ة (26).. الكتابة ليست ترفاً، الكتابة فرص حيوات لا تنتهي 

Facebook
Twitter
LinkedIn

خاص: إعداد- سماح عادل

قد تصبح الكتابة خلاصا للروح التي أنهكتها الحياة اليومية الواقعية بتعقيداتها وتشابكاتها وصراعتها، حين يضمن الكاتب قطعا صغيرة من روحه داخل نصوصه، لتتجلي، تلك القطع، تلك التجارب التي عاشها الكاتب، ويتفاعل معها القاريء بشكل إنساني، وربما يتماهي معها.

هذا الملف عبارة عن آراء كاتبات وكتاب من مختلف البلدان وقد وجهت إليهم الأسئلة التالية:

1. هل شعرت بأنك مختلف منذ فترة الطفولة وشعرت بأن ميلك إلى الكتابة هو سبب اختلافك؟

2. هل عاملك الأهل داخل الأسرة كأنك غريب عنهم أو لا تشبههم، وكيف كان تقبلهم لميلك إلى القراءة والكتابة؟

3. هل كنت تفضل الانعزال عن المحيطين من أفراد الأسرة وهل سبب لك ذلك الانعزال الشعور بالغربة عنهم؟

4. هل كنت تتمني أن يتعامل معك الأهل والمحيطين بشكل مختلف؟

5. هل أنت نادم علي شغفك بالكتابة والقراءة وهل كنت تتخيل حياتك بدون الكتابة؟

الكتابة خلاص للروح..

“عمر الشيخ”، شاعر، كاتب صحفيّ سوريّ. وُلد عام 1987، يعيش في قبرص منذ عام 2015. يكتب في الصحافة العربيّة منذ عام 2007. صدرت له أربع مجموعات شعريّة؛ وهي “سمّ بارد” 2008، “متى أصبح خبراً عاجلاً؟ 2010، “مباشر من جزيرة المونتاج” 2014، و”قبل أن تمتلكَ الأرض” 2019.

يعمل الشيخ في الترجمة من وإلى اللّغة اليونانيّة، يتعاون كـ كاتب صحفيّ مع عدد من الصحف مثل “العربي الجديد” و”القدس العربي” وبعض المواقع الإلكترونيّة مثل “المدن” و”الناس نيوز” و”صالون سوريا”.

وعن ملف “اغتراب الكاتب-ة” مع محيطه العائليّ والمجتمع القريب منه، كانت لي هذه الوقفة مع “عمر الشيخ” عبر الحوار التالي:

• هل شعرت بأنك مختلف منذ فترة الطفولة وشعرت بأن ميلك إلى الكتابة هو سبب اختلافك؟

عندما كنتُ في السّابعة من عمري، بدأتْ تتشكّل الصّور الذهنيّة عندي للعالم والمحيط وبدأتُ أدركُ أنّني جزء من هذا المحيط، وتتعلّق تلك الصّور بشكل مباشر بأهميّة المكانة الاجتماعيّة التي أبغي تعميرها كي تتبلور من خلالها شخصيتي كـ “كاتب”.

وكان ذلك – حسب ما أذكر- من باب قراءة الشّعر، أولاً، ثمّ كتابتهُ، ثانياً؛ حتّى كبرتْ في داخلي رغبة قويّة بالتعبير عن نفسي ووجودي وهي أن أكون شاعراً وكاتباً صحافيّاً.

بالفعل حاولت نشر قطع أدبيّة في بعض منابر الهواة بين عامي 2006 و2008، ثم حسمتُ أمري وأنا أدرس في الثانوية الصناعية الأولى “تقنيات إلكترونيّة” في دمشق بين 2003 و2005، بأنّني لن أكون سوى شاعر!

طبعتُ كتابي الأول “سمّ بارد” عام 2008 في دمشق ودخلت الأجواء الثقافيّة والصحافيّة، وبدأت وحدي العمل في الكتابة. كنت منعزلاً في عائلتي، الكبيرة نسبياً، منذ البداية، حيث كنّا في منطقة من سكن المخالفات، قرب العاصمة، كان ذلك عام 1997، كان عمري حينها عشر سنوات.

