خاص: إعداد- سماح عادل
الأسرة هي الكيان الأول الذي يشعر في ظله الإنسان بالأمان والألفة والحماية، فهل اذا انتفي هذا الأمان، أو اهتز بسبب اختلاف الفرد في ميوله واتجاهاته تفكيره وسلوكه عن أفراد الأسرة، هل يسبب ذلك اغترابا وشعورا بالوحشة؟، هل يشعر الإنسان بالخوف وانعدام الأمان داخل أسرته حين تكون الكتابة شغفه الأوحد والانعزال المصاحب ليها سلوكه الأثير؟.
هذا الملف عبارة عن آراء كاتبات وكتاب من مختلف البلدان وقد وجهت إليهم الأسئلة التالية:
- هل شعرت بأنك مختلف منذ فترة الطفولة وشعرت بأن ميلك إلى الكتابة هو سبب اختلافك؟
- هل عاملك الأهل داخل الأسرة كأنك غريب عنهم أو لا تشبههم، وكيف كان تقبلهم لميلك إلى القراءة والكتابة؟
- هل كنت تفضل الانعزال عن المحيطين من أفراد الأسرة وهل سبب لك ذلك الانعزال الشعور بالغربة عنهم؟
- هل كنت تتمني أن يتعامل معك الأهل والمحيطين بشكل مختلف؟ .
- هل أنت نادم علي شغفك بالكتابة والقراءة وهل كنت تتخيل حياتك بدون الكتابة؟
الكتابة مطر وشفاعة..
يقول الشاعر والمصور الفوتوغرافي المصري “محمد الكاشف”: “وأنا صغير لم أملك وجهة نظر أو رأي يؤدي لاحتكاك أو تصادم، لأن وعيي لم يتشكل بعد ويدخل في مراحل تطوره ليصل للصورة التي هو عليها الآن، ربما تَكَون هذا مع عامل الوقت والدراسة والهموم العائلية، لكنني كنت أملك الكثير من الطموح والأحلام، ولطالما تمنيت أن يصعد بي سلم سطوح العمارة إلى السماء لأرى ما خفي فيها عني، ولهذا عمدت إلى الاهتمام بالرسم والتلوين وشغف الانتظار لحصص مادة التربية الفنية طوال مدة تعليمي الأساسية (ابتدائي/ إعدادي).
وما أنا متأكد منه واستغربه هو التصاق الأسطورة والخيال ببعض تفاصيل حياتي منذ ولادتي، والتي غالبًا ما ألجئ إليها تحت ضغط وطأة الحياة لتكون مُسكن مناسب لقلقي.
أذكر أن عمتي رحمها الله – وهي أمي الثانية- قالت لي أكثر من مرة وكأنها تؤكد علي مشهدية الحدث: “أنا شحتك من ربنا لأنك كنت هاتموت بسبب ضعف مناعتك وأخطاء الدكاترة”، وقد كان لها هذا منذ شهور عمري الأولى.
هذا الأمر مع بعض التفاصيل والأساطير الأخرى شجع مكنوني واستفزه للبوح فكان ذلك بالكتابة وهو ما ظهر جليًا منذ اهتمامي بالمعلومات العامة والتاريخية ثم الشعر العربي وتطوره في المرحلة الثانوية، ولا أنسى فضل موقع أدب الذي عرفني عن طريق الولوج للإنترنت من الحاسوب المنزلي بالطريقة القديمة بقامات الشعر العربي، وهو ما زاد نهمي للمعرفة الذي أدين له بالفضل بتعريفي بالشاعر “رياض الصالح الحسين”، الذي لولاه ما صادقت الشعر وبُحت له بكل شيء.
وعن معاملة الأهل داخل الأسرة كأنه غريب عنهم أو لا يشبههم، وكيف كان تقبلهم لميله إلى القراءة والكتابة يقول: “حدث هذا وظهر إثر تفضيل عمتي لي عن سائر أبناء أخوتها، رغم كونها أخت غير شقيقة لوالدي إلى أنها وجدت السلوى فيما فقدته ولم تحصل عليه في شخصي.
من هذا المدخل كان التأديب على ما لم أصنعه لغيرة أخوتي سبب في مطاردتي للخيال الذي خلقته المحاولات الأولى لصياغة القصيدة، ولن أنسى ما قالته أختي الصغيرة لأمي على إثر جدال توضيحي في مسألة عقلية: “سيبك منه، محمد دماغه لسعت من كتر اللي بيقراه.”
من هذه الأمور وغيرها البعيد، تولد لديّ شعور الاغتراب وزاد مع جموح الوقت لما هو عليه الآن، ولعلك تعلمين أن شعور الاغتراب عند المبدع عمومًا يختلف عن الشخص العادي الذي لا علاقة له بالإبداع، فهو رغم المفارقة يساهم بصورة أساسية إن لم تكن رئيسية في تكوين وبنية العمل الإبداعي، خصوصًا المكتوب منه، وهو غرض الملف المطروح أسئلته.
