خاص: إعداد- سماح عادل
قد تكون الكتابة مهربا لمن يعاني من ظروف صعبة وقاسية، فيهرب من واقع موحش بالكتابة، ليحاول الإجابة عن أسئلة مؤرقة قد لا يجد الإجابة عليها أبدا، ويقوم بتفريغ شحنات الألم والحزن والفقد.
هذا الملف عبارة عن آراء كاتبات وكتاب من مختلف البلدان وقد وجهت إليهم الأسئلة التالية:
- هل شعرت بأنك مختلف منذ فترة الطفولة وشعرت بأن ميلك إلى الكتابة هو سبب اختلافك؟
- هل عاملك الأهل داخل الأسرة كأنك غريب عنهم أو لا تشبههم، وكيف كان تقبلهم لميلك إلى القراءة والكتابة؟
- هل كنت تفضل الانعزال عن المحيطين من أفراد الأسرة وهل سبب لك ذلك الانعزال الشعور بالغربة عنهم؟
- هل كنت تتمني أن يتعامل معك الأهل والمحيطين بشكل مختلف؟ .
- هل أنت نادم علي شغفك بالكتابة والقراءة وهل كنت تتخيل حياتك بدون الكتابة؟
عزلة واكتشافات..
يقول الكاتب والناقد الفلسطيني “سليم النجار”: “عندما كنت طفلاً صغيرا خمسة أعوام أو ستة أعوام، على ما أذكر، نظَّمتُ مسابقة في رأسي، مسابقة لتحديد أعظم قصّة قصيرة في العالم أو هكذا اعتقدت. كنت أقضي معظم الوقت، صعوداً ونزولا إلى غرفة النوم الثانية في بيتنا، في مدينة الفحاحيل، وعلى وجه التحديد في حارة سوق الصباح، وهي حارة تقع على بعد أمتار من البحر. أقرأ في ذهني، كما كنت أفضل، لم تكن والدتي امرأة تسعى لمنعي من هذا السلوك الذي عجبها، وتعاملتْ معه بإعجاب، خاصّة أنّى كنت طفلا مشاكسا، وأختلق المشاكل مع أقراني.
أنا لا أتحدّث هنا عن التأثير الخبيث للكتب التي أقرأها، بل أتحدّث عن حالة مزاجية لا تثق بالحياة العامة، أو تعتبرها مجالا يفتقد فيه التعميم إلى الدّقة، وأجد فيه الحقيقة الجزئية محلّ الصراحة والإفصاح المشحون بالبوح. لقد كنت مهيّأً في هذه الفترة رغم صغر سنّي، لرؤية التعالي في نظرات أقراني، الذين يعتبرون سلوكي غير مستساغ بالنسبة لهم، طفل يقضي معظم وقته في القراءة!.
وجدت نفسي بعد سنوات في المكتبة العامّة التي أنشأتْها بلدية الفحاحيل، واللافت في ذلك الزمن، أنّي كنت وحيدًا فيها، ومعي بعض الموظفات. يوجد في المكتبة (تكييف مركزي)، وهذا الشيء الذي لم أكن أعرف اسمه، ولم تكن بالنسبة لي هذه المعرفة مهمة، بقدر ما أنّه يجعل الجوّ جميلا، بدل “المكيف” الموجود في البيت، والذي يصدر صوتا مزعجا، لكن لا يمكن الاستغناء عنه، في ظلّ جوٍّ تصل درجة الحرارة فيه إلى 50.
بدأ الصراع عندما عدت إلى المنزل للاحتفال بأوّل زيارة للمكتبة العامّة. وبدأت الاشتباكات مع أهلي بشكل مستغرب عندي، عندما بدأت أمارس دور الأستاذ عليهم، وكانت والدتي رحمها الله تخشى عليّ من التحوّل إلى دكتاتور على شقيقاتي الأربع، وحاولتْ جاهدة الحدّ من هذا الجموح، والدي من جانبه كان متواطأً معها”.
ويضيف: “بدأت أتخلّص من هذا الشعور الكارثي، شيئاً فشيئاً، بعد أن تعرّضت لكارثة لم أتخلّص من آثارها حتّى يومنا هذا، ولا أعتقد حتّى آخر يوم في حياتي أن أمتلك القدرة على تجاوز تداعيات هذه الكارثة المأساوية. بشكل غير متوقَّع فقدت أخي سمير، بعد أن سقط من (الفرندا) في الدور الثالث حيث موقع منزلنا، هذه الكارثة، علّمتني درسا لن أنساه، ما حييت، فأهالي حارتنا يومها، لم يذهبوا إلى أعمالهم، وشاركوا في الجنازة، وأصبح تاريخ وفاة أخي يوم الأربعاء الساعة الثالثة فجرًا، من الأحداث الهامّة في الحارة.