كنتُ الولد التاسع بين ستة أولاد وخمس بنات. كنتُ أقرأ كثيراً وحدي، ولا أهتم للأحاديث التي كانت تدور بخصوص الدّروس التي أقصّر بها دائماً، وبخصوص الصراع بين أهلي فيما يخص المصروف والعادات والتقاليد، كنتُ أتألم من التعنيف الذي أتعرض له في أسرتي ومدرستي، مثل معظم أطفال سورية، كان ثمّة (الضرب) بقصد فرض السلطة والهيبة، لأنّنا تربّينا بناءً على نظام عسكريّ (…) وذلك ما لم أفهمه حتّى الآن، أن يكون العُنف لغة تربية أسريّة ومدرسيّة!

ذهبتُ إلى الشّعر لمواجهة الألم، حيث جمال اللّغة، الفُرص الدائمة للحلم. بحثتُ عن منابع الكتب في الطرقات وكنتُ أستعيرها مقابل خدمات تنظيف أو توصيل طلبات منزليّة، أو أحياناً أشتريها إذا كانت ميزانيتي كمراهق في الثالثة عشرة من العُمر، تسمح بذلك.

الاختلاف مع العائلة كان نابعاً من نوعيّة الأسئلة التي كنت أطرحها، على ما أذكر، مثلاً لماذا نشاهد التلفزيون ولا نقرأ الكتب أو حتى الصّحف؟ كنتُ أقف خلف تلفزيون “التوشيبا” 14 بوصة عام 1996، الملون في غرفة المعيشة، وأهلي مشدوهين يبدون مسلوبي الإرادة، يركزون في الشّاشة على شيء ترفيهيّ، وكنتُ لا أعرف ما السرّ ولكم أضحكني منظرهم!

مرّةً سألتُ أهلي عن سبب وجود صورة لابن الرئيس في بيتنا وهو متوفٍ، وكان مكتوباً تحت الصّورة “الشّهيد الركن الرائد المظليّ الفارس الذهبيّ…” علماً أن ابن الرئيس – آنذاك- لم يخُض أيّة معركة، ومات في حادث سيارة، لم نكن في حرب مع أحد! لا أعرف كيف أصبح لديه كلّ تلك الألقاب، وكنت أستفسر بشكل مباشر: هل نحن على قرابة معه، وكيف استشهد ولماذا نحزن على أحد لا نعرفه؟

وما كان يوجعني كمراهق يريد التواصل مع أبناء جيله هو السؤال عن سبب فصل الأولاد عن البنات في المدرسة، مطلع سنّ المراهقة، لا بدّ أن تكون المدرسة بشعة دون الفتيات؟

وهكذا، كانت تتداعى الأسئلة من باب المعرفة والاستغراب، ومن هناك كانت رغبة القول تطاردني؛ كيف سأقول ما أريده؟ رغم عدم اهتمام أهلي بي على المستوى الأدبي، ودعمي، كنت أبحث وأنقّب وأسأل وأعيش وحدي تقريباً في عالم من اللّغة والوحدة والشّعر والخيال، وبالتالي كان ميلي بالفعل هو سبب اختلافي عن عالم العائلة ومشاغلهم الحياتية والمستقبلية البعيدة كلياً عن مستقبلي ومشاغلي.

• هل عاملك الأهل داخل الأسرة كأنّك غريب عنهم أو لا تشبههم، وكيف كان تقبلهم لميلك إلى القراءة والكتابة؟

