خاص: إعداد- سماح عادل
قد يكون أحد أسباب اغتراب الكاتب عن المقربين له هو ندرة القراءة في مجتمعاتنا، واعتبار القراءة عادة ليست منتشرة عند الجميع، وأيضا عدم الالتفات لقيمة ما يكتب حين تكون علي معرفة شخصية بالكاتب، فقد يقدر الناس كتابات الآخرين ولا يهتم بكتابة أحد يعرفه. وهناك سببا أخر هو كون الكتابة ليست مهنة لها عائد مادي، وكونها ليست وسيلة للترقي المادي والاجتماعي.
هذا الملف عبارة عن آراء كاتبات وكتاب من مختلف البلدان وقد وجهت إليهم الأسئلة التالية:
- هل شعرت بأنك مختلف منذ فترة الطفولة وشعرت بأن ميلك إلى الكتابة هو سبب اختلافك؟
- هل عاملك الأهل داخل الأسرة كأنك غريب عنهم أو لا تشبههم، وكيف كان تقبلهم لميلك إلى القراءة والكتابة؟
- هل كنت تفضل الانعزال عن المحيطين من أفراد الأسرة وهل سبب لك ذلك الانعزال الشعور بالغربة عنهم؟
- هل كنت تتمني أن يتعامل معك الأهل والمحيطين بشكل مختلف؟ .
- هل أنت نادم علي شغفك بالكتابة والقراءة وهل كنت تتخيل حياتك بدون الكتابة؟
الكشف عن مكامن النفس البشرية..
تقول الكاتبة التونسية “هدى الهرمي”: “طبعا شعرت بأنني مختلفة منذ الطفولة وفي سنّ مبكّرة بحكم شغفي الكبير بالمطالعة والكتابة، واعتقد أنني كنت محظوظة بوجود عناصر شتّى ساعدتني في صقل هذه الموهبة بدءا بمعلمتي الأولى في المدرسة الابتدائية ووالدتي التي كانت حريصة جدّا على تعليمي حروف الأبجدية وإتقان الكتابة سواء باللغة العربية أو الفرنسية، ومن ثمّة حرّضتني على القراءة واكتشاف قصص الأطفال لتلهمني الكتابة”.
وتضيف: “صراحة أسرتي شجعتني على الكتابة والغوص في عوالم الأدب منذ طفولتي ولم يعاملوني على أنني غريبة عنهم، لكن لا أنكر أن البعض من الأهل استغربوا هذا الأمر خصوصا أنه لم يسبق لأحدهم هذا التوجّه الأدبي الصرف. طبعا الهوايات كانت تختلف من فرد لآخر داخل الأسرة الواحدة، والمهمّ بالنسبة لي كان قبولهم وإعجابهم بموهبتي بدون اعتباري غريبة عنهم بل بالعكس، كانوا فخورين بذلك وتقبلوا الأمر كهواية مع عدم أخذه على محمل الجدّ، نظرا لشغفي بالرسم بالتوازي مع الكتابة”.
وتواصل: “فعلا كنت ألوذ إلى العزلة أغلب أوقات فراغي حتى يتسنّى لي ممارسة هوايتي المفضلة بكلّ حريّة وبدون أيّ إزعاج، خصوصا أن القراءة تتطلب التركيز بمنأى عن الضجيج، لذلك كنت حريصة على الانعزال عن أفراد أسرتي أو بالأحرى الانتقال إلى عالمي الخاصّ دون أي تشويش خارجي يعكرّ مزاجي ولهفتي للقراءة أو الكتابة على حدّ السّواء. لكن أقرّ أنه في مرحلة ما، خصوصا في عمر اليافعين، بدأ يغلب الشعور بالغربة عن عائلتي وعن الآخر. ربما لأنني أدركت مع الوقت أن رؤيتي للوجود بدأت تتغيّر مع يقظة الشعور والنضج المعرفي، وقد بانت آثار ذلك حتى على شخصيتي فيما بعد”.
وتؤكد: “صراحة لم أندم ولو للحظة على هذا الشغف الذي استحوذ علىّ باكرا، فانغمست في عوالم الكتابة والقراءة المتّسعة والخلاّقة، ممّا أثّر على حياتي كرافد أساسي للمعرفة والتحليق في آفاق أرحب فكريا وجماليا. لذلك لا أتخيّل حياتي بدون الكتابة التي صقلت ذاتي المبدعة وجعلت لحياتي معنى جوهريّ ومنحى مختلف عن السائد، بذلك الإدراك والانفتاح على الوجود في شكله الحسيّ والكشف عن مكامن النفس البشرية من خلال اللغة وتشكّلها في نصوص أدبية بمختلف أجناسها”.
عمر الكاتب ما كتبه..
ويقول الكاتب الجزائري “محمد حيدار”: “قد يأتي هذا الشعور نتيجة خاصية الانكفاء وكثرة التفكير والميل إلى العزلة، أي الانصراف إلى النظري، أكثر من الاهتمام بالواقعي، والانصراف إلى النظري يجد ترجمته في الهروب إلى الكتابة كملجأ وكمجال للتفريغ، ومن هنا يصبح الميل إلى الكتابة سببا للاختلاف”.