تعلّمت وقتها أنّ الحياة لا تستقيم دون الجماعة، وأنّ حالة العزلة، هي محاولة انتحار مجانية”.
ويواصل: “كان من المثُير للاهتمام وهو مثير للإشفاق أيضا، إذا ما تأملت اليوم دلالات الكلمات والصورة، أن أستدعي حفل تنصيب هروبي من منزلنا للمرّة الأولى، بعد أنّ رفض والدي تزويجي من الفتاة التي أحببتها، كانت جارتنا، واسمها هدى، وكتبت أوّل قصيدة شعرية، أذكر بعد كلماتها (هدى يا من عبدت.. هدى يا من اشتقت)، وهذه الكلمات، ما هي إلا سرقة من الشاعر العربي المصري الكبير علي الجارم. كنت قد اطلعت على أشعاره، من مادة اللغة العربية التي كنّا ندرسها في الصفّ الرابع المتوسّط، في مدرسة المعري.
شكّلت حالة هروبي من البيت، مادة زحمة للنميمة من قِبل جارتنا. وقتها لم أعرف سبب رفض أبي تزويجي من هدى، التي لم أكن أعرف أنّها تبادلني الشعور نفسه، كلّ ما كنت أعرفه، أنّ والدة هدى تكرهني كره العمى، وهذا عائد لسببين أولهما أنّي فلسطينيّ مسلم، وهي مسيحية مارونية، وثانيهما أنّي ما زلت شابّا لا يملك من حطام الدنيا، إلا الذهاب إلى المدرسة.
وقتها، كنت أعيش حالة الهذيان، والهيام بهدى. وإلى الآن لا أعرف كيف تخلّصت من الحبّ الأوّل في حياتي؟ ثمّة صوت دفين يرفض قبول الحقيقة. شيء أقوى من العقل والمنطق، تجاوز محنة الحبّ الأولى، خاصّة بعد معرفتي أنّ والد هدى فلسطيني من حيفا، أي من نفس مدينتي، ولم يكن حصوله على الجنسية اللبنانية، إلاّ لكونه مسيحي، ما زلت أذكر عندما وقفت في الشارع العام المقابل لبلكون بيت هدى، وبدأت أصرخ بأعلى صوت بأنّ المسيح الفدائي الفلسطيني الأول، وأوجه صراخي لوالدة الحبيبة.
كنت قد حاولت أن أنسب هذه الحادثة التي تعرّضت لها إلى سوء حظّي، لم أتزوّج هدى، عُدت إلى البيت مهزوماً. تغيّرت نظرتي للمكان الذي أعيش فيه، وكان السبب صديق عمري سعد حرب، الذي أطلقت عليه اسم دنجوان الحارة، رغم أنّ شكله ليس دنجوانا، لكنه كان يمتلك لسانا خصبا من العاطفة، ويمتلك قدرة غير عادية في جذب الفتيات، منذ ذلك اليوم أصبحت شاهداً ومرافقاً لسعد الدنجوان الذي شكّل في حياتي رمزًا وذاكرة من الصعب من نسيانها.
سعد حرب انكفأ خلال هذه الفترة الزمنية على بناء علاقات ممتدّة مع الفتيات، وما يُسجّل لسعد، لم يسعَ لبناء علاقات مع فتيات الحارة، ولم أعرف سببا واضحا لهذا السلوك، ولم أحاول سؤاله، ولم يكن الأمر يعنيني. لم نكن أيامها نشعر بالزمن. ضاقت علينا جنبات الشوارع، وأرغمتنا على اتّخاذ قرار غير مفهوم إلى الآن، أن نوسع نشاطنا الغرامي”.
ويتابع: “وجاءت الفرصة التاريخية، عندما ذهبنا لجامعة الكويت لحضور فيلم الفلسطيني، الذي كان صرعة بالنسبة لنا، أوّل مرّة نشاهد فيها الفدائي، والعلم الفلسطيني، وحديثهم عن ضرورة تحرير فلسطين، كلّ فلسطين. سعد الذي كان مشغولا بالبحث عن غرام جديد، وفقه الحظّ. وتعرّف على إيمان، التي كانت جميلة، نعم جميلة جدّا، شعرت وقتها ّأن سعد كان صادقا في مشاعره، تعاطفت معه، ولم تستمر هذه العلاقة، ولأسباب مختلفة، لم يأتِ الوقت للكشف عنها.
