خاص: إعداد- سماح عادل
الكتابة ملاذ وملجأ، مكان للبوح الآمن، ومرآة تنعكس عليها ذات الكاتبة، ومشاعرها، وأفكارها، الكتابة تخرج ما بداخلنا من طاقات، وتحتمل حزننا وهمومنا، وتشاهدنا ونحن نتخيل لحظات نرسمها بسن القلم للتحرر والتمتع بالفضاء الرحب.
هذا الملف عبارة عن آراء كاتبات وكتاب من مختلف البلدان وقد وجهت إليهم الأسئلة التالية:
- هل شعرت بأنك مختلف منذ فترة الطفولة وشعرت بأن ميلك إلى الكتابة هو سبب اختلافك؟
- هل عاملك الأهل داخل الأسرة كأنك غريب عنهم أو لا تشبههم، وكيف كان تقبلهم لميلك إلى القراءة والكتابة؟
- هل كنت تفضل الانعزال عن المحيطين من أفراد الأسرة وهل سبب لك ذلك الانعزال الشعور بالغربة عنهم؟
- هل كنت تتمني أن يتعامل معك الأهل والمحيطين بشكل مختلف؟ .
- هل أنت نادم علي شغفك بالكتابة والقراءة وهل كنت تتخيل حياتك بدون الكتابة؟
الشخصية تتكون بالقراءة..
تقول الكاتبة المصرية “سماح عادل”: “أحببت أن أشارك في هذا الملف، رغم أنني من أعددته، لأن هذا الموضوع هام جدا، وقد عايشته وما زلت أعايشه.
شعرت أني مختلفة منذ طفولتي المبكرة، كان اختلافي يكمن في ميلي إلى العزلة، كنت أحب أن أجلس بمفردي وإن جلست وسط الأهل والأقارب كنت استمع وفقط، لا أشارك بالحديث، أتأمل من حولي، وأرصد تحركاتهم وأقوالهم وأفعالهم، وكنت أعيش داخل عقلي، كنت أشعر بذلك، أني أعيش داخل عقلي مع أفكار كثيرة تدور داخلي، لكني لا أستطيع أبدا أن أعبر عنها، لا أستطيع أن أنطق بكلمات أو أتكلم كثيرا.
وكان هدوئي وصمتي مسار سخرية من أمي وأخويا. كما أن ميلي للعزلة وعدم نزول الشارع لأي سبب، حتي ولو لشراء الحلوى لنفسي، كان يجعلهم يتندرون علي، وكنت لا أميل لمصاحبة الأطفال من عمري وإذا حدث ولعبت في الشارع ألعب وحدي واكتفي بالمشاهدة أكثر.
وتضيف: “لم اكتشف ميلي للقراءة والكتابة مبكرا، لكني كنت أحب المذاكرة وتعلمت القراءة قبل أن أدخل المدرسة، وكنت أحب أن أكتب رسائل متخيلة لقريب لي مسافر خارج مصر ولكني لم أرسلها أبدا. كما كنت أواظب علي قراءة جريدة الوفد كل يوم، حيث كان أبي يحرص علي شرائها كل يوم، لأن جدي أخو جدتي لأمي كان مناصرا لحزب الوفد، كنت أقرأ المقالات، ومواعيد عرض الأفلام وأخبار الحوادث قليلا، والأخبار. كنت ألتهم الجرنان من الصفحة الأولي للأخيرة، أجري لآخذ الجرنان من والدي ولا أتركه حتي أنهيه.
اكتشفت في الثانوية أن أمي كانت تقرأ مجلات نسائية، وكان لديها رواية لألبرتو مورافيا، والتهمتها، قراتها أكثر من مرة. ثم عرفتني صديقاتي في السنة الأخيرة للثانوية العامة علي روايات “عبير”، روايات مغرقة في الرومانسية، وكنت أخبئها داخل كتاب المدرسة حتي لا تراني أمي وأنا أقرأها، وحين اكتشفت الأمر أصبحت تعايرني به”.
وتواصل: “وفي الجامعة عرفني أصدقائي علي عالم الروايات، “الطيب صالح، صنع الله ابراهيم، والروايات المترجمة، وكنت التهم الرواية بنهم كبير، واشتركت في مكتبة قريبة من الجامعة كان اسمها وقت ذاك “مكتبة مبارك”، وكانت بمثابة كنز فتح بالنسبة لي لأقرأ منه واندمجت في عالم الروايات الساحر. وبدأ والديا يقلقان من هذا الميل للقراءة، وحاول أبي منعي من القراءة بدعوي أنها أشياء خطيرة لفتاة في عمر الشباب، لكنه فشل في فعل ذلك”.