وعن معاملة الأهل داخل الأسرة كأنه غريب عنهم أو لا يشبههم، وكيف كان تقبلهم لميله إلى القراءة والكتابة يقول: “ليس غريبا بل قد ينظرون إليك كشخص له عالمه الخاص، الذي قد يبعث على الغرابة أحيانا، لاسيما حين تحضرك الفكرة فتسرع إلى القلم لتدوينها خوفا من نسيانها، وهذا قبل أن يتاح جهاز النقال فيصبح وسيلة للتدوين، أما تقبلهم لميلي للقراءة والكتابة فهو أمر عادي مع الوقت، بحكم تعودهم على ذلك منك منذ أيام الدراسة”.
وعن تفضيل الانعزال عن المحيطين من أفراد الأسرة وهل سبب له ذلك الانعزال الشعور بالغربة عنهم يقول: “لم يحدث، لأنني قد أكتب منعزلا عن الناس، وأيضا لا يشغلني الضوضاء عن الكتابة إن حضرني شيء أريد تدوينه وأخشى نسيانه، لكن يبقى دائما وجودي على انفراد، أثناء الكتابة، أفضل، لأن هذا الوضع يسمح بالتركيز وعدم تشتت الفكر”.
وعن تمني أن يتعامل معه الأهل والمحيطون بشكل مختلف يقول: “لا، لأن وجودهم ليس مزعجا أبدا، وليس له أي تأثير سلبي على عملي الإبداعي، بل هم، على النقيض من ذلك، قد يناولونك فنجانا من القهوة أو كأسا من الشاي ويتركونك وشأنك”.
وعن الندم علي شغفه بالكتابة والقراءة وهل كان يتخيل حياته بدون الكتابة يقول: “لا، لست نادما على شغفي بالكتابة والقراءة، لاسيما زمن التقاعد فهما المهرب من الفراغ، ثم إن الكتابة نوع من الإدمان يترسخ بمرور الوقت ولا يمكن لمن يتعاطاه الفكاك منه حتى ولو حاول، ومن ثمة ليس في استطاعة الكاتب أن يتخيل حياته بدون كتابة وخصوصا الذي أمضى معظم عمره معها، فهي عمره الحقيقي، وقد أعجبتني كلمة قالها الكاتب المصري “أشرف أبو اليزيد” منذ أيام فقط وهي: «إن عمر المبدع لا يقاس بالسنين بل بعدد مؤلفاته» وقد صدق، فحياتك لا تتجدد إلا من خلال ما تبدعه، وتتميز سنوات صدور إبداعاتك بكونها علامات بارزة في كرونولوجيا حياتك التي أصبحت الكتابة هي العنوان الأبرز في صلتك بها”.
تبخيس الكتابة..
وتقول الكاتبة السودانية “إكرام عبد الله بركيه”: “المعروف أن مرحلة الطفولة المبكرة هي أهم المراحل حيث تتشكل فيها القدرات النفسية والمعرفية لأي طفل، والتمايز الفردي في المرحلة المبكرة أي في مرحلة الطفولة لا تكون غربة، بل نوعاً ما مبهجة للأسرة وتأخذ شكل التباهي ومحفزة للطفل الموهوب. وإن كانت البيئة حسب تطورها في نسبة الوعي والمعرفة أو اختلافها (مدينة أو ريف)، تساهم بشكل كبير في استيعاب تميز الطفل، واحتواء نقطة تفوقه أو ابداعه الفطري أو المكتسب.
ففي كل تجمع إنساني نجد من يحمل بذرة الإبداع، تتحكم عوامل شتى في تطور هذا الإبداع أو نضوبه. عموماً المجتمعات الحضرية أكثر استيعاباً في تبني وصقل الموهبة للطفل فيجد فرصته في العبور بها”.
وتضيف: “نشأت في بيئة ثرية بالتراث والثقافة الشعبية المحلية، وسط عائلة ممتدة وبيئة جغرافية تغلب فيها الخضرة على ضفة النيل حيث المساحات الشاسعة للحقول والبيوت الواسعة، أتاح لي هذا اللعب الحر دون قيود. أظن أن شغفي للقراءة بدأ مبكراً، دعم هذا الشغف أن والدي رحمه الله كان قارئاً جيداً، وبدأ بحكم اغترابه في المملكة يهتم بطلب كتب الأطفال حتى من بيروت وإرسالها لنا في القرية، لأنّ الكتب حينها كانت شحيحة وغير متوفرة إلا لدي أفراد قادمين من العاصمة أو من مصر. “كنت أركض خلف ورقة صحيفة تطير بفعل الريح وأقبضها”.
في مرحلة الصبا ارتباطي بخالد زاد شغفي بالقراءة كثيراً، فقد كان قارئاً نهما وبثقافة نادرة وبمكتبة كبيرة أتاحت لي القفز من قراءة كتب الأطفال والمجلات المصورة لقراءة الكتب الفكرية والأدب العالمي، وما زال شغفي بالقراءة يتمدد ولا ينضب”.