سعد حرب، كان صديقاً وأخاً، رغم تقلّبات الحياة، وكلٌّ ذهب لحال سبيله، وفي يوم أسود عرفت من صديقنا المشترك في عمّان رضا الأيوبي، أنّ سعد مات، لم أتمالك نفسي، انهارت حياة كاملة من تاريخ حياتي، بموته، لم استوعب أنّ هذه الذاكرة، دفنت تحت التراب. لعلّ هذا اليوم الأسود، سيبقى معي، رديفاً لأيامي التي أصبحت بلا طعم، وما زلت أمارس فكرة رفض موت سعد، من خلال مشاركته في حياتي اليومية، وفي كلّ التفاصيل التي أتعرّض إليها، واسمه يتردّد على لساني، وتذوّق طعم هذا الاسم، إنه سعد حرب”.
ويكمل: “أعتقد أنّه ما يزال من الإشكالي وضع قيمة نقدية لحياة الطفولة، ناهيك عن محاولة الفصل، في سؤال أخلاقيّ، كيف كنّا نهرول كالأرانب لحضور الأفلام الأمريكية التي تصوّر الهنود الحمر على أنّهم بشر لا يستحقون الحياة؟ وصور الأمريكي وهو يمارس أخلاقيته بقطع رؤوس الهنود، هذه الصورة كانت تبهرنا، وتشدّنا للفرح والصراخ وتأييدها، كنّا نخرج من السينما بعد أن يتمّ إشباعنا بهذه الصورة٠ لن أدّعي، أنّ طفولتنا كانت كخيال الظلّ، الذي ابتدعها (ابن دانيال)، في أواخر العهد العباسي، أو كحياة الأعراس، وحلبات الصيد. أستطيع القول إنّ حياتي مع العائلة، التي عرفتها يمكن وصفها بمسرح العرائس”.
إدمان الكتابة..
يقول الكاتب المصري “محمد فيض خالد”: “تملكتني الرغبة في الكتابة صغيرا، وكان شغفي بالحرف والتعبير ورص الجميل في أوزان غير منتظمة بغية التعبير عن موقف معين، سواء تفريغ شحنات الغضب والرضا أجدها في كتابات غير منتهية تبدأ على جدران بيوت قريتنا بقطع الفحم والطباشير، كان ذلك يميزني عن الآخرين بالطبع، تدريجيا تعرف من حولي لهذه الميزة التي تجلت في رقة الأسلوب والقدرة على التعبير، إضافة لجودة الخط، كانت الانطلاقة الحقيقة التطوع بكتابة الرسائل لأسر المغتربين في الخارج، ومن بعدها انطلقت في مسيرتي المبكرة”.
ويضيف: “في الحقيقة البيئة الريفية لا تهتم كثيرا لأمر النبوغ الفكري وخاصة فيما يخص الكتابة التبوغ فيها، اللهم إلا قليل من الناس، الذي يجد في ابنه النبوغ فينميه، قديما لم يكن الأهل بذاك الشغف، بل كانت الأمور عادية في مجتمع أغلب الأهل إن لم يكن جميعهم لا يعرفون الكتابة ولا القراءة، ولا يدركون ماهية هذا العمل وأثره مستقبلا، كانت الأسرة تلاحظ في صمت، حتى وإن أبدى بعضهم قليل من الإعجاب فهو إعجاب صامت ورضا مؤقت، قليلا ما يذوب في مشاكل الحياة الريفية العادية، كانت الوالدة في بعض أحيان ما تثني علي وتدفعني رغم أميتها لمواصلة القراءة “.
ويتابع: “مسالة الانعزال لم تكن متحققة بالشكل الكلي في حال اللجوء للقراءة أو الكتابة، لكني كنت في الحقيقة أجد المهرب وسط الحقول، ما إن استقر في ظل شجرة التوت العتيقة التي كانت تفترش الجسر حتى انعزل عن العالم، وابدأ رحلة مختفة نهائيا، تأخذني أخذا عزيزا، لا أبرح مكاني حتى التهم ما بين يدي من صفحات، والتي كانت أغلبها من قبيل الاستعارة، شجعني عليها جارنا التركي العجوز صاحب مكتبة تراثية عتيقة، احتضنت البدايات وحولت الشغف إلى رغبة وإصرار ثم إلى إدمان وتعود.
خلق مني القارئ النهم الذي لا يشبع من القراءة، أما بخصوص الكتابة فكنت أزاولها أحيانا في الحقل بين أحضان الطبيعة البكر، وأحيانا أخرى في بيت جاري التركي الواسع، الذي كان يتسم بالهدوء والأجواء الملائمة، وللحقيقة كنت أعرض ما أكتبه عليه، لم يكن يبخل علي بنصيحته ولا بتقويمه أحيانا، بل ويشاركني الحماس دون قصد لاستلهم من قصصه المشوقة، وأحاديثه الطريفة الكثير من المواقف والشخوص التي بقيت أبطالا لقصصي وكتاباتي”.