وتكمل: “وبدأت كتابة قصص قصيرة في أيام الدراسة الجامعية، وكنت أعطيها لصديقة لي لتقرأها فقط، كنت أخجل أن أريها لأحد. ثم تجرأت مع التخرج والعمل وانتشار الإنترنت والمواقع التي تنشر للكتاب، وبدأت في نشر قصصي علي موقع “الحوار المتمدن”، وساعدني صديق لنشرها في مجلة الهلال، ووقتها فقط شعرت أني أريد أن أكون كاتبة.
كنت أتمني أن يتفهم أهلي حبي للقراءة والكتابة، عندما نشرت أول كتاب لي فرحت أمي وأصرت علي الاحتفاظ بنسخ منه، وكانت تفتخر أمام صديقاتها من الجيران بكوني أصبحت كاتبة. وظل أبي غير مهتم بما أفعله”.
وتؤكد: “لم أندم أبدا علي حبي للقراءة والكتابة، لأنها هي ما جعلت مني ما أنا عليه الآن، وانقدتني من الانجرار إلي طريق التفاهة أو التحول لامرأة لا هم لها سوي عمل المنزل وتربية الأطفال. وإذا عاد بي الزمان مرة أخري سأتمنى أن أكون كاتبة وسأقرأ بنهم وشغف شديدين، لأن المرأة في طبقتي ومجتمعي لا يتسنى لها عمل خبرات وتجارب كثيرة تبني وتثقل شخصيتها، لذا فالقراءة تمنحها تلك التجارب والخبرات الكثيرة، وتتعرف علي العالم من خلالها.
وحين أكتب أشعر أني أطير، اتجاوز الجدران التي تحتجزني بداخلها، أهرب من السقف الذي يحدد حركتي، أكون كما أحب أن أكون، فتاة حرة، لا يقمعها شيء، ولا يملي عليها أحد ماذا تفعل”.
الكتابة مكان آمن للبوح..
تقول الكاتبة المصرية “شيرين فتحي”: “نعم كنت أعرف منذ الطفولة أني مختلفة، لكني لم أدرك ماهية هذا الاختلاف، كنت متيقنة أنني أمتلك قدرات خاصة، لكنها مازالت خفية وقد تظهر في الوقت المناسب، كنت أسرح كثيرا بخيالي مع قدراتي الخارقة. أذكر وأنا في الصف الرابع الابتدائي وبينما كنت عائدة غاضبة في مرة من المدرسة بسبب شجاري مع بعض الأصدقاء، سمعت فجأة صوتا يهتف داخلي بألا أنزعج وأنني سآخذ ثأري من الجميع، وسأكون في يوم ما أهم شخص في هذا العالم وسيشير عليّ الجميع بالأصابع.
أتذكر الأمر الآن وأضحك لا أدري من أين جئت بهذا التيقن وقتها، ربما كنت أراضي نفسي بأفكار طفولية لأخفف من حدة غضبي. بالطبع لم تكن موهبة الكتابة ظهرت علي في هذا السن لكن كنت مميزة في فصلي بالقراءة السليمة والحفاظ على مخارج الحروف، حتى أثرت انتباه المدرسين فصاروا يفضلونني لقراءة الدروس.
كنت أؤلف الأغاني أيضا وأنا صغيرة، صغيرة جدا أعتلي المقعد وأقف في شباك الصالة أخترع كلمات وأغنيها مع العصافير المحلقة بالقرب من الشباك. وحين يلحظني أحد ويسألني ماذا تفعلين أخجل وأقول لا شيء. خاصة أني كنت أنسى الكلمات بمجرد خروجها. لكن الأمر كان يسعدني”.
وتضيف: “كتبت أول قصيدة وأنا في الصف الثاني الإعدادي. كانت خليطا من العامية والفصحى. كنت أحب سماع الأغاني القديم منها والحديث. بمجرد ما نشتري ألبوم أغاني جديد أبحث أول ما أبحث فيه عن كلمات الأغاني. كانوا يطبعون في أغلفة بعض الشرائط كلمات الأغاني الموجودة في الشريط. كان هذا الأمر مصدر بهجة خاصة بي. فأظل أحتفظ بالورق وأخشى عليه من التمزق الأغاني كانت بوابتي الأولى للكتابة.
كتبت الشعر رغبة في تقليدها. إلى الآن تأتيني لحظات نادرة أؤلف فيها الكلمات مغناة وملحنة أعتز بهذه اللحظات رغم ضياع الكلمات بسرعة أيضا، لكنها تظل من لحظات التجلي وصفاء الذهن النادرة. كان بيتنا يحوي الكثير من الشرائط القديمة والحديثة. شرائط “أم كلثوم وعبد الوهاب وفريد ونجاة وعبد الحليم حافظ” طبعا الذي ملت لأغانيه وحفظتها عن ظهر قلب”.