كانت معاملة أهلي في البدايات مبنية على ردّة فعل ساخرة بخصوص صمتي المستمر وعدم مشاركتي لكثير من أنشطة الأولاد في الحارة، كانوا يقولون “عمر لديه عالمه الخاص، وهو مفصوم فيه” رغم أنّي كنتُ ألعب بعض الألعاب بقصد الهروب من جو البيت وواجبات الدراسة.. كانوا يقلّلون من شأن اهتماماتي الأدبيّة والحياتيّة أيضاً، كان همّهم أن أنهي الثانوية وأن أتجه للمعهد المتوسط، بسبب مستواي المتوسط، ثم أذهب لخدمة الجيش الإجباريّة، وبعد ذلك أجد وظيفة ما أو أفتح محل لتصليح الإلكترونيات وأتزوج وأنجب أولاداً… إلخ! بينما كنت أواجه كلّ تلك القيود بالذهاب إلى السّينما والمسرح ومعارض الفن التشكيليّ وقراءة الكتب وحضور الأمسيات الأدبيّة، والتردّد على مقرات الصحف للبحث عن فرصة كتابة، وكذلك البحث عن مواضع الجمال في محيطي، كنت أتأمل كثيراً وأقضي معظم وقتي صامتاً بين الثالثة عشرة حتى التاسعة عشرة تقريباً من عمري.

ولكن حين بدأت الكتابة للصحافة، انتبه أهلي لي وأصبحوا ينادونني “الشّاعر الصحفيّ”، ولو كان ذلك بنبرة ساخرة، كنتُ أتفهّمهم جيداً، أشفق عليهم بسبب عدم استيعابهم لمسألة الأدب في التربية والحياة، كانوا قد ورثوا جهل التربية عن آبائهم، وكانت خبرات حياتهم لا تنحو باتجاه البحث في الإنسان والبحث عن سبب وجوده، أسئلة الفلسفة، أبواب العلوم الإنسانية، وغيرها من التفاصيل التي أحبّ، لأن موضوع الإيمان ووالاعتقاد- برأيي- كان يوقف عندهم شهوة الأسئلة والبحث.

ومنذ وقت طويل كنتُ أعتقد أن الشكّ والسؤال هما أساس المعرفة والنمو، وكنتُ أدرك ذلك منذ طفولتي، لن أكون مجرّد مراقب وتابع في الحياة، على كلّ المستويات، لا بدّ من التمرّد والتفكير وقول القصائد وكتابة المقالات والقراءات، لا بدّ أن أشارك في الحياة مهما كلّف الثمن، لا بدّ من الخوض في التجارب، حتّى لو وصلتُ إلى طرقات غير متوقعة، كلّ ذلك أظنه خبرات شكّلت مخزوني في القول والكتابة.

بينما الأهل بدأوا يستوعبون أن عالمي أصبح في الكتابة تماماً وكان ذلك عام 2008، فتغيرت نظرتهم وراحوا يحتضنونني ويقتنون كتبي ومقالاتي بكثير من الودّ والتقدير، ولو أنّهم في الأحوال العاديّة لا يقرأون كتاباً إلا ما ندر، لكن ذلك كان واجهة يتفاخرون بها أمام أقربائنا وحسب…!

• هل كنت تفضّل الانعزال عن المحيطين من أفراد الأسرة، وهل سبّب لك ذلك الانعزال الشعور بالغربة عنهم؟

لم يكن الانعزال خياراً، بل كان ضرورة للتركيز في النصوص والكتب والمراجعات التي كنت أحرّرها للصحف في مطلع العشرينات من عمري، وكذلك القصائد التي كنتُ أكتبها قبل أن تقضي عليّ من أعماقي وأطلقها ملكاً للعالم في الصحف والمجموعات الشعريّة!

كنتُ أعيش في غرفتي الخاصّة في منزل أهلي، لأمارس طقوسي في الكتابة والقراءة، كان أبي (رحمه الله) يسمح لي باستقبال الأصدقاء واستخدام الهاتف (لاحقاً اشتريت خطاً هاتفياً من ميزانيتي وأنترنت بسبب المشاكل..) والمكوث في البيت وتناول الطعام والمشاركة أحياناً مع العائلة بعض اللحظات وطلب الدفع للبيت لأني أصبحت “رجلاً” كما كانوا يقولون وهذا أمر طبيعي، ولكن فيما بعد تقريباً عام 2009، خرجت من بيت أهلي بقصد الحفاظ على مسافة أمان معهم دون الدخول بصراعات الاختلاف التي كونتها عن الحياة وطبيعة العيش وأولوياتي التي هي أن أكون متحرراً من الالتزام بالتقاليد والعادات، وسماع الكلمة والمشورة دائماً لمن هو أكبر منك (حتى لو كان لا يفهم شيئاً في الأدب وخيارات الحياة) لذلك فهمتُ أنّه من الضروريّ الانعزال والابتعاد عن بيت العائلة، ثمّ اتخاذ طرق تبادل الزيارات، كأنّ الكلمات والكتب والشّعر أصبحوا هم عائلتي الجديدة التي لن أتخلّى عنها أبداً وسأدفع ثمن خياري إلى النهاية.