وتواصل: “ممارسة الكتابة بشكلها المعروف لم تبدأ إلا متأخراً، رغم وجود تلك البذرة الكامنة التي دلت عليها مواضيع الانشاء في المدرسة، ثم بدأت علاقتي بخالد في عمر مبكر بدأنا بتبادل الرسائل ساعدتني لغتي وقدرتي على التعبير في كتابة رسائل جميلة (احتفظ برسائلنا حتى الآن).
بعدها كتبت كثيراً قصص لم تنشر أبداً، حتى ظهرت وسائل التواصل وخاصة الفيس بوك، تجرأت ونشرت أول قصة لي كانت عن ثرثرة طفلة في رحم أمها وعند الولادة، لاقت القصة تفاعلاً كبيراً، هذا التفاعل حفزني لمواصلة الكتابة، ومنها بدأت نشر كل قصصي. وتعرفت على الأدباء والصفحات الأدبية وساعدني هذا كثيراً في تطوير اللغة والسرد”.
وتتابع: “على مستوى الأسرة كان دعم زوجي خالد رحمه الله كافياً لي، لأنه كان شاعراً وأديباً كما قلت، ومارس الكتابة مبكراً، بعدها أولادي بشكل أقل حماساً، لكني اكتفي بأنهم يدركون قيمة ما أكتب لشغفهم بقراءة الأدب منذ صغرهم.
أما الأصدقاء فقد وجدت دعماً كبيراً لحد أن إحدى صديقاتي ذهبت من دبي لمعرض أبو ظبي لتشتري روايتي، لذا أعتقد أن احساسي بغربة الكاتب كانت أقل، ولكنها لم تكن معدومة، فغربة الكاتب ليست في عدم تقبل ممارسته للكتابة كشكل من أشكال الإبداع الإنساني فقط، لكن في تبخيس قيمة الكتابة حين تمارسها أنت، بمعني يمكن أن تجد في ذات الشخصية القريبة منك، والتي لا تحب شخصيتك ككاتب شغف بالقراءة، فهو يقرأ منجز الآخرين حتى وإن كانت أقل قيمة مما لديك (سامر الحي لا يطرب) وحينها لن يلتفت لمنتجك الخاص، إلا حين تنال جائزة ما أو حين يرى تهافت من له قيمة ثقافية أو علمية على كتبك .
غالباً الاحساس بالغربة نتاج أن غالب المحيط الاجتماعي الآن لا يقرأ، وإن حصل فهي ليست قراءة يمكن أن تخلق مجال تواصل فكري مشترك ولابد أن الكاتب يكابد ويعاني في توصيل فكرة أن ما يقوم به شيء نافع وليس مضيعة للوقت .
الأمر الآخر هنا أن الكتابة ليس من ورائها كسب مادي إلا فيما ندر، بل يجب على الكاتب أن ينفق على منجزه لينشر، وهنا تتوقع الأسرة أن المال هذا كان يجب أن يستثمر في أمر مفيد للأسرة حتى وإن كان شراء مفرش جديد للغرفة. (أحياناً أتحايل بذكر عائد مادي متوقع كي أنال الدعم المعنوي وهذا مرهق جداً) “.
وتكمل: “العزلة بمعناها البسيط ترف غير متاح لغالب الكُتاب حتى إن سعى لها، فعزلة الكاتب تتيح له التفرغ لإبداعه، وهو في عزلته يعيش مع عالمه الخاص يحادث شخوص سرده وينفعل معهم، وخاصة عزلة القراءة أظن أنها غربة حلوة لا أرفضها”.
وتؤكد: “نعم تمنيت كثيراً أن أرى اللهفة لقراءة ما أرسله في مجموعات الأسرة والأصدقاء، أحياناً لا تجد حتى إشعار (مقروء) على ملف قصة او رواية أرسلتها لمجرد أن تجد رأيا تستند عليه في تقييم السرد أظن أن هذا مجحف جداً في حق الكاتب، فالكتابة عمل شاق فيه الكثير من العصف الذهني والنفسي “.
وتفصل: “لن أندم على شغفي بالقراءة لأن من يقرأ يرتقي بفكره وحياته، أنا لا أنام إلا وأنا أقرأ كتاباً، متعة القراءة كمن يحمل حقيبة ظهر ويتجول في أشهر المعالم السياحية في العالم.
أما الكتابة فهي عشقي ولا أتخيل أن أعتزلها بإذن الله مع أني لم أنشر إلا رواية واحدة رغم أن لدي ثلاثة مخطوطات جاهزة لم تنشي . أتمنى أن يتعافى الوطن قريبا ويطيب ويبقى
مكان السجن مستشفى
ومكان المنفى كلية
ومكان الطلقة عصفورة
تحلق فوق نافورة
تمازج شفع الروضة ..
وحنبنيه البنحلم بيه يوماتي
(شاعر الشعب محجوب شريف)
أخيرا أشكر الأستاذة الصديقة التي أتمنى أن أقابلها يوما “سماح عادل” على هذا الملف الحيوي”.