ويكمل: “نعم كن أتمنى أن يتعامل معي المحيطين بشكل مختلف طبعا، لكنني كنت أعرف أبعادهم الفكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، التي حالت دونهم استمرار الرغبة والحافز في التغيير، فكل من حولك يلهث خلف المادة ولقمة العيش قبل أن يتحول الريف لهذه الرفاهية المفرطة، لكني اعترف بأن في وسط هذه الأجواء الخانقة كان هناك من يتربص بي، ويحاول التقليل من شأن الطفل والشاب والكاتب المعجزة الذي نبغ في الكتابة وأجاد، وكان منهم من يتهمني بالسرقة والعبث أحيانا طبعا لا يخل الأمر من مكيدة وحسد ومحاولة تثبيط العزيمة، صدقيني حين أقول لك أن هذا شكل الدافع الأكبر كي استمر وانجح، لم يكن الأهل يتعاملون مع كتبي بذلك الرفق الذي أجده من زوجتي وأولادي”.
ويؤكد: “الحقيقة لم يخطر ببالي أن أندم مطلقا، فيما يخص القراءة والكتابة ولو رجعت بي الأيام ثانية لكنت أشد حماسا وأكثر اندفاعا نحوهما، أنا لا استطيع تصور الحياة بدونهما حياتي أنا تحديدا، عوالم القراءة والكتابة ولاشك كان لها تأثيرها الممتد منذ البدايات وحتى الآن، والجهد التراكمي خلقني خلقا جديدا، خلقا استطيع من خلاله وبه فرض واقع خاص بي يستهويني بعيدا عن العوالم الصاخبة التي من حولنا، لو رجع بي الزمان ثانية لبذلت الجهد الكثير وسعيت ما وسعني السعي لامتلاك أدوات إضافية تعمق صلتي بالقراءة والكتابة، بل وتجعلهما جزءا أصيلا تدور من حوله حياتي كلها، لقد شكلت القراءة خاصة في الباديات نقطة عبور لتجاوز سخافات كثيرة محيطة بي، وساهمت في تكوين ذائقتي، وبسط رؤية جمالية وتحليلية للوجود، وهذا مما يحمد لهما”.
مواجهة الأسئلة الكبري..
وتقول الكاتبة العراقية “سلامة الصالحي”: “الكتابة حياة ثانية نعيشها تبدأ معنا منذ بواكير الوعي. وبداياتها هي القراءة وشغف المعرفة والتطلع إلى آفاق بعيدة هي شيء من السحر يمس الإنسان دون أن يدري أو ربما كهربة تبدأ ولاتنته ثم تصير هي الحياة ذاتها.
نعم كنت أشعر بذاك الاختلاف وتلك الغربة والميل إلى العزلة والصمت ثم الانحياز للحق والجمال بكل تفاصيل الحياة. كنت قليلة الكلام في البيت أو المدرسة وكانت زوايا البيت تحتويني أنا وكتابي وقلمي. فأهتماماتي تختلف والوقت ثمين لا أحب تبديده والقراءة كانت متعة وهاجس لا أستطيع التخلي عنه يوما واحدا وهاجس الكتابة كان مثل حبل سري يشدني للحياة والأمل والبدايات. الاغتراب كان واضحا أحيانا بعزل اختيارية وسلوك مختلف فيه شيء من التمرد والنزق”.
وتواصل: ” نعم عاملني الأهل أحيانا بطريقة مختلفة عن أخوتي الباقين. فأنا أزعجهم أحيانا بترددي على المكتبات والساعات الطويلة في القراءة وقد تدخل الهواجس والمخاوف قلب الوالدة من كثرة القراءة والصمت. فتستدرجني للعودة إلى جمعة العائلة والكف عن العزلة والاستغراق بالتأمل والقراءة”.
وتضيف: “كانت سلال الأحلام كثيرة والأمنيات في جيب الزمن لاندري متى يقرر أن يمنحها لنا لكنني كنت في وطن داهمت صباي وأجمل سنين عمري الحروب ومرارات الفقد، فانشغلنا بأحزاننا وكانت الكتابة هي الملاذ الوحيد في تفريغ شحنات الحزن والألم العميق الذي انغرز في أعماقنا، حيث فقدنا قرائننا وبتنا نعيش بغربة فقدهم وضياع أحلامنا. فصارت الكتابة هي المواسية لي في ذلك الاغتراب الوجود ومواجهة الأسئلة الكبرى”.