بالنسبة لمفهوم الغربة مع العائلة، أعتقد أن الأمر كان طبيعياً لأن أسرتي لم تكن مهتمة بالأدب إطلاقاً، كان لدى أختي التي تدرس في علم النفس، بعض الكتب المثيرة في جامعتها وكذلك بعض الكتب الأدبيّة، ولكن لم نتناقش في حينها عن تلك الكتب، على عكس تطور العلاقة بعد عدّة سنوات، حيث نضجت أكثر، سافرت وتعلمت أكثر، ولم أزل.. اليوم أختي تلك هي الوحيدة من العائلة، تقريباً، التي أتبادل معها أفكاري وكتبي المفضلة وبعض التجارب ولأنها تعمّقت في علم النفس، باتت تقرأ أكثر وتؤثر في محيطها بشكل جوهري وملفت من خلال الاستشارات النفسية التي تقدمها، هي كانت تخفّف عني قليلاً غربتي بالمعنى الاجتماعيّ الأسريّ، وكذلك بالمعنى الفيزيائي بعد رحيل أبي وأمي عن عالمنا. هنا في قبرص، ثمّة غربة من نوع ما فقد الأصدقاء الذين تتسامر معهم الأفكار المشتركة والجدل، ولكن العائلة بكلّ الأحوال هي في منطقة القطيعة عن الأدب، هنا حولي وفي سورية، لذلك كانت الغربة حتميّة معهم بخصوص الأدب ومعظم القضايا المصيريّة في حياتي.

• هل كنت تتمنّي أن يتعامل معك الأهل والمحيطين بشكل مختلف؟

إنّ البيئة التي عشتُ فيها كانت خصبة لجهة التجارب اليومية والحياة القاسية، العلاقات الاجتماعية فيها مبنية على المودة أحياناً، والطبقية أحياناً أخرى، أو مبنية على المصالح المتبادلة أو العائلية بالمطلق.. كانت بيئة مستمرة في تحدياتها، لم يكن ثمّة ترف يذكر على مستوى البحث عن استقرار المعيشة والعمل والاهتمام بالآخر، ومن هناك نبع الاختلاف، كل منا له عالمه.

حين خرجت من بيت أهلي بحثاً عن بيت أستأجره، ورغبة مني بالاستقرار بعيداً عنهم كنت أتمنّى أن يحتضنوا كتبي وعالمي ويتقبّلونني، ربّما تأخروا قليلاً، لكن الأوان كان قد فات لأني كبرتُ وحدي.

مرة حضرت معظم أخواتي البنات حفل توقيع كتابي “مباشر من جزيرة المونتاج” عام 2014 في دمشق، احتفلوا بي كثيراً، وكنتُ أشعر أنّي مع أسرتي حقاً وأخيراً، وحبيبتي التي كانت معي، رغم رحيل ماما، كان أبي يقدّر كثيراً شعري ويحتضن كتبي ولو كان ذلك -أيضاً- متأخراً، لابأس، لا يوجد أيّة ضرورة ليكون المرء على وفاق دائم مع العائلة من أجل أفكاره، فهم فُرضوا عليّ ولكلّ واحد منهم عالمه الخاص الذي قد أقبله أو لا أقبله، مثلما سيرونني بالضبط سأراهم.