وغالبًا ما يحدث عدم تقبل للميل الإبداعي في الأسرة أو العائلة في البيئات المضطربة المضغوطة بسبب التصارع على توفير لقمة العيش وأساسيات الحياة لأفرادها، وهو ما وجدته في بعض التصرفات سواء داخل محيط الأسرة أو حتى من بعض المعلمين، وفي غلبة ظني يرجع ذلك لفقدان الشغف بعدما حدث تصادم في وقت ومرحلة ما مع ما هو واقع”.
وعن تفضيل الانعزال عن المحيطين من أفراد الأسرة وهل سبب له ذلك الانعزال الشعور بالغربة عنهم يقول: “الانعزال عن المحيطين بعد ما سردته مُسبقًا أمر لابد منه للنجاة بما تبقى من عقلي للاستمرار اضطراراً في هذه الحياة واستيعاب أفعالها، وكان الخيال- وربما مازال- رفيق العزلة السخي الذي ما مددت يداي إليه قط إلى وأخذني معها نحوه، لأذوق وأعرف واغترف واعترف بإدماني له.
أذكر أنني حين كنت في المرحلة الجامعية، كنت قد انتقلت للعيش مع عمتي في مدينة ملوي في صعيد مصر واضطررت مرغمًا إلى دراسة علم التاريخ في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة المنيا على عكس رغبته في التحاقي بإحدى كليات الحقوق وذلك ابتعادًا عن عنفه الذي كان في أوجه في أواخر المرحلة الثانوية. رحمة الله عليه
ولا شك أن هذا الهروب كان عاملًا مساعد للغرق في الخيال الذي أصبح ميكانيزم دفاعي وتدريب حاولت به هدهدت شعور الاغتراب الذي تمكن مني واقتات على روحي، ولا أكذب إن قلت أنه مازال، فهو مقيم بصفة دائمة، يحول بيني وبين تقبل الحياة ومن ثم تقبل أفراد أسرتي، من هنا صنعت مسافة آمنة ليّ منهم ومن كل شخص حولي.
يبدو أن الشعور بالانفراد أو الفرادة تعزز لدي”.
وعن هل كان يتمني أن يتعامل معه الأهل والمحيطين بشكل مختلف يقول: “بالطبع، التقدير والتشجيع وقبلهما الاهتمام، لهم من بالغ الأثر المعنوي ما لا يقدر، فأنا مستعد لأهب كل ما تبقى من حياتي نظير حضن من أبي وكلمة حب صادقة من فم أمي، ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه.
ففي بلدي حقًا “مُطرب الحيّ لا يُطرب”، ولم استغرب هذا في بيئة قلما تنفس خارجها أحدهم، وأضحك كثيرًا إذ عايرني بصورة ماكرة أحد من زاملني في مرحلة التعليم الأساسي بعدم تكويني لأسرة حتى لحظته أو وجود من يحمل اسمي من الأطفال على العكس منه، واستفساره هو غيره عما إذا كان هناك عائد مادي لما نشرته من شعر في ثلاثة مطبوعات؟! ولماذا لا أبيع كاميرتي- وأنا أعمل كمصور فوتوغرافي حر- وألتحق بأي عمل ما غير ما أنا فيه يعود علي بالمال؟! فما فائدة إبداعاتك طالما لم تنتفع منها ماديًا مثل البقية؟!
والأخير سؤال أمي وأخي الأكبر اللذان عذرتهما هما وغيرهما ممن لم يع ويفهم تفاصيل غيره مقارنة بتفاصيله هو”.
وعن الشعور بالندم علي شغفه بالكتابة والقراءة وهل كان يتخيل حياته بدون الكتابة يقول: “إطلاقًا، لم يحدث حتى أن شعرت بذرة ندم على شغفي بالقراءة والكتابة، فلولاهما ما سامحت الحياة على أفاعيلها بيّ، فأنا مدين لهما وللتصوير الفوتوغرافي بالكثير رغم توجسي المستمر منها وترقبي لها، فالقلق هو ما بلتني به وأحاول ترويضه.
كما أني لا أظن أن هناك حياة بدون كتابة، وإلا ما كنا عرفنا التاريخ وما صار وما سيصير في الإنسانية بها، فالتعبير بالكتابة فعل عظيم يضاهي فعل المطر في الأرض، ولا تصح صلاة في حضن إحداهن إلا بشفاعة الكتابة”.
أحلام اليقظة تدريب للكتابة..