أذكر موقفا بمناسبة الحديث عن هذه الشرائط كان شريطا لأم كلثوم ظللت لسنوات أتهجى اسمه وأستغربه جدا ولا أفهمه كأنه مكتوب بلغة مطلسمة “سلوا كؤوس الطلا” لسنوات وأنا عاجزة عن فهم كلمة واحدة من العنوان، وهو ما جعلني أقاطع الشريط وأقرر ألا أسمعه أبدا. إن كان هذا حالي مع العنوان فما بالك بباقي الأغنية. وربما كان هذا أيضا أحد أسباب ابتعادي عن أم كلثوم واقتناعي أنها غير مفهومة رغم غرام أبي وأمي بها”.
تواصل: “لا لم يعاملني الأهل كأنني غريبة. رغم اعتقادي أنني ربما كنت غريبة الطباع منذ الطفولة. أكره الحديث مع الغرباء لدرجة بشعة. حين يأتينا ضيوف يجبرني أبي أن أسلم عليهم وأرد على أسئلتهم العادية المعتادة في لقاءات الأطفال، ولأني لا أعرفهم فغالبا لا أرد ولا ألتفت لأبي حين يغضب أو يجبرني على الرد بل أتمسك بالصمت أكثر، كانت أمي أكثر تفهما لتلك الخصلة. تعرف أني خجولة بطبعي لكني أعتقد أنه لم يكن خجلا فقط كان أقرب للرهاب الاجتماعي.
والغريب أنها لم تنهرني أبدا أو حتى تلفت نظري لكوني أبتلع لساني في بعض الأوقات وأمتنع تماما عن الكلام. ربما لأننا في يومنا العادي في البيت كنت لا أتوقف عن الرغي والكلام واللعب والشقاوة، امتلأ بيتنا أيضا بالكتب التي يشتريها أبي. ونظرا للمدينة الصغيرة التي نشأت فيها عانيت كثيرا من أوقات الفراغ فأماكن الخروج قليلة ومملة والبقاء في المنزل ممل أيضا.
فامتدت يدي للبحث في المكتبة عن أي شيء يقتل الملل، ومن هنا انسحبت لعالم القراءة والروايات والشعر لم يكن الأمر غريبا، فوالديّ طبيبان أي أنهما على درجة ثقافة معقولة تجعلهما لا يعتبران القراءة ظاهرة غريبة أو حتى ظاهرة من الأصل.
كان شيئا عاديا بالنسبة لي أن أفتح كتابا أمامهم وأقرأ. لكن لما بدأت أكتب لم يكن هذا شيئا عاديا أبدا خاصة عندي. بدأت أختلي بغرفتي أكتب وأحذف وأعدل وأشعر بمتعة لم أعرفها من قبل. لم أفكر حينها في عرض ما أكتبه عليهم. فقام الأصدقاء بهذا الدور. حتى اكتشف الأهل الأمر بالصدفة فخطفت الأوراق منهم وظللت لسنوات لا أسمح لهم بقراءة ما أكتب وكأنني أخيرا وجدت عالمي الذي يخصني وحدي”.
وتكمل: “لا أستطيع أن أقول أنني كنت أفضل العزلة طوال الوقت ولا أفضل التجمعات أيضا. ظللت أميل للاثنين معا أحب التجمعات مع الأهل والأصدقاء ثم أنعزل فجأة مع نفسي حتى وأنا بينهم وفي أكثر الأماكن صخبا. نعم أحب الناس واللقاءات الجماعية لكن العزلة هي بيتي ومأمني. وزاد هذا بالطبع من شعوري الأولي بالاختلاف والتميز ليس عن أفراد أسرتي فقط ولكن عن كثيرين من الناس، أعتقد أن الأمر ليس له علاقة بالغرور لكنه ربما راجع لطبيعتي وكوني شخصية كتومة لا تبوح بمكنونها بسهولة فوجدت في الورق والكتابة مكانا آمنا للبوح”.
وتتابع: “لا لم أتمن أن يتعاملوا معي بشكل مختلف. كما ذكرت سالفا لم تشعرني أمي أبدا بذلك على العكس كانت ترد نيابة عني حين أفضل الصمت أو تكمل حديثا قطعته فجأة. ولم تكن تتوان عن ذكر مميزاتي والتباهي بها أمام الجميع. ولا تنس في كل مرة أن تضيف أنني شقية ولست هادئة ومسالمة تماما كما أبدو أمام الغرباء، هذا بالنسبة للطفولة أما بعدما تزوجت وأصبحت أمّا لا أنكر أن الأمر اختلف وعوملت كثيرا على أنني شخص غريب الطباع غير مفهوم يميل للعزلة، فجأة ودون مبررات قد يكون في أكثر الأماكن صخبا ولا يسمع أو يرى أحدا. ربما اختلاف الطباع والثقافات.