أحياناً صلة الرحم تفرض عليك احترامها طالما كان كلّ واحد منهم نقياً صادقاً وغير مؤذٍ. للأسف في عالم أسرتي كانت الصراعات تزدهر بعد رحيل أبويَّ، وقد تأثرتُ جداً بتلك الصراعات الماديّة القذرة عن الميراث المتواضع جداً؛ بيت العائلة، فعشنا القطيعة على ضفاف مؤلمة وكتبت قصيدة “قتلة بثياب العائلة”، واكتشفت الكثير من السلوكيات المخيفة لدى معظم أبناء العائلة، حاولتُ التخلّص من غضبي وحزني وصراخي أمام تلك الحالة المفروضة عليّ من أناس لا يشبهونني ولكنهم يشتركون معي بصلة الدمّ رغماً عنّي!

لا أعرف ما جدوى أن يكونوا قربي اليوم، كلّ فرد منهم يتمتع بأشياء قد تكون غير محببة لي أو قد يتبعون سلوكيات مؤذية في محيطهم وعلى مسافة صفر تماماً منّي ومن بقية أفراد العائلة.. سوف يبدون غرباء جداً، أو أعداء إلا قليلاً، ولعلّ القصيدة توضّح ذلك..

• هل أنت نادم على شغفك بالكتابة والقراءة وهل كنت تتخيّل حياتك بدون الكتابة؟

قلتُ مرّة عام 2012 أنّ الكتابة انقلاب حياة، كلّما كتبتَ أكثر تغيّرتَ ووُلد في دمكَ حلمٌ جديدٌ، كلّما هضمتَ تجربةً ما، وضعتَ في عربةِ رحلتكَ جوهرة ثمينة ستستبدلها فيما بعد بأوراق خام للكتابة..

لا يمكنني تخيّل عالمي بلا كتابة اليوم أو فيما بعد، رغم تعدّد المهن “التافهة” التي قمتُ بمزاولتها دون متعة لسدّ رمق العيش! أظنني مقبلٌ على ترك كلّ شيء والاعتماد بجنون على الكتابة والعيش للكتابة، وهذا ما سيكون هدفاً هذا العام.. والله أعلم!

عندما يكون المرء هو أفضل ناقد لعمله، ويتعامل مع نصوصه بعين الباحث عن الخاص والجميل والصادق؛ يمكن حينها فقط الاعتماد على الذات في تفكيك لحظات الكتابة قبل أن تصبح خميرة الأفكار جاهزة لتكون ملكاً للعالم.. يتداولها من يريد ويتأثر بها -على درجات مختلفة- كلّ الناس. في تلك اللّحظة بالضبط، يجب تذكر أنّنا جميعا نمثّل امتداداً لآلاف السنوات من البحث والمحاولة والكتابة والتنقيب عن الجمال وطرح الأسئلة وتجاذب الأفكار والجدل، فكيف لي أن أقوم بقطع تلك الصلة المدهشة للكشف مع الذات؟

أحياناً كثيرة أجلس لأيام أمام جملة في قصيدة ما، أشعر أنها لا تمثلّني بشكل تام، أنا لا أخترع شيئاً جديداً، كلّ ما أحاول فعله هو التخلص من أعباء التاريخ والعائلة ومخزون اللغة والتأثيرات الأخرى وترك القصيدة والنصوص أملاكاً كاملة للتجربة، وما لم تترك التجربة ندبتها الحقيقية في الروح، لا يمكن للقصيدة أن تنطلق نحو العالم كصورة ذاتية من حياتي… تنطلق؛ لعلّها تخفّفّ عن أحد ما في مكان ما، حزناً ما.. صراخاً ما أو حتى تترك ابتسامة لتلك الجملة التي ستكون قطعة من حياتي وقد تركتها تذوب في القصيدة من أجل خلاصي…

لم أفكر يوماً بالندم لأنني صرتُ كاتباً، ولن أفكر طبعاً، بعد قطع أشواط في التعلم والاستمرار، التعلم من الحياة وتجاربي وقول وتدوين ما يساهم في التخفيف من قسوة العالم التي أحاول بالتمرد والشّعر أن أجد حلولاً لتصبح أقلّ ألماً ووحشية وتصبح حياتي مُجدية ولو قليلاً!

(لارنكا – قبرص 20 فبراير 2023).