يقول الكاتب الليبي “أحمد التهامي”: “أرجح إنني مذ بلغت العاشرة انتبهت إلى أمرين سأعرف لاحقا أنهما مرتبطين وهما الانغماس التام في أحلام اليقظة لساعات وإنني أريد أن أكتب كالذي كنت أقرأه، ولما كبرت قرأت في مرجع ما لم أعد أذكره أن أغلب الكتاب يقضون طفولتهم في أحلام اليقظة، وإنها تدريب طويل الأمد ومجاني وطبيعي وليس مفتعلا على التخيل والكتابة. استعمال للخيال وربما هذه المسألة المزدوجة جعلتني أظن أن ما أملكه لا يملكه غيري. هذا الخيال المنطلق دون رابط دون حدود لذلك كنت أنجح دائما في القول لست مهتما بهذا أن فقط مهتم بهذا، أي بالكتابة، بالنظر إلى الحياة كسائح لا يتورط في تفاصيلها. ومع التقدم في السن يبدأ إحساس الاختلاف في التراجع ذلك أنه يتعقلن”.
ويضيف: “في ليبيا ليست الكتابة مهنة معتادة أو متعارف عليها لدى أغلب الناس، خاصة الطبقات الأكثر فقرا، وهي الطبقات التي نشأت ضمن عوالمها، لذلك كنت مضطرا لخوض صراعات متطاولة لتأكيد قراري وإرادتي. لكن المسألة لم تصل يوما لتكون حادة و واضحة كالسؤال، بل مختفية في خلفية الصورة دون تصريح بدوافعها”.
ويواصل: “نعم سبب الانعزال شعورا بالغربة لكن بعض القراءات الواقعية خاصة كتابات نيتشه بنفسه المقدر للحس وللحياة الحياة من حيث هي نمو وازدياد وامتداد، وتلمذتي على رائد السيميائيات في ليبيا الأستاذ “محمد عبدالحميد المالكي” نقلني إلى تقدير قيمة العيش مع الناس كما هم الناس، وبالتالي تخلصت تقريبا من آثار شعور بالعزلة أو هكذا أظن”.
ويتابع: “لا حدود للأمنيات لكن اعتقد إنني بتواصل القراءات اكتشفت المسافة التي تفصل أي كاتب عن محيطه وعن مجتمعه، وبالتالي تدريجيا تراجعت عن تمنياتي لصالح الإحساس بالحياة كماهي، بل لدرجة إعدام التوقعات خاصة إذا كانت معلقة برضا الآخر”.
ويؤكد: “لست نادما بالتأكيد لكن ثمة جمل تهرب منا بشكل يومي تتحسر على الزمن الذي خسرناه، قبل أن نعي أنه الفرصة الوحيدة المتاحة لنا، لذلك أحيانا أغبط القائلين بمبدأ وحدة الوجود والصوفيين إذ هم يملكون فهما لاستمرار ما لا نملكه، إنهم تقريبا يعيشون عدة حيوات متتالية، لكنه قدرنا علينا قبوله كما هو”.
عشق الكلمات والكتابة..
يقول الكاتب الكردي العراقي “أريان صابر الداودي”: “الاختلاف لا يعني بالضرورة أن تكون مبدعاً، فبعض الاختلاف نقمة، طفولتي كانت ملغومة بسبب لعنة الحصار، كنت أميل إلى فكرة فتح محل لبيع الدفاتر، أتذكر جيداً كيف كنت أرتب كتبي المدرسية وكأنها في مكتبة، ثم أتخيل كيف أستفاد من ثمنها لأصرف المبلغ في المدرسة”.
ويواصل: “أهلي لم يفهموني يوماً، حتى والدتي ليومنا هذا لا تفهمني، أو بالأحرى أنا لا أعرف نفسي، أفعل ما أراه مناسباً، ولا أندم.
لم أكن أقرأ كثيراً في صغري، كان هم والدي الوحيد كيفية ادخار المال من راتبه الحكومي، وعشت في مدينة وتحت سلطة لا ترحم أفرادها”.
ويضيف: “أحب العزلة، ليومنا هذا، أكره المناسبات، أبتعد عن الضوضاء، يكفيني الضجيج الذي أشعر به داخل رأسي”.
ويتابع: “صدقاً لا يهمني كيف يعاملني الناس، أكثر ما يهمني كيفية معاملتي للناس، ولو أردت التعمق، نعم أريد معاملتي بشكل مختلف، على أقل تقدير (يتركونني وشأني)”.
ويؤكد: “لا أتوقع نفسي نادماً على القراءة أو الكتابة، لأنهما تجريان كمجرى دجلة والفرات في دمي، أنا أدمنتهما، وإن فكرت بالابتعاد، سيلحقاني… عيني أصبحت تعشق الكلمات وعلى الورق كما تعشق رئة مدخن معمر رائحة التبغ”.