كثيرون لا يفهمون أن الكتابة مهنة حقيقية تستهلك الكثير من الوقت والطاقة لدرجة تجعلك موجودا بين الناس وغير موجود. وأحيانا غير قادر على القيام بواجباتك الاجتماعية بأكمل وجه وبالتالي يوقعك الأمر في مشاكل أو لنقل على الأقل سوء فهم. البعض يفسر صمتك على أنك شخص مغرور أو قليل الاهتمام بمن حولك ومهما حاولت إظهار العكس لن تنجح. في النهاية قررت ألا أهتم كثيرا بآراء الناس خاصة حين أصبت منذ سنوات بالتهاب حاد في أعصاب يدي ورقبتي لدرجة أني توقفت عن الكتابة وكان هذا أمرا مميتا بالنسبة لي، نصحني الطبيب وقتها ألا اضغط نفسي بأي شكل من الأشكال وأن آخذ نفسي من يدها من أي مكان يضايقني وألا أتورط ولو بالحديث دون رغبة حقيقية في ذلك. بالطبع نصيحته لا تصلح في كل المواقف لكني حاولت تنفيذها قدر المستطاع. فكلما سحبتنا الكتابة في عوالمنا كلما قلت طاقتنا المتبقية للتعامل مع الناس”.
وتؤكد: “لا بالطبع لست نادمة على شغفي بالكتابة. خاصة مؤخرا حين مررت بالعديد من الأزمات الشخصية ولم يخرجني منها سوى الكتابة. ربما تجيبك إحدى الفقرات التي كتبتها في رواية لم تنشر بعد عن لسان البطل الذي كان مغرما مثلي بالكتابة، “مع الوقت استسهلت الكتابة واستعضت بها عن الكلام. لو تشاجرت مع شقيقي. لا أعنفه ولا أرد حتى على ضرباته، بل أكتب قصة. لو شعرت بالجوع أكتب قصة. لو حلمت بالحصول على لعبة جديدة أكتب قصة. عندما أحببت فتاة للمرة الأولى كتبت قصة. حتى حين رحل أبي لم أفعل أي شيء يومها سوى أنني كتبت قصة”. وهذا ما فعلته بالظبط بعدما رحلت أمي. لم أفعل أي شيء سوى أني كتبتُ قصة”.
الكتابة مرآتي الصادقة لذاتي..
وتقول الكاتب “عزة رياض”: “نعم شعرت بالاختلاف ووصفني به كثيرا من رفقائي على شكل آخر أنني غريبة الأطوار، لكن لم أكن تحسست طريقي بعد للكتابة، كنت أحب الإبداع عموما “الغناء، التمثيل، الرسم، القراءة” أما الكتابة فكانت على هيئة يوميات أدونها”.
وعن معاملة الأهل داخل الأسرة كأنها غريبة عنهم أو لا تشبههم، وكيف كان تقبلهم لميلها إلى القراءة والكتابة تقول: “كانت هناك معاملة مختلفة لتقلباتي المزاجية التي كنت أمر بها، لكن لم يكن اتضح لهم الأمر بعد أن كل ذلك بسبب هذا التفاعل الداخلي بيني وبين الحياة، الذى خرج في النهاية على هيئة كتابات سواء شعر أو قصة أو رواية”.
وعن تفضيل الانعزال عن المحيطين من أفراد الأسرة وهل سبب لها ذلك الانعزال الشعور بالغربة عنهم تقول: “في كثير من الأحيان وكان انعزالي على هيئة سفر أو أنني أجوب الشوارع والحارات أقابل غرباء لا يعرفونني ولا أعرف عنهم شيئا، ولكن شعوري بالغربة كان لنظرتهم لي انني لست مثل أخواتي. هناك دوما شيء ما يؤرقني”.
وعن تمني أن يتعامل معها الأهل والمحيطون بشكل مختلف تقول: “وقتها نعم كنت أريد أن أنعم بمعاملة أرغبها ، لكن الآن عرفت أن ما وصلت إليه، جزء منه فيما كنت عليه وما تعاملت به لأن تفاعلي معه أنتج جزء كبير من منجزي الأدبي”.
وعن الندم علي شغفها بالكتابة والقراءة وهل كانت تتخيل حياتها بدون الكتابة تقول: “أبدا ولو للحظة واحدة فالكتابة هي مرآتي الصادقة لذاتي ووجداني ومشاعري التي طالما عجزت عن التعبير عنها، واعتقد أن حياتي بدونها كانت ستحولني لشخص يحارب طواحين الهواء بدون جدوى ولا آثر “.