هنا أرفق بعض القصائد للتعرف قليلاً على التجربة:

قصائد لـ عمر الشيخ.

بثياب العائلة..

لا أحدَ يرفعُ الستارةَ،

الأدوارُ ذاتُها

منذ الخَلقِ.

يضحكون في الكواليسِ

يطرّزونَ الأكفانَ.

هنا أبٌ

هناك أمٌّ؛

وبينهما أخٌ…

أخٌ من الخيباتِ،

ذوّب الماءُ رئتيهِ.

يعتادُ الموتُ علينا

يجلسُ في كلّ زيارةٍ

على الذاكرةِ

لا يرفعُ الستارةَ لأحدٍ…

سيبدأُ المشهدُ الأخيرُ،

لم تصلْ مؤونةُ الدموعِ.

/

لم تُرفعَ الستارةُ،

رخامٌ يُثلجُ من حروفِ الراحلينَ.

رخامٌ ينقرُ على عيونِنا…

وفي الكواليسِ

هُم

ما زالوا يضحكونَ.

يذوّبون الماءَ لموتٍ جديدٍ،

يتعاونون بـ “تآخٍ”.

على القبورِ الثلاثةِ؛

علاماتُ الخشبةِ الماضيّةِ،

من سوفَ يصلبونَ اليومَ؟

الفصولُ لا تبدأُ هناك

في أرواحِهم

ربّما

الحياةُ أيضاً!

المطرُ يتلصّصُ على الأرضِ

هل غابوا؟

الشمسُ تتأخّرُ لبعضِ العُمرِ

و

الصقيعُ صديقُ الدّمِ

دمُهُمْ ذاتُهُ

في الكواليسِ

من يرفعُ الستارةَ

سوى موتٍ آخرَ!

رحّبوا معي…

صفّقوا معي…

لهؤلاءْ

هؤلاءْ الذين لا أعرفُ دمَهُمْ:

قتلةٌ

بثيابِ

العائلةِ…

________________

الذي اسمُهُ عائلة..

للقبوِ نباحُ خرابةٍ في جسدٍ،

نصفُ مترٍ من العتمةِ والحياةِ…

/

النباحُ؛

ليس فرحًا بالعائدين

ليس نداءً للأصدقاءِ…

/

النباحُ

يلّفُه حَبْلُ الأهلِ،

تحتْ؛

المرأةُ تنظّفُ رخامَ المساءِ

فوق؛

زوجُها ينقلُ أشياءَ الشرفةِ

من نباتاتٍ وكراسٍ ومللٍ…

الماءُ يرطّبُ الوقتَ،

يستولي على العليّةِ والضجرِ…

وأنا أكتبُ ظهيرةَ تموزَ

وأجسادُنا تقطرُ النهاياتْ…

/

الأنينُ يهبطُ في القبوِ

المرأةُ تنظّفُ الشيخوخةَ،

زوجُها يكفّنُ الوقتَ…

وحياة نصف مترٍ تحتْ

ليس أكثرَ من كلبٍ

يغنّي ليلةَ الميلادِ

مع ألعابٍ محطّمةٍ بلا أطفالٍ…

/

أردّدُ صوتَ القبوِ،

نباحًا مكتومًا

امــــــمّمّ

مثلَ كآبتي القديمةِ

من ظهيرةٍ إلى ظهيرةْ

لا أختلفُ عنه؛

هو في خرابةِ المسّتودعِ،

يدفنُه الحبُّ

وأنا على زاويةِ شرفتي

أغمضُ اللغةَ

أنبحُ معه، أنبحُ علينا…

/

كسادٌ في المظالمِ

لا يرافعُ أحدٌ عنّا،

كلانا تحت

وقلادةٌ تجمعُنا

عنقي تطوّقُه الرمالُ

ودموعُ الحيوانِ،

المغاسلُ، والخردواتُ،

والزوجان القاتلان…

إنّهم يحسنون قيامةَ الألمِ

في كلِّ يومٍ

تحت، فوق، وبيننا

في كلِّ مترٍ مربّعٍ من الدمِ

يصنعون الألمَ الذي اسمه عائلة